وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ شروع في بيان أحكام الإنجيل- كما قيل- إثر بيان أحكام التوراة، وهو عطف على أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ وضمير الجمع المجرور- للنبيين الذين أسلموا- كما قاله أكثر المفسرين، واختاره علي بن عيسى والبلخي وقيل: للذين فرض عليهم الحكم الذي مضى ذكره، وحكي ذلك عن الجبائي- وليس بالمختار- والتقفية الاتباع، ويقال: قفا فلان أثر فلان إذا تبعه، وقفيته بفلان إذا أتبعته إياه، والتقدير هنا أتبعناهم على آثارهم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فالفعل كما قيل: متعد لمفعولين أحدهما بنفسه والآخر بالباء، والمفعول الأول محذوف، وعَلى آثارِهِمْ كالساد مسده لأنه إذا قفا به على آثارهم فقد قفاهم به، واعترض بأن الفعل قبل التضعيف كان متعديا إلى واحد، وتعدية المتعدي إلى واحد لثان بالباء لا تجوز سواء كان بالهمزة أو التضعيف، ورد بأن الصواب أنه جائز لكنه قليل،
صفحة رقم 318
وقد جاء منه ألفاظ قالوا: صك الحجر الحجر، وصككت الحجر بالحجر، ودفع زيد عمرا ودفعت زيدا بعمرو أي جعلته دافعا له.
وذهب بعض المحققين إلى أن التضعيف فيما نحن فيه ليس للتعدية، وأن تعلق الجار بالفعل لتضمينه معنى المجيء أي جئنا يعيسى ابن مريم على آثارهم قافيا لهم فهو متعد لواحد لا غير بالباء، وحاصل المعنى أرسلنا عيسى عليه الصلاة والسلام وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ عطف على قَفَّيْنا، وقرأ الحسن بفتح الهمزة، ووجه صحة ذلك أنه اسم أعجمي فلا بأس بأن يكون على ما ليس في أوزان العرب، وهو بأفعيل أو فعليل بالفتح، وأما إفعيل بالكسر فله نظائر- كإبزيم وإحليل- وغير ذلك فِيهِ هُدىً وَنُورٌ كما في التوراة، والجملة في موضع النصب على أنها حال من الإنجيل، وقوله تعالى: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ عطف على الحال وهو حال أيضا، وعطف الحال المفردة على الجملة الحالية وعكسه جائز لتأويلها بمفرد وتكرير هذا لزيادة التقرير، وقوله عز وجل: وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ عطف على ما تقدم منتظم معه في سلك الحالية، وجعل كله هدى- بعد ما جعل مشتملا عليه- مبالغة في التنويه بشأنه لما أن فيه البشارة بنبينا صلّى الله عليه وسلّم أظهر، وتخصيص المتقين بالذكر لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بجدواه، وجوز نصب هُدىً وَمَوْعِظَةً على المفعول لها عطفا على مفعول له آخر مقدر أي إثباتا لنبوته وَهُدىً إلخ، ويجوز أن يكونا معللين لفعل محذوف عامل فيه أي وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ آتيناه ذلك وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته صلّى الله عليه وسلّم وما قررته شريعته الشريفة من أحكامه، وأما الأحكام المنسوخة فليس الحكم بها حكما بما أنزل الله تعالى بل هو إبطال وتعطيل له إذ هو شاهد بنسخها وانتهاء وقت العمل بها لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة الأحمدية شاهدة بنسخها، وأن أحكامه ما قررته تلك الشريعة التي تشهد بصحتها- كما قرره شيخ الإسلام قدس سره- واختار كونه أمرا مبتدأ الجبائي، وقيل: هو حكاية للأمر الوارد عليهم بتقدير فعل معطوف على- آتيناه- أي وقلنا ليحكم أهل الإنجيل، وحذف القول- لدلالة ما قبله عليه- كثير في الكلام، ومنه قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: ٢٣- ٢٤] واختار ذلك علي بن عيسى.
وقرأ حمزة وَلْيَحْكُمْ بلام الجر ونصب الفعل بأن مضمرة، والمصدر معطوف على هُدىً وَمَوْعِظَةً على تقدير كونهما معللين، وأظهرت اللام فيه لاختلاف الفاعل، فإن فاعل الفعل المقدر ضمير الله تعالى، وفاعل هذا أهل الكتاب، وهو متعلق بمحذوف على الوجه الأول في هُدىً وَمَوْعِظَةً أي وآتيناه ليحكم إلخ، وإنما لم يعطف لعدم صحة عطف العلة على الحال، ومنهم من جوز العطف بناء على أن الحال هنا في معنى العلة وهو ضعيف، وقدر بعضهم في الكلام على تقدير التعليل عليه متعلقا- بأنزل- ليصح كونه علة لإيتاء عيسى عليه الصلاة والسلام ما ذكر.
وعن أبي علي أنه قرأ- وأن ليحكم- على أن- أن- موصولة بالأمر كما في قولك: أمرته بأن قم، ومعنى الوصل أن- أن- تتم بما بعدها جزء كلام كالذي وأخواته، ووصل- أن- المصدرية بفعل الأمر مما تكرر القول به في الكشاف، وذكر فيه نقلا عن سيبويه وقدر هنا أمرنا، كأنه قيل: وآتيناه الإنجيل وأمرنا بأن يحكم، وأورد على سيبويه ما دقق صاحب الكشف في الجواب عنه، وأتى بما يندفع به كثير من الأسئلة على أن المصدرية والتفسيرية وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي المتمردون الخارجون عن حكمه أو عن الإيمان، وقد مر تحقيقه، والجملة تذييل مقرر لمضمون الجملة السابقة ومؤكدة لوجوب الامتثال بالأمر. والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على الأحكام، وأن عيسى عليه السلام كان مستقلا بالشرع مأمورا بالعمل بما فيه من الأحكام قلت أو كثرت لا بما
في التوراة خاصة، ويشهد لذلك أيضا
حديث البخاري «أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها وأهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به»
وخالف في ذلك بعض الفضلاء، ففي الملل والنحل للشهرستاني جميع بني إسرائيل كانوا متعبدين بشريعة موسى عليه السلام مكلفين التزام أحكام التوراة والإنجيل النازل على المسيح عليه السلام لا يحتضن أحكاما ولا يستبطن حلالا وحراما، ولكنه رموز وأمثال ومواعظ وما سواها من الشرائع والأحكام محال على التوراة ولهذا لم تكن اليهود لتنقاد لعيسى عليه الصلاة والسلام، وحمل المخالف هذه الآية على وليحكموا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة، وهو خلاف الظاهر كتخصيص ما أنزل فيه نبوة نبينا صلّى الله عليه وسلّم.
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي الفرد الكامل الحقيق بأن يسمى كتابا على الإطلاق لتفوقه على سائر الكتب السماوية- وهو القرآن العظيم- فاللام للعهد، والجملة عطف على أَنْزَلْنا وما عطف عليه، وقوله تعالى:
بِالْحَقِّ حال مؤكدة من الكتاب أي متلبسا بالحق والصدق، وجوز أن يكون حالا من فاعل أَنْزَلْنا، وقيل: حال من الكاف في إِلَيْكَ وقوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ حال من الْكِتابَ أي حال كونه مصدقا لما تقدمه، وقد تقدم الكلام في كيفية تصديقه لذلك، وزعم أبو البقاء عدم جواز كونه حالا مما ذكر إذ لا يكون حالان لعامل واحد، وأوجب كونه حالا من الضمير المستكن في الجار والمجرور قبله، وقوله سبحانه: مِنَ الْكِتابِ بيان لِما واللام فيه للجنس بناء على ادعاء أن ما عدا الكتب السماوية ليست كتابا بالنسبة إليها. ويجوز- كما قال غير واحد- أن تكون للعهد نظرا إلى أنه لم يقصد إلى جنس مدلول لفظ الكتاب بل إلى نوع مخصوص منه هو بالنظر إلى مطلق الكتاب معهود بالنظر إلى وصف كونه سماويا غايته أن عهديته ليست إلى حد الخصوصية الفردية بل إلى خصوصية نوعية أخص من مطلق الكتاب وهو ظاهر، ومن الكتاب السماوي أيضا حيث خص بما عدا القرآن وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ قال الخليل وأبو عبيدة: أي رقيبا على سائر الكتب السماوية المحفوظة عن التغيير حيث يشهد لها بالصحة والثبات ويقرر أصول شرائعها وما يتأبد من فروعها ويعين أحكامها المنسوخة.
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة رضي الله تعالى عنهم: أي شاهدا عليه بأنه الحق، والعطف حينئذ للتأكيد وهاؤه أصلية، وفعله هيمن، وله نظائر- بيطر وخيمر وسيطر- وزاد الزجاج: بيقر، ولا سادس لها، وقيل: إنها مبدلة من الهمزة ومادته من الأمن- كهراق- وقال المبرد وابن قتيبة: إن المهيمن أصله مؤمن وهو من أسمائه تعالى، فصغر وأبدلت همزته هاء، وتعقبه السمين وغيره بأن ذلك خطأ بل كفر أو شبيه به لأن أسماء الله تعالى لا تصغر، وكذا كل اسم معظم شرعا، وعن ابن محيصن ومجاهد أنهما قرآ مُهَيْمِناً بفتح الميم على بنية المفعول فضمير عَلَيْهِ على هذا يعود على الكتاب الأول، والمعنى أنه حوفظ من التحريف والتبديل، والحافظ له هو الله تعالى كما قال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: ٩] فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أي بين أهل الكتاب- كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن كون القرآن العظيم بذلك الشأن من موجبات الحكم المأمور به أي إذا كان شأن القرآن كما ذكر فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أي بما أنزله إليك فإنه الحق الذي لا محيص عنه، والمشتمل على جميع الأحكام الشرعية الباقية في الكتب الإلهية، وتقديم بَيْنَهُمْ للاعتناء بتعميم الحكم لهم، ووضع الموصول موضع الضمير تنبيها على علية ما في حيز الصلة للحكم، وترهيبا عن المخالفة، والالتفات بإظهار الاسم الجليل لما مر مرارا وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ الزائغة.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يريد ما حرفوا وبدلوا من أمر الرجم عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ الذي لا محيد عنه، وعن متعلقة بلا تتبع على تضمين معنى العدول ونحوه كأنه قيل: لا تعدل عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ
متبعا لأهوائهم، وقيل: بمحذوف وقع حالا من فاعله أي لا تتبع أهواءهم عادلا عما جاءك، أو من مفعوله أي لا تتبع أهواءهم عادلة عما جاءك، واعترض ذلك بأن ما وقع حالا لا بد أن يكون فعلا عاما، ولعل القائل لا يسلم ذلك، ومِنَ كما قال أبو البقاء: متعلقة بمحذوف وقع حالا من مرفوع جاءَكَ أو من ما، ووضع الموصول موضع ضمير الموصول الأول للإيماء بما في حيز الصلة إلى ما يوجب كمال الاجتناب عن اتباع الأهواء، والنهي يجوز أن يكون لمن لا يتصور منه وقوع المنهي عنه، فلا يقال: كيف نهى صلّى الله عليه وسلّم عن اتباع أهوائهم وهو عليه الصلاة والسلام معصوم عن ارتكاب ما دون ذلك، وقيل: الخطاب له صلّى الله عليه وسلّم والمراد سائر الأحكام لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً استئناف جيء به لحمل أهل الكتاب من معاصريه صلّى الله عليه وسلّم على الانقياد لحكمه عليه الصلاة والسلام بما أنزل الله تعالى إليه من الحق ببيان أنه هو الذي كلفوا العمل به دون غيره مما في كتابهم، وإنما الذين كلفوا العمل به من مضى قبل النسخ، والخطاب- كما قال جماعة من المفسرين- للناس كافة الموجودين والماضين بطريق التغليب، والشرعة- بكسر الشين، وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها الشريعة، وهي في الأصل الطريق الظاهر الذي يوصل منه إلى الماء، والمراد بها الدين، واستعمالها فيه لكونه سبيلا موصلا إلى ما هو سبب للحياة الأبدية كما أن الماء سبب للحياة الفانية، أو لأنه طريق إلى العمل الذي يطهر العامل عن الأوساخ المعنوية كما أن الشريعة طريق إلى الماء الذي يطهر مستعمله عن الأوساخ الحسية.
وقال الراغب: سمي الدين شريعة تشبيها بشريعة الماء من حيث إن من شرع في ذلك على الحقيقة روي وتطهر، وأعني بالري ما قال بعض الحكماء: كنت أشرب فلا أروى فلما عرفت الله تعالى رويت بلا شرب، وبالتطهر ما قال تعالى: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: ٣٣] والمنهاج الطريق الواضح في الدين من نهج الأمر إذا وضح، والعطف باعتبار جمع الأوصاف، وقال المبرد: الشرعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستقيم، وقيل: هما بمعنى واحد وهو الطريق، والتكرير للتأكيد، والعطف مثله في قول الحطيئة: وهند أتى من دونها النأي والبعد. وقول عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده | أقوى وأقفر بعد أم الهيثم |
بشريعة أخرى لم يكن ذلك الاختصاص.
وأجاب العلامة التفتازاني بعد تسليم دلالة اللام على الاختصاص الحصري بمنع الملازمة لجواز أن نكون متعبدين بشريعة من قبلنا مع زيادة خصوصيات في ديننا بها يكون الحصر، لما ذكر مع تقدم الاختصاص، وفيه أنه لا حاجة في إفادة المتعلق، وأيضا الخصوصيات المذكورة لا تنافي تعبدنا لأن القائلين به يدّعون أنه فيما لم يعلم نسخه ومخالفة ديننا له لا مطلقا إذ لم يقل به أحد على الإطلاق، ولذا جمع المحققون بين أضراب هذه الآية الدالة على اختلاف الشرائع، وبين ما يخالفها نحو قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: ١٣] إلخ، وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: ٩٠] بأن كل آية دلت على عدم الاختلاف محمولة على أصول الدين ونحوها، والتحقيق في هذا المقام أنا متعبدون بأحكام الشرائع الباقية من حيث إنها أحكام شرعتنا لا من حيث إنها شرعة للأولين وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي جماعة متفقة على دين واحد في جميع الأعصار، أو ذي ملة واحدة من غير اختلاف بينكم في وقت من الأوقات في شيء من الأحكام الدينية ولا نسخ ولا تحويل- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- ومفعول شاءَ محذوف تعويلا على دلالة الجزاء عليه، أي لو شاء الله تعالى أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكم إلخ، وقيل: المعنى ولو شاء الله تعالى اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه، وروي عن الحسن نحو ذلك، وقال الحسين بن علي المغربي: المعنى لو شاء الله تعالى لم يبعث إليكم نبيا فتكونون متعبدين بما في العقل وتكونون أمة واحدة وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ متعلق بمحذوف يستدعيه النظام أي ولكن لم يشأ ذلك الجعل بل شاء غيره ليعاملكم سبحانه معاملة من يبتليكم.
فِي ما آتاكُمْ من الشرائع المختلفة لحكم إلهية يقتضيها كل عصر هل تعملون بها مذعنين لها معتقدين أن في اختلافها ما يعود نفعه لكم في معاشكم ومعادكم، أو تزيغون عنها وتبتغون الهوى وتشترون الضلالة بالهدى، وبهذا- كما قال شيخ الإسلام- اتضح أن مدار عدم المشيئة المذكورة ليس مجرد الابتلاء، بل العمدة في ذلك ما أشير إليه من انطواء الاختلاف على ما فيه مصلحتهم معاشا ومعادا كما ينبىء عنه قوله عز وجل: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا إلى ما هو خير لكم في الدارين من العقائد الحقة والأعمال الصالحة المندرجة في القرآن الكريم وابتدروها انتهازا للفرصة وإحرازا لفضل السبق والتقدم، فالسابقون السابقون أولئك المقربون، وقوله تعالى:
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً استئناف مسوق مساق التعليل لاستباق الخيرات بما فيه من الوعد والوعيد، وجَمِيعاً حال من الضمير المجرور، والعامل فيه إما المصدر المضاف المنحل إلى فعل مبني للفاعل، أو لما لم يسم فاعله، وإما الاستقرار المقدر في الجار، وقيل- وفيه بعد- إن الجملة واقعة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: كيف ما في ذلك من الحكم؟ فأجيب بأنكم سترجعون إلى الله تعالى وتحشرون إلى دار الجزاء التي تنكشف فيها الحقائق وتتضح الحكم فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أي فيفعل بكم من الجزاء الفاصل بين الحق والباطل ما لا يبقى لكم معه شائبة شك فيما كنتم فيه تختلفون في الدنيا من أمر الدين، فالإنباء هنا مجاز عن المجازاة لما فيها من تحقق الأمر.
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عطف على الكتاب، كأنه قيل: وأنزلنا إليك الكتاب، وقولنا: احكم أي الأمر بالحكم لا الحكم لأن المنزل الأمر بالحكم لا الحكم، ولئلا يلزم إبطال الطلب بالكلية، ولك أن تقدر الأمر بالحكم من أول الأمر من دون إضمار القول كما حققه في الكشف، وجوز أن يكون عطفا على الحق، وفي المحل وجهان: الجر والنصب على الخلاف المشهور، وقيل: يجوز أن يكون الكلام جملة اسمية بتقدير مبتدأ
أي وأمرنا أن احكم، وزعم بعضهم أن أَنِ هذه تفسيرية، ووجهه أبو البقاء بأن يكون التقدير وأمرناك، ثم فسر هذا الأمر باحكم، ومنع أبو حيان من تصحيحه بذلك بأنه لم يحفظ من لسانهم حذف المفسر بأن والأمر كما ذكر، وقال الطيبي: ولو جعل هذا الكلام عطفا على فَاحْكُمْ من حيث المعنى ليكون التكرير لإناطة قوله سبحانه:
وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ كان أحسن، ورد بأن أَنِ هي المانعة من ذلك العطف، وأمر الإناطة ملتزم على كل حال، وقال بعضهم: إنما كرر الأمر بالحكم لأن الاحتكام إليه صلّى الله عليه وسلّم كان مرتين: مرة في زنا المحصن. ومرة في قتيل كان بينهم، فجاء كل أمر في أمر، وحكي ذلك عن الجبائي والقاضي أبي يعلى، ونون أَنِ فيها الضم والكسر، والمنسبك من أَنْ يَفْتِنُوكَ بدل من ضمير المفعول بدل اشتمال، أي واحذر: فتنتهم لك وأن يصرفوك عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ- تعالى- إِلَيْكَ ولو كان أقل قليل بتصوير الباطل بصورة الحق وقال ابن زيد:
بالكذب على التوراة في أن ذلك الحكم ليس فيها، وجوز أن يكون مفعولا من أجله، أي احذرهم مخافة أَنْ يَفْتِنُوكَ وإعادة ما أَنْزَلَ اللَّهُ- تعالى- إِلَيْكَ لتأكيد التحذير بتهويل الخطب، ولعل هذا لقطع أطماعهم قاتلهم الله تعالى،
أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم لعلنا نفتنه عن دينه، فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وإنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم. وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت فَإِنْ تَوَلَّوْا
أي أعرضوا عن قبول الحكم بما أنزل الله تعالى إليك وأرادوا غيره فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وهو ذنب التولي والإعراض، فهو بعض مخصوص والتعبير عنه بذلك للإيذان بأن لهم ذنوبا كثيرة، وهذا مع كمال عظمه واحد من جملتها، وفي هذا الإبهام تعظيم للتولي كما في قوله:
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها | أو يرتبط بعض النفوس حمامها |
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها يعني كتبنا حكم القصاص في التوراة وقررناه في الإنجيل، وأنزلنا عليك الكتاب مصدقا لما فيهما وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ من الأحكام الإلهية المقررة في الأديان ولا يخفى بعده، والمراد من الناس العموم، وقيل: اليهود، وقوله سبحانه: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ إنكار وتعجيب من حالهم وتوبيخ لهم، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي أيتولون عن قبول حكمك بما أنزل الله تعالى إليك فيبغون حكم الجاهلية، وقيل: محل الهمزة بعد الفاء، وقدمت أن لها الصدارة، وتقديم المفعول للتخصيص المفيد لتأكيد الإنكار والتعجب لأن التولي عن حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وطلب حكم آخر منكر عجيب، وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب، والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى الموجبة للميل والمداهنة في الأحكام، أو الأمة الجاهلية، وحكمهم:
ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي أهل الجاهلية، وحكمهم: ما ذكر، صفحة رقم 323
فقد روي أن بني النضير لما تحاكموا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في خصومة قتيل وقعت بينهم وبين بني قريظة طلب بعضهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل، فقال عليه الصلاة والسلام:
«القتلى بواء فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك» فنزلت،
وقرأ ابن عامر- تبغون- بالتاء، وهي إما على الالتفات لتشديد التوبيخ، وإما بتقدير القول أي قل لهم أَفَحُكْمَ إلخ، وقرأ ابن وثاب والأعرج وأبو عبد الرحمن وغيرهم أَفَحُكْمَ بالرفع على أنه مبتدأ، ويَبْغُونَ خبره، والعائد محذوف، وقيل: الخبر محذوف، والمذكور صفته أي حكم يبغون، واستضعف حذف العائد من الخبر، وذكر ابن جني أنه جاء الحذف منه كما جاء الحذف من الصلة والصفة كقوله:
قد أصبحت أم الخيار تدعي | عليّ ذنبا كله لم أصنع |
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب يعم حكمه كافة المؤمنين من المخلصين وغيرهم، وإن كان سبب وروده بعضا- كما ستعرفه إن شاء الله تعالى- ووصفهم بعنوان الإيمان لحملهم من أول الأمر على الانزجار عما نهوا عنه بقوله سبحانه وتعالى: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ فإن تذكير اتصافهم بضد صفات الفريقين من أقوى الزواجر عن موالاتهما أي لا يتخذ أحد منكم أحدا منهم وليا بمعنى لا تصافوهم مصافاة الأحباب ولا تستنصروهم.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: لما كانت وقعة أحد اشتد على طائفة من الناس وتخوفوا أن تدال عليهم الكفار، فقال رجل لصاحبه: أما أنا فألحق بذلك اليهودي فآخذ منه أمانا وأتهود معه فإني أخاف أن تدال علينا اليهود، وقال الآخر: أما أنا فألحق بفلان النصراني ببعض أرض الشام فآخذ منه أمانا وأتنصر معه، فأنزل الله تعالى فيهما ينهاهما يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ.
وأخرج ابن جرير وابن أبي شيبة عن عطية بن سعد قال: «جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم وإني أبرأ إلى الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم من ولاية يهود وأتولى الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، فقال عبد الله بن أبيّ: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي» فنزلت
بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي بعض اليهود أولياء لبعض منهم، وبعض النصارى أولياء لبعض منهم، وأوثر الإجمال لوضوح المراد بظهور أن اليهود لا يوالون النصارى كالعكس، والجملة مستأنفة تعليلا للنهي قبلها وتأكيدا لإيجاب اجتناب المنهي عنه أي بعضهم أولياء بعض متفقون على كلمة واحدة في كل ما يأتون وما يذرون، صفحة رقم 324
ومن ضرورة ذلك إجماع الكل على مضادتكم ومضارتكم بحيث يسومونكم السوء ويبغونكم الغوائل، فكيف يتصور بينكم وبينهم موالاة، وزعم الحوفي أن الجملة في موضع الصفة لأولياء، والظاهر هو الأول وقوله تعالى:
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي من جملتهم، وحكمه حكمهم كالمستنتج مما قبله، وهو مخرج مخرج التشديد والمبالغة في الزجر لأنه لو كان المتولي منهم حقيقة لكان كافرا وليس بمقصود، وقيل: المراد وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ كافر مثلهم حقيقة، وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولعل ذلك إذا كان توليهم من حيث كونهم يهودا أو نصارى، وقيل: لا بل لأن الآية نزلت في المنافقين، والمراد أنهم بالموالاة يكونون كفارا مجاهرين، وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أنفسهم بموالاة الكفار. أو المؤمنين بموالاة أعدائهم، تعليل آخر على ما قيل يتضمن عدم نفع موالاة الكفرة بل ترتب الضرر عليها، وقيل: هو تعليل لكون من يتولاهم منهم أي لا يهديهم إلى الإيمان بل يخليهم وشأنهم فيقعون في الكفر والضلالة، وإنما وضع المظهر موضع ضميرهم تنبيها على أن توليهم ظلم لما أنه تعريض للنفس للعذاب الخالد ووضع للشيء في غير موضعه، وقوله تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي نفاق- كعبد الله بن أبيّ وأضرابه- كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بيان لكيفية توليتهم وإشعار بسببه وبما يؤول إليه أمرهم، والفاء للإيذان بترتبه على عدم الهداية وهي للسببية المحضة.
وجوز الكرخي كونها للعطف على إِنَّ اللَّهَ إلخ من حيث المعنى، والخطاب إما للرسول صلّى الله عليه وسلّم بطريق التلوين، وإما لكل من له أهلية، والإتيان بالموصول دون ضمير القوم ليشار بما في حيز الصلة إلى أن ما ارتكبوه من التولي بسبب ما كمن من المرض والرؤية إما بصرية، وقوله تعالى: يُسارِعُونَ فِيهِمْ حال من المفعول وهو الأنسب بظهور نفاقهم، وإما قلبية والجملة في موضع المفعول الثاني، والمراد على التقديرين مسارعين في موالاتهم إلا أنه قيل: فيهم مبالغة في بيان رغبتهم فيها وتهالكهم عليها، وإيثار كلمة فِي على كلمة- إلى- للدلالة على أنهم مستقرون في الموالاة، وإنما مسارعتهم من بعض مراتبها إلى بعض آخر منها.
وفسر الزمخشري المسارعة بالانكماش لكثرة استعماله بفي، وعدل عنه بعض المحققين لكونه تفسيرا بالأخفى. واختير أن تعدي المسارعة هنا بإلى لتضمنها معنى الدخول، وقرىء- فيرى- بياء الغيبة على أن الضمير- كما قال أبو البقاء- لله تعالى، وقيل: لمن يصح منه الرؤية، وقيل: الفاعل هو الموصول، والمفعول هو الجملة على حذف أن المصدرية، والرؤية قلبية أي فيرى القوم الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم فلما حذفت أن انقلب الفعل مرفوعا كما في قوله: ألا أي هذا الزاجري احضر الوغى. وقوله عز وجل: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ حال من فاعل يسارعون، والدائرة- من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها، وأصلها داورة لأنها من دار يدور، ومعناها لغة- على ما في القاموس- ما أحاط بالشيء، وفي شرح الملخص إن الدائرة سطح مستو يحيط به خط مستدير يمكن أن يفرض في داخله نقطة يكون البعد بينها وبينه واحدا في جميع الجهات، وقد تطلق الدائرة على ذلك الخط المحيط أيضا انتهى، واختلف في أن أي المعنيين حقيقة، فقيل: إنها حقيقة في الأول، مجاز في الثاني، وقيل:
بالعكس، قال البرجندي: وتحقيق ذلك أنه إذا ثبت أحد طرفي خط مستقيم وأدير دورة تامة يحصل سطح دائرة يسمى بها لأن هيئة هذا السطح ذات دور، على أن صيغة الفاعل للنسبة، وإذا توهم حركة نقطة حول نقطة ثابتة دورة تامة بحيث لا يختلف بعد النقطة المتحركة عن النقطة الثابتة يحصل محيط دائرة يسمى بها لأن النقطة كانت دائرة فسمي ما حصل من دورانها دائرة فإن اعتبر الأول ناسب أن يكون إطلاق الدائرة على السطح حقيقة وعلى المحيط مجازا، وإذا اعتبر الثاني ناسب أن يكون الأمر بالعكس انتهى.
وتعقبه بعض الفضلاء بأنه لا يخفى ما فيه لأن إطلاقها بالاعتبار الثاني على المحيط أيضا مجاز لأنه من باب تسمية المسبب باسم السبب اللهم إلا أن يقال: إنه أراد بكون إطلاقها على المحيط حقيقة أن إطلاقها عليه ليس مجازا بالوجه الذي كان به مجازا في الاعتبار الأول، فإن وجه المجاز فيه التسمية للمحيط باسم المحاط، وهاهنا ليس كذلك كما سمعت لكن هذا تكلف بعيد، ولو قال في وجه التسمية في اللاحق لأن هيئة الخط ذات دور على وفق قوله في وجه التسمية السابق لم يرد عليه هذا فتدبر، وكيفما كان فقد استعيرت لنوائب الزمان بملاحظة إحاطتها، وقولهم هذا كان اعتذارا عن الموالاة أي نخشى أن تدور علينا دائرة من دوائر الدهر ودولة من دولة بأن ينقلب الأمر للكفار وتكون الدولة لهم على المسلمين فنحتاج إليهم قاله مجاهد وقتادة والسدي.
وعن الكلبي أن المعنى نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه- كالجدب والقحط- فلا يميروننا ولا يقرضوننا، ولا يبعد من المنافقين أنهم يظهرون للمؤمنين أنهم يريدون بالدائرة ما قاله الكلبي، ويضمرون في دوائر قلوبهم ما قاله الجماعة المنبئ عن الشك في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد رد الله تعالى عليهم عللهم الباطلة وقطع أطماعهم الفارغة وبشر المؤمنين بحصول أمنيتهم بقوله سبحانه: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ فإن- عسى- منه عز وجل وعد محتوم لما أن الكريم إذا أطمع أطعم فما ظنك بأكرم الأكرمين، والمراد بالفتح فتح مكة- كما روي عن السدي- وقيل: فتح بلاد الكفار، واختاره الجبائي، وقال قتادة ومقاتل: هو القضاء الفصل بنصره عليه الصلاة والسلام على من خالفه وإعزاز الدين، وأن يأتي في تأويل المصدر، وهو خبر- لعسى- على رأي الأخفش، ومفعول به على رأي سيبويه لئلا يلزم الإخبار بالحدث عن الذات، والأمر في ذلك عند الأخفش سهل أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ وهو القتل وسبي الذراري لبني قريظة، والجلاء لبني النضير عند مقاتل، وقيل: إظهار نفاق المنافقين مع الأمر بقتلهم، وروي عن الحسن والزجاج، وقيل: موت رأس النفاق، وحكي ذلك عن الجبائي فَيُصْبِحُوا أي أولئك المنافقون، وهو عطف على يَأْتِيَ داخل معه في حيز خبر عسى، وفاء السببية لجعلها الجملتين كجملة واحدة مغنية عن الضمير العائد على الاسم، والمراد فيصيروا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ من الكفر والشك في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم نادِمِينَ خبر- يصبح- وبه يتعلق عَلى ما أَسَرُّوا وتخصيص الندامة به لا بما كانوا يظهرونه من موالاة الكفرة لما أنه الذي كان يحملهم على تلك الموالاة ويغريهم عليها، فدل ذلك على أن ندامتهم على التولي بأصله وسببه.
وأخرج ابن منصور وابن أبي حاتم عن عمرو أنه سمع ابن الزبير يقرأ- عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبح الفساق على ما أسروا في أنفسهم نادمين- قال عمرو: لا أدري أكان ذلك منه قراءة أم تفسيرا وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا كلام مستأنف مسوق لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة.
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر بغير واو على أنه استئناف بياني كأنه قيل: فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ وقرأ أبو عمرو ويعقوب «ويقول» بالنصب عطفا على «فيصبحوا»، وقيل: على أَنْ يَأْتِيَ بحسب المعنى كأنه قيل: عسى أن يأتي الله بالفتح وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا بإسناد يَأْتِيَ إلى الاسم الجليل دون ضميره، واعتبر ذلك لأن العطف على خبر- عسى- أو مفعولها يقتضي أن يكون فيه ضمير الله تعالى ليصح الإخبار به، أو ليجرى على استعماله، ولا ضمير فيه هنا ولا ما يغني عنه، وفي صورة العطف باعتبار المعنى تكون- عسى- تامة لإسنادها إلى أَنْ وما في حيزها فلا حاجة حينئذ إلى ضمير، وهذا كما قيل: قريب من عطف التوهم، وكأنهم عبروا عنه بذلك دونه تأدبا، وجوز بعضهم أن يكون أَنْ يَأْتِيَ بدلا من الاسم الجليل، والعطف على البدل، وعسى- تامة أيضا كما صرح به الفارسي، وبعضهم يجعل العطف على خبر- عسى- ويقدر ضميرا أي وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا به، وذهب ابن النحاس
إلى أن العطف على الفتح وهو نظير، ولبس عباءة وتقر عيني.
واعترض بأن فيه الفصل بين أجزاء الصلة، وهو لا يجوز وبأن المعنى حينئذ عسى الله تعالى أن يأتي بقول المؤمنين وهو ركيك وأجيب عن الأول بالفرق بين الإجزاء بالفعل، والإجزاء بالتقدير، وعن الثاني بأن المراد عسى الله سبحانه أن يأتي بما يوجب قول المؤمنين من النصرة المظهرة لحالهم.
واختار شيخ الإسلام قدس سره ما قدمناه، ولا يحتاج إلى تكلف مؤونة تقدير الضمير لأن- فتصبحوا- كما علمت معطوف على يَأْتِيَ والفاء كافية فيه عن الضمير، فتكفي عن الضمير في المعطوف عليه أيضا لأن المتعاطفين كالشيء الواحد، ولا حاجة مع هذا إلى القول بأن العطف عليه بناء على أنه منصوب في جواب الترجي إجراء له مجرى التمني- كما قال ابن الحاجب- لأن هذا إنما يجيزه الكوفيون فقط بخلاف الوجه الذي ذكرناه، والمعنى ويقول الذين آمنوا مخاطبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون دولتهم ويظهرون لهم غاية المحبة وعدم المفارقة عنهم في السراء والضراء عند مشاهدتهم تخيبة رجائهم وانعكاس تقديرهم لوقوع ضد ما كانوا يترقبونه، ويتعالون به تعجيبا للمخاطبين من حالهم وتعريضا بهم.
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ أي بالنصرة والمعونة- كما قالوه- فيما حكي عنهم، وإن قوتلتم لننصرنكم، فاسم الإشارة مبتدأ وما بعده خبره، والمعنى إنكار ما فعلوه واستبعاده وتخطئتهم في ذلك- قاله شيخ الإسلام، وغيره، واختار غير واحد- أن المعنى يقول المؤمنون الصادقون بعضهم لبعض أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ تعالى لليهود إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ والخطاب على التقديرين لليهود إلا أنه على الأول من جهة المؤمنين، وعلى الثاني من جهة المقسمين، وفي البحر أن الخطاب على التقدير الثاني للمؤمنين أي يقول الذين آمنوا بعضهم لبعض تعجبا من حال المنافقين إذ أغلظوا بالأيمان لهم وأقسموا أنهم معكم وأنهم معاضدوكم على أعدائكم اليهود فلما حل باليهود ما حل أظهروا ما كانوا يسرونه من موالاتهم والتمالؤ على المؤمنين، وإليه يشير كلام عطاء وليس بشيء كما لا يخفى، وجملة إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ لا محل لها من الإعراب لأنها تفسير وحكاية لمعنى أقسموا لكن لا بألفاظهم وإلا لقيل: إنا معكم، وذكر السمين وغيره أنه يجوز أن يقال: حلف زيد لأفعلن وليفعلن، وجَهْدَ أَيْمانِهِمْ منصوب على أنه مصدر- لأقسموا- من معناه، والمعنى أقسموا إقساما مجتهدا فيه، أو هو حال بتأويل مجتهدين، وأصله يجتهدون جهد أيمانهم، فالحال في الحقيقة الجملة، ولذا ساغ كونه حالا كقولهم: افعل ذلك جهدك مع أن الحال حقها التنكير لأنه ليس حالا بحسب الأصل.
وقال غير واحد: لا يبالى بتعريف الحال هنا لأنها في التأويل نكرة وهو مستعار من جهد نفسه إذا بلغ وسعها، فحاصل المعنى أهؤلاء الذين أكدوا الأيمان وشددوها حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ يحتمل أن يكون هذا جملة مستأنفة مسوقة من جهته تعالى لبيان مآل ما صنعوه من ادعاء الولاية والقسم على المعية في كل حال إثر الإشارة إلى بطلانه بالاستفهام، وأن يكون من جملة مقول المؤمنين بأن يجعل خبرا ثانيا لاسم الإشارة، وقد قال بجواز نحو ذلك بعض النحاة، ومنه قوله سبحانه: فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى [طه: ٢٠]، أو يجعل هو الخبر والموصول مع ما في حيز صلته صفة للمبتدأ، فالاستفهام حينئذ للتقرير، وفيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم، والمعنى بطلت أعمالهم التي عملوها في شأن موالاتكم وسعوا في ذلك سعيا بليغا حيث لم تكن لكم دولة كما ظنوا فينتفعوا بما صنعوا من المساعي وتحملوا من مكابدة المشاق، وفيه من الاستهزاء بالمنافقين والتقريع للمخاطبين ما لا يخفى- قاله شيخ الإسلام- وذهب بعضهم إلى أنه إذا كانت من جملة المقول فهي في محل نصب بالقول بتقدير أن
قائلا يقول: ماذا قال المؤمنون بعد كلامهم ذلك؟ فقيل: قالوا: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ إلخ، والجملة إما إخبارية، وشهادة المؤمنين بمضمونها على تقدير أن يكون المراد به خسران دنيوي وذهاب الأعمال بلا نفع يترتب عليها هو ما أملوه من دولة اليهود مما لا إشكال فيه، وعلى تقدير أن يكون المراد أمرا أخرويا فيحتمل أن يكون باعتبار ما يظهر من حال المنافقين في ارتكاب ما ارتكبوا، وأن تكون باعتبار إخبار النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وإما جملة دعائية ولا ضير في الدعاء بمثل ذلك على ما مرت الإشارة إليه، وأشعر كلام البعض أن في الجملة معنى التعجب مطلقا سواء كانت من جملة المقول، أو من قول الله تعالى، ولعله غير بعيد عند من يتدبر.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ شروع في بيان حال المرتدين على الإطلاق بعد أن نهى سبحانه فيما سلف عن موالاة اليهود والنصارى، وبين أن موالاتهم مستدعية للارتداد عن الدين، وفصل مصير من يواليهم من المنافقين قيل: وهذا من الكائنات التي أخبر عنها القرآن قبل وقوعها،
فقد روي أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة، ثلاث في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنو مدلج ورئيسهم ذو الخمار- وهو الأسود العنسي- كان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده فأخرج منها عمال النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكتب عليه الصلاة والسلام إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن، فأهلكه الله تعالى على يدي فيروز الديلمي بيته فقتله، وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتله ليلة قتل فسر به المسلمون وقبض عليه الصلاة والسلام من الغد، وأتى خبره في شهر ربيع الأول، وبنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب ابن حبيب تنبأ وكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك وإن لنا نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون، فقدم عليه عليه الصلاة والسلام رسولان له بذلك فحين قرأ صلّى الله عليه وسلّم كتابه، قال لهما: فما تقولان أنتما؟ قال: نقول كما قال، فقال صلّى الله عليه وسلّم: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما، ثم كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين،
وكان ذلك في سنة عشر فحاربه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بجنود المسلمين وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما وكان يقول: قتلت في جاهليتي خير الناس وفي إسلامي شر الناس، وقيل: اشترك في قتله هو وعبد الله بن زيد الأنصاري طعنه وحشي وضربه عبد الله بسيفه، وهو القائل:
يسائلني الناس عن قتله... فقلت: ضربت، وهذا طعن
في أبيات، وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث أبو بكر رضي الله تعالى عنه خالد بن الوليد فانهزم بعد القتال إلى الشام، فأسلم وحسن إسلامه، وارتدت سبع في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فزارة قوم عيينة بن حصين، وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر الكاهنة تنبأت وزوجت نفسها من مسيلمة في قصة شهيرة، وصح أنها أسلمت بعد وحسن إسلامها، وكندة قوم الأشعث بن قيس، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد، وكفى الله تعالى أمرهم على يدي أبي بكر رضي الله تعالى عنه وفرقة واحدة في عهد عمر رضي الله تعالى عنه- وهم غسان- قوم جبلة ابن الأيهم تنصر ولحق بالشام ومات على ردته، وقيل: إنه أسلم، ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب إلى أحبار الشام لما لحق بهم كتابا فيه: إن جبلة ورد إلي في سراة قومه فأسلم فأكرمته ثم سار إلى مكة فطاف فوطئ إزاره رجل من بني فزارة فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه، وفي رواية قلع عينه فاستعدى الفزاري على جبلة إليّ، فحكمت إما بالعفو وإما بالقصاص، فقال: أتقتص مني وأنا ملك، وهو سوقة؟! فقلت: شملك وإياه الإسلام فما تفضله
إلا بالعافية، فسأل جبلة التأخير إلى الغد فلما كان من الليل ركب مع بني عمه ولحق بالشام مرتدا، وروي أنه ندم على ما فعله وأنشد:
تنصرت بعد الحق عارا للطمة | ولم يك فيها لو صبرت لها ضرر |
فأدركني منها لجاج حمية | فبعت لها العين الصحيحة بالعور |
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني | صبرت على القول الذي قاله عمر |
مجموع الشرط والجزاء، وقيل: الجزاء فقط فعلى الأول لا يحتاج الجزاء وحده إلى ضمير يربطه، وعلى الثاني يحتاج إليه وهو هنا مقدر أي فسوف يأتي الله تعالى مكانهم بعد إهلاكهم بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ محبة تليق بشأنه تعالى على المعنى الذي أراده وَيُحِبُّونَهُ أي يميلون إليه جل شأنه ميلا صادقا فيطيعونه في امتثال أوامره واجتناب مناهيه، وهو معطوف على يُحِبُّونَهُ، وجوز أن يكون حالا من الضمير المنصوب فيه أي وهم يحبونه، وفي الكشاف محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه، ومحبة الله تعالى لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم، وأما ما يعتقده أجهل الناس- وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسوأهم طريقة- وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء- شيئا، وهم الفرقة المفتعلة المنفعلة من الصوف وما يدينون به من المحبة والعشق والتغني على كراسيهم خربها الله تعالى وفي مراقصهم عطلها الله تعالى بأبيات الغزل المقولة في المرد إن الذين يسمونهم شهداء وصعقاتهم التي أين منها صعقة موسى عليه السلام، ثم دك الطور فتعالى الله عنه علوا كبيرا، ومن كلماتهم كما أنه بذاته يحبهم كذلك يحبون ذاته فإن الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات، ومنها الحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة فإذا لم يكن ذلك لم يكن فيه حقيقة انتهى كلامه.
وقد خلط فيه الغث بالسمين فأطلق القول بالقدح الفاحش في المتصوفة ونسب إليهم ما لا يعبأ بمرتكبه ولا يعد في البهائم فضلا عن خواص البشر، ولا يلزم من تسمي طائفة بهذا الاسم غاصبين له من أهله ثم ارتكابهم ما نقل عنهم بل وزيادة أضعاف أضعافه مما نعلمه من هذه الطائفة في زماننا- مما ينافي حال المسمين به حقيقة أن نؤاخذ الصالح بالطالح ونضرب رأس البعض بالبعض وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: ١٦٤، الإسراء: ١٥، فاطر: ١٨، الزمر: ٧].
وتحقيق هذا المقام على ما ذكره ابن المنير في الانتصاف أنه لا شك أن تفسير محبة العبد لله تعالى بطاعته له سبحانه على خلاف الظاهر وهو من المجاز الذي يسمى فيه المسبب باسم السبب، والمجاز لا يعدل إليه عن الحقيقة إلا بعد تعذرها فليمتحن حقيقة المحبة لغة بالقواعد لننظر أهي ثابتة للعبد متعلقة بالله تعالى أم لا، فالمحبة لغة ميل المتصف بها إلى أمر ملذ واللذات الباعثة على المحبة منقسمة إلى مدرك بالحس كلذة الذوق في المطعوم.
ولذة النظر في الصور المستحسنة إلى غير ذلك، وإلى لذة مدركة بالعقل كلذة الجاه والرياسة والعلوم وما يجري صفحة رقم 329
مجراها، فقد ثبت أن في اللذات الباعثة على المحبة ما لا يدركه إلا العقل دون الحس، ثم تتفاوت المحبة ضرورة بحسب تفاوت البواعث عليها فليس اللذة برياسة الإنسان على أهل قرية كلذته بالرياسة على أقاليم معتبرة، وإذا تفاوتت المحبة بحسب تفاوت البواعث فلذات العلوم أيضا متفاوتة بحسب تفاوت المعلومات، وليس معلوم أكمل ولا أجل من المعبود الحق، فاللذة الحاصلة من معرفته ومعرفة جلاله وكماله تكون أعظم، والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن، وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات، فقد تحصل من ذلك أن محبة العبد لربه سبحانه ممكنة واقعة من كل مؤمن فهي من لوازم الإيمان وشروطه، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم، وإذا كان كذلك وجب تفسير محبة العبد لله عزّ وجلّ بمعناها الحقيقي لغة وكانت الطاعات والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها، ألا ترى
إلى الأعرابي الذي سأل عن الساعة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كبير عمل ولكن حب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب»
فهذا ناطق بأن المفهوم من المحبة لله تعالى غير الأعمال والتزام الطاعات لأن الأعرابي نفاها وأثبت الحب، وأقره صلّى الله عليه وسلّم على ذلك، ثم أثبت إجراء محبة العبد لله تعالى على حقيقتها لغة والمحبة إذا تأكدت سميت عشقا، فهو المحبة البالغة المتأكدة، والقول بأنه عبارة عن المحبة فوق قدر المحبوب فيكفر من قال: أنا عاشق لله تعالى أو لرسوله صلّى الله عليه وسلّم- كما قاله بعض ساداتنا الحنفية- في حيز المنع عندي، والمعترفون بتصور محبة العبد لله عز شأنه بالمعنى الحقيقي ينسبون المنكرين إلى أنهم جهلوا فأنكروا كما أن الصبي ينكر على من يعتقد أن وراء اللعب لذة من جماع أو غيره، والمنهمك في الشهوات والغرام بالنساء يظن أن ليس وراء ذلك لذة من رياسة أو جاه أو نحو ذلك، وكل طائفة تسخر مما فوقها وتعتقد أنهم مشغولون في غير شيء.
قال حجة الإسلام الغزالي روّح الله تعالى روحه: والمحبون الله تعالى يقولون لمن أنكر عليهم ذلك: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ [هود: ٣٨] انتهى، مع أدنى زيادة ولم يتكلم على معنى محبة الله تعالى للعبد، وأنت تعلم أن ذلك من المتشابه والمذاهب فيه مشهورة، وقد قدمنا طرفا من الكلام في هذا المقام فتذكر.
والمراد بهؤلاء القوم في المشهور أهل اليمن،
فقد أخرج ابن أبي شيبة في مسنده، والطبراني والحاكم وصححه من حديث عياض بن عمر الأشعري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت أشار إلى أبي موسى الأشعري- وهو من صميم اليمن- وقال: هم قوم هذا،
وعن الحسن وقتادة والضحاك أنهم أبو بكر وأصحابه رضي الله تعالى عنهم الذين قاتلوا أهل الردة، وعن السدي أنهم الأنصار، وقيل: هم الذين جاهدوا يوم القادسية ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أفناء الناس، وقد حارب هناك سعد بن أبي وقاص رستم الشقي صاحب جيش يزدجر،
وقال الإمامية: هم علي كرم الله تعالى وجهه وشيعته يوم وقعة الجمل وصفين، وعنهم أنهم المهدي ومن يتبعه،
ولا سند لهم في ذلك إلا مروياتهم الكاذبة،
وقيل: هم الفرس لأنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عنهم فضرب يده على عاتق سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وقال: هذا وذووه،
وتعقبه العراقي قائلا: لم أقف على خبر فيه، وهو هنا وهم، وإنما ورد ذلك في قوله تعالى:
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد: ٣٨] كما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فمن ذكره هنا فقد وهم أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عاطفين عليهم متذللين لهم، جمع ذليل لا ذلول فإن جمعه ذلل، وكان الظاهر أن يقال: أذلة للمؤمنين كما يقال تذلل له، ولا يقال: تذلل عليه للمنافاة بين التذلل والعلو لكنه عدي بعلى لتضمينه معنى العطف والحنو المتعدي بها، وقيل: للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم.
ولعل المراد بذلك أنه استعيرت عَلَى لمعنى اللام ليؤذن بأنهم غلبوا غيرهم من المؤمنين في التواضع حتى علوهم بهذه الصفة، لكن في استفادة هذا من ذاك خفاء، وكون المراد به أنه ضمن الوصف معنى الفضل والعلو- يعني أن كونهم أذلة ليس لأجل كونهم أذلاء في أنفسهم بل لإرادة أن يضموا إلى علو منصبهم وشرفهم فضيلة التواضع- لا يخفى ما فيه، لأن قائل ذلك قابله بالتضمين فيقتضي أن يكون وجها آخر لا تضمين فيه، وكون الجار على ذلك متعلقا بمحذوف وقع صفة أخرى- لقوم- ومع علو طبقتهم إلخ تفسير لقوله سبحانه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وخافضون إلخ تفسير- لأذلة- مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وقيل: عديت الذلة بعلى لأن العزة في قوله تعالى: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ عديت بها كما يقتضيه استعمالها، وقد قارنتها فاعتبرت المشاكلة، وقد صرحوا أنه يجوز فيها التقديم والتأخير، وقيل: لأن العزة تتعدى بعلى، والذلة ضدها، فعوملت معاملتها لأن النظير كما يحمل على النظير يحمل الضد على الضد كما صرح به ابن جني وغيره، وجر «أذلة» و «أعزة» على أنهما صفتان- لقوم- كالجملة السابقة، وترك العطف بينهما للدلالة على استقلالهم بالاتصاف بكل منهما وفيه دليل على صحة تأخير الصفة الصريحة عن غير الصريحة، وقد جاء ذلك في غير ما آية، ومن لم يجوزه جعل الجملة هنا معترضة ولا يخفى أنه تكلف، ومعنى كونهم أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ أنهم أشداء متغلبون عليهم من عزه إذا غلبه، ونص العلامة الطيبي أن هذا الوصف جيء به للتكميل لأن الوصف قبله يوهم أنهم أذلاء محقرون في أنفسهم، فدفع ذلك الوهم بالإتيان به على حد قوله:
جلوس في مجالسهم رزان | وإن ضيف ألمّ فهم خفوف |
وقيل عليه: بأنه كيف يكون لَوْمَةَ أبلغ من لوم مع ما فيها من معنى الوحدة، فلو قيل: لوم لائم كان أبلغ وأجيب بأنها في الأصل للمرة لكن المراد بها هنا الجنس، وأتي بالتاء للإشارة إلى أن جنس اللوم عندهم بمنزلة لومة واحدة، وتعقب بأنه لا يدفع السؤال لأنه لا قرينة على هذا التجوز مع بقاء الإبهام فيه، وقد يقال: إن مقام المدح قرينة قوية على ذلك ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف لا بعضها كما قيل، والإفراد لما تقدم، وكذلك ما فيه من معنى البعد فَضْلُ اللَّهِ أي لطفه وإحسانه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ إيتاءه إياه لا أنهم مستقلون في الاتصاف به وَاللَّهُ صفحة رقم 331
واسِعٌ
كثير الفضل، أو جواد لا يخاف نفاد ما عنده سبحانه عَلِيمٌ مبالغ في تعلق العلم في جميع الأشياء التي من جملتها من هو أهل الفضل ومحله، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، وإظهار الاسم الجليل للإشعار بالعلة وتأكيد استقلال الجملة الاعتراضية كما مر غير مرة.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات على ما قاله بعض العارفين: إنا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ يحتمل أن يكون الكتاب الأول إشارة إلى علم الفرقان، والثاني إشارة إلى علم القرآن، والأول هو ظهور تفاصيل الكمال، والثاني هو العلم الإجمالي الثابت في الاستعداد، ومعنى كونه مُهَيْمِناً عَلَيْهِ حافظا عليه بالإظهار، ويحتمل أن يكون الأول إشارة إلى ما بين أيدينا من المصحف، والثاني إشارة إلى الجنس الشامل للتوراة التي دعوتها للظاهر، والإنجيل الذي دعوته للباطن، وكتابنا مشتمل على الأمرين حافظ لكل من الكتابين فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من العدل الذي هو ظل المحبة التي هي ظل الوحدة التي انكشفت عليك وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ في تغليب أحد الجانبين إما الظاهر، وإما الباطن لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً موردا كمورد النفس ومورد القلب، ومورد الروح وَمِنْهاجاً طريقا كعلم الأحكام والمعارف التي تتعلق بالنفس وسلوك طريق الباطن الموصل إلى جنة الصفات، وعلم التوحيد والمشاهدة الذي يتعلق بالروح وسلوك طريق الفناء الموصل إلى جنة الذات، وقال بعضهم: إن لله سبحانه بحارا للأرواح وأنهارا للقلوب، وسواقي للعقول، ولكل واحد منها شرعة في ذلك ترد منها كشرعة العلم.
وشرعة القدرة وشرعة الصمدية وشرعة المحبة إلى غير ذلك، وله عزّ وجلّ طرق بعدد أنفاس الخلائق كما قال أبو يزيد قدس سره، والمراد بها الطرق الشخصية لا مطلقا وكلها توصل إليه سبحانه، وهذا إشارة إلى اختلاف مشارب القوم وعدم اتحاد مسالكهم، وقد قال جلّ وعلا: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة: ٦٠ الأعراف: ١٦٠] وفرق سبحانه بين الأبرار والمقربين في ذلك، وقلما يتفق اثنان في مشرب ومنهج، ومن هنا ينحل الإشكال فيما حكي عن حضرة الباز الأشهب مولانا الشيخ محيي الدين عبد القادر الكيلاني قدس سره أنه قال:- لا زلت أسير في مهامه القدس حتى قطعت الآثار فلاح لي أثر قدم من بعيد فكادت روحي تزهق فإذا النداء هذا أثر قدم نبيك محمد صلّى الله عليه وسلّم فإن ظاهره يقتضي سبقه للأنبياء والرسل أرباب التشريع عليهم الصلاة والسلام ونحوهم من الكاملين وهو كما ترى، ووجهه أنه قدس سره قطع الآثار في الطريق الذي هو فيه، وذلك يقتضي السبق على سالكي ذلك الطريق لا غير، فيجوز أن يكون مسبوقا بمن ذكرنا من السالكين طريقا آخر غير ذلك الطريق، وهذا أحسن ما يخطر لي في الجواب عن ذلك الإشكال نظرا إلى مشربي، ومشارب القوم شتى وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً متفقين في المشرب والطريق وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أي ليظهر عليكم ما آتاكم بحسب استعداداتكم على قدر قبول كل واحد منكم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي الأمور الموصلة لكم إلى كمالكم الذي قدر لكم بحسب الاستعدادات المقربة إياكم إليه بإخراجه إلى الفعل «إلى الله مرجعكم» في عين جمع الوجود على حسب المراتب فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وذلك بإظهار آثار ما يقتضيه ذلك الاختلاف وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ حسب ما تقتضيه الحكمة ويقبله الاستعداد بِما أَنْزَلَ اللَّهُ إليك من القرآن الجامع للظاهر والباطن وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ فتقصر على الظاهر البحت أو الباطن المحض وتنفي الآخر فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ كذنب حجب الأفعال لليهود وذنب حجب الصفات للنصارى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ وأنواع الفسق مختلفة، ففسق اليهود خروجهم عن حكم تجليات الأفعال الإلهية برؤية النفس أفعالها، وفسق النصارى خروجهم عن حكم تجليات الصفات الحقانية برؤية النفس صفاتها، والفسق الذي يعتري بعض هذه الأمة الالتفات
إلى ذواتهم والخروج عن حكم الوحدة الذاتية أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وهو الحكم الصادر عن مقام النفس بالجهل لا عن علم إلهي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الحق فيحتجب ببعض الحجب فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ في الأزل لا لعلة وَيُحِبُّونَهُ كذلك ومرجع المحبة التي لا تتغير عند الصوفية الذات دون الصفات كما قاله الواسطي، وطعن فيه- كما قدمنا- الزمخشري، وحيث أحبهم- ولم يكونوا إلا في العلم- كان المحب والمحبوب واحدا في عين الجمع.
وقال السلمي: إنهم بفضل حبه لهم أحبوه وإلا فمن أين لهم المحبة لله تعالى وما للتراب ورب الأرباب؟! وشرط الحب- كما قال- أن يلحقه سكرات المحبة، وإلا فليس بحب حقيقة، وقالت أعرابية في صفة الحب: خفي أن يرى وجل أن يخفى فهو كامن ككمون النار في الحجر إن قدحته أورى وإن تركته توارى وإن لم يكن شعبة من الجنون فهو عصارة السحر، وهذا شأن حب الحادث فكيف شأن حب القديم جل شأنه، والكلام في ذلك طويل أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لمكان الجنسية الذاتية ورابطة المحبة الأزلية والمناسبة الفطرية بينهم أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ المحجوبين لضد ما ذكر يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بمحو صفاتهم وإفناء ذواتهم التي هي حجب المشاهدة وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ لفرط حبهم الذي هو الرشاد الأعظم للمتصف به:
وإذا الفتى عرف الرشاد لنفسه | هانت عليه ملامة العذال |
أجد الملامة في هواك لذيذة | حبا لذكرك فليلمني اللوّم |
ولا يخفى على المتأمل أن المآل متحد والمورد واحد، ومما تقرر يعلم أن قول الحلبي، ويحتمل وجها آخر وهو أن وليا زنة فعيل، وقد نص أهل اللسان أنه يقع للواحد والاثنين والجمع تذكيرا وتأنيثا بلفظ واحد- كصديق- غير واقع موقعه لأن الكلام في سر بياني وهو نكتة العدول من لفظ إلى لفظ، ولا يرد على ما قدمنا أنه لو كان التقدير كذلك لنا في حصر الولاية في الله تعالى ثم إثباتها للرسول صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين، لأن الحصر باعتبار أنه سبحانه الولي أصالة وحقيقة، وولاية غيره إنما هي بالإسناد إليه عز شأنه الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ بدل من الموصول الأول، أو صفة له باعتبار إجرائه مجرى الأسماء لأن الموصول وصلة إلى وصف المعارف بالجمل صفحة رقم 333
والوصف لا يوصف إلا بالتأويل، ويجوز أن يعتبر منصوبا على المدح، ومرفوعا عليه أيضا، وفي قراءة عبد الله «- والذين يقيمون الصلاة» بالواو وَهُمْ راكِعُونَ حال من فاعل الفعلين أي يعملون ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهم خاشعون ومتواضعون لله تعالى.
وقيل: هو حال مخصوصة بإيتاء الزكاة، والركوع ركوع الصلاة، والمراد بيان كمال رغبتهم في الإحسان ومسارعتهم إليه، وغالب الأخباريين على أنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه،
فقد أخرج الحاكم وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بإسناد متصل قال: «أقبل ابن سلام ونفر من قومه آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا:
يا رسول الله إن منازلنا بعيدة وليس لنا مجلس ولا متحدث دون هذا المجلس وإن قومنا لما رأونا آمنا بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وصدقناه رفضونا وآلوا على نفوسهم أن لا يجالسونا ولا يناكحونا ولا يكلمونا فشق ذلك علينا، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنما وليكم الله ورسوله، ثم إنه صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع فبصر بسائل، فقال: هل أعطاك أحد شيئا؟ فقال: نعم خاتم من فضة، فقال: من أعطاكه؟ فقال: ذلك القائم، وأومأ إلى علي كرم الله تعالى وجهه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: على أي حال أعطاك؟ فقال: وهو راكع، فكبر النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم تلا هذه الآية» فأنشأ حسان رضي الله تعالى عنه يقول:
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي | وكل بطيء في الهدى ومسارع |
أيذهب مدحيك المحبر ضائعا | وما المدح في جنب الإله بضائع |
فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا | زكاة فدتك النفس يا خير راكع |
فأنزل فيك الله خير ولاية | وأثبتها أثنا كتاب الشرائع |
وقد أجاب أهل السنة عن ذلك بوجوه: الأول النقض بأن هذا الدليل كما يدل بزعمهم على نفي إمامة الأئمة المتقدمين كذلك يدل على سلب الإمامة عن الأئمة المتأخرين كالسبطين رضي الله تعالى عنهما وباقي الاثني عشر رضي الله تعالى عنهم أجمعين بعين ذلك التقرير، فالدليل يضر الشيعة أكثر مما يضر أهل السنة كما لا يخفى، ولا يمكن أن يقال: الحصر إضافي بالنسبة إلى من تقدمه لأنا نقول: إن حصر ولاية من استجمع تلك الصفات لا يفيد إلا إذا كان حقيقيا، بل لا يصح لعدم استجماعها فيمن تأخر عنه كرم الله تعالى وجهه، وإن أجابوا عن النقض بأن المراد حصر الولاية في الأمير كرم الله تعالى وجهه في بعض الأوقات أعني وقت إمامته لا وقت إمامة السبطين ومن بعدهم رضي الله تعالى عنهم «قلنا» فمرحبا بالوفاق إذ مذهبنا أيضا أن الولاية العامة كانت له وقت كونه إماما لا قبله وهو زمان خلافة الثلاثة، ولا بعده وهو زمان خلافة من ذكر. صفحة رقم 334
«فإن قالوا» إن الأمير كرم الله تعالى وجهه لو لم يكن صاحب ولاية عامة في عهد الخلفاء يلزمه نقص بخلاف وقت خلافة أشباله الكرام رضي الله تعالى عنهم فإنه لما لم يكن حيا لم تصر إمامة غيره موجبة لنقص شرفه الكامل لأن الموت رافع لجميع الأحكام الدنيوية «يقال» هذا فرار وانتقال إلى استدلال آخر ليس مفهوما من الآية إذ مبناه على مقدمتين: الأول أن كون صاحب الولاية العامة في ولاية الآخر- ولو في وقت من الأوقات- غير مستقل بالولاية نقص له، والثانية أن صاحب الولاية العامة لا يلحقه نقص ما بأي وجه وأي وقت كان، وكلتهما لا يفهمان من الآية أصلا كما لا يخفى على ذي فهم، على أن هذا الاستدلال منقوض بالسبطين زمن ولاية الأمير كرم الله تعالى وجهه، بل وبالأمير أيضا في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، والثاني أنا لا نسلم الإجماع على نزولها في الأمير كرم الله تعالى وجهه، فقد اختلف علماء التفسير في ذلك،
فروى أبو بكر النقاش صاحب التفسير المشهور عن محمد الباقر رضي الله تعالى عنه أنها نزلت في المهاجرين والأنصار،
وقال قائل: نحن سمعنا أنها نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه،
فقال: هو منهم يعني أنه كرم الله تعالى وجهه داخل أيضا في المهاجرين والأنصار ومن جملتهم.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الملك بن أبي سليمان وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الباقر رضي الله تعالى عنه أيضا نحو ذلك، وهذه الرواية أوفق بصيغ الجمع في الآية، وروى جمع من المفسرين عن عكرمة أنها نزلت في شأن أبي بكر رضي الله تعالى عنه، والثالث أنا لا نسلم أن المراد بالولي المتولي للأمور والمستحق للتصرف فيها تصرفا عاما، بل المراد به الناصر لأن الكلام في تقوية قلوب المؤمنين وتسليها وإزالة الخوف عنها من المرتدين وهو أقوى قرينة على ما ذكره، ولا يأباه الضم كما لا يخفى على من فتح الله تعالى عين بصيرته، ومن أنصف نفسه علم أن قوله تعالى فيما بعد: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ آب عن حمل الولي على ما يساوي الإمام الأعظم لأن أحدا لم يتخذ اليهود والنصارى والكفار أئمة لنفسه وهم أيضا لم يتخذ بعضهم بعضا إماما، وإنما اتخذوا أنصارا وأحبابا، وكلما إِنَّما المفيدة للحصر تقتضي ذلك المعنى أيضا لأن الحصر يكون فيما يحتمل اعتقاد الشركة والتردد والنزاع، ولم يكن بالإجماع وقت نزول هذه الآية تردد ونزاع في الإمامة وولاية التصرف بل كان في النصرة والمحبة، والرابع أنه لو سلّم أن المراد ما ذكروه فلفظ الجمع عام، أو مساو له- كما ذكره المرتضى في الذريعة، وابن المطهر في النهاية- والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب كما اتفق عليه الفريقان، فمفاد الآية حينئذ حصر الولاية العامة لرجال متعددين يدخل فيهم الأمير كرم الله تعالى وجهه، وحمل العام على الخاص خلاف الأصل لا يصح ارتكابه بغير ضرورة ولا ضرورة.
«فإن قالوا» : الضرورة متحققة هاهنا إذ التصدق على السائل في حال الركوع لم يقع من أحد غير الأمير كرم الله تعالى وجهه «قلنا» ليست الآية نصا في كون التصدق واقعا في حال ركوع الصلاة لجواز أن يكون الركوع بمعنى التخشع والتذلل لا بالمعنى المعروف في عرف أهل الشرع كما في قوله:
لا تهين الفقير علك أن | تركع يوما والدهر قدر رفعه |
حمل الركوع في الآية على غير معناه الشرعي بأبعد من حمل الزكاة المقرونة بالصلاة على مثل ذلك التصدق، وهو لازم على مدعى الإمامية قطعا.
وقال بعض منا أهل السنة: إن حمل الركوع على معناه الشرعي وجعل الجملة حالا من فاعل يُؤْتُونَ يوجب قصورا بينا في مفهوم يُقِيمُونَ الصَّلاةَ إذ المدح والفضيلة في الصلاة كونها خالية عما لا يتعلق بها من الحركات سواء كانت كثيرة أو قليلة، غاية الأمر أن الكثيرة مفسدة للصلاة دون القليلة ولكن تؤثر قصورا في معنى إقامة الصلاة البتة، فلا ينبغي حمل كلام الله تعالى الجليل على ذلك انتهى.
وبلغني أنه قيل لابن الجوزي رحمه الله تعالى: كيف تصدّق علي كرم الله تعالى وجهه بالخاتم وهو في الصلاة والظن فيه- بل العلم الجازم- أن له كرم الله تعالى وجهه شغلا شاغلا فيها عن الالتفات إلى ما لا يتعلق بها، وقد حكي مما يؤيد ذلك كثير، فأنشأ يقول:
يسقي ويشرب لا تلهيه سكرته | عن النديم ولا يلهو عن الناس |
أطاعه سكره حتى تمكن من | فعل الصحاة فهذا واحد الناس |
ويرد عليه أنه مع تسليم المقدمات أين اللزوم بين الدليل والمدعى وكيف استنتاج المتعين من المطلق، وأيضا لا يخفى على من له أدنى تأمل أن موالاة المؤمنين من جهة الإيمان أمر عام بلا قيد ولا جهة، وترجع إلى موالاة إيمانهم في الحقيقة، والبغض لسبب غير ضار فيها، وأيضا ماذا يقول في قوله سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: ٧١] الآية، وأيضا ماذا يجاب عن معاداة الكفار وكيف الأمر فيها وهم أضعاف المؤمنين؟؟ ومتى كفت الملاحظة الإجمالية هناك فلتكف هنا. وأنت تعلم أن ملاحظة الكثرة بعنوان الوحدة مما لا شك في وقوعها فضلا عن إمكانها، والرجوع إلى علم الوضع يهدي لذلك، والمحذور كون الموالاة الثلاثة في مرتبة واحدة وليس فليس إذ الأولى أصل، والثانية تبع والثالثة تبع التبع، فالمحمول مختلف، ومثله الموضوع إذ الموالاة من الأمور العامة وكالعوارض المشككة، والعطف موجب للتشريك في الحكم لا في جهته، فالموجود في الخارج صفحة رقم 336
الواجب والجوهر، والعرض مع أن نسبة الوجود إلى كل غير نسبته إلى الآخر، والجهة مختلفة بلا ريب، وهذا قوله سبحانه: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يونس: ١٠٨] مع أن الدعوة واجبة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم مندوبة في غيره، ولهذا قال الأصوليون: القرآن في النظم لا يوجب القرآن في الحكم، وعدوا هذا النوع من الاستدلال من المسالك المردودة، ثم انه أجاب عن حديث عدم وقوع التردد مع اقتضاء إِنَّما له بأنه يظهر من بعض أحاديث أهل السنة أن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم التمسوا من حضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم الاستخلاف،
فقد روى الترمذي عن حذيفة «أنهم قالوا: يا رسول الله لو استخلفت؟ قال: لو استخلفت عليكم فعصيتموه عذبتم ولكن ما حدثكم حذيفة فصدقوه وما أقرأكم عبد الله فاقرؤوه»
وأيضا استفسروا منه عليه الصلاة والسلام عمن يكون إماما بعده صلّى الله عليه وسلّم،
فقد أخرج أحمد عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: يا رسول الله من نؤمر بعدك؟ قال: إن تؤمروا أبا بكر رضي الله تعالى عنه تجدوه أمينا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، وإن تؤمروا عمر رضي الله تعالى عنه تجدوه قويا أمينا لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمروا عليا- ولا أراكم فاعلين- تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الصراط المستقيم»
وهذا الالتماس والاستفسار يقتضي كل منهما وقوع التردد في حضوره صلّى الله عليه وسلّم عند نزول الآية، فلم يبطل مدلول إِنَّما انتهى، وفيه أن محض السؤال والاستفسار لا يقتضي وقوع التردد، نعم لو كانوا شاوروا في هذا الأمر ونازع بعضهم بعضا بعد ما سمعوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم جواب ما سألوه لتحقق المدلول، وليس فليس، ومجرد السؤال والاستفسار غير مقتض- لإنما- ولا من مقاماته بل هو من مقامات- إن- والفرق مثل الصبح ظاهر، وأيضا لو سلمنا التردد، ولكن كيف العلم بأنه بعد الآية أو قبلها منفصلا أو متصلا سببا للنزول أو اتفاقيا، ولا بد من إثبات القبيلة والاتصال والسببية، وأين ذلك؟ والاحتمال غير مسموع ولا كاف في الاستدلال.
وبعد هذا كله الحديث الثاني ينافي الحصر صريحا لأنه صلّى الله عليه وسلّم في مقام السؤال عن المستحق للخلافة ذكر الشيخين، فإن كانت الآية متقدمة لزم مخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم القرآن أو بالعكس لزم التكذيب، والنسخ لا يعقل في الأخبار على ما قرر، ومع ذا تقدم كل على الآخر مجهول فسقط العمل.
فإن قالوا: الحديث خبر الواحد وهو غير مقبول في باب الإمامة «قلنا» وكذلك لا يقبل في إثبات التردد والنزاع الموقوف عليه التمسك بالآية، والحديث الأول يفيد أن ترك الاستخلاف أصلح فتركه- كما تفهمه الآية بزعمهم- تركه، وهم لا يجوزونه فتأمل، وذكر الطبرسي في مجمع البيان وجها آخر غير ما ذكره صاحب إظهار الحق في أن الولاية مختصة، وهو أنه سبحانه قال: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ فخاطب جميع المؤمنين، ودخل في الخطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيره، ثم قال تعالى: وَرَسُولُهُ فأخرج نبيه عليه الصلاة والسلام من جملتهم لكونهم مضافين إلى ولايته، ثم قال جل وعلا: وَالَّذِينَ آمَنُوا فوجب أن يكون الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية، وإلا لزم أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه، وأن يكون كل واحد من المؤمنين ولي نفسه وذلك محال انتهى.
وأنت تعلم أن المراد ولاية بعض المؤمنين بعضا لا أن يكون كل واحد منهم ولي نفسه، وكيف يتوهم من قولك مثلا: أيها الناس لا تغتابوا الناس أنه نهي لكل واحد من الناس أن يغتاب نفسه،
وفي الخبر أيضا «صوموا يوم يصوم الناس»
ولا يختلج في القلب أنه أمر لكل أحد أن يصوم يوم يصوم الناس، ومثل ذلك كثير في كلامهم، وما قدمناه في سبب النزول ظاهر في أن المخاطب بذلك ابن سلام وأصحابه، وعليه لا إشكال إلا أن ذلك لا يعتبر مخصصا كما لا يخفى، فالآية على كل حال لا تدل على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه على الوجه الذي تزعمه الإمامية، وهو ظاهر لمن تولى الله تعالى حفظ ذهنه عن غبار العصبية.
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا أي ومن يتخذهم أولياء، وأوثر الإظهار على الإضمار رعاية لما مر من نكتة بيان أصالته تعالى في الولاية كما ينبئ عنه قوله تعالى: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ حيث أضيف الحزب- أي الطائفة والجماعة مطلقا، أو الجماعة التي فيها شدة- إليه تعالى خاصة وفي هذا- على رأي وضع الظاهر موضع الضمير أيضا العائد إلى مَنْ أي فإنهم الغالبون لكنهم جعلوا حزب الله تعالى- تعظيما لهم وإثباتا لغلبتهم بالطريق البرهاني كأنه قيل: ومن يتول هؤلاء فإنهم حزب الله تعالى وحزب الله تعالى هم الغالبون.
والجملة دليل الجواب عند كثير من المعربين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً أخرج ابن إسحاق وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا، وكان رجال من المسلمين يوادّونهما فأنزل الله تعالى هذه الآية، ورتب سبحانه النهي على وصف يعمهما وغيرهما تعميما للحكم وتنبيها على العلة وإيذانا بأن من هذا شأنه جدير بالمعاداة فكيف بالموالاة، والهزؤ- كما في الصحاح- السخرية، تقول: هزئت منه، وهزئت به- عن الأخفش- واستهزأت به وتهزأت، وهزأت به أيضا هزؤا ومهزأة- عن أبي زيد- ورجل هزأة بالتسكين أي يهزأ به، وهزأة بالتحريك يهزأ بالناس، وذكر الزجاج أنه يجوز في هُزُواً أربعة أوجه: الأول- «هزؤ» - بضم الزاي مع الهمزة وهو الأصل والأجود، والثاني- «هزو» - بضم الزاي مع إبدال الهمزة واوا لانضمام ما قبلها، والثالث- «هزأ» - بإسكان الزاي مع الهمزة، والرابع- هزى- كهدى، ويجوز القراءة بما عدا الأخير، واللعب- بفتح أوله وكسر ثانيه كاللعب، واللعب بفتح اللام وكسرها مع سكون العين، والتلعاب مصدر لعب كسمع، وهو ضد الجد كما في القاموس، وفي مجمع البيان: هو الأخذ على غير طريق الجد، ومثله العبث، وأصله من لعاب الصبي يقال: لعب كسمع، ومنع إذا سال لعابه وخرج إلى غير جهة، والمصدران: إما بمعنى اسم المفعول، أو الكلام على حذف مضاف أو قصد المبالغة، وقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ في موضع الحال من الَّذِينَ قبله، أو من فاعل- اتخذوا- والتعرض لعنوان إيتاء الكتاب لبيان كمال شناعتهم وغاية ضلالتهم لما أن إيتاء الكتاب وازع لهم عن اتخاذ دين المؤمنين المصدقين بكتابهم هُزُواً وَلَعِباً وَالْكُفَّارَ أي المشركين، وقد ورد بهذا المعنى في مواضع من القرآن وخصوا به لتضاعف كفرهم، وهو عطف على الموصول الأول، وعليه لا تصريح باستهزائهم هنا، وإن أثبت لهم في آية إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: ٩٥] إذ المراد بهم مشركو العرب، ولا يكون النهي حينئذ بالنظر إليهم معللا بالاستهزاء بل نهوا عن موالاتهم ابتداء، وقرأ الكسائي وأهل البصرة وَالْكُفَّارَ بالجر عطفا على الموصول الأخير، ويعضد ذلك قراءة أبيّ- ومن الكفار- وقراءة عبد الله «ومن الذين أشركوا» فهم أيضا من جملة المستهزئين صريحا، وقوله تعالى: أَوْلِياءَ مفعول ثاني- للاتتخذوا- والمراد جانبوهم كل المجانبة وَاتَّقُوا اللَّهَ في ذلك بترك موالاتهم، أو بترك المناهي على الإطلاق فيدخل فيه ترك موالاتهم دخولا أوليا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حقا فإن قضية الإيمان توجب الاتقاء لا محالة وَإِذا نادَيْتُمْ أي دعا بعضكم بعضا إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها أي الصلاة، أو المناداة إليها هُزُواً وَلَعِباً.
أخرج البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نادى بالصلاة فقام المسلمون إليها قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا، فإذا رأوهم ركعا وسجدا استهزؤوا بهم وضحكوا منهم، وأخرج ابن جرير وغيره عن السدي قال: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي- أشهد أن محمدا رسول الله- قال: حرق الكاذب، فدخلت خادمه ذات ليلة بنار وهو نائم وأهله نيام فسقطت شرارة فأحرقت البيت وأحرق هو وأهله، والكلام مسوق لبيان استهزائهم بحكم خاص من أحكام الدين بعد