
لِأَنَّ الرَّسُولَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ فَرِيقَيْنِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وَإِنَّمَا جَازَ حَذْفُهُ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ نَاصَبُوهُ، ثُمَّ إِنَّهُ قِيلَ: فَكَيْفَ نَاصَبُوهُ؟ فَقِيلَ: فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ. وَقَوْلُهُ: الرَّسُولُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ فَرِيقَيْنِ. فَنَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الرُّسُلِ، فَلَا جَرَمَ جَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ ذُكِرَ أَحَدُ الْفِعْلَيْنِ مَاضِيًا، وَالْآخَرُ مُضَارِعًا؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ كَيْفَ كَانُوا يُكَذِّبُونَ عِيسَى وَمُوسَى فِي كُلِّ مَقَامٍ، وَكَيْفَ كَانُوا يَتَمَرَّدُونَ عَلَى أَوَامِرِهِ وَتَكَالِيفِهِ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السلام إنما توفى في التيه على قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِشُؤْمِ تَمَرُّدِهِمْ عَنْ قَبُولِ قَوْلِهِ فِي مُقَاتَلَةِ الْجَبَّارِينَ.
وَأَمَّا الْقَتْلُ فَهُوَ مَا اتَّفَقَ لَهُمْ فِي حَقِّ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَكَانُوا قَدْ قَصَدُوا أَيْضًا قَتْلَ عِيسَى وَإِنْ كَانَ اللَّه مَنَعَهُمْ عَنْ مُرَادِهِمْ وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، فَذِكْرُ التَّكْذِيبِ بِلَفْظِ الْمَاضِي هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ قَدِ انْقَضَى مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ أَدْوَارٌ كَثِيرَةٌ، وَذِكْرُ الْقَتْلِ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ إِشَارَةٌ إِلَى مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِكَوْنِ ذَلِكَ الزَّمَانِ قَرِيبًا فَكَانَ كَالْحَاضِرِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ.
وَالْجَوَابُ: قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ التَّقْدِيمَ إِنَّمَا يَكُونُ لِشِدَّةِ الْعِنَايَةِ، فَالتَّكْذِيبُ وَالْقَتْلُ وَإِنْ كَانَا مُنْكَرَيْنِ إِلَّا أَنَّ تَكْذِيبَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وقتلهم أقبح، فكان التقديم لهذه الفائدة.
[سورة المائدة (٥) : آية ٧١]
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو أَنْ لَا تَكُونُ فِتْنَةٌ بِرَفْعِ نُونِ (تَكُونُ) وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ، وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ لِهَذَا تَقْرِيرًا حَسَنًا فَقَالَ: الْأَفْعَالُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى ثَبَاتِ الشَّيْءِ وَاسْتِقْرَارِهِ نَحْوَ:
الْعِلْمُ وَالتَّيَقُّنُ وَالتَّبَيُّنُ، فَمَا كَانَ مِثْلَ هَذَا يَقَعُ بعده (أن) الثقيلة ولم يَقَعُ بَعْدَهُ (أَنْ) الْخَفِيفَةُ النَّاصِبَةُ لِلْفِعْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّقِيلَةَ تَدُلُّ عَلَى ثَبَاتِ الشَّيْءِ وَاسْتِقْرَارِهِ، فَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ وَالثَّبَاتِ وَ (أَنَّ) الثَّقِيلَةُ تُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى حَصَلَتْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ وَمُجَانَسَةٌ، وَمِثَالُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النُّورِ:
٢٥] أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التَّوْبَةِ: ١٠٤] أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى [الْعَلَقِ: ١٤] وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ، نَحْوَ: أَطْمَعُ وَأَخَافُ وَأَرْجُو، فَهَذَا لَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ إِلَّا الْخَفِيفَةُ النَّاصِبَةُ لِلْفِعْلِ. قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي [الشُّعَرَاءِ: ٨٢] تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ [الْأَنْفَالِ: ٢٦] فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما [الْكَهْفِ: ٨٠].
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: فِعْلٌ يَحْذُو مَرَّةً إِلَى هَذَا الْقَبِيلِ وَمَرَّةً أُخْرَى إِلَى ذَلِكَ الْقَبِيلِ نَحْوَ: حَسِبَ وَأَخَوَاتِهَا، فَتَارَةً تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى أَطْمَعُ وَأَرْجُو فِيمَا لَا يَكُونُ ثَابِتًا وَمُسْتَقِرًّا، وَتَارَةً بِمَعْنَى الْعِلْمِ فِيمَا يَكُونُ مُسْتَقِرًّا.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: يُمْكِنُ إِجْرَاءُ الْحُسْبَانِ هاهنا بِحَيْثُ يُفِيدُ الثَّبَاتَ وَالِاسْتِقْرَارَ، لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا جَازِمِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يَقَعُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ وَالْقَتْلِ فِي الْفِتْنَةِ وَالْعَذَابِ، وَيُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ بِحَيْثُ لَا يُفِيدُ هَذَا الثَّبَاتُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَ وَيَقْتُلُونَ بِسَبَبِ حِفْظِ الْجَاهِ وَالتَّبَعِ، فَكَانُوا بِقُلُوبِهِمْ عَارِفِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ وَمَعْصِيَةٌ، وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ لَا جَرَمَ ظَهَرَ الْوَجْهُ فِي صِحَّةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ، فَمَنْ رَفَعَ قَوْلَهُ أَنْ لَا تَكُونُ كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا تَكُونُ، ثُمَّ خُفِّفَتِ الْمُشَدَّدَةُ وَجُعِلَتْ (لَا) عِوَضًا مِنْ حَذْفِ الضَّمِيرِ، فَلَوْ قُلْتَ: عَلِمْتُ أَنْ يَقُولُ، بِالرَّفْعِ لَمْ يَحْسُنْ حَتَّى تَأْتِيَ بِمَا يَكُونُ عِوَضًا مِنْ حَذْفِ الضَّمِيرِ: نَحْوَ السِّينِ وَسَوْفَ وَقَدْ، كَقَوْلِهِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ [الْمُزَّمِّلِ: ٢٠] وَوَجْهُ النَّصْبِ ظَاهِرٌ.
ثُمَّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ قَدْ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، فَمِثْلُ قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ وَأَوْقَعَ بَعْدَهُ الْخَفِيفَةَ/ قَوْلُهُ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا [الْعَنْكَبُوتِ: ٤] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ
[الْجَاثِيَةِ:
٢١] الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا [الْعَنْكَبُوتِ: ١، ٢] وَمِثْلُ قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ [الزُّخْرُفِ: ٨٠] أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ [المؤمنون: ٥٥] أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ [القيامة: ٣] فَهَذِهِ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ لِأَنَّ النَّاصِبَةَ لِلْفِعْلِ لَا يَقَعُ بَعْدَهَا (لَنْ) وَمِثْلُ الْمَذْهَبَيْنِ فِي الظَّنِّ قَوْلُهُ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ [الْقِيَامَةِ: ٢٥] إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما [الْبَقَرَةِ: ٢٣٠] وَمِنَ الرَّفْعِ قَوْلُهُ: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الْجِنِّ: ٥] وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً [الجن: ٧] فإن هاهنا الْخَفِيفَةُ مِنَ الشَّدِيدَةِ كَقَوْلِهِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ [الْمُزَّمِّلِ: ٢٠] لِأَنَّ (أَنِ) النَّاصِبَةَ لِلْفِعْلِ لَا تَجْتَمِعُ مَعَ لَنْ، لِأَنَّ (لَنْ) تُفِيدُ التَّأْكِيدَ، وَ (أَنِ) النَّاصِبَةَ تُفِيدُ عَدَمَ الثَّبَاتِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ بَابَ حَسِبَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَفْعُولَيْنِ، إِلَّا أن قوله أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ جُمْلَةٌ قَامَتْ مَقَامَ مَفْعُولَيْ حَسِبَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَحَسِبُوا الْفِتْنَةَ غَيْرَ نَازِلَةٍ بِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي (الْفِتْنَةِ) وُجُوهًا، وَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةَ، ثُمَّ عَذَابُ الدُّنْيَا أَقْسَامٌ: مِنْهَا الْقَحْطُ، وَمِنْهَا الْوَبَاءُ، وَمِنْهَا الْقَتْلُ، وَمِنْهَا الْعَدَاوَةُ، وَمِنْهَا الْبَغْضَاءُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَمِنْهَا الْإِدْبَارُ وَالنُّحُوسَةُ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ بِهِمْ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلَ الْفِتْنَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ حُسْبَانَهُمْ أَنْ لَا تَقَعَ فِتْنَةٌ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ النَّسْخَ مُمْتَنِعٌ عَلَى شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ رَسُولٍ جَاءَ بِشَرْعٍ آخَرَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَكْذِيبُهُ وَقَتْلُهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ وَإِنِ اعْتَقَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ كَوْنَهُمْ مُخْطِئِينَ فِي ذَلِكَ التَّكْذِيبِ وَالْقَتْلِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ:
نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ نُبُوَّةَ أَسْلَافِهِمْ وَآبَائِهِمْ تَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعِقَابَ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَتْلِ وَالتَّكْذِيبِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيه مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ عَمَاهُمْ وَصَمَمَهُمْ عَنِ الْهِدَايَةِ إِلَى الْحَقِّ حَصَلَ مَرَّتَيْنِ.
واختلف المفسرون في المراد بهاتين المرتين عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ عَمُوا وَصَمُّوا فِي زَمَانِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، ثُمَّ تَابَ اللَّه عَلَى بَعْضِهِمْ حَيْثُ وُفِّقَ بَعْضُهُمْ لِلْإِيمَانِ بِهِ، ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ أَنْكَرُوا نُبُوَّتَهُ وَرِسَالَتَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْيَهُودِ وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا أَنَّ/ جَمْعًا مِنْهُمْ آمَنُوا بِهِ: مِثْلَ عَبْدِ اللَّه بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ. الثَّانِي: عَمُوا وَصَمُّوا حِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ، ثُمَّ تَابُوا عَنْهُ فَتَابَ اللَّه عَلَيْهِمْ، ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِالتَّعَنُّتِ، وَهُوَ طَلَبُهُمْ رُؤْيَةَ اللَّه جَهْرَةً وَنُزُولَ الْمَلَائِكَةِ: الثَّالِثُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً [الْإِسْرَاءِ: ٤- ٦] فَهَذَا فِي مَعْنَى فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ قَالَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً [الْإِسْرَاءِ: ٧] فَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ فَعَمُوا وَصَمُّوا إِنَّمَا كَانَ بِرَسُولٍ أُرْسِلُ إِلَيْهِمْ مِثْلَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمَا فَآمَنُوا بِهِ فَتَابَ اللَّه عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَقَعَتْ فَتْرَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا مَرَّةً أُخْرَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قريء. عُمُوا وَصُمُّوا بِالضَّمِّ عَلَى تَقْدِيرِ: عَمَاهُمُ اللَّه وَصَمَّهُمُ اللَّه، أَيْ رَمَاهُمْ وَضَرَبَهُمْ بِالْعَمَى وَالصَّمَمِ، كَمَا تَقُولُ: نَزَكْتُهُ إِذَا ضَرَبْتَهُ بِالنَّزْكِ، وَهُوَ رُمْحٌ قَصِيرٌ، وَرَكِبْتُهُ إِذَا ضَرَبْتَهُ بِرُكْبَتِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ مِنَ الْعَرَبِ «أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ» وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَدَلًا عَنِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا وَالْإِبْدَالُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السَّجْدَةِ: ٧] وَقَالَ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آلِ عِمْرَانَ: ٩٧] وَهَذَا الإبدال هاهنا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: عَمُوا وَصَمُّوا لَأَوْهَمَ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّهُمْ صَارُوا كَذَلِكَ، فَلَمَّا قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ لِلْأَكْثَرِ لَا لِلْكُلِّ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: هُمْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْعَمَى وَالصَّمَمِ الْجَهْلُ وَالْكُفْرُ، فَنَقُولُ: إِنَّ فَاعِلَ هَذَا الْجَهْلِ هُوَ اللَّه تعالى أو العبد، والأول: يبطل قوله الْمُعْتَزِلَةِ، وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْتَارُ الْبَتَّةَ تَحْصِيلَ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ لِنَفْسِهِ.
فَإِنْ قَالُوا: إِنَّمَا اخْتَارُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ عِلْمٌ.
قُلْنَا: حَاصِلُ هَذَا أَنَّهُمْ إِنَّمَا اخْتَارُوا هَذَا الْجَهْلَ لِسَبْقِ جَهْلٍ آخَرَ، إِلَّا أَنَّ الْجَهَالَاتِ لَا تَتَسَلْسَلُ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ انْتِهَائِهَا إِلَى الْجَهْلِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ هُوَ الْعَبْدُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ هُوَ اللَّه تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أَيْ مِنْ قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّهْدِيدُ.