
و"المتقون"، هم الذين خافوا الله وحَذِروا عقابه، فاتقوه بطاعته فيما أمرهم، وحذروه بترك ما نهاهم عن فعله. وقد مضى البيان عن ذلك بشواهده قبل، فأغنى ذلك عن إعادته. (١)
* * *
القول في تأويل قوله عزّ ذكره: ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤٧) ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله:"وليحكم أهل الإنجيل".
فقرأته قرأة الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين: (٢) "وَلْيَحْكُمْ" بتسكين"اللام"، على وجه الأمر من الله لأهل الإنجيل: أن يحكموا بما أنزل الله فيه من أحكامه. وكأنّ من قرأ ذلك كذلك، أراد: وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونورٌ ومصدقًا لما بين يديه من التوراة، وأمرنا أهْلَه أن يحكموا بما أنزل الله فيه= فيكون في الكلام محذوف، ترك استغناءً بما ذكر عما حُذِف.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ) بكسر"اللام"، من"ليحكم"، بمعنى: كي يحكم أهل الإنجيل. وكأنّ معنى من قرأ ذلك كذلك: وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونورٌ ومصدقًا لما بين يديه من التوراة، كي يحكم أهله بما فيه من حكم الله.
* * *
والذي نقول به في ذلك، (٣) أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، فبأيِّ ذلك قرأ قارئ فمصيبٌ فيه الصوابَ.
(٢) في المطبوعة: "فقرأ قراء الحجاز... "، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "والذي يتراءى في ذلك"، وفي المخطوطة: "وللذي يترك [محذوفة النقط] به في ذلك"، وأرجح أن صواب قراءتها ما أثبت.

وذلك أن الله تعالى لم ينزل كتابًا على نبيٍّ من أنبيائه إلا ليعمل بما فيه أهله الذين أمروا بالعمل بما فيه، ولم ينزله عليهم إلا وقد أمرهم بالعمل بما فيه، فللعمل بما فيه أنزله، وأمرًا بالعمل بما فيه أنزله. (١) فكذلك الإنجيل، إذ كان من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه، فللعمل بما فيه أنزله على عيسى، وأمرًا بالعمل به أهلَه أنزله عليه. (٢) فسواءٌ قرئ على وجه الأمر بتسكين"اللام"، أو قرئ على وجه الخبر بكسرها، لاتفاق معنييهما.
* * *
وأما ما ذكر عن أبيّ بن كعب من قراءته ذلك (وأن ليحكم) على وجه الأمر، فذلك مما لم يَصِحّ به النقل عنه. ولو صحّ أيضا، لم يكن في ذلك ما يوجب أن تكون القراءة بخلافه محظورةً، إذ كان معناها صحيحًا، وكان المتقدّمون من أئمة القرأة قد قرأوا بها.
* * *
وإذ كان الأمر في ذلك على ما بيَّنَّا، فتأويل الكلام، إذا قرئ بكسر"اللام" من"ليحكم": وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل فيه هدًى ونورٌ ومصدقًا لما بين يديه من التوراة وهدًى وموعظة للمتقين، وكيْ يحكم أهلُ الإنجيل بما أنزلنا فيه، فبدّلوا حكمه وخالفوه، فضلُّوا بخلافهم إياه إذ لم يحكموا بما أنزل الله فيه وخالفوه="فأولئك هم الفاسقون"، يعني: الخارجين عن أمر الله فيه، المخالفين له فيما أمرهم ونهاهم في كتابه.
* * *
فأما إذا قرئ بتسكين"اللام"، فتأويله: وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل، فيه هدى ونورٌ ومصدقا لما بين يديه من التوراة، وأمرنا أهله أن يحكُموا بما أنزلنا
(٢) في المطبوعة، أسقط قوله: "أنزله عليه" وكتب"وأمر بالعمل به أهله"، فأخل بمقصد أبي جعفر، كما فعل بالجملة السالفة. انظر التعليق السالف.

فيه، فلم يطيعونا في أمرنا إياهم بما أمرناهم به فيه، ولكنهم خالفوا أمرنا، فالذين خالفوا أمرنا الذي أمرناهم به فيه، هم الفاسقون.
* * *
وكان ابن زيد يقول:"الفاسقون"، في هذا الموضع وفي غيره، هم الكاذبون.
١٢١٠٣ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، قال: ومن لم يحكم من أهل الإنجيل أيضًا بذلك="فأولئك هم الفاسقون"، قال: الكاذبون. بهذا قال. وقال ابن زيد: كل شيء في القرآن إلا قليلا"فاسق" فهو كاذب. وقرأ قول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ) [سورة الحجرات: ٦] قال:"الفاسق"، ههنا، كاذب.
* * *
وقد بينا معنى"الفسق" بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
وعند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه مخطوطتنا، وفيها ما نصه:
"يتلوه القول في تأويل قوله:
﴿وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بِيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عليه﴾.
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم كثيرًا".
ثمّ يتلوه ما نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم"