سبحانه استنزل ذلك من فوقهم البركات، فإذا استجدوا العمل لتلك البركات المنزلة وقاموا عليها بثبات أقدامهم الراسخة استنزل ذلك لهم من الله عز وجل بركات هي أزكى من الأولى، فلا يزال العلم والعمل يتناوبان إلى أن ينتهي السالك إلى مقام القرب ومنازل العارفين، وفي ذكر الأرجل إشارة إلى حصول ثبات القدم ورسوخ العلم، وفي اقترانها مع تحت دلالة على مزيد الثبات وأنهم من الراسخين المقتبسين علومهم من مشكاة النبوة دون المتزلزلين الذين أخذوا علومهم من الأوهام، ولذا كتب بعض العارفين بهذه الآية إلى الإمام إرشادا له إلى معرفة طريق أهل الله عز شأنه انتهى.
وقد وجه بعض أهل العبارة ممن هو مني في موضع التاج من الرأس لا زال باقيا ذكر الأرجل هنا بأنه للإشارة إلى أن المراد بقوله سبحانه: مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ الأمور السفلية الحاصلة بالسعي والاكتساب كما أن المراد بقوله تعالى: مِنْ فَوْقِهِمْ الأمور الحاصلة بمجرد الفيض، وحينئذ يقوى الطباق بين المتعاطفين.
ولعلك تستنبط مما ذكره الطيبي غير هذا الوجه مما يوافق أيضا مشرب أهل الظاهر، فتدبر مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ، قيل: عادلة واصلة إلى توحيد الأسماء والصفات وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ وهم المحجوبون بالكلية الذين لن يصلوا إلى توحيد الأفعال بعد فضلا عن توحيد الصفات، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ إلى الثقلين كافة وهو نداء تشريف لأن الرسالة منة الله تعالى العظمى وكرامته الكبرى، وفي هذا العنوان إيذان أيضا بما يوجب الإتيان بما أمر به صلّى الله عليه وسلّم من تبليغ ما أوحي إليه. بَلِّغْ أي أوصل الخلق ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي جميع ما أنزل كائنا ما كان مِنْ رَبِّكَ أي مالك أمرك ومبلغك إلى كمالك اللائق بك، وفيه عدة ضمنية بحفظه عليه الصلاة والسلام وكلاءته أي بلغه غير مراقب في ذلك أحدا ولا خائف أن ينالك مكروه أبدا وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ أي ما أمرت به من تبليغ الجميع.
فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ أي فما أديت شيئا من رسالته لما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض، فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها وكونها لذلك في حكم شيء واحد، والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ مؤمنا به غير مؤمن به، ولأن كتمان بعضها يضيع ما أدى منها كترك بعض أركان الصلاة فإن غرض الدعوة ينتقض به، واعترض القول بنفي أولوية بعضها من بعض بالأداء بأن الأولوية ثابتة باعتبار الوجوب قطعا وظنا وجلاء وخفاء أصلا وفرعا، وأجاب في الكشف بأنه نفى الأولوية نظرا إلى أصل الوجوب، وأيضا أن ذلك راجع إلى المبلغ، والكلام في التبليغ وهو غير مختلف الوجوب لأنه شيء واحد نظرا إلى ذاته، ثم كتمان البعض يدل على أنه لم ينظر إلى أنه مأمور بالتبليغ بل إلى ما في المبلغ من المصلحة، فكأنه لم يتمثل هذا الأمر أصلا فلم يبلغ، وإن أعلم الناس لم ينفعه لأنه مخبر إذ ذاك لا مبلغ، ونوقش في التعليل الثاني بأن الصلاة اعتبرها الشارع أمرا واحدا بخلاف التبليغ، وهي مناقشة غير واردة لأنه تعالى ألزمه عليه الصلاة والسلام تبليغ الجميع، فقد جعلها كالصلاة بلا ريب.
ومما ذكرنا في تفسير الشرطية يعلم أن لا اتحاد بين الشرط والجزاء، ومن ادّعاه بناء على أن المآل إن لم تبلغ الرسالة لم تبلغ الرسالة- جعله نظير: أنا أبو النجم وشعري شعري. حيث جعل فيه الخبر عين المبتدأ بلا مزيد في اللفظ، وأراد- وشعري شعري- المشهور بلاغته والمستفيض فصاحته، ولكنه أخبر بالسكوت عن هذه الصفات التي بها تحصل الفائدة أنها من لوازم شعره في أفهام الناس السامعين لاشتهاره بها، وأنه غني عن ذكرها لشهرتها وذياعها، وكذلك كما قال ابن المنير: أريد في الآية- لأن عدم تبليغ الرسالة أمر معلوم عند الناس مستقر في الأفهام- أنه عظيم شنيع ينعي على مرتكبه، ألا ترى أن عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع؟ فكيف كتمان الرسالة من الرسول؟! فاستغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء للصوقها بالجزاء في الأفهام، وأن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد، وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عاما حيث قال سبحانه: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ولم يقل: وإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة ليتغايرا لفظا وإن اتحدا معنى، وهذا أحسن رونقا وأظهر
طلاوة من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء، وهذه الذروة انحط عنها أبو النجم بذكر المبتدأ بلفظ الخبر، وحق له أن تتضاءل فصاحته عند فصاحة المعجز، فلا معاب عليه في ذلك، وقيل: إن المراد فإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله، فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده ما
أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وأخرجه أبو الشيخ وابن حبان في تفسيره من مرسل الحسن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بعثني الله تعالى بالرسالة فضقت بها ذرعا، فأوحى الله تعالى إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت».
وقيل: إن المراد إن تركت تبليغ ما أنزل إليك حكم عليك بأنك لم تبلغ أصلا، وقيل- وليته ما قيل- المراد بما أنزل القرآن، وبما في الجواب بقية المعجزات، وقيل: غير ذلك، واستدل بالآية على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكتم شيئا من الوحي، ونسب إلى الشيعة أنهم يزعمون أنه عليه الصلاة والسلام كتم البعض تقية.
وعن بعض الصوفية أن المراد تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد من الأحكام، وقصد بإنزاله اطلاعهم عليه، وأمّا ما خص به من الغيب ولم يتعلق به مصالح أمته فله بل عليه كتمانه،
وروى السلمي عن جعفر رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: ١٠] قال: أوحى بلا واسطة فيما بينه وبينه سرا إلى قلبه، ولا يعلم به أحد سواه إلا في العقبى حين يعطيه الشفاعة لأمته،
وقال الواسطي- ألقى إلى عبده ما ألقى- ولم يظهر ما الذي أوحى لأنه خصه سبحانه به صلّى الله عليه وسلّم، وما كان مخصوصا به عليه الصلاة والسلام كان مستورا، وما بعثه الله تعالى به إلى الخلق كان ظاهرا، قال الطيبي: وإلى هذا ينظر معنى ما روينا في صحيح البخاري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعاءين: فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع مني هذا البلعوم- أراد عنقه- وأصل معناه مجرى الطعام، وبذلك فسره البخاري، ويسمون ذلك علم الأسرار الإلهية وعلم الحقيقة، وإلى ذلك أشار رئيس العارفين علي زين العابدين حيث قال:
إني لأكتم من علمي جواهره | كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا |
وقد تقدم في هذا أبو حسن | إلى الحسين، وأوصى قبله الحسنا |
ولاستحل رجال مسلمون دمي | يرون أقبح ما يأتونه حسنا |
وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني روح الله تعالى روحه في كتابه الدرر المنثورة في بيان زبد العلوم المشهورة ما نصه: وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة، فمن عمل بما علم تكلم كما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده، لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الأفهام، حتى قال بعضهم لشيخه: إن كلام أخي فلان يدق على فهمي، فقال: لأن لك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك، وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بعلم الباطن، وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى، وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من علم الظاهر لأنه ظهر للخلق، فاعلم ذلك انتهى. صفحة رقم 356
وقد فهم بعضهم كون المراد تبليغ الأحكام وما يتعلق بها من المصالح دون ما يشمل علم الأسرار من قوله سبحانه: مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ دون ما تعرفنا به إليك، وذكر أن علم الأسرار لم يكن منزلا بالوحي بل بطريق الإلهام والمكاشفة، وقيل: يفهم ذلك من لفظ الرسالة، فإن الرسالة ما يرسل إلى الغير، وقد أطال بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم الكلام في هذا المقام، والتحقيق عندي أن جميع ما عند النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأسرار الإلهية وغيرها من الأحكام الشرعية قد اشتمل عليه القرآن المنزل. فقد قال سبحانه: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: ٨٩] وقال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٣٨]،
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الترمذي وغيره: «ستكون فتن، قيل:
وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله تعالى فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما فيكم»،
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: أنزل في هذا القرآن كل علم وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: جميع ما حكم به النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو مما فهمه من القرآن، ويؤيد ذلك ما
رواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لا أحل إلا ما أحل الله تعالى في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله تعالى في كتابه»،
وقال المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به، ثم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلا ما استأثر به سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة ومثل ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، حتى قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى، ثم ورث عنهم التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، فنوّعوا علومه، وقامت كل طائفة بفن من فنونه.
وقال بعضهم: ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله تعالى حتى أن البعض استنبط عمر النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثا وستين سنة من قوله سبحانه في سورة المنافقين: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها [المنافقون:
١١] فإنها رأس ثلاث وستين سورة، وعقبها- بالتغابن- ليظهر التغابن في فقده بنفس ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا مما لا يكاد ينتطح فيه كبشان، فإذا ثبت أن جميع ذلك في القرآن كان تبليغ القرآن تبليغا له، غاية ما في الباب أن التوقيف على تفصيل ذلك سرا سرا وحكما حكما لم يثبت بصريح العبارة لكل أحد، وكم من سر وحكم نبهت عليهما الإشارة ولم تبينهما العبارة، ومن زعم أن هناك أسرارا خارجة عن كتاب الله تعالى تلقاها الصوفية من ربهم بأي وجه كان، فقد أعظم الفرية وجاء بالضلال ابن السبهلل بلا مرية.
وقول بعضهم: أخذتم علمكم ميتا عن ميت ونحن أخذناه عن الحي الذي لا يموت، لا يدل على ذلك الزعم لجواز أن يكون ذلك الأخذ من القرآن بواسطة فهم قدسي أعطاه الله تعالى لذلك الآخذ، ويؤيد هذا ما
صح عن أبي جحيفة، قال: قلت لعلي كرم الله تعالى وجهه: هل عندكم كتاب خصكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: لا إلا كتاب الله تعالى أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة- وكانت متعلقة بقبضة سيفه- قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر.
ويفهم منه- كما قال القسطلاني- جواز استخراج العالم من القرآن بفهمه ما لم يكن منقولا عن المفسرين إذا وافق أصول الشريعة، وما عند الصوفية- على ما أقول- كله من هذا القبيل إلا أن بعض كلماتهم مخالف ظاهرها لما جاءت به الشريعة الغراء، لكنها مبنية على اصطلاحات فيما بينهم إذا علم المراد منها يرتفع الغبار، وكونهم ملامين على تلك الاصطلاحات
لقول علي كرم الله تعالى وجهه كما في صحيح البخاري- حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون
أن يكذب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم-
أو غير ملامين لوجود داع لهم إلى ذلك على ما يقتضيه حسن الظن بهم بحث آخر لسنا بصدده.
وقريب من خبر أبي جحيفة ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عنترة، قال: كنت عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فجاءه رجل، فقال: إن ناسا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس، فقال: ألم تعلم أن الله تعالى قال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ؟ والله ما ورّثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سوداء في بيضاء، وحمل- وعاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي لم يبثه على علم الأسرار- غير متعين لجواز أن يكون المراد منه أخبار الفتن.
وأشراط الساعة وما أخبر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم من فساد الدين على أيدي أغيلمة من سفهاء قريش، وقد كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: لو شئت أن أسميهم بأسمائهم لفعلت، أو المراد الأحاديث التي فيها تعيين أسماء أمراء الجور وأحوالهم وذمهم، وقد كان رضي الله تعالى عنه يكني عن بعض ذلك ولا يصرح خوفا على نفسه منهم بقوله: أعوذ بالله سبحانه من رأس الستين وإمارة الصبيان، يشير إلى خلافة يزيد الطريد لعنه الله تعالى على رغم أنف أوليائه لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله تعالى دعاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فمات قبلها بسنة، وأيضا قال القسطلاني: لو كان كذلك لما وسع أبي هريرة كتمانه مع ما أخرج عنه البخاري أنه قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة الحديث، ولولا آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثت حديثا ثم يتلو إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى إلى قوله تعالى: الرَّحِيمِ [البقرة: ١٥٩، ١٦٠] إلى آخر ما قال، فإن ما تلاه دال على ذم كتمان العلم لا سيما العلم الذي يسمونه علم الأسرار فإن الكثير منهم يدعي أنه لب ثمرة العلم، وأيضا إن أبا هريرة نفى بث ذلك الوعاء على العموم من غير تخصيص، فكيف يستدل به لذلك، وأبو هريرة لم يكشف مستوره فيما أعلم؟ فمن أين علم أن الذي علمه هو هذا؟! ومن ادعى فعليه البيان، ودونه قطع الأعناق.
فالاستدلال بالخبر لطريق القوم فيه ما فيه، ومثله ما
روي عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه، نعم للقوم متمسك غير هذا مبين في موضعه
لكن لا يسلم لأحد كائنا من كان أن ما هم عليه مما خلا عنه كتاب الله تعالى الجليل، أو أنه أمر وراء الشريعة، ومن برهن على ذلك بزعمه فقد ضل ضلالا بعيدا، فقد قال الشعراني قدس سره في الأجوبة المرضية عن الفقهاء والصوفية: سمعت سيدي عليا المرصفي يقول: لا يكمل الرجل في مقام المعرفة والعلم حتى يري الحقيقة مؤيدة للشريعة، وإن التصوف ليس بأمر زائد على السنة المحمدية، وإنما هو عينها.
وسمعت سيدي عليا الخواص يقول مرارا: من ظن أن الحقيقة تخالف الشريعة أو عكسه فقد جهل لأنه ليس عند المحققين شريعة تخالف حقيقة أبدا، حتى قالوا: شريعة بلا حقيقة عاطلة وحقيقة بلا شريعة باطلة، خلاف ما عليه القاصرون من الفقهاء والفقراء، وقد يستند من زعم المخالفة بين الحقيقة والشريعة إلى قصة الخضر مع موسى عليهما السلام، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك على وجه لا يستطيع المخالف معه على فتح شفة.
ومما نقلنا عن القسطلاني في خبر أبي جحيفة يعلم الجواب عما قيل في الاعتراض على الصوفية: من أن ما عندهم إن كان موافقا للكتاب والسنة فهما بين أيدينا، وإن كان مخالفا لهما فهو ردّ عليهم، وما بعد الحق إلا الضلال، والجواب باختيار الشق الأول وكون الكتاب والسنة بين أيدينا لا يستدعي عدم إمكان استنباط شيء منهما بعد، ولا يقتضي انحصار ما فيهما فيما علمه العلماء قبل، فيجوز أن يعطي الله تعالى لبعض خواص عباده فهما يدرك به منهما ما لم يقف عليه أحد من المفسرين والفقهاء المجتهدين في الدين، وكم ترك الأول للآخر، وحيث سلم للأئمة الأربعة مثلا اجتهادهم واستنباطهم من الآيات والأحاديث، مع مخالفة بعضهم بعضا فما المانع من أن يسلم للقوم ما فتح لهم
من معاني كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم وإن خالف ما عليه بعض الأئمة، لكن لم يخالف ما انعقد عليه الإجماع الصريح من الأمة المعصومة، وأرى التفرقة بين الفريقين مع ثبوت علم كل في القبول والرد تحكما بحتا كما لا يخفى على المنصف، وزعمت الشيعة أن المراد «بما أنزل إليك» خلافة علي كرم الله تعالى وجهه،
فقد رووا بأسانيدهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى أوحى إلى نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يستخلف عليا كرم الله تعالى وجهه، فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعا له عليه الصلاة والسلام بما أمره بأدائه.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: نزلت هذه الآية في علي كرم الله تعالى وجهه حيث أمر سبحانه أن يخبر الناس بولايته فتخوّف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقولوا حابى ابن عمه وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله تعالى إليه هذه الآية فقام بولايته يوم غدير خم، وأخذ بيده فقال عليه الصلاة والسلام: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه،
وأخرج الجلال السيوطي في الدر المنثور عن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر راوين عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم غدير خم في علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه،
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أن عليا ولي المؤمنين وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وخبر الغدير عمدة أدلتهم على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه، وقد زادوا فيه إتماما لغرضهم زيادات منكرة ووضعوا في خلاله كلمات مزورة ونظموا في ذلك الأشعار وطعنوا على الصحابة رضي الله تعالى عنهم بزعمهم أنهم خالفوا نص النبي المختار صلّى الله عليه وسلّم، فقال إسماعيل بن محمد الحميري- عامله الله تعالى بعدله- من قصيدة طويلة:
عجبت من قوم أتوا أحمدا... بخطة ليس لها موضع
قالوا له: لو شئت أعلمتنا... إلى من الغاية والمفزع
إذا توفيت وفارقتنا... وفيهم في الملك من يطمع؟
فقال: لو أعلمتكم مفزعا... كنتم عسيتم فيه أن تصنعوا
كصنع أهل العجل إذ فارقوا... هارون فالترك له أورع
ثم أتته بعده عزمة... من ربه ليس لها مدفع
أبلغ وإلا لم تكن مبلغا... والله منهم عاصم يمنع
فعندها قام النبي الذي... كان بما يأمره يصدع
يخطب مأمورا وفي كفه... كف على نورها يلمع
رافعها، أكرم بكف الذي... يرفع، والكف التي ترفع
من كنت مولاه فهذا له... مولى فلم يرضوا ولم يقنعوا
وظل قوم غاظهم قوله... كأنما آنافهم تجدع
حتى إذا واروه في لحده... وانصرفوا عن دفنه ضيعوا
ما قال بالأمس وأوصى به... واشتروا الضر بما ينفع
وقطعوا أرحامهم بعده | فسوف يجزون بما قطعوا |
وأزمعوا مكرا بمولاهم | تبا لما كانوا به أزمعوا |
لا هم عليه يردوا حوضه | غدا، ولا هو لهم يشفع |
فروى محمد بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله عن يزيد بن طلحة قال: لما أقبل علي كرم الله تعالى وجهه من اليمن ليلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة تعجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل حلة من البز الذي كان مع علي كرم الله تعالى وجهه، فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل، قال: ويلك ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس، قال: ويلك انتزع قبل أن ننتهي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فانتزع الحلل من الناس فردها في البز، وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم.
وأخرج عن زينب بنت كعب- وكانت عند أبي سعيد الخدري- عن أبي سعيد قال: اشتكى الناس عليا كرم الله تعالى وجهه، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا خطيبا فسمعته يقول: أيها الناس لا تشكوا عليا فو الله إنه لأخشن في ذات الله تعالى- أو في سبيل الله تعالى. ورواه الإمام أحمد،
وروي أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن بريدة الأسلمي قال: غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكرت عليا كرم الله تعالى وجهه، فرأيت وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد تغير، فقال بريدة: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله قال: من كنت مولاه فعلي مولاه،
وكذا رواه النسائي بإسناد جيد قوى رجاله كلهم ثقات، وروي بإسناد آخر تفرد به،
وقال الذهبي: إنه صحيح عن زيد بن أرقم قال: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فغممن، ثم قال: كأني قد دعيت فأجبت إني قد تركت فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لم يفترقا حتى يردا على الحوض، الله تعالى مولاي وأنا ولي كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي كرم الله تعالى وجهه، فقال: من كنت مولاه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فما كان في الدوحات أحد إلا رآه بعينه وسمعه بأذنيه.
وروى ابن جرير عن علي بن زيد وأبي هارون العبيدي وموسى بن عثمان عن البراء قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع فلما أتينا على غدير خم كسح لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت شجرتين ونودي في الناس الصلاة جامعة، ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا كرم الله تعالى وجهه وأخذ بيده وأقامه عن يمينه، فقال: ألست أولى بكل امرئ من نفسه؟ قالوا:
بلى، قال: فإن هذا مولى من أنا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فلقيه عمر بن الخطاب فقال رضي الله تعالى عنه: هنيئا لك أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة
- وهذا ضعيف- فقد نصوا أن علي بن زيد وأبا هارون وموسى ضعفاء لا يعتمد على روايتهم، وفي السند أيضا- أبو إسحاق- وهو شيعي مردود الرواية. صفحة رقم 360
وروى ضمرة بإسناده عن أبي هريرة قال: لما أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يد علي كرم الله تعالى وجهه قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فأنزل الله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: ٣] ثم قال أبو هريرة: وهو يوم غدير خم، ومن صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب الله تعالى له صيام ستين شهرا،
وهو حديث منكر جدا، ونص في البداية والنهاية على أنه موضوع، وقد اعتنى بحديث الغدير أبو جعفر بن جرير الطبري فجمع فيه مجلدين أورد فيهما سائر طرقه وألفاظه، وساق الغث والسمين والصحيح والسقيم على ما جرت به عادة كثير من المحدثين، فإنهم يوردون ما وقع لهم في الباب من غير تمييز بين صحيح وضعيف، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة، والمعول عليه فيها ما أشرنا إليه، ونحوه مما ليس فيه خبر الاستخلاف كما يزعمه الشيعة، وعن الذهبي أن
من كنت مولاه فعلي مولاه
متواتر يتيقن أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاله، وأما
اللهم وال من والاه،
فزيادة قوية الإسناد، وأما صيام ثماني عشرة ذي الحجة فليس بصحيح- ولا والله نزلت تلك الآية إلا يوم عرفة قبل غدير خم بأيام.
والشيخان لم يرويا خبر الغدير في صحيحهما لعدم وجدانهما له على شرطهما، وزعمت الشيعة أن ذلك لقصور وعصبية فيهما وحاشاهما من ذلك، ووجه استدلال الشيعة بخبر- من كنت مولاه فعلي مولاه- أن المولى بمعنى الأولى بالتصرف، وأولوية التصرف عين الإمامة، ولا يخفى أن أول الغلط في هذا الاستدلال جعلهم المولى بمعنى الأولى، وقد أنكر ذلك أهل العربية قاطبة بل قالوا: لم يجىء مفعل بمعنى أفعل أصلا، ولم يجوز ذلك إلا أبو زيد اللغوي متمسكا بقول أبي عبيدة في تفسير قوله تعالى: هِيَ مَوْلاكُمْ [الحديد: ١٥] أي أولى بكم.
وردّ بأنه يلزم عليه صحة فلان مولى من فلان كما يصح فلان أولى من فلان، واللازم باطل إجماعا فالملزوم مثله، وتفسير أبي عبيدة بيان لحاصل المعنى، يعني النار مقركم ومصيركم. والموضع اللائق بكم، وليس نصا في أن لفظ المولى ثمة بمعنى الأولى، والثاني أنا لو سلمنا أن المولى بمعنى الأولى لا يلزم أن يكون صلته بالتصرف، بل يحتمل أن يكون المراد أولى بالمحبة وأولى بالتعظيم ونحو ذلك، وكم قد جاء الأولى في كلام لا يصح معه تقدير التصرف كقوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران: ٦٨] على أن لنا قرينتين على أن المراد من الولاية من لفظ المولى أو الأولى: المحبة، إحداهما ما رويناه عن محمد بن إسحاق في شكوى الذين كانوا مع الأمير كرم الله تعالى وجهه في اليمن- كبريدة الأسلمي وخالد بن الوليد وغيرهما- ولم يمنع صلّى الله عليه وسلّم الشاكين بخصوصهم مبالغة في طلب موالاته وتلطفا في الدعوة إليها كما هو الغالب في شأنه صلّى الله عليه وسلّم في مثل ذلك، وللتلطف المذكور افتتح الخطبة صلّى الله عليه وسلّم
بقوله: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم،
وثانيهما
قوله عليه الصلاة والسلام على ما في بعض الروايات: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه،
فإنه لو كان المراد من المولى المتصرف في الأمور أو الأولى بالتصرف لقال عليه الصلاة والسلام: اللهم وال من كان في تصرفه وعاد من لم يكن كذلك، فحيث ذكر صلّى الله عليه وسلّم المحبة والعداوة فقد نبه على أن المقصود إيجاب محبته كرم الله تعالى وجهه والتحذير عن عداوته وبغضه لا التصرف وعدمه، ولو كان المراد الخلافة لصرح صلّى الله عليه وسلّم بها.
ويدل لذلك ما رواه أبو نعيم عن الحسن المثنى بن الحسن السبط رضي الله تعالى عنهما أنهم سألوه عن هذا الخبر، هل هو نص على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه؟ فقال: لو كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أراد خلافته لقال: أيها الناس هذا ولي أمري والقائم عليكم بعدي فاسمعوا وأطيعوا، ثم قال الحسن: أقسم بالله سبحانه أن الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم لو آثر عليا لأجل هذا الأمر- ولم يقدم علي كرم الله تعالى وجهه عليه- لكان أعظم الناس خطأ، وأيضا ربما يستدل على أن المراد بالولاية المحبة بأنه لم يقع التقييد بلفظ بعدي، والظاهر حينئذ اجتماع الولايتين في زمان واحد، ولا يتصور
الاجتماع على تقدير أن يكون المراد أولوية التصرف بخلاف ما إذا كان المراد المحبة، وتمسك الشيعة في إثبات أن المراد بالمولى الأولى بالتصرف باللفظ الواقع في صدر الخبر على إحدى الروايات، وهو
قوله صلّى الله عليه وسلّم: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم،
ونحن نقول: المراد من هذا أيضا الأولى بالمحبة يعني ألست أولى: بالمؤمنين من أنفسهم بالمحبة، بل قد يقال: الأولى هاهنا مشتق من الولاية بمعنى المحبة، والمعنى ألست أحب إلى المؤمنين من أنفسهم؟
ليحصل تلاؤم أجزاء الكلام ويحسن الانتظام، ويكون حاصل المعنى هكذا: يا معشر المؤمنين إنكم تحبوني أكثر من أنفسكم، فمن يحبني يحب عليا اللهم أحب من أحبه وعاد من عاداه، ويرشد إلى أنه ليس المراد بالأولى- في تلك الجملة- الأولى بالتصرف أنها مأخوذة من قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأحزاب: ٦] وهو مسوق لنفي نسب الأدعياء ممن يتبنونهم، وبيانه أن زيد بن حارثة لا ينبغي أن يقال: إنه ابن محمد صلّى الله عليه وسلّم لأن نسبة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى جميع المؤمنين كالأب الشفيق بل أزيد، وأزواجه عليه والسلام أمهاتهم، والأقرباء في النسب أحق وأولى من غيرهم، وإن كانت الشفقة والتعظيم للأجانب أزيد لكن مدار النسب على القرابة وهي مفقودة في الأدعياء لا على الشفقة والتعظيم، وهذا ما «في كتاب الله» تعالى أي في حكمه، ولا دخل لمعنى الأولى بالتصرف في المقصود أصلا، فالمراد فيما نحن فيه هو المعنى الذي أريد في المأخوذ منه، ولو فرضنا كون الأولى في صدر الخبر بمعنى الأولى بالتصرف فيحتمل أن يكون ذلك لتنبيه المخاطبين بذلك الخطاب ليتوجهوا إلى سماع كلامه صلّى الله عليه وسلّم كمال التوجه ويلتفتوا إليه غاية الالتفات، فيقرر ما فيه من الإرشاد أتم تقرر، وذلك كما يقول الرجل لأبنائه في مقام الوعظ والنصيحة: ألست أباكم؟ وإذا اعترفوا بذلك يأمرهم بما قصده منهم ليقبلوا بحكم الأبوة والبنوة ويعملوا على طبقهما، فقوله عليه الصلاة والسلام في هذا المقام: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ مثل «ألست رسول الله تعالى إليكم؟» أو لست نبيكم، ولا يمكن إجراء مثل ذلك فيما بعده تحصيلا للمناسبة، ومن الشيعة من أورد دليلا على نفي معنى المحبة، وهو أن محبة الأمير كرم الله تعالى وجهه أمر ثابت في ضمن آية وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: ٧١] فلو أفاد هذا الحديث ذلك المعنى أيضا كان لغوا ولا يخفى فساده، ومنشؤه أن المستدل لم يفهم أن إيجاب محبة أحد في ضمن العموم شيء، وإيجاب محبته بالخصوص شيء آخر، والفرق بينهما مثل الشمس ظاهر، ومما يزيد ذلك ظهورا أنه لو آمن شخص بجميع أنبياء الله تعالى، ورسله عليهم الصلاة والسلام، ولم يتعرض لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم بخصوصه بالذكر لم يكن إيمانه معتبرا، وأيضا لو فرضنا اتحاد مضمون الآية والخبر لا يلزم اللغو، بل غاية ما يلزم التقرير والتأكيد، وذلك وظيفة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد كان عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يؤكد مضامين القرآن ويقررها، بل القرآن نفسه قد تكررت فيه المضامين لذلك، ولم يقل أحد إن ذلك من اللغو- والعياذ بالله تعالى- وأيضا التنصيص على إمامة الأمير كرم الله تعالى وجهه تكرر مرارا عند الشيعة، فيلزم على تقدير صحة ذلك القول اللغوي، ويجل كلام الشارع عنه، ثم إن ما أشار إليه الحميري في قصيدته التي أسرف فيها من أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم بهذه الهيئة الاجتماعية جاؤوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وطلبوا منه تعيين الإمام بعده مما لم يذكره المؤرخون وأهل السير من الفريقين فيما أعلم، بل هو محض زور وبهتان نعوذ بالله تعالى منه.
ومن وقف على تلك القصيدة الشنيعة بأسرها وما يرويه الشيعة فيها، وكان له أدنى خبرة رأى العجب العجاب وتحقق أن قعاقع القوم كصرير باب أو كطنين ذباب، ثم إن الأخبار الواردة من طريق أهل السنة الدالة على أن هذه الآية نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه- على تقدير صحتها وكونها بمرتبة يستدل بها- ليس فيها أكثر من الدلالة
على فضله كرم الله تعالى وجهه وأنه ولي المؤمنين بالمعنى الذي قررناه، ونحن لا ننكر ذلك وملعون من ينكره، وكذا ما أخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ليس فيه أكثر من ذلك، والتنصيص عليه كرم الله تعالى وجهه بالذكر لما قدمنا، وقال بعض أصحابنا على سبيل التنزل: إن الآية على خبر ابن مسعود وكذا خبر الغدير- على الرواية المشهورة- على تقدير دلالتهما على أن المراد الأولى بالتصرف لا بد أن يقيدا بما يدل على ذلك في المآل، وحينئذ فمرحبا بالوفاق لأن أهل السنة قائلون بذلك حين إمامته، ووجهه تخصيص الأمير كرم الله تعالى وجهه حينئذ بالذكر ما علمه عليه الصلاة والسلام بالوحي من وقوع الفساد والبغي في زمن خلافته، وإنكار بعض الناس لإمامته الحقة، وكون ذلك بعد الوفاة من غير فصل مما لا دليل عليه، والخبر المصدر- بكأني قد دعيت فأجبت- ليس نصا في المقصود كما لا يخفى، ومما يبعد دعوى الشيعة من أن الآية نزلت في خصوص خلافة علي كرّم الله تعالى وجهه، وأن الموصول فيها خاص قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فإن الناس فيه وإن كان عاما إلا أن المراد بهم الكفار، ويهديك إليه إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ فإنه في موضع التعليل لعصمته عليه الصلاة والسلام، وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر أي لأن الله تعالى لا يهديهم إلى أمنيتهم فيك، ومتى كان المراد بهم الكفار بعد إرادة الخلافة، بل لو قيل: لم تصح لم يبعد لأن التخوف الذي تزعمه الشيعة منه صلّى الله عليه وسلّم- وحاشاه في تبليغ أمر الخلافة- إنما هو من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، حيث إن فيهم- معاذ الله تعالى- من يطمع فيها لنفسه، ومتى رأى حرمانه منها لم يبعد منه قصد الإضرار برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والتزام القول- والعياذ بالله عزّ وجلّ- بكفر من عرضوا بنسبة الطمع في الخلافة إليه مما يلزمه محاذير كلية أهونها تفسيق الأمير كرم الله تعالى وجهه وهو هو، أو نسبة الجبن إليه- وهو أسد الله تعالى الغالب- أو الحكم عليه بالتقية- وهو الذي لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم ولا يخشى إلا الله سبحانه- أو نسبة فعل الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بل الأمر الإلهي إلى العبث والكل كما ترى، لا يقال: إن عندنا أمرين يدلان على أن المراد بالموصول الخلافة، أحدهما أنه صلّى الله عليه وسلّم كان مأمورا بأبلغ عبارة بتبليغ الأحكام الشرعية التي يؤمر بها حيث قال سبحانه مخاطبا له عليه الصلاة والسلام: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر: ٩٤] فلو لم يكن المراد هنا فرد هو أهم الأفراد وأعظمها شأنا- وليس ذلك إلا الخلافة إذ بها ينتظم أمر الدين والدنيا- لخلا الكلام عن الفائدة، وثانيهما
أن ابن إسحاق ذكر في سيرته أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس في حجة الوداع خطبته التي بين فيها ما بين، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألنكم عن أعمالكم، وقد بلغت، ثم أوصى صلّى الله عليه وسلّم بالنساء، ثم قال عليه الصلاة والسلام:
فاعقلوا قولي فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم- إلى أن قال: بأبي هو وأمي صلّى الله عليه وسلّم- اللهم هل بلغت؟ قال ابن إسحاق: فذكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم اشهد»
انتهى.
فإن هذه الرواية ظاهرة في أن الخطبة كانت يوم عرفة يوم الحج الأكبر- كما في رواية يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير- ويوم الغدير كان اليوم الثامن عشر من ذي الحجة بعد أن فرغ صلّى الله عليه وسلّم من شأن المناسك وتوجه إلى المدينة المنوّرة، وحينئذ يكون المأمور بتبليغه أمرا آخر غير ما بلغه صلّى الله عليه وسلّم قبل، وشهد الناس على تبليغه، وأشهد الله تعالى على ذلك، وليس هذا إلا الخلافة الكبرى والإمامة العظمى، فكأنه سبحانه يقول: يا أيها الرسول بلغ كون علي كرم الله تعالى وجهه خليفتك وقائما مقامك بعدك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وإن قال لك الناس حين قلت: اللهم هل
بلغت؟ اللهم نعم، لأنا نقول: إن الشرطية في الأمر الأول- بعد غمض العين عما فيه- ممنوعة لجواز أن يراد بالموصول في الآيتين الأحكام الشرعية المتعلقة بمصالح العباد في معاشهم ومعادهم، ولا يلزم الخلو عن الفائدة إذ كم آية تكررت في القرآن، وأمر ونهي ذكر مرارا للتأكيد والتقرير، على أن بعضهم ذكر أن فائدة الأمر هنا إزالة توهم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ترك ويترك تبليغ شيء من الوحي تقية، ويرد على الأمر الثاني أمران: الأول أن كون يوم الغدير بعد يوم عرفة مسلم، لكن لا نسلم أن الآية نزلت فيه ليكون المأمور بتبليغه أمرا آخر، بل الذي يقتضيه ظاهر الخطبة
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها- اللهم هل بلغت-
أن الآية نزلت قبل يومي الغدير وعرفة، وما ورد في غير ما أثر- من أن سورة المائدة نزلت بين مكة والمدينة في حجة الوداع لا يصلح دليلا للبعدية ولا للقبلية إذ ليس فيه ذكر الإياب ولا الذهاب، وظاهر حاله صلّى الله عليه وسلّم في تلك الحجة- من إراءة المناسك ووضع الربا ودماء الجاهلية، وغير ذلك مما يطول ذكره، وقد ذكره أهل السير- يرشد إلى أن النزول كان في الذهاب، والثاني أنا لو سلمنا كون النزول يوم الغدير، فلا نسلم أن المأمور بتبليغه أمر آخر لكنا لا نسلم أنه ليس إلا الخلافة، وكم قد بلغ صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك غير ذلك من الآيات المنزلة عليه عليه الصلاة والسلام، والذي يفهم من بعض الروايات أن هذه الآية قبل حجة الوداع،
فقد أخرج ابن مردويه والضياء في مختاره عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي آية أنزلت من السماء أشد عليك؟ فقال: «كنت بمنى أيام موسم واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس في الموسم فأنزل علي جبريل عليه السلام فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ الآية، قال: فقمت عند العقبة فناديت: يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي ولكم الجنة، أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله وأنا رسول الله إليكم تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: فما بقي رجل ولا امرأة ولا أمة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة، ويقولون: كذاب صابىء، فعرض علي عارض فقال: يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه».
قال الأعمش: فبذلك تفتخر بنو العباس، ويقولون: فيهم نزلت إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص: ٥٦] هوى النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا طالب، وشاء الله تعالى عباس بن عبد المطلب، وأصرح من هذا ما
أخرجه أبو الشيخ وأبو نعيم في الدلائل وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحرس وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه، فقال: يا عم إن الله عز وجل قد عصمني»
فإن أبا طالب مات قبل الهجرة، وحجة الوداع بعدها بكثير، والظاهر اتصال الآية، وعن بعضهم أن الآية نزلت ليلا بناء على ما
أخرج عبد بن حميد والترمذي والبيهقي وغيرهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحرس حتى نزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ أخرج رأسه من القبة فقال: «أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله تعالى»
ولا يخفى أنه ليس بنص في المقصود، والذي أميل إليه جمعا بين الأخبار أن هذه الآية مما تكرر نزوله، والله تعالى أعلم، والمراد بالعصمة من الناس حفظ روحه عليه الصلاة والسلام من القتل والإهلاك، فلا يرد أنه صلّى الله عليه وسلّم شج وجهه الشريف وكسرت رباعيته يوم أحد، ومنهم من ذهب إلى العموم وادعى أن الآية إنما نزلت بعد أحد، واستشكل الأمران بأن اليهود سموه عليه الصلاة والسلام حتى
قال: «لا زالت أكلة خيبر تعاودني
وهذا أوان قطعت أبهري وأجيب بأنه سبحانه وتعالى ضمن له العصمة من القتل ونحوه بسبب تبليغ الوحي، وأما ما فعل به صلّى الله عليه وسلّم وبالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فللذب عن الأموال والبلاد والأنفس، ولا يخفى بعده.
وقال الراغب: عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حفظهم بما خصوا به من صفاء الجوهر، ثم بما أولاهم من الأخلاق والفضائل، ثم بالنصرة وتثبيت أقدامهم، ثم بإنزال السكينة عليهم وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق، وقيل: المراد بالعصمة الحفظ من صدور الذنب، والمعنى بلغ والله تعالى يمنحك الحفظ من صدور الذنب من بين الناس، أي يعصمك بسبب ذلك دونهم، ولا يخفى أن هذا توجيه لم يصدر إلا ممن لم يعصمه الله تعالى من الخطأ، ومثله ما نقل عن علي بن عيسى في قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ
حيث قال: لا يهديهم بالمعونة والتوفيق والألطاف إلى الكفر بل إنما يهديهم إلى الإيمان، وزعم أن الذي دعاه إلى هذا التفسير أن الله تعالى هدى الكفار إلى الإيمان بأن دلهم عليه ورغبهم فيه وحذرهم من خلافه، وأنت قد علمت المراد بالآية على أن في كلامه ما لا يخفى من النظر، وقال الجبائي: المراد لا يهديهم إلى الجنة والثواب، وفيه غفلة عن كون الجملة في موضع التعليل، وزعم بعضهم أن المراد أن عليك البلاغ لا الهداية، فمن قضيت عليه بالكفر والوفاة عليه لا يهتدي أبدا- وهو كما ترى- فليفهم جميع ما ذكرناه في هذه الآية وليحفظ فإني لا أظن أنك تجده في كتاب.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «رسالاته» على الجمع، وإيراد الآية في تضاعيف الآية الواردة في أهل الكتاب لما أن الكل قوارع يسوء الكفار سماعها ويشق على الرسول صلّى الله عليه وسلّم مشافهتهم بها، وخصوصا ما يتلوها من النص الناعي عليهم كمال ضلالهم، ولذلك أعيد الأمر فقال سبحانه: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ، والمراد بهم اليهود والنصارى- كما قال بعض المفسرين- وقال آخرون: المراد بهم اليهود،
فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: جاء رافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة «فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها من الله تعالى حق؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس فبرئت من إحداثكم. قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الهدى والحق ولا نؤمن بك ولا نتبعك» فأنزل الله تعالى فيهم قال يا أهل الكتاب
لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي دين يعتد به ويليق بأن يسمى شيئا لظهور بطلانه ووضوح فساده، وفي هذا التعبير ما لا يخفى من التحقير، ومن أمثالهم أقل من لا شيء حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أي تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائل رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وشواهد نبوته، فإن إقامتهما وتوفية حقوقهما إنما تكون بذلك لا بالعمل بجميع ما فيهما منسوخا كان أو غيره، فإن مراعاة المنسوخ تعطيل لهما وردّ لشهادتهما وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أي القرآن المجيد، وإقامته بالإيمان به، وقدمت إقامة الكتابين على إقامته- مع أنها المقصودة بالذات- رعاية لحق الشهادة واستنزالا لهم عن رتبة الشقاق.
وقيل: المراد بالموصول كتب أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام، وقيل: الكتب الإلهية، فإنها كلها ناطقة بوجوب الإيمان بمن ادعى النبوة وأظهر المعجزة ووجوب طاعة من بعث إليهم له، وقد مر تمام الكلام على مثل هذا النظم الكريم وكذا على قوله تعالى:
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً والجملة مستأنفة- كما قال شيخ الإسلام مبينة لشدة شكيمتهم وغلوهم في المكابرة والعناد وعدم إفادة التبليغ نفعا، وتصديرها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيقه ونسبة الإنزال إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- مع نسبته فيما مر إليهم- للإنباء عن انسلاخهم عن تلك النسبة، وإذا أريد بالموصول النعم التي أعطيها صلّى الله عليه وسلّم فأمر النسبة ظاهر جدا.
فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي لا تأسف ولا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإن غائلة ذلك موصولة بهم وتبعته عائدة إليهم، وفي المؤمنين غنى لك عنهم، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر، وقيل: المراد لا تحزن على هلاكهم وعذابهم، ووضع الظاهر موضع الضمير للتنبيه على العلة الموجبة لعدم الأسى، ولا يخلو عن بعد إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا كلام مستأنف مسوق للترغيب في الإيمان والعمل الصالح.
وقد تقدم في آية البقرة الاختلاف في المراد- من الذين آمنوا- والمروي عن الثوري أنهم الذين آمنوا بألسنتهم- وهم المنافقون- وهو الذي اختاره الزجاج، واختار القاضي أن المراد بهم المتدينون بدين محمد صلّى الله عليه وسلّم مخلصين كانوا أو منافقين، وقيل: غير ذلك وَالَّذِينَ هادُوا أي دخلوا في اليهودية وَالصَّابِئُونَ، وهم كما قال حسن جلبي وغيره: قوم خرجوا عن دين اليهود والنصارى وعبدوا الملائكة وقد تقدم الكلام على ذلك، وفي حسن المحاضرة في أخبار مصر القاهرة للجلال السيوطي ما لفظه: ذكر أئمة التاريخ أن آدم عليه الصلاة والسلام أوصى لابنه شيث- وكان فيه وفي بنيه النبوة والدين- وأنزل عليه تسع وعشرون صحيفة وأنه جاء إلى أرض مصر، وكانت تدعى بايلون فنزلها هو وأولاد أخيه، فسكن شيث فوق الجبل، وسكن أولاد قابيل أسفل الوادي، واستخلف شيث ابنه أنوش واستخلف أنوش ابنه قونان، واستخلف قونان ابنه مهلائيل، واستخلف مهلائيل ابنه يرد، ودفع الوصية إليه وعلمه جميع العلوم وأخبره بما يحدث في العالم، ونظر في النجوم وفي الكتاب الذي أنزل على آدم عليه الصلاة والسلام، وولد ليرد أخنوخ- وهو إدريس عليه الصلاة والسلام- ويقال له: هرمس، وكان الملك في ذلك الوقت محويل بن أخنوخ بن قابيل، وتنبأ إدريس عليه الصلاة والسلام وهو ابن أربعين سنة، وأراد به الملك سوءا فعصمه الله تعالى وأنزل عليه ثلاثين صحيفة، ودفع إليه أبوه وصية جده والعلوم التي عنده وكان قد ولد بمصر وخرج منها، وطاف الأرض كلها ورجع فدعا الخلق إلى الله تعالى فأجابوه حتى عمت ملته الأرض، وكانت ملته الصابئة، وهي توحيد الله تعالى والطهارة والصوم، وغير ذلك من رسوم التعبدات، وكان في رحلته إلى المشرق قد أطاعه جميع ملوكها، وابتنى مائة وأربعين مدينة أصغرها الرها، ثم عاد إلى مصر وأطاعه ملكها وآمن به- إلى آخر ما قاله- ونقله عن التيفاشي، ويفهم منه قول في الصابئة غير الأقوال المتقدمة وفي شذرات الذهب لعبد الحي بن أحمد بن العماد الحنبلي في ترجمة أبي إسحاق الصابئي ما نصه:
والصابئي بهمز آخره، قيل: نسبة إلى صابئي بن متوشلخ بن إدريس عليه الصلاة والسلام، وكان على الحنيفية الأولى، وقيل: الصابئي بن ماوي، وكان في عصر الخليل عليه الصلاة والسلام، وقيل: الصابئ عند العرب من خرج عن دين قومه انتهى وَالنَّصارى جمع نصران، وقد مر تفصيله، ورفع الصَّابِئُونَ على الابتداء وخبره محذوف لدلالة خبر- إن- عليه، والنية فيه التأخير عما في خبر إِنَّ والتقدير إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى حكمهم كيت وكيت وَالصَّابِئُونَ كذلك بناء على أن المحذوف في إن زيدا، وعمرو قائم خبر الثاني لا الأول كما هو مذهب بعض النحاة، واستدل عليه بقول: صابئ بن الحارث البرجمي:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله | فإني، وقيار بها لغريب |
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق: ١٧] : إن المراد قعيدان، وهذا يدل على إطلاقه على الاثنين أيضا، فالصواب صفحة رقم 366
منع هذا الوجه بأنه يلزم عليه توارد عاملين على معمول واحد، ومثله لا يصح على الأصح خلافا للكوفيين، وبقول بشر بن أبي حازم:
إذا جزت نواصي آل بدر | فأدوها وأسرى في الوثاق |
وإلا فاعلموا أنا وأنتم | بغاة ما بقينا في شقاق |
نحن بما عندنا وأنت بما | عندك راض والرأي مختلف |
وذهب الفراء إلى أنه إن خفي إعراب الاسم جاز لزوال الكراهة اللفظية نحو: إنك وزيد ذاهبان، وإلا امتنع، والمانع عند الجمهور لزوم توارد عاملين، وهما إِنَّ والابتداء أو المبتدأ على معمول واحد وهو الخبر، ولهذا ضعفوا هذا القول في الآي وبنوا على مذهب الكوفيين، وكون خبر المعطوف فيها محذوفا- وحينئذ لا يلزم التوارد- ليس بشيء لأن الجملة حينئذ تكون معطوفة على الجملة، ولم يكن ذلك من العطف على المحل في شيء، ومن قال: إن خبر إِنَّ مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخولها لم يلزم عليه حديث التوارد.
ونقل عن الكسائي إن العطف على الضمير في هادُوا وخطأه الزجاج بأنه لا يعطف على الضمير المرفوع صفحة رقم 367
المتصل من غير فصل، وبأنه لو عطف على الفاعل لكان التقدير- وهاد الصابئون- فيقتضي أنهم هود- وليس كذلك- ولعل الكسائي يرى صحة العطف من غير فاصل فلا يرد عليه الاعتراض الأول، وقيل: إِنَّ بمعنى نعم الجوابية ولا عمل لها حينئذ، فما بعدها مرفوع المحل على الابتداء والمرفوع معطوف عليه، وضعفه أبو حيان بأن ثبوت إِنَّ بمعنى نعم فيه خلاف بين النحويين.
وعلى تقدير ثبوته فيحتاج إلى شيء يتقدمها تكون تصديقا له ولا يجيء أول الكلام، والجواب بأن ثمة سؤالا مقدرا بعيد ركيك، وقيل: إن- الصابئين- عطف على الصلة بحذف الصدر أي الذين هم الصابئون، ولا يخفى بعده، وإن عدّ أحسن الوجوه، وقيل: إنه منصوب بفتحة مقدرة على الواو والعطف حينئذ مما لا خفاء فيه، واعترض بأن لغة- بلحارث وغيرهم- الذين جعلوا المثنى دائما بالألف نحو- رأيت الزيدان. ومررت بالزيدان- وأعربوه بحركات مقدرة، إنما هي في المثنى خاصة، ولم ينقل نحو ذلك عنهم في الجمع خلافا لما تقتضيه عبارة أبي البقاء، والمسألة مما لا يجري فيها القياس فلا ينبغي تخريج القرآن العظيم على ذلك، وقرأ أبي وكذا ابن كثير «والصابئين» وهو الظاهر «والصابيون» بقلب الهمزة ياء على خلاف القياس «والصابون» بحذفها من صبا بإبدال الهمزة ألفا فهو كرامون من رمى، وقرأ عبد الله «يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون» وقوله سبحانه وتعالى: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً إما في محل رفع على أنه مبتدأ خبره قوله تعالى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ
والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وجمع الضمائر الأخيرة باعتبار معنى الموصول كما أن إفراد ما في صلته باعتبار لفظه، والجملة خبر إن أو خبر المبتدأ، وعلى كل لا بد من تقدير العائد أي من آمن منهم، وإما في محل النصب على أنه بدل من اسم إِنَّ وما عطف عليه، أو ما عطف عليه فقط، وهو بدل بعض، ولا بد فيه من الضمير كما تقرر في العربية فيقدر أيضا، وقوله تعالى: فَلا خَوْفٌ إلخ خبر، والفاء كما في قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ [البروج: ١٠] الآية، والمعنى- كما قال غير واحد- على تقدير كون المراد- بالذين آمنوا- المؤمنين بألسنتهم وهم المنافقون من أحدث من هؤلاء الطوائف إيمانا خالصا بالمبدأ والمعاد على الوجه اللائق لا كما يزعمه أهل الكتاب فإنه بمعزل عن ذلك، وعمل عملا صالحا حسبما يقتضيه الإيمان فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حين يخاف الكفار العقاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ حين يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب، والمراد بيان انتفاء الأمرين لا انتفاء دوامهما على ما مرت الإشارة إليه غير مرة وأما على تقدير كون المراد- بالذين آمنوا- المتدينين بدين النبي صلّى الله عليه وسلّم مخلصين كانوا أو منافقين، فالمراد بمن آمن من اتصف منهم بالإيمان الخالص بما ذكر على الإطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام- كما في المخلصين- أو بطريق الإحداث والإنشاء- كما هو حال من عداهم من المنافقين. وسائر الطوائف- وليس هناك الجمع بين الحقيقة والمجاز كما لا يخفى لأن الثبات على الإيمان والإحداث فردان من مطلق الإيمان إلا أن في هذا الوجه ضم المخلصين إلى الكفرة، وفيه إخلال بتكريمهم، وربما يقال: إن فائدة ذلك المبالغة في ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين الأعلام وتمام الكلام قد مر في آية البقرة فليراجع لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ كلام مبتدأ مسوق لبيان بعض آخر من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم، وجعله بعضهم متعلقا بما افتتح الله تعالى به السورة، وهو قوله سبحانه: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: ١] ولا يخفى بعده.
والمراد بالميثاق المأخوذ العهد المؤكد الذي أخذه أنبياؤهم عليهم في الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وابتاعه فيما يأتي ويذر، أو في التوحيد وسائر الشرائع والأحكام المكتوبة عليهم في التوراة.
وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ذوي عدد كثير، وأولي شأن خطير، يعرفونهم ذلك ويتعهدونهم بالعظة والتذكير ويطلعونهم على ما يأتون ويذرون في دينهم كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ أي بما لا تميل إليه من الشرائع ومشاق التكاليف، والتعبير بذلك دون بما تكرهه أنفسهم للمبالغة في ذمهم، وكلمة كُلَّما كما قال أبو حيان: منصوبة على الظرفية لإضافتها إلى ما المصدرية الظرفية وليست كلمة شرط، وقد أطلق ذلك عليها الفقهاء وأهل المعقول، ووجه ذلك السفاقسي بأن تسميتها شرطا لاقتضائها جوابا كالشرط الغير الجازم فهي مثل- إذا- ولا بعد فيه، وجوابها- كما قيل- قوله تعالى: فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ.
وقيل: الجواب محذوف دل عليه المذكور، وقدره ابن المنير استكبروا لظهور ذلك في قوله تعالى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً [البقرة: ٨٧] إلخ، والبعض ناصبوه لأنه أدخل في التوبيخ على ما قابلوا به مجيء الرسول الهادي لهم، وأنسب بما وقع في التفصيل مستقبحا غاية الاستقباح، وهو القتل على ما سنشير إليه إن شاء الله تعالى، فإن الاستكبار إنما يفضى إليه بواسطة المناصبة، وأما في الآية الأخرى فقد قصد إلى استقباح الاستكبار نظرا إليه في نفسه لاقتضاء المقام، وادعى بعضهم أن في الإتيان بالفاء في آية الاستكبار إشارة إلى اعتبار الواسطة كأنه قيل: استكبرتم فناصبتم فَفَرِيقاً إلخ، وفيه نظر، والجملة حينئذ استئناف لبيان الجواب، وجعل الزمخشري هذا القول متعينا لأن الكلام تفصيل لحكم أفراد جمع الرسل الواقع قبل، أي- كلما جاءهم رسول من الرسل- والمذكور بقوله سبحانه: فَرِيقاً كَذَّبُوا إلخ يقتضي أن الجائي في كل مرة فريقان فبينهما تدافع، وعلى تقدير قطع النظر عن هذا لا يحسن في مثل هذا المقام تقديم المفعول مثل- إن أكرمت أخي، أخاك أكرمت- لأنه يشعر بالاختصاص المستلزم للجزم بوقوع أصل الفعل مع النزاع في المفعول، وتعليقه بالشرط يشعر بالشك في أصل الفعل، ولأن تقديم المفعول على ما قيل: يوجب الفاء إما لجعله الفعل بعيدا عن المؤثر فيحوجه إلى رابط، وإما لأنه بتقديم المفعول أشبه الجملة الاسمية المفتقرة إلى الفاء، وقيل: فيه مانع آخر لأن المعنى على أنهم كلما جاءهم رسول وقع أحد الأمرين لا كلاهما، فلو كان جوابا لكان الظاهر أو بدل الواو، ومن جعل الجملة جوابا لم ينظر إلى هذه الموانع، قال بعض المحققين: أما الأول فلأنه لقصد التغليظ جعل قتل واحد كقتل فريق، وقيل: المراد بالرسول جنسه الصادق بالكثير ويؤيده كُلَّما الدالة على الكثرة، وأما الثاني فلأنه لا يقتضي قواعد العربية مثله، وما ذكر من الوجوه أوهام لا يلتفت إليها ولا يوجد مثله في كتب النحو، ومنه يعلم دفع الأخير، وتعقب ذلك مولانا شهاب الدين بأنه عجيب من المتبحر الغفلة عن مثل هذا، وقد قال في شرح التسهيل: ويجوز أن ينطلق خيرا يصب- خلافا للفراء- فقال شراحه: أجاز سيبويه، والكسائي تقديم المنصوب بالجواب مع بقاء جزمه، وأنشد الكسائي:
وللخير أيام فمن يصطبر لها | ويعرف لها أيامها الخير يعقب |
واختار ابن مالك هذا المذهب في بعض كتبه، ولما رأى الزمخشري اشتراك المانع بين الشرط الجازم وما في معناه مال إليه خصوصا، وقوة المعنى تقتضيه فهو الحق انتهى.
والجملة الشرطية صفة رُسُلًا والرابط محذوف أي رسول منهم، وإلى هذا ذهب جمهور المعربين.
واختار مولانا شيخ الإسلام أن الجملة الشرطية مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الإخبار بأخذ الميثاق وإرسال الرسل كأنه قيل: فماذا فعلوا بالرسل؟ فقيل: كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تحبه أنفسهم صفحة رقم 369
المنهمكة في الغي والفساد من الأحكام الحقة والشرائع عصوه وعادوه، واعترض رحمه الله تعالى على ما ذهب إليه الجمهور من القول بالوصفية بأنه لا يساعده المقام لأن الجملة الخبرية إذا جعلت صفة أو صلة ينسخ ما فيها من الحكم، ويجعل عنوانا للموصوف وتتمة له، ولذا وجب أن تكون معلومة الانتساب له، ومن هنا قالوا: إن الصفات قبل العلم بها إخبار والإخبار بعد العلم بها أوصاف، ولا ريب في أن ما سيق له النظم إنما هو بيان أنهم جعلوا كل من جاءهم من الرسل عرضة للقتل والتكذيب حسبما يفيده جعلها استئنافا على أبلغ وجه وآكده لا بيان أنه أرسل إليهم رسلا موصوفين بكون كل منهم كذلك كما هو مقتضى جعلها صفة انتهى.
وتعقبه الشهاب بأنه تخيل لا طائل تحته، فإن قوله سبحانه: ولَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ إلخ مسوق لبيان جناياتهم والنعي عليهم بذلك كما اعترف به المعترض وهو لا يفيده إلا بالنظر إلى الصفة التي هي مرمى النظر كما في سائر القيود، وأما كونها معلومة فلا ضير فيه فإنك إذا وبخت شخصا، وقلت له: فعلت كيت وكيت وهو أعلم بما فعل لا يضر ذلك في تقريعه وتعييره بل هو أقوى- كما لا يخفى- على الخبير بأساليب الكلام، فلا تلتفت إلى مثل هذه الأوهام انتهى، ولا يخفى ما في قوله، وهو لا يفيده إلا بالنظر إلى الصفة إلخ من المنع الظاهر، وكذا جعل ما نحن فيه نظير قولك لشخص تريد توبيخه: فعلت كيت وكيت- وهو أعلم بما فعل- فيه خفاء، والذي يحكم به الإنصاف بعد التأمل جواز الأمرين، وأن ما ذهب إليه شيخ الإسلام أولى فتأمل وأنصف.
والتعبير- بيقتلون- مع أن الظاهر قتلوا ككذبوا لاستحضار الحال الماضية من أسلافهم للتعجيب منها ولم يقصد ذلك في التكذيب لمزيد الاهتمام بالقتل، وفي ذلك أيضا رعاية الفواصل، وعلل بعضهم التعبير بصيغة المضارع فيه، بالتنبيه على أن ذلك ديدنهم المستمر فهم بعد يحومون حول قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واقتصر البعض على قصد حكاية الحال لقرينة ضمائر الغيبة، وتقديم فَرِيقاً في الموضعين للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا به لا للقصر وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي ظن بنو إسرائيل أن لا يصيبهم من الله تعالى مما فعلوا بلاء وعذاب لزعمهم- كما قال الزجاج- أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه أو لإمهال الله تعالى لهم أو لنحو ذلك، وعن مقاتل تفسير الفتنة بالشدة والقحط، والأولى حملها على العموم، وعلى التقديرين ليس المراد منها معناها المعروف.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب «أن لا تكون» بالرفع على أن «أن» هي المخففة من الثقيلة، وأصله أنه لا تكون فخفف «أن» وحذف ضمير الشأن- وهو اسمها- وتعليق فعل الحسبان بها، وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لكمال قوته، و «أن» بما في حيزها سادّ مسد مفعوليه، وقيل: إن «حسب» هنا بمعنى علم، و «أن» لا تخفف إلا بعد ما يفيد اليقين، وقيل: إن المفعول الثاني محذوف أي وحسبوا عدم الفتنة كائنا، ونقل ذلك عن الأخفش، وتَكُونَ على كل تقدير تامة، وقوله تعالى: فَعَمُوا عطف على حَسِبُوا والفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها أي أمنوا بأس الله تعالى فتمادوا في فنون الغي والفساد. وعموا عن الدين بعد ما هداهم الرسل إلى معالمه وبينوا لهم مناهجه وَصَمُّوا عن استماع الحق الذي ألقوه إليهم، وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرتي إفساد بني إسرائيل حين خالفوا أحكام التوراة وركبوا المحارم وقتلوا شعيا، وقيل: حبسوا أرميا عليهما السلام ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد بعد ما كانوا ببابل دهرا طويلا تحت قهر بختنصر أسارى في غاية الذل والمهانة، فوجه الله عز وجل ملكا عظيما من ملوك فارس إلى بيت المقدس فعمره ورد من بقي من بني إسرائيل في أسر بختنصر إلى وطنهم وتراجع من تفرق منهم في الأكناف فاستقروا وكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه، وقيل:
لما ورث بهمن بن أسفنديار الملك من جده كاسف ألقى الله تعالى في قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام، وملك
عليهم دانيال عليه السلام فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر فقامت فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال، وذلك قوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ [الإسراء: ٦] ولم يسند سبحانه التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى والصمم تجافيا عن التصريح بنسبة الخير إليهم، وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبة الله تعالى عليهم تمهيدا لبيان نقضهم إياها بقوله سبحانه: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرتي إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى، وقصدهم قتل عيسى عليهم السلام، وجعل الزمخشري العمى والصمم أولا إشارة إلى ما صدر منهم من عبادة العجل، وثانيا إشارة إلى ما وقع منهم من طلبهم الرؤية، وفيه أن عبادة العجل وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم لكنها في عصر موسى عليه السلام، ولا تعلق لها بما حكي عنهم بما فعلوا بالرسل الذين جاؤوهم بعده عليه السلام بأعصار، وكذا القول- على زعمه- في طلب الرؤية على أن طلب الرؤية كان من القوم الذين مع موسى عليه السلام حين توجه للمناجاة، وعبادة العجل كانت من القوم المتخلفين فلا يتحقق تأخره عنها وحمل ثُمَّ للتراخي الرتبي دون الزماني مما لا ضرورة إليه، وقيل: إن العمى والصمم أولا إشارة إلى ما كان في زمن زكريا ويحيى عليهما السلام، وثانيا إشارة إلى ما كان في زمن نبينا صلّى الله عليه وسلّم من الكفر والعصيان، وبدأ بالعمى لأنه أول ما يعرض للمعرض عن الشرائع فلا يبصر من أتى بها من عند الله تعالى ولا يلتفت إلى معجزاته، ثم لو أبصره لم يسمع كلامه فيكون عروض الصمم بعد عروض العمى، وقرىء عَمُوا وَصَمُّوا بالضم على تقدير عماهم الله تعالى وصمهم أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم، كما يقال: نزكته إذا ضربته بالنيزك، وركبته إذا ضربته بركبتك، وقوله تعالى: كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل من الضمير في الفعلين، وقيل: هو فاعل والواو علامة الجمع لا ضمير، وهذه لغة لبعض العرب يعبر عنها النحاة- بأكلوني البراغيث- أو هو خبر مبتدأ محذوف أي العمى والصم كثير منهم.
وقيل: أي العمى والصمم كثير منهم أي صادر ذلك منهم كثيرا وهو خلاف الظاهر، وجوز أن يكون مبتدأ والجملة قبله خبره، وضعف بأن الخبر الفعلي لا يتقدم على المبتدأ لالتباسه بالفاعل، ورد بأن منع التقديم مشروط بكون الفاعل ضميرا مستترا إذ لا التباس فيما إذا كان بارزا، والتباسه بالفاعل في لغة- أكلوني البراغيث- لم يعتبروه مانعا لأن تلك اللغة ضعيفة لا يلتفت إليها، ومن هنا صرح النحاة بجواز التقديم في مثل الزيدان قاما لكن صرحوا بعدم جواز تقديم الخبر فيما يصلح المبتدأ أن يكون تأكيدا للفاعل، نحو- أنا قمت- فإن أنا لو أخر لالتبس بتأكيد الفاعل، وما نحن فيه مثله إلا أن الالتباس فيه بتابع آخر أعني البدل فتدبر، وإنما قال سبحانه: كَثِيرٌ مِنْهُمْ لأن بعضا منهم لم يكونوا كذلك وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي بما عملوا، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورتها الفظيعة مع ما في ذلك من رعاية الفواصل، والجملة تذييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا إشارة إجمالية اكتفي بها تعويلا على ما فصل نوع تفصيل في سورة بني إسرائيل، ولا يخفى موقع بَصِيرٌ هنا مع قوله سبحانه: عَمُوا. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ شروع في تفصيل قبائح النصارى، وإبطال أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح اليهود، وقائل ذلك: طائفة منهم كما روي عن مجاهد، وقد أشبعنا الكلام على تفصيل أقوالهم وطوائفهم فيما تقدم فتذكر وَقالَ الْمَسِيحُ حال من فاعل قالُوا بتقدير قد مفيدة لمزيد تقبيح حالهم ببيان تكذيبهم للمسيح وعدم انزجارهم عما أصروا عليه بما أوعدهم به، أي قالوا ذلك، «و- قد- قال المسيح» عليه السلام مخاطبا لهم يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ فإني مربوب مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم إِنَّهُ أي الشأن مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أي شيئا في عبادته سبحانه، أو فيما
يختص به من الصفات والأفعال- كنسبة علم الغيب وإحياء الموتى بالذات- إلى عيسى عليه السلام فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ لأنها دار الموحدين، والمراد يمنع من دخولها كما يمنع المحرم عليه من المحرم، فالتحريم مجاز مرسل، أو استعارة تبعية للمنع إذ لا تكليف ثمة، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتهويل الآمر وتربية المهابة وَمَأْواهُ النَّارُ فإنها المعدة للمشركين، وهذا بيان لابتلائهم بالعقاب إثر بيان حرمانهم الثواب، ولا يخفى ما في هذه الجملة من الإشارة إلى قوة المقتضي لإدخاله النار وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أي ما لهم من أحد ينصرهم بإنقاذهم من النار: وإدخالهم الجنة، إما بطريق المغالبة أو بطريق الشفاعة، والجمع لمراعاة المقابلة بالظالمين.
وقيل: ليعلم نفي الناصر من باب أولى لأنه إذا لم ينصرهم الجم الغفير، فكيف ينصرهم الواحد منهم؟!.
وقيل: إن ذلك جار على زعمهم أن لهم أنصارا كثيرة، فنفي ذلك تهكما بهم، واللام إما للعهد والجمع باعتبار معنى من كما أن إفراد الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها، وإما للجنس وهم يدخلون فيه دخولا أوليا، ووضعه على الأول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بأنهم ظلموا بالإشراك، وعدلوا عن طريق الحق، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وهو إما من تمام كلام عيسى عليه السلام، وإما وارد من جهته تعالى تأكيدا لمقالته عليه السلام وتقريرا لمضمونها لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ شروع في بيان كفر طائفة أخرى منهم، وقد تقدم لك من هم، وثالِثُ ثَلاثَةٍ لا يكون إلا مضافا كما قال الفراء، وكذا- رابع أربعة- ونحوه، ومعنى ذلك أحد تلك الأعداد لا الثالث والرابع خاصة، ولو قلت: ثالث اثنين ورابع ثلاثة مثلا جاز الأمران: الإضافة والنصب.
وقد نص على ذلك الزجاج أيضا، وعنوا بالثلاثة- على ما روي عن السدي- الباري عز اسمه، وعيسى وأمه عليهما السلام فكل من الثلاثة إله بزعمهم، والإلهية مشتركة بينهم، ويؤكده قوله تعالى للمسيح عليه السلام: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: ١١٦]، وهو المتبادر من ظاهر قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ أي والحال أنه ليس في الموجودات ذات واجب مستحق للعبادة- لأنه مبدأ جميع الموجودات- إِلَّا إِلهٌ موصوف بالوحدة متعال عن قبول الشركة بوجه، إذ التعدد يستلزم انتفاء الألوهية- كما يدل عليه برهان التمانع- فإذا نافت الألوهية مطلق التعدد، فما ظنك بالتثليث؟ ومِنْ مزيدة للاستغراق كما نص على ذلك النحاة، وقالوا في وجهه: لأنها في الأصل مِنْ الابتدائية حذف مقابلها إشارة إلى عدم التناهي، فأصل لا رجل: لا مِنْ رجل إلى ما لا نهاية له.
وهذا حاصل ما ذكره صاحب الإقليد في ذلك، وقيل: إنهم يقولون، الله سبحانه جوهر واحد، ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، ويعنون بالأول الذات، وقيل: الوجود وبالثاني العلم، وبالثالث الحياة، وإن منهم من قال بتجسمها، فمعنى قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ لا إله بالذات منزه عن شائبة التعدد بوجه من الوجوه التي يزعمونها، وقد مرّ تحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه، فارجع إن أردت ذلك إليه وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ أي إن لم يرجعوا عما هم عليه إلى خلافه، وهو التوحيد والإيمان لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ جواب قسم محذوف سادّ مسد جواب الشرط- على ما قاله أبو البقاء- والمراد من الذين كفروا إما الثابتون على الكفر- كما اختاره الجبائي والزجاج- وإما النصارى كما قيل، ووضع الموصول موضع ضميرهم لتكرير الشهادة عليهم بالكفر، و «من» على هذا بيانية، وعلى الأول تبعيضية، وإنما جيء بالفعل المنبئ عن الحدوث تنبيها على أن الاستمرار عليه- بعد ورود ما ورد مما يقتضى القلع عنه- كفر جديد وغلو زائد على ما كانوا عليه من أصل الكفر، والاستفهام في قوله تعالى: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ للإنكار، وفيه تعجيب من إصرارهم أو عدم مبادرتهم
إلى التوبة، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألا ينتهون عن تلك العقائد الزائغة والأقوال الباطلة فلا يتوبون إلى الله تعالى الحق ويستغفروه بتنزيهه تعالى عما نسبوه إليه عز وجل، أو يسمعون هذه الشهادات المكررة والتشديدات المقررة فلا يتوبون عقيب ذلك وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر لهم ويمنحهم من فضله إن تابوا، والجملة في موضع الحال، وهي مؤكدة للإنكار والتعجيب، والإظهار في موضع الإضمار لما مر غير مرة.
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ استئناف مسوق لتحقيق الحق الذي لا محيد عنه، وبيان حقيقة حاله عليه السلام وحال أمه بالإشارة أولا إلى ما امتازوا به من نعوت الكمال حتى صارا من أكمل أفراد الجنس، وآخرا إلى الوصف المشترك بينهما وبين أفراد البشر، بل أفراد الحيوانات، وفي ذلك استنزال لهم بطريق التدريج عن رتبة الإصرار، وإرشاد إلى التوبة والاستغفار أي هو عليه السلام مقصور على الرسالة لا يكاد يتخطاها إلى ما يزعم النصارى فيه عليه الصلاة والسلام، وهو قوله سبحانه: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
صفة رسول منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية، فإن خلو الرسل قبله منذر بخلوه، وذلك مقتض لاستحالة الألوهية أي ما هو إلا رسول كالرسل الخالية قبله خصه الله تعالى ببعض الآيات كما خص كلا منهم ببعض آخر منها، ولعل ما خص به غيره أعجب وأغرب مما خصه به، فإنه عليه الصلاة والسلام إن أحيا من مات من الأجسام التي من شأنها الحياة، فقد أحيا موسى عليه الصلاة والسلام الجماد، وإن كان قد خلق من غير أب، فآدم عليه الصلاة والسلام قد خلق من غير أب وأم، فمن أين لكم وصفه بالألوهية؟! وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ أي وما أمه أيضا إلا كسائر النساء اللواتي يلازمن الصدق أو التصديق ويبالغن في الاتصاف به، فمن أين لكم وصفها بما عرى عنه أمثالها؟! والمراد بالصدق هنا صدق حالها مع الله تعالى، وقيل: صدقها في براءتها مما رمتها به اليهود، والمراد بالتصديق تصديقها بما حكى الله تعالى عنها بقوله سبحانه: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ [التحريم: ١٢].
وروي هذا عن الحسن، واختاره الجبائي، وقيل: تصديقها بالأنبياء، والصيغة كيفما كانت للمبالغة- كشريب ورجح كونها من الصدق بأن القياس في صيغ المبالغة الأخذ من الثلاثي لكن ما حكي ربما يؤيد أنها من المضاعف، والحصر الذي أشير إليه مستفاد من المقام والعطف- كما قال العلامة الثاني- وتوقف في ذلك بعضهم، وليس في محله، واستدل بالآية من ذهب إلى عدم نبوة مريم عليها السلام، وذلك أنه تعالى شأنه إنما ذكر في معرض الإشارة إلى بيان أشرف ما لها الصديقية، كما ذكر الرسالة لعيسى عليه الصلاة والسلام في مثل ذلك المعرض، فلو كان لها عليها السلام مرتبة النبوة لذكرها سبحانه دون الصديقية لأنها أعلى منها بلا شك، نعم الأكثرون على أنه ليس بين النبوة والصديقية مقام، وهذا أمر آخر لا ضرر له فيما نحن بصدده كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ استئناف لا موضع له من الإعراب مبين لما أشير إليه من كونهما كسائر أفراد البشر، بل أفراد الحيوان في الاحتياج إلى ما يقوم به البدن من الغذاء، فالمراد من- أكل الطعام- حقيقته، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وقيل: هو كناية عن قضاء الحاجة لأن من أكل الطعام احتاج إلى النفض، وهذا أمرّ ذوقا في أفواه مدعي ألوهيتهما لما في ذلك مع الدلالة على الاحتياج المنافي للألوهية بشاعة عرفية، وليس المقصود سوى الرد على النصارى في زعمهم المنتن واعتقادهم الكريه، قيل: والآية في تقديم ما لهما من صفات الكمال، وتأخير ما لأفراد جنسهما من نقائص البشرية على منوال قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: ٤٣] حيث قدم سبحانه العفو على المعاتبة له صلّى الله عليه وسلّم لئلا توحشه مفاجأته بذلك، وقوله تعالى:
انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ تعجيب من حال الذين يدعون لهما الربوبية ولا يرعوون عن ذلك بعد ما بين
لهم حقيقة الحال بيانا لا يحوم حوله شائبة ريب، والخطاب إما لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام، أو لكل من له أهلية ذلك، وكَيْفَ معمول- لنبين- والجملة في موضع النصب معلقة للفعل قبلها، والمراد من الْآياتِ الدلائل أي- انظر كيف نبين لهم الدلائل- القطعية الصادعة ببطلان ما يقولون.
ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن الإصاخة إليها والتأمل فيها لسوء استعدادهم وخباثة نفوسهم، والكلام فيه كما مر فيما قبله، وتكرير الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب، وثُمَّ لإظهار ما بين العجبين من التفاوت، أي إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه بالغ لأقصى الغايات من التحقيق والإيضاح، وإعراضهم عنها- مع انتفاء ما يصححه بالمرة وتعاضد ما يوجب قبولها- أعجب وأبدع، ويجوز أن تكون على حقيقتها، والمراد منها بيان استمرار زمان بيان الآيات وامتداده، أي إنهم مع طول زمان ذلك لا يتأثرون، ويُؤْفَكُونَ.
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أمر بتبكيتهم إثر التعجيب من أحوالهم، والمراد بما لا يملك عيسى، أو هو وأمه عليهما الصلاة والسلام، والمعنى أتعبدون شيئا لا يستطيع مثل ما يستطيعه الله تعالى من البلايا والمصائب والصحة والسعة، أو أتعبدون شيئا لا استطاعة له أصلا، فإن كل ما يستطيعه البشر بإيجاد الله تعالى وإقداره عليه لا بالذات، وإنما قال سبحانه: مَا نظرا إلى ما عليه المحدث عنه في ذاته، وأول أمره وأطواره توطئة لنفي القدرة عنه رأسا، وتنبيها على أنه من هذا الجنس، ومن كان بينه وبين غيره مشاركة وجنسية كيف يكون إلها، وقيل: إن المراد بما كل ما عبد من دون الله تعالى- كالأصنام وغيرها- فغلب ما لا يعقل على من يعقل تحقيرا، وقيل: أريد بها النوع كما في قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: ٣].
وقيل: يمكن أن يكون المراد الترقي من توبيخ النصارى على عبادة عيسى عليه الصلاة والسلام إلى توبيخهم على عبادة الصليب- فما- على بابها، ولا يخفى بعده وتقديم الضر على النفع لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع ولأن أدنى درجات التأثير دفع الشر ثم جلب الخير، وتقديم المفعول الغير الصريح على المفعول الصريح لما مرّ مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، وقوله سبحانه وتعالى:
وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ في موضع الحال من فاعل أَتَعْبُدُونَ مقرر للتوبيخ متضمن للوعيد، والواو هو الواو، أي أتعبدون غير الله تعالى وتشركون به سبحانه ما لا يقدر على شيء ولا تخشونه، والحال أنه سبحانه وتعالى المختص بالإحاطة التامة بجميع المسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أنتم عليه من الأقوال الباطلة والعقائد الزائغة، وقد يقال: المعنى أَتَعْبُدُونَ العاجز وَاللَّهُ هُوَ الذي يصح أن يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم، ولن يكون كذلك إلا وهو حي قادر على كل شيء، ومنه الضر والنفع والمجازاة على الأقوال والعقائد إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وفرق بين الوجهين بأن ما على هذا الوجه للتحقير، والوصفية على هذا الوجه على معنى أن العدول إلى المبهم استحقار إلا أن ما للوصف والحال مقررة لذلك، وعلى الأول للتحقير المجرد، والحال كما علمت فافهم قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تلوين للخطاب وتوجيه له لفريقي أهل الكتاب بإرادة الجنس من المحلى بأل على لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم.
واختار الطبرسي كونه خطابا للنصارى خاصة لأن الكلام معهم لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ أي لا تجاوزوا الحدّ، وهو نهي للنصارى عن رفع عيسى عليه الصلاة والسلام عن رتبة الرسالة إلى ما تقولوا في حقه من العظيمة، وكذا عن رفع أمه عن رتبة الصديقية إلى ما انتحلوه لها عليها السلام، ونهي لليهود على تقدير دخولهم في الخطاب عن وضعهم له عليه السلام، وكذا لأمه عن الرتبة العلية إلى ما افتروه من الباطل والكلام الشنيع، وذكرهم بعنوان أهل الكتاب
للإيماء إلى أن في كتابهم ما ينهاهم عن الغلو في دينهم غَيْرَ الْحَقِّ نصب على أنه صفة مصدر محذوف أي غلو غير الحق- أي باطلا- وتوصيفه به للتوكيد فإن الغلو لا يكون إلا غير الحق على ما قاله الراغب، وقال بعض المحققين: إنه للتقييد، وما ذكره الراغب غير مسلم، فإن الغلو قد يكون غير حق، وقد يكون حقا كالتعمق في المباحث الكلامية.
وفي الكشاف الغلو في الدين غلوان: حق- وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعله المتكلمون من أهل العدل والتوحيد- وغلو باطل- وهو أن يجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه كما يفعله أهل الأهواء والبدع- انتهى، وقد يناقش فيه على ما فيه من الغلو في التمثيل بأن الغلو المجاوزة عن الحد، ولا مجاوزة عنه ما لم يخرج عن الدين، وما ذكر ليس خروجا عنه حتى يكون غلوا، وجوز أن يكون غَيْرَ حالا من ضمير الفاعل أي لا تَغْلُوا مجاوزين الحق، أو من دينكم أي لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ حال كونه باطلا منسوخا ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: هو نصب على الاستثناء المتصل أو المنقطع وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وهم أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا من الفريقين أو من النصارى قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم في شريعتهم،- والأهواء- جمع هوى وهو الباطل الموافق للنفس، والمراد لا توافقوهم في مذاهبهم الباطلة التي لم يدع إليها سوى الشهوة ولم تقم عليها حجة وَأَضَلُّوا كَثِيراً أي أناسا كثيرا ممن تابعهم ووافقهم فيما دعوا إليه من البدعة والضلالة، أو إضلالا كثيرا، والمفعول به حينئذ محذوف وَضَلُّوا عند بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم ووضوح محجة الحق وتبين مناهج الإسلام عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أي قصد السبيل الذي هو الإسلام، وذلك حين حسدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكذبوا وبغوا عليه، فلا تكرار بين ضَلُّوا هنا وضَلُّوا مِنْ قَبْلُ، والظاهر أن عَنْ متعلقة بالأخير، وجوز أن تكون متعلقة بالأفعال الثلاثة، ويراد- بسواء السبيل- الطريق الحق، وهو بالنظر إلى الأخير دين الإسلام، وقيل: في الإخراج عن التكرار أن الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل، والثاني إلى ضلالهم عما جاء به الشرع، وقيل: إن ضمير ضَلُّوا الأخير عائد على- الكثير- لا على قَوْمٍ والفعل مطاوع للإضلال، أي- إن أولئك القوم أضلوا كثيرا من الناس، وأن أولئك الكثير قد ضلوا بإضلال أولئك لهم- فلا تكرار، وقيل: أيضا قد يراد- بالضلال- الأول الضلال بالغلو في الرفع والوضع مثلا وكذا بالإضلال، ويراد- بالضلال عن سواء السبيل- الضلال عن واضحات دينهم وخروجهم عنه بالكلية، وقال الزجاج: المراد بالضلال الأخير ضلالهم في الإضلال أي- إن هؤلاء ضلوا في أنفسهم وضلوا بإضلالهم لغيرهم- كقوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل: ٢٥]، ونقل هذا- كالقيل الأول- عن الراغب، وجوز أيضا أن يكون قوله سبحانه وتعالى: عَنْ سَواءِ متعلقا ب قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ إلا أنه لما فصل بينه وبين ما يتعلق به أعيد ذكره، كقوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [آل عمران: ١٨٨] ولعل ذم القوم على ما ذهب إليه الجمهور أشنع من ذمهم على ما ذهب إليه غيرهم، والله تعالى أعلم بمراده لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي لعنهم الله تعالى، وبناء الفعل لما لم يسم فاعله للجري على سنن الكبرياء، والجار متعلق بمحذوف وقع حالا من الموصول أو من فاعل كَفَرُوا، وقوله سبحانه وتعالى: عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ متعلق- بلعن- أي لعنهم جل وعلا في الإنجيل والزبور على لسان هذين النبيين عليهما السلام بأن أنزل سبحانه وتعالى فيهما- ملعون من يكفر من بني إسرائيل بالله تعالى أو أحد من رسله عليهم السلام، وعن الزجاج أن المراد أن داود وعيسى عليهما الصلاة والسلام أعلما بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وبشرا به وأمرا باتباعه ولعنا من كفر به من بني
إسرائيل، والأول أولى، وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل:
إن أهل إيلة لما اعتدوا في السبت قال داود عليه الصلاة والسلام: اللهم ألبسهم اللعن مثل الرداء ومثل المنطقة على الحقوين، فمسخهم الله تعالى قردة، وأصحاب المائدة لما كفروا قال عيسى عليه الصلاة والسلام: اللهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي، وروي هذا القول عن الحسن ومجاهد وقتادة، وروي مثله عن الباقر رضي الله تعالى عنه،
واختاره غير واحد، والمراد باللسان الجارحة، وإفراده أحد الاستعمالات الثلاث المشهورة في مثل ذلك، وقيل: المراد به اللغة ذلِكَ أي اللعن المذكور، وإيثار الإشارة على الضمير للإشارة إلى كمال ظهوره وامتيازه عن نظائره وانتظامه بسببه في سلك الأمور المشاهدة، وما في ذلك من البعد للإيذان بكمال فظاعته وبعد درجته في الشناعة والهول بِما عَصَوْا أي بسبب عصيانهم، والجار متعلق بمحذوف وقع خبرا عن المبتدأ قبله، والجملة استئناف واقع موقع الجواب عما نشأ من الكلام، كأنه قيل: بأي سبب وقع ذلك؟ فقيل: ذلك اللعن الهائل الفظيع بسبب عصيانهم، وقوله تعالى: وَكانُوا يَعْتَدُونَ يحتمل أن يكون معطوفا على عَصَوْا فيكون داخلا في حيز السبب، أي وبسبب اعتدائهم المستمر، وينبئ عن إرادة الاستمرار الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل.
وادعى الزمخشري إفادة الكلام حصر السبب فيما ذكر، أي بسبب ذلك لا غير، ولعله- كما قيل- استفيد من العدول عن الظاهر، وهو تعلق بِما عَصَوْا بلعن دون ذكر اسم الإشارة، فلما جيء به استحقارا لذلك اللعن وجوابا عن سؤال الموجب دل على أن مجموعه بهذا السبب لا بسبب آخر، وقيل: استفيد من السببية لأن المتبادر منها ما في ضمن السبب التام وهو يفيد ذلك، ولا يرد على الحصر أن كفرهم سبب أيضا- كما يشعر به أخذه في حيز الصلة- لأن ما ذكر في حيز السببية هنا مشتمل على كفرهم أيضا، ويحتمل أن يكون استئناف إخبار من الله تعالى بأنه كان شأنهم وأمرهم الاعتداء، وتجاوز الحد في العصيان، وقوله تعالى: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ مؤذن باستمرار الاعتداء فإنه استئناف مفيد لاستمرار عدم التناهي عن المنكر، ولا يمكن استمراره إلا باستمرار تعاطي المنكرات، وليس المراد بالتناهي أن ينهى كل منهم الآخر عما يفعله من المنكر- كما هو المعنى المشهور لصيغة التفاعل- بل مجرد صدور النهي عن أشخاص متعددة من غير أن يكون كل واحد منهم ناهيا ومنهيا معا، كما في تراؤوا الهلال، وقيل: التناهي بمعنى الانتهاء من قولهم: تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع، فالجملة حينئذ مفسرة لما قبلها من المعصية والاعتداء، ومفيدة لاستمرارهما صريحا، وعلى الأول إنما تفيد استمرار انتفاء النهي عن المنكر ومن ضرورته استمرار فعله، وعلى التقديرين لا تقوى هذه الجملة احتمال الاستئناف فيما سبق خلافا لأبي حيان.
والمراد بالمنكر قيل: صيد السمك يوم السبت، وقيل: أخذ الرشوة في الحكم، وقيل: أكل الربا وأثمان الشحوم، والأولى أن يراد به نوع المنكر مطلقا، وما يفيده التنوين وحدة نوعية لا شخصية، وحينئذ لا يقدح وصفه بالفعل الماضي في تعلق النهي به لما أن متعلق الفعل إنما هو فرد من أفراد ما يتعلق به النهي، أو الانتهاء عن مطلق المنكر باعتبار تحققه في ضمن أي فرد كان من أفراده على أنه لو جعل المضي في فَعَلُوهُ بالنسبة إلى زمن الخطاب لا زمان النهي لم يبق في الآية إشكال، ولما غفل بعضهم عن ذلك قال: إن الآية مشكلة لما فيها من ذم القوم بعدم النهي عما وقع مع أن النهي لا يتصور فيه أصلا، وإنما يكون عن الشيء قبل وقوعه، فلا بد من تأويلها بأن المراد النهي عن العود إليه، وهذا إما بتقدير مضاف قبل مُنكَرٍ أي معاودة منكر، أو بفهم من السياق، أو بأن المراد فعلوا مثله، أو بحمل فَعَلُوهُ على أرادوا فعله، كما في قوله سبحانه: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ [النحل: ٩٨].
واعترض الأول بأن المعاودة كالنهي لا تتعلق بالمنكر المفعول، فلا بد من المصير إلى أحد الأمرين الأخيرين، وفيهما من التعسف ما لا يخفى، وقيل: إن الإشكال إنما يتوجه لو لم يكن الكلام على حد قولنا: كانوا لا ينهون يوم الخميس عن منكر فعلوه يوم الجمعة مثلا، فإنه لا خفاء في صحته، وليس في الكلام ما يأباه، فليحمل على نحو ذلك، وقوله سبحانه: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ تقبيح لسوء فعلهم وتعجيب منه، والقسم لتأكيد التعجيب، أو للفعل المتعجب منه، وفي هذه الآية زجر شديد لمن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله تعالى أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم»،
وأخرج أحمد عن عدي بن عميرة، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله تعالى لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله تعالى الخاصة والعامة»،
وأخرج الخطيب من طريق أبي سلمة عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «والذي نفس محمد صلّى الله عليه وسلّم بيده ليخرجن من أمتي أناس من قبورهم في صورة القردة والخنازير بما داهنوا أهل المعاصي وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون»
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيها ترهيب عظيم، فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير وقلة عبئهم به تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من تصح منه الرؤية، وهي هنا بصرية، والجملة الفعلية بعدها في موضع الحال من مفعولها لكونه موصوفا، وضمير مِنْهُمْ لأهل الكتاب أو لبني إسرائيل، واستظهره في البحر، والمراد من الكثير- كعب بن الأشرف وأصحابه- ومن الَّذِينَ كَفَرُوا مشركو مكة وقد روي أن جماعة من اليهود خرجوا إلى مكة ليتفقوا مع مشركيها على محاربة النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين فلم يتم لهم ذلك.
وروي عن الباقر رضي الله تعالى عنه أن المراد من الَّذِينَ كَفَرُوا الملوك الجبارون
أي ترى كثيرا منهم- وهم علماؤهم- يوالون الجبارين ويزينون لهم أهواءهم ليصيبوا من دنياهم، وهذا في غاية البعد، ولعل نسبته إلى الباقر رضي الله تعالى عنه غير صحيحة، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والحسن ومجاهد أن المراد من- الكثير- منافقو اليهود، ومن الَّذِينَ كَفَرُوا مجاهروهم، وقيل: المشركون لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي لبئس شيئا فعلوه في الدنيا ليردوا على جزائه في العقبى أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هو المخصوص بالذم على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه تنبيها على كمال التعلق والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد، ومبالغة في الذم أي بئس ما قدموا لمعادهم موجب سخط الله تعالى عليهم، وإنما اعتبروا المضاف لأن نفس سخط الله تعالى شأنه باعتبار إضافته إليه سبحانه ليس مذموما بل المذموم ما أوجبه من الأسباب على أن نفس السخط مما لم يعمل في الدنيا ليرى جزاؤه في العقبى كما لا يخفى، وفي إعراب المخصوص بالذم، أو المدح أقوال شهيرة للمعربين، واختار أبو البقاء كون المخصوص هنا خبر مبتدأ محذوف تنبئ عنه الجملة المتقدمة، كأنه قيل: ما هو، أو أي شيء هو؟
فقيل هو أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ونقل عن سيبويه أنّ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ مرفوع على البدل من المخصوص بالذم، وهو محذوف، وجملة قَدَّمَتْ صفته، وما اسم تام معرفة في محل رفع بالفاعلية لفعل الذم، والتقدير لبئس الشيء شيء قدمته لهم أنفسهم سخط الله تعالى، وقيل: إنه في محل رفع بدل من ما إن قلنا: إنها معرفة فاعل لفعل الذم، أو في محل نصب منها إن كانت تمييزا، واعترض بأن فيه إبدال المعرفة من النكرة، وقيل: إنه على تقدير الجار، والمخصوص محذوف أي لبئس شيئا ذلك لأن سخط الله تعالى عليهم وَفِي الْعَذابِ أي عذاب جهنم هُمْ خالِدُونَ أبد الآبدين، والجملة في موضع الحال وهي متسببة عما قبلها، وليست داخلة في حيز الحرف
المصدري إعرابا كما توهمه عبارة البعض، وتعسف لها عصام الملة بجعل- أن- مخففة عاملة في ضمير الشأن بتقدير أنه سخط الله تعالى عليهم وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ، وجوز أيضا أن تكون هذه الجملة معطوفة على ثاني مفعولي تَرى بجعلها علمية أي تعلم كثيرا منهم يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ويخلدون في النار، وكل ذلك مما لا حاجة إليه، وَلَوْ كانُوا أي الذين يتولون المشركين يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ أي نبيهم موسى عليه السلام وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من التوراة، وقيل: المراد- بالنبي- نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم وبما أُنْزِلَ القرآن، أي لو كان المنافقون يؤمنون بالله تعالى ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم إيمانا صحيحا مَا اتَّخَذُوهُمْ أي المشركين أو اليهود المجاهرين أَوْلِياءَ، فإن الإيمان المذكور وازع عن توليهم قطعا وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي خارجون عن الدين، أو متمردون في النفاق مفرطون فيه.
صفحة رقم 378