آيات من القرآن الكريم

وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ
ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ

الحكم بشريعة القرآن
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٨ الى ٥٠]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
الإعراب:
مُصَدِّقاً ومُهَيْمِناً منصوبان على الحال من الْكِتابَ.
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ معطوف على قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وتقديره: أنزلنا إليك بالحق وبأن احكم بينهم.
أَنْ يَفْتِنُوكَ في موضع نصب على البدل من الهاء والميم في وَاحْذَرْهُمْ وتقديره:
واحذر أن يفتنوك، وهذا بدل الاشتمال. ويجوز أن يكون مفعولا لأجله.
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عطف على قوله: فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ. وإنما كسر أَنِ لدخول اللام في الخبر، كقوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [المنافقون ٦٣/ ١] فكسر أَنِ في هذه المواضع لدخول اللام في الخبر لأنها في تقدير التقديم، فعلقت الفعل عن العمل.

صفحة رقم 213

البلاغة:
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي بادروا فعل الخيرات، وفيه استعارة حيث شبههم بالمتسابقين على ظهور الخيل لأن كل واحد ينافس صاحبه في السبق لبلوغ الغاية المقصودة. أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ استفهام إنكاري.
المفردات اللغوية:
وَمُهَيْمِناً رقيبا وحافظا لما تقدمه من سائر الكتب وشاهدا عليها وشاهدا لها بالصحة والثبات مِنَ الْكِتابِ بمعنى الكتب فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بين أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك عَمَّا جاءَكَ حائدا عما جاءك مِنْكُمْ أيها الأمم شِرْعَةً شريعة وهي ما شرعه الله لعباده من الدين ونظامه وأحكامه وَمِنْهاجاً طريقا واضحا مستمرا يسير عليه الناس في الدين، قيل: هذا دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً جماعة متفقة على شريعة واحدة، أو ذوي أمة واحدة أي دين واحد لا اختلاف فيه وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ: ولكن أراد ليختبركم فيما ألزمكم به من الشرائع المختلفة بحسب كل عصر، ليرى هل تعملون بها مذعنين معتقدين أنها مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات، معترفين بأن الله لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة، أم تتبعون الشبه وتفرّطون في العمل؟! فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ بادروا وسارعوا إليها إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر الدين، ويجزي كلا منكم بعمله.
أَنْ يَفْتِنُوكَ لئلا يضلوك عنه أو يميلوا بك من الحق إلى الباطل فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الحكم المنزل وأرادوا غيره فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ أي يعاقبهم في الدنيا بذنب التولي عن حكم الله وإرادة خلافه، فوضع بعض ذنوبهم موضع ذلك، وأراد أن لهم ذنوبا جمة كثيرة العدد، وأن هذا الذنب مع عظمه بعضها وواحد منها. وهذا الإبهام لتعظيم التولي عن حكم الله وإسرافهم في ارتكابه.
لَفاسِقُونَ لمتمردون في الكفر معتدون فيه، يعني أن التولي عن حكم الله من التمرد العظيم والاعتداء في الكفر يَبْغُونَ يطلبون من المداهنة والميل إذا تولوا. لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ اللام للبيان، أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنهم الذين يتيقنون أن لا أعدل من الله ولا أحسن حكما منه.

صفحة رقم 214

سبب النزول:
نزول الآية وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ.. [٤٩] : روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسيد، وعبد الله بن صوريا، وشاس بن قيس: اذهبوا بنا إلى محمد، لعلنا نفتنه عن دينه، فجاءوه، فقالوا: يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وأنا إن اتبعناك اتبعتنا يهود، ولم يخالفونا، وأن بيننا وبين قومنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن بك، فأبى ذلك، وأنزل الله فيهم: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ إلى قوله: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ؟ فيه كما قال الزمخشري وجهان:
أحدهما- أن بني قريظة والنضير طلبوا إليه أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى،
وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: القتلى سواء، فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك، فنزلت.
والثاني- أن يكون تعييرا لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم، وهم يبغون حكم الملة الجاهلية التي هي هوى وجهل لا تصدر عن كتاب، ولا ترجع إلى وحي من الله تعالى.
وعن الحسن: هو عام في كل من يبغي غير حكم الله. والحكم حكمان: حكم بعلم فهو حكم الله، وحكم بجهل فهو حكم الشيطان.
وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض، فقرأ هذه الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه، والإنجيل الذي أنزله على عيسى كلمته، وذكر ما فيهما من هدى ونور، وأمر باتباعهما حيث كانا

صفحة رقم 215

سائغي الاتباع، شرع في ذكر القرآن العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم، وأبان منزلته من الكتب المتقدمة قبله، وأن الحكمة اقتضت تعدد الشرائع والمناهج لهداية البشر بحسب الأحوال والأزمان.
التفسير والبيان:
وأنزلنا إليك أيها النبي القرآن الكريم الذي أكملنا به الدين، مشتملا على الحق والصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت ٤١/ ٤٢] مصدقا ومؤيدا للكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل، المتضمنة ذكره ومدحه وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأن تلك الكتب من عند الله، وأن موسى وعيسى رسولان من عند الله، لم يفتريا على الله كذبا، وإنما أنتم وآباؤكم حرفتم ونسيتم كثيرا مما أوتيتم.
والقرآن جاء أيضا مهيمنا، أي حاكما على ما قبله من الكتب، وشاهدا عليها بما نزل فيها، وشاهدا لها بالصحة والثبات في أصلها، ومبينا حقيقة أمرها، وما طرأ عليها من نسيان وتحريف وتبديل.
قال ابن عباس وابن جريج وآخرون: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ: القرآن أمين مؤتمن على ما تقدمه من الكتب، فيما إذا أخبرنا أهل الكتاب في كتابهم بأمر: إن كان في القرآن فصدقوا، وإلا فكذبوا «١».
وإذا كان هذا شأن القرآن ومنزلته، فاحكم يا محمد وكذا كل حاكم، بين أهل الكتاب وبين الناس قاطبة، احكم بما أنزل الله إليك فيه من الأحكام، دون ما أنزله إليهم إذ شريعتك ناسخة لشريعتهم.
احكم بما في هذا الكتاب العظيم وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من

(١) تفسير الطبري: ٦/ ١٧٢

صفحة رقم 216

الأنبياء ولم ينسخ في شرعك، ولا تتبع أهواءهم أي آراءهم التي اصطلحوا عليها، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله، ولا تنصرف ولا تمل ولا تعدل عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء الجهلة الأشقياء، وما أحدثوا من تحريف وتبديل لحكم الرجم والقصاص في القتلى والبشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وغيرها.
ثم استأنف الله تعالى الكلام، فقال: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً أي لكل أمة من الأمم جعلنا شريعة أوجبنا عليهم إقامة أحكامها، ومنهاجا وطريقا واضحا فرضنا عليهم سلوكه، حسبما تقتضي أحوال المجتمعات وطبائع البشر واستعداداتهم وتطور الأزمان، وإن كانت تلك الشرائع متفقة في أصول الدين وهي توحيد الله وعبادته وحده، وفي أصول الأخلاق والفضائل.
قال الألوسي عن آية: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً: استئناف جيء به لحمل أهل الكتاب من معاصريه صلّى الله عليه وسلّم على الانقياد لحكمه عليه الصلاة والسلام بما أنزل الله تعالى إليه من الحق، ببيان أنه هو الذي كلفوا العمل به دون غيره مما في كتابهم، وإنما الذي كلفوا العمل به: من مضى قبل النسخ. والخطاب- كما قال جماعة من المفسرين- للناس كافة، الموجودين والماضين بطريق التغليب.
فلكل أمة من الأمم الباقية والخالية وضعنا شرعة ومنهاجا خاصين بتلك الأمة، لا تكاد أمة تتخطى شرعتها والأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام، شرعتهم: ما في التوراة والتي كانت من مبعث عيسى إلى مبعث أحمد عليهما السلام، شرعتهم: ما في الإنجيل وجميع أمم أهل الأرض من مبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة، شرعتهم الوحيدة المقبولة عند الله:
ما في القرآن، ليس إلا، فآمنوا به واعملوا بما فيه «١» لأن محمدا خاتم النبيين، وهو رسول إلى الناس كافة، وشريعته أكمل الشرائع وأوفاها، وقرآنه هو الكتاب

(١) تفسير الألوسي: ٦/ ١٥٣

صفحة رقم 217

الوحيد الباقي للبشرية دون تغيير ولا تبديل، وثابت ثبوتا قطعيا يقينيا لا شك ولا ريب فيه. والشرعة أو الشريعة عرفا: هي الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الرسل وينسخ اللاحق منها السابق. والدين: هو الأصول الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأنبياء.
ثم خاطب الله تعالى جميع الأمم، وأخبر عن قدرته الفائقة أنه لو شاء لجعل الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حدة إذ لا تصلح شريعة واحدة لكل الأزمان والشعوب، بسبب تفاوتهم في الرقي والنضج العقلي، فلما تقاربت البشرية شرع لها شريعة واحدة، وأن الهدف من تشريعه شرائع مختلفة: هو اختبار عباده فيما شرع لهم، لينظر الطائع فيثيبه، والعاصي بما فعله أو عزم عليه فيعاقبه.
ثم ندب الله تعالى الناس إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها، فقال:
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي ابتدروها وتسابقوا نحو الطاعات، وتنافسوا في طاعة الله واتباع شرعه الذي جعله ناسخا لما قبله، وصدقوا تصديقا يقينيا بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله، وذلك كله لخيركم وصلاحكم، ولإحراز الفضل والرضا الإلهي، فإلى الله معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة، فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق، فيجزي الصادقين بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق، العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان.
ثم أكد الله تعالى ما تقدم من الأمر بالحكم بما أنزل الله، فقال: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ.. أي ألزمناك الحكم بالمنزل عليك، ولا تتبع أهواء المعاندين، واحذر أعداءك اليهود أن يضلوك عن الحق، ويدلسوه عليك فيما يخبرونك من أمور، فلا تغتر بهم فإنهم كذبة كفرة خونة. ومعنى: عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ: عن كل ما أنزل الله إليك، والبعض يستعمل بمعنى الكل. وقال ابن

صفحة رقم 218

العربي: والصحيح أن بَعْضِ على حالها في هذه الآية، وأن المراد به الرجم.
فإن أعرضوا عما تحكم به بينهم من الحق وخالفوا شرع الله، فلا تبال بهم، واعلم أن ذلك كائن عن قدرة الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى، بسبب ما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم، ويريد الله أن يعذبهم في الدنيا قبل الآخرة ببعض ذنوبهم، وهو التولي والإعراض عن حكم الله وشرعه، وعما تحكم به، وقد تحقق ذلك العذاب بسبب غدر اليهود،
فأجلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بني النضير عن المدينة، وقتل بني قريظة.
أما بقية ذنوبهم الكثيرة فيعاقبون عليها بعذاب أليم في الدار الآخرة، وإن كثيرا من الناس لفاسقون، أي متمردون في الكفر، مخالفون للحق وحائدون عنه، وخارجون عن حدود الشرع والدين والعقل. وفي هذا مواساة وتسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم على عدم قبولهم الحق الذي جاء به.
ثم ندد الله تعالى باليهود الذين يريدون التمييز بين القتلى بحسب نوع القبيلة، ويريدون تحكيم أهواء الجاهلية، مع أنهم أهل كتاب، فوجه هذا الاستفهام الإنكاري لهم ولأمثالهم بقوله: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ أي أيتولون عن قبول حكمك بما أنزل الله، وهو الحق والعدل والصواب، تم يطلبون حكم الجاهلية القائم على الجور والظلم والهوى، فهذا توبيخ وتعجب من حالهم، وإنكار على كل من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير، إلى ما سواه من الآراء والأهواء، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات التي يضعونها بآرائهم المعوجة وأهوائهم الطائشة.
هذا الخطاب في الآية وهذا الاستفهام والتعجب والإنكار إنما هو موجه لقوم يوقنون بحقيقة الدين، ويذعنون لشرع الله، ويدركون أنه لا أعدل من الله ولا أحسن حكما منه.

صفحة رقم 219

وفسره القرطبي فقال: لا أحد أحسن من الله حكما (نصب على البيان والتمييز) عند قوم يوقنون.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- هناك جسور التقاء واضحة بين القرآن وما تقدمه من الكتب كالتوراة والإنجيل لأن هذه الكتب وصفت كلها بأنها هدى ونور، ونواحي الالتقاء هي في أصول الاعتقاد كتوحيد الإله وربوبيته وإثبات النبوة والمعاد، وفي أصول الأحكام التشريعيه كعبادة الله تعالى والصوم والصلاة والزكاة، وأصول الأخلاق والفضائل كالأمانة والصدق وتحريم الزنى والسرقة وجرائم العرض، وذلك كله في التوراة والإنجيل الأصليين المنزلين على موسى وعيسى.
إلا أن القرآن وإن جاء مصدقا ومؤيدا لتلك الكتب في أصول الشرع والدين المذكورة، إلا أنه حاكم عليها ومهيمن على ما جاء فيها، فلا يعمل بحكم فيهما عارض القرآن.
٢- إذا ترافع أهل الذمة إلينا وجب الحكم بينهم بشريعة الإسلام، لا بشرع سابق، للآية: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قيل: هذا نسخ للتخيير السابق في قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة ٥/ ٤٢] وهذا رأي الجمهور.
وقال الشافعية: لا تعارض بين الآيتين، ولا حاجة للنسخ لأن الآية الأولى في المعاهدين، والثانية في الذميين.
٣- النبي صلّى الله عليه وسلّم وكل مسلم منهي ومحرم عليه أن يترك الحكم بما بيّن الله تعالى من القرآن من بيان الحق وبيان الأحكام.
٤- الله قادر على توحيد الشعوب والأمم والجماعات وجعلهم على ملة

صفحة رقم 220

واحدة، وعقيدة واحدة، وشريعة واحدة، فكانوا على الحق. ولكن الحكمة الإلهية اقتضت جعل الشرائع مختلفة للاختبار.
٥- المبادرة إلى الطاعات والتنافس في فعل الخيرات سمة الأتقياء الصالحين، ودل قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها، وذلك لا اختلاف فيه في العبادات كلها، إلا في الصلاة في أول الوقت، فإن أبا حنيفة يرى أن الأولى تأخيرها، وعموم الآية دليل عليه.
وفيه دليل أيضا على أن الصوم في السفر أولى من الفطر.
٦- في قوله تعالى: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ دليل على جواز النسيان على النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه قال: أَنْ يَفْتِنُوكَ وإنما يكون ذلك عن نسيان لا عن تعمد.
٧- إن إباء حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم والإعراض عنه سبب للمصائب في الدنيا لأن الله تعالى قال في اليهود: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ أي يعذبهم بالجلاء والقتل وفرض الجزية. وإنما قال بِبَعْضِ لأن المجازاة بالبعض كانت كافية في التدمير عليهم.
٨- كان العرب في الجاهلية يجعلون حكم الشريف خلاف حكم الوضيع، وكان اليهود يفعلون مثلهم، فيقيمون الحدود على الضعفاء الفقراء، ولا يقيمونها على الأقوياء الأغنياء، لذا أنكر الله عليهم بقوله: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ.
ومن أفعال الجاهلية تفضيل بعض الأولاد على بعض في الهبة أو العطية، فإن فعل لم ينفذ وفسخ، وهو قول الحنابلة والظاهرية
لقوله عليه الصلاة والسلام لبشير في حديث النعمان الآتي تخريجه: «ألك ولد سوى هذا؟» قال: نعم، فقال: «أكلّهم وهبت له مثل هذا؟» فقال: لا، قال: «فلا تشهدني إذن، فإني لا أشهد على جور»
وفي رواية: «وإني لا أشهد إلا على حق»
قالوا: وما كان جورا وغير حق فهو باطل لا يجوز،
وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث

صفحة رقم 221
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية