
ثم قال: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ يعني: الذين أصابهم من اللعنة بما عصوا يعني: بعصيانهم وَكانُوا يَعْتَدُونَ في دينهم، كانُوا لاَ يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ يعني: لم يمتنعوا عن قبيح من الأفعال، ورضوا به لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ حين لم ينهوا عن المنكر.
ثم قال: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ قال مقاتل: يعني: اليهود يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا من مشركي العرب. وقال الكلبي: تَرى كَثِيراً من المنافقين يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني:
اليهود، لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ معناه: لبئس الفعل الذي كانوا يستوجبون به السخط من الله تعالى، ويوجب لهم العقوبة والعذاب وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ يعني: دائمون.
ثم قال تعالى: وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ يعني: المنافقين، لو كانوا يصدقون بتوحيد الله، ونبوة محمد حقيقة وما أنزل إليه من القرآن مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ يعني:
لو كان إيمان المنافقين حقيقة، ما اتخذوا اليهود أولياء في العون والنصرة وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ يعني: ناقضين للعهد. ثم قال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٢ الى ٨٦]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وهم يهود بني قريظة، وبني النضير، وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني: مشركي أهل مكة، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى قال بعضهم: إنما أراد الذين هم النصارى في ذلك الوقت، لأنهم كانوا أقل مظاهرة على المؤمنين، وأسرع إجابة للإسلام. وقال أكثر المفسرين: إن المراد به النصارى الذين أسلموا، وفي سياق الآية دليل عليه، وهو قوله: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا [المائدة: ٨٥] وروى

أسباط عن السدي، قال: بعث النجاشي إلى رسول الله ﷺ اثني عشر رجلاً من الحبشة، وسبعة قسيسين، وخمسة رهبان ينظرون إليه ويسألونه، فلما لقوه، وقرأ عليهم ما أنزل الله عليه بكوا وآمنوا به ورجعوا إلى النجاشي. فهاجر النجاشي معهم. فمات في الطريق. فصلى عليه رسول الله ﷺ والمسلمون واستغفروا له.
وروى ابن أبي نجيح، عن مجاهد، أنه سئل عن هذه الآية فقال: هم الوفد الذين قدموا مع جعفر الطيار من أرض الحبشة. وعن الزهري، أنه سئل عن هذه الآية فقال: ما زلنا نسمع أنها نزلت في النجاشي وأصحابه.
ثم قال: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً يعني: المتعبدين، وأصحاب الصوامع، ويقال: قِسِّيسِينَ علماؤهم، وَرُهْباناً يعني: خائفين من الله تعالى، وقال بعض أهل اللغة: القس والقسيس: رؤساء النصارى، والقس بفتح القاف النميمة.
ثم قال: وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يعني: لا يتعظمون على الإيمان بمحمد ﷺ والقرآن.
وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ يعني: تسيل من الدمع، مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يقول: مما عرفوا محمداً ﷺ نعته وصفته، يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا بالقرآن بأنه من الله، فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ يعني: المهاجرين والأنصار. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: مَعَ الشَّاهِدِينَ هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يشهدون له بالبلاغ ويشهدون للرسل أنهم قد بلغوا الرسالة.
ثم قال: وَما لَنا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وذلك أنهم لما رجعوا إلى قومهم، قال لهم كفار قومهم: تركتم ملة عيسى ويقال: إن كفار مكة عاتبوهم على إيمانهم. وقالوا: لم تركتم دينكم القديم، وأخذتم الدين الحديث؟. فقالوا: وَما لَنا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ ومعناه: وما لنا لا نصدق بالله أن محمداً رسوله، والقرآن من عنده، وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ يعني: وبما جاءنا من الحق، وَنَطْمَعُ يقول: نرجو، أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ يعني: مع المؤمنين الموحدين في الجنة فمدحهم الله تعالى، وحكى عن مقالتهم، وأخبر عن ثوابهم في الآخرة. فقال: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا من التوحيد، جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ يعني: ثواب الموحدين المطيعين.
وقد احتج بعض الناس بهذه الآية، أن الإيمان هو مجرد القول، لأنه قال: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا ولكن لا حجة لهم فيها، لأن قولهم كان مع التصديق، والقول بغير التصديق، لا يكون إيماناً.
ثم بيّن عقوبة من ثبت على كفره، ولم يؤمن، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا