
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٨١) }
شرح الكلمات:
﴿لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ١﴾ : الغلو: الإفراط في الشيء ومجاوزة الحد فيه، فمثلاً أمرنا بغسل اليدين في الوضوء إلى المرفقين فغسلهما إلى الكتفين غلو، أمرنا بتعظيم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدعاؤه غلو في الدين.
﴿أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا﴾ : جمع هوى، وصاحب الهوى هو الذي يعتقد ويقول ويعمل بما يهواه لا بما قامت به الحجة وأقره الدليل من دين الله تعالى.
﴿وَأَضَلُّوا كَثِيراً﴾ : أي: أضلوا عدداً كثيراً من الناس بأهوائهم وأباطيلهم.
﴿عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ٢﴾ : سواء السبيل: وسط الطريق العدل لا ميل فيه إلى يمين ولا إلى يسار.
﴿لُعِنَ﴾ : دعى عليهم باللعنة التي هي الإبعاد من الخير والرحمة وموجباتها.
﴿بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ : أي: بسبب عصيانهم لرسلهم، واعتدائهم في دينهم.
﴿لا يَتَنَاهَوْنَ﴾ : أي: لا نهي بعضهم بعضاً عن ترك المنكر.
﴿لَبِئْسَ٣ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ : قبح عملهم من عمل وهو تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
﴿يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ : يوادونهم ويتعاونون معهم دن المؤمنين.
﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ﴾ : أي: لو كانوا صادقين في إيمانهم بالله والنبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما اتخذوا المشركين في مكة والمدينة من المنافقين أولياء.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحديث عن أهل الكتاب يهوداً ونصارى فقال تعالى لنبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿قُلْ﴾ يا رسولنا: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾، والمراد بهم هنا النصاري: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ
٢ سواء السبيل هنا المراد به: الإسلام؛ لأنهم ضلوا في دينهم قبل مجيء الإسلام ثم ضلوا عن الإسلام بعد مجيئه.
٣ اللام: لام القسم، جيئ بها لتدل عليه، وتؤكد الذم بصورة فظيعة.

غَيْرَ الْحَقِّ}، أي: لا تتشددوا في غير ما هو حق شرعه الله تعالى لكم، فتبتدعون البدع وتتغالوا في التمسك بها والدفاع عنها، التشدد محمود في الحق الذي أمر الله به اعتقاداً وقولاً وعملاً لا في المحدثات الباطلة، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وهم اليهود، إذ قالوا في عيسى وأمه بأهوائهم فقالوا في عيسى ساحر، وقالوا في أمه بغي وأضلوا كثيراً من الناس بأهوائهم المتولدة عن شهواتهم، وضلوا، أي: وهم اليوم ضالون بعيدون عن جادة الحق والعدل في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم. هذا ما تضمنته الآية الأولى (٧٧)، أما الآيات بعد فقد أخبر تعالى في الآية الثانية أن بني إسرائيل لعن منهم الذين كفروا على لسان كل من داود في الزبور، وعلى لسان عيسى بن مريم في الإنجيل وعلى لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القرآن فقال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ١ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ﴾. فقد مسخ منهم طائفة قردة، ﴿وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ حيث مسخ منهم خنازير كما لعنوا على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غير آية من القرآن الكريم، وهذا اللعن هو إبعاد من كل خير ورحمة ومن موجبات ذلك في الدنيا والآخرة سببه ما ذكر تعالى بقوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾. أي: بسبب عصيانهم لله تعالى ورسله بترك الواجبات وفعل المحرمات، واعتدائهم في الدين بالغلو والابتداع، وبقتل الأنبياء والصالحين منهم: وأخبر تعالى في الآية الثالثة بذكر نوع عصيانهم واعتدائهم الذي لعنوا بسببه فقال: ﴿كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ٢ فَعَلُوهُ﴾. أي: كانوا عندما استوجبوا اللعن يفعلون المنكر العظيم ولا ينهى بعضهم بعضاً كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده". فلما فعلوا ذلك ضرب الله على قلوبهم بعضهم ببعض ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لعن الذين كفروا –إلى قوله- فاسقون". ثم قال: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على ليد الظالم ولتأطرنه (تعطفنه) على الحق أطرأ ولتقسرنه على الحق قسراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم٣" وفي آخر الآية قبح الله تعالى
٢ نقل القرطبي عن ابن عطية رحمهما الله تعالى: أن الإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وآمن الضرر على نفسه، وعلى غيره من المسلمين، فإن خاف فينكر بقلبه، ويهجر صاحب المنكر ولا يخالطه.
٣ أخرجه أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

عملهم فقال: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ ثم قال لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ﴾، أي: اليهود في المدينة يتولون الذين كفروا يعني من المشركين والمنافقين في مكة والمدينة يصاحبونهم ويوادونهم وينصرونهم وهم يعلمون أنهم كفار تحرم موالاتهم في دينهم وكتابهم، ثم قبح تعالى عملهم فقال: ﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ نتيجة ما حملتهم عليه من الشر والكفر والفساد، وهو سخط الله تعالى عليهم وخلودهم في العذاب من موتهم إلى مالا نهاية له فقال تعالى: ﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ١ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ لا يخرجون منه أبداً. ثم زاد تعالى تقرير كفرهم وباطلهم وشرهم وفسادهم فقال: ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ كما يجب الإيمان به وبالنبي محمد وبما جاء به من الهدى ودين الحق وما أنزل إليه من القرآن والآيات البينات ما اتخذوا الكفار المشركين والمنافقين أولياء، ولكن علة ذلك أنهم فاسقون إلا قليلاً منهم، والفاسق عن أمر الله الخارج عن طاعته لا يقف في الفساد عند حد أبداً، هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ٢ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ٣﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حرمة الغلو والابتداع في الدين، واتباع أهل الأهواء.
٢- العصيان والاعتداء ينتجان لصاحبهما الحرمان والخسران.
٣- حرمة السكوت عن المنكر ووخامة عاقبته على المجتمع.
٤- حرمة موالاة أهل الكفر والشر والفساد.
٥- موالاة أهل الكفر بالمودة والنصرة دون المؤمنين آية الكفر وعلامته في صاحبه.
٢ في الآية دليل واضح على أن من اتخذ الكافر وليًا لا يكون مؤمنًا، إذ يجره ذلك الولاء إلى قول ما يقول، وفعل ما يفعل، وحتى اعتقاد ما يعتقد، وبذلك يكفر مثله. وشاهده من الحديث: "من تشبه بقوم فهو منهم".
٣ أي: كافرون، إذ فسقوا عند دين الله وخرجوا عنه باليهودية الباطلة، وخرجوا عن الإسلام بالنفاق. فهم كفرة منافقون يهود ملعونون.