آيات من القرآن الكريم

وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ۚ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ
ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ

لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ ; لِأَنَّ هَذَا الْإِيمَانَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَالتَّقْوَى الَّتِي تَتْبَعُهُ تُزَكِّي النَّفْسَ وَتُطَهِّرُهَا مِنْ تَأْثِيرِ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ فَيُمْحَى أَثَرُهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ كَفَّارَةً لَهَا، فَيَسْتَحِقُّونَ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، الَّتِي لَا بُؤْسَ فِيهَا.
(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) إِقَامَةَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ: الْعَمَلُ بِهِمَا عَلَى أَقْوَمِ الْوُجُوهِ وَأَحْسَنِهَا؛ سَوَاءٌ فِيهِ عَمَلُ النَّفْسِ - وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالْإِذْعَانُ - وَعَمَلُ الْقُوَى وَالْجَوَارِحِ ; أَيْ لَوْ أَقَامُوا مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْمُنَزَّلَيْنِ مِنْ قَبْلُ بِنُورِ التَّوْحِيدِ وَالْفَضَائِلِ، الْمُبَشِّرَيْنِ بِالنَّبِيِّ الَّذِي يَأْتِي مِنْ أَبْنَاءِ أَخِيهِمْ إِسْمَاعِيلَ ; كَمَا قَالَ مُوسَى: وَالْبَارَقْلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي يُعَلِّمُهُمْ كُلَّ شَيْءٍ ; كَمَا قَالَ عِيسَى (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ). وَأَقَامُوا، بَعْدَ ذَلِكَ، مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ عَلَى لِسَانِ هَذَا النَّبِيِّ الَّذِي بَشَّرَتْ بِهِ كُتُبُهُمْ، وَهُوَ الْفُرْقَانُ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ، لَوْ أَقَامُوا جَمِيعَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ رُسُلِ اللهِ وَكُتُبِهِ، لَوَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالتَّبَعِ لِذَلِكَ مَا يُهِمُّهُمْ مِنْ مَوَارِدِ الرِّزْقِ ; فَأَكَلُوا مِنَ الثَّمَرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ الَّتِي تَنْتِجُ مِنْ أَمْطَارِ السَّمَاءِ وَنَبَاتِ الْأَرْضِ، وَتَمَتَّعُوا بِمَا وَعَدَ اللهُ بِهِ هَذَا النَّبِيَّ وَأُمَّتَهُ مِنْ سِعَةِ الْمُلْكِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ سَائِرَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَآدَابِهِ وَالْبِشَارَةِ بِالنَّبِيِّ الْأَخِيرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; كَزَبُورِ دَاوُدَ، وَحِكَمِ سُلَيْمَانَ، وَكُتُبِ دَانْيَالَ وَأَشْعَيَا وَغَيْرِهِمَا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَفِي مُجَلَّدَاتِ الْمَنَارِ بَيَانٌ لِكَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْبِشَارَاتِ، وَإِقَامَةُ هَذِهِ الْكُتُبِ مِنْ أَسْبَابِ الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ، فَلَوْ أَقَامَهَا قَبْلَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَهْلُ الْكِتَابِ لَمَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ مَا عَزَاهُ الْمُؤَرِّخُونَ إِلَيْهِمْ مِنَ الطُّغْيَانِ وَالْفَسَادِ، وَلَمَا عَانَدُوا النَّبِيَّ - الْمُبَشِّرَةُ بِهِ - ذَلِكَ الْعِنَادَ ; ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوهَا، وَلَا تَدَبَّرُوهَا؛ وَإِنَّمَا كَانَ الدِّينُ عِنْدَهُمْ أَمَانِيَّ يَتَمَنَّوْنَهَا، وَبِدَعًا وَتَقَالِيدَ يَتَوَارَثُونَهَا ; فَهُمْ بَيْنَ غُلُوٍّ وَتَقْصِيرٍ، وَإِفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّ دَهْمَاءَهُمْ وَسَوَادَهُمُ الْأَعْظَمَ كَانَ كَذَلِكَ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ تَوَارِيخِهِمْ
وَتَوَارِيخِ غَيْرِهِمْ، وَمِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ وَعَدْلِهِ تَمْحِيصُ الْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) أَيْ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مُعْتَدِلَةٌ فِي أَمْرِ الدِّينِ. لَا تَغْلُو بِالْإِفْرَاطِ، وَلَا تُهْمِلُ بِالتَّقْصِيرِ. قِيلَ: هُمُ الْعُدُولُ فِي دِينِهِمْ. وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْهُمْ، وَالْمُعْتَدِلُونَ لَا تَخْلُو مِنْهُمْ أُمَّةٌ، وَلَكِنَّهُمْ يَكْثُرُونَ فِي طَوْرِ صَلَاحِ الْأُمَّةِ وَارْتِقَائِهَا، وَيَقِلُّونَ فِي طَوْرِ فَسَادِهَا وَانْحِطَاطِهَا - وَهَلْ تَهْلَكُ الْأُمَمُ إِلَّا بِكَثْرَةِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ مِنَ الْأَشْرَارِ، وَقِلَّةِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ مَنَّ الْأَخْيَارِ - وَهَؤُلَاءِ الْمُعْتَدِلُونَ فِي الْأُمَمِ هُمُ الَّذِينَ يَسْبِقُونَ إِلَى كُلِّ صَلَاحٍ وَإِصْلَاحٍ يَقُومُ بِهِ الْمُجَدِّدُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي عُصُورِهِمْ، وَمِنَ الْحُكَمَاءِ فِي عُصُورِهِمْ، وَلَمَّا جَاءَ الْإِصْلَاحُ الْإِسْلَامِيُّ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَهُ الْمُقْتَصِدُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ غَيْرِهِمْ، فَكَانُوا مَعَ إِخْوَانِهِمُ الْعَرَبِ مِنَ الْمُجَدِّدِينَ

صفحة رقم 381

لِلتَّوْحِيدِ وَالْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ، وَالْمُحْيِينَ لِلْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالْعُمْرَانِ؛ فَهَلْ يَعْتَبِرُ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ الْآنِ وَيَعُودُونَ إِلَى إِقَامَةِ الْقُرْآنِ، وَأَخْذِ الْحِكْمَةِ مِنْ حَيْثُ يَجِدُونَهَا، وَعُدَدِ الْإِصْلَاحِ وَالسِّيَادَةِ مِنْ حَيْثُ يَرَوْنَهَا، أَمْ يَفْتَئُونَ يَسْلُكُونَ سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ مَنْ طَوْرِ الْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ، شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، وَمِنْهُ الْغُرُورُ بِدِينِهِمْ مَعَ عَدَمِ إِقَامَةِ كِتَابِهِ، وَالتَّبَجُّحِ بِفَضَائِلِ نَبِيِّهِمْ عَلَى تَرْكِهِمْ لِسُنَنِهِ وَآدَابِهِ؟ !
رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يُوشِكُ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ " قُلْتُ: كَيْفَ، وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ، وَعَلَّمْنَاهُ أَبْنَاءَنَا؟ فَقَالَ: " ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ نُفَيْرٍ، إِنْ كُنْتُ لَأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، أَوَلَيْسَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ بِأَيْدِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؟ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ حِينَ تَرَكُوا أَمْرَ اللهِ؟ " ثُمَّ قَرَأَ: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَقَالَ: " وَذَلِكَ عِنْدَ ذَهَابِ الْعِلْمِ "، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَنُقْرِئُهُ أَبْنَاءَنَا، وَيُقْرِئُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ أُمِّ لَبِيدٍ! إِنْ
كُنْتُ لَأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ، أَوَلَيْسَ هَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَلَا يَنْتَفِعُونَ مِمَّا فِيهِمَا بِشَيْءٍ " انْتَهَى مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَالشَّاهِدُ فِيهِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْعَمَلِ بِمَا فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِهِدَايَتِهَا، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ أَبْعَدَ مَا كَانُوا عَنْ هِدَايَةِ دِينِهِمْ، مَعَ شِدَّةِ عَصَبِيَّتِهِمُ الْجِنْسِيَّةِ لَهُ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ، عَلَى أَنَّ عَصَبِيَّتَهُمُ الْجِنْسِيَّةَ لَهُ قَدْ ضَعُفَتْ أَيْضًا، وَاسْتَبْدَلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِهَا جِنْسِيَّةَ اللُّغَةِ أَوِ الْوَطَنِ.
وَلَا يَمْنَعُنَا مِنَ الِاعْتِبَارِ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَا عُلِّلَ بِهِ مِنَ الضَّعْفِ وَانْقِطَاعِ السَّنَدِ، وَالْقَلْبِ وَالِاخْتِلَافِ ; لِأَنَّنَا لَا نُرِيدُ أَنْ نُثْبِتَ بِهِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا شَرْعِيًّا، لَا دَلِيلَ عَلَيْهِمَا سِوَاهُ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى سَلَامَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ التَّحْرِيفِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ; لِأَنَّهُمَا عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ، يَشْتَمِلَانِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْهِدَايَةِ إِلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلَكِنَّ أَهْلَهُمَا لَا يُقِيمُونَ ذَلِكَ، فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمَا قَائِمَةٌ، عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ تَثْبُتُ بِهِ الْعِبْرَةُ، وَلَكِنْ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَقَدْ أَشَارَ الْحَافِظُ فِي تَرْجَمَةِ زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ مِنَ الْإِصَابَةِ إِلَى مُخْرِجِيهِ، وَعَلَّلَهُ عِنْدَهُمْ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ قُصُورُ مَا اكْتَفَى بِهِ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ.
(تَنْبِيهٌ) : إِنَّ الشَّهَادَةَ لِبَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَهُ نَظَائِرُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (٧: ١٥٩) وَقَوْلِهِ:

صفحة رقم 382
تفسير المنار
عرض الكتاب
المؤلف
محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني
الناشر
1990 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية