
المعنى: لا يَحزنك الَّذِينَ يُسارِعونَ فِي الكفر من هؤلاء ولا «من الذين هادوا» فترفع حينئذ (سمّاعون) عَلَى الاستئناف، فيكون مثل قوله «لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ» «١» ثم قال تبارك وتعالى: «طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ» ولو قيل: سماعين، وطوّافين لكان صوابًا كما قال: «مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا» «٢» وكما قَالَ: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» «٣» ثُمَّ قَالَ: «آخِذِينَ «٤»، وفاكِهِينَ «٥»، ومُتَّكِئِينَ» «٦» والنصبُ أكثر. وقد قَالَ أيضًا فِي الرفع: «كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى» «٧» فرفع «٨» (نزَّاعة) عَلَى الاستئناف، وهي نكرة من صفة معرفة. وكذلك قوله:
«لا «٩» تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ» وَفِي قراءة أبيّ «إنَّها «١٠» لإحدى الكُبَر نَذِير لِلبشرِ» بغير ألف. فما أتاكَ من مثل هذا فى الكلام نصبته ورفعته. ونصبه عَلَى القطع وَعَلَى الحال. وَإِذَا حسن فِيهِ المدح أو الذم فهو وجهٌ ثالث. ويصلح إِذَا نصبته عَلَى الشتم أو المدح أن تنصب معرفته كما نصبت نكرته. وكذلك قوله «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ للسّحت» عَلَى ما ذكرت لك.
وقوله: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ... (٤٥)
تنصب (النفس) بوقوع (أنّ) عليها. وأنتَ فِي قوله (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بالأنف) إلى قوله (والجروح قصاص) بالخيار. إن شئت رفعت، وإن شئت
(٢) آية ٦١ سورة الأحزاب.
(٣) آية ١٥ سورة الذاريات.
(٤) آية ١٦ سورة الذاريات.
(٥) آية ١٨ سورة الطور وهى بعد قوله: «إن المتقين فى جنات ونعيم» وكأن الأمر اشتبه على المؤلف.
(٦) آية ٢٠ سورة الطور.
(٧) آيتا ١٥، ١٦ سورة المعارج.
(٨) وقرأ حفص من السبعة وبعض القرّاء من غيرهم بالنصب. [.....]
(٩) آيتا ٢٨، ٢٩ سورة المدّثر.
(١٠) آيتا ٣٥، ٣٦ سورة المدّثر.

نصبت. وقد نصب حَمْزَةُ ورفع الْكِسَائي. قَالَ الفراء: وحدّثنى إبراهيم «١» بن محمد ابن أَبِي يَحْيَى عَنْ أَبَانِ «٢» بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم قرأ: (والعين بالعين) رَفْعًا. قَالَ الفراء: فإذا رفعت الْعَيْن أتبع الكلام العين، وإن نصبنه فجائز. وقد كَانَ بعضهم ينصب كله، فإذا انتهى إلى (والجروح قصاص) رفع. وكل صواب، إِلا أن الرفع والنصب فِي عطوف إِنّ وأنّ إنّما يسهلان إِذَا كَانَ مع الاسماء أفاعيل مثل قوله (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا ريب فيها) «٣» كَانَ النصب سهلا لأن بعد الساعة خبرها. ومثله إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «٤» ومثله وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ «٥» فإذا لَمْ يكن بعد الاسم الثاني خبر رفعته، كقوله عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ «٦» وكقوله فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ «٧» وكذلك تَقُولُ: إِنَّ أخاكَ قائِم وزيد، رفعت (زيد) باتباعه الاسم المضمر فِي قائم. فابنِ عَلَى هَذَا.
وقوله «٨» : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى... (٦٩)
فإن رفع (الصَّابِئِينَ) عَلَى أَنَّهُ عطف عَلَى (الذين)، و (الذين) حرف عَلَى جهة واحدة «٩» فِي رفعه ونصبه وخفضه، فلمّا كَانَ إعرابه واحدًا وَكَانَ نصب (إنّ) نصبا
(٢) كانت وفاته سنة ١٤٠ هـ.
(٣) آية ٣٢ سورة الجاثية. وقد قرأ حمزة بالنصب والباقون بالرفع.
(٤) آية ١٢٨ سورة الأعراف. وقد قرأ بالنصب ابن مسعود.
(٥) آية ١٩ سورة الجاثية.
(٦) آية ٣ سورة التوبة.
(٧) آية ٤ سورة التحريم.
(٨) هذه الآية فصلت بين أجزاء الآية ٤٥. وقد تكرر مثل هذا فى الكتاب.
(٩) يريد أنه مبنىّ غير معرب فلا يتغير آخره.

ضعيفًا- وضعفه أَنَّهُ يقع عَلَى (الاسم «١» ولا يقع عَلَى) خبره- جاز رفع الصابئين.
ولا أستحبُّ أن أقول: إنّ عبد الله وزيد قائمانِ لتبين الإعراب فِي عبد الله. وقد كَانَ الْكِسَائي يُجيزه لضعف إنّ. وقد أنشدونا هَذَا البيت رفعًا ونصبًا:
فمن يك أمسى بالمدينةِ رحلُهُ | فإِنّي وقيَّارا بِهَا لغريب «٢» |
وأنشدني بعضهم:
وَإِلا فاعلموا أَنَّا وَأنْتُم | بُغَاة ما حيينا فِي شِقَاقِ «٤» |
يا لَيْتَنِي وأَنْتِ يا لَمِيسُ | ببلدٍ لَيْسَ بِهِ أنِيس |
يا ليتنى وهما نخلو بمنزلة | حتى يرى بعضنا بعضا ونأتلف |
(٢) من أبيات لضابئ بن الحارث البرجمىّ قالها فى سجنه فى المدينة على عهد عثمان رضى الله عنه.
أخذ لقذفه المحصنات. وقيار اسم فرسه. وفى نوادر أبى زيد أنه اسم جمله. وانظر الخزانة ٤/ ٣٢٣ والكتاب ١/ ٨.
(٣) سقط ما بين القوسين فى ح. [.....]
(٤) هو لبشر بن خازم الأسدى. وقبله:
فإذ جزت نواصى آل بدر | فأدّوها وأسرى فى الوثاق |

قَالَ الْكِسَائي: أرفع (الصابِئون) عَلَى إتباعه الاسم الَّذِي فِي هادوا، ويجعله «١» من قوله (إِنَّا هدنا إليك) «٢» لا من «٣» اليهودية. وجاء التفسير بغير ذَلِكَ لأنه وصف الَّذِينَ آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ثُمَّ ذكر اليهود والنصارى فقال: من آمن منهم فله كذا، فجعلهم يهودا ونصارى.
وقوله «٤» : فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ... (٤٥)
كنى (عَن «٥» [الفعل] بهو) وهي فِي الفعل الَّذِي يَجري منه فعل ويفعل، كما تَقُولُ:
قد قدمت القافلة ففرحت بِهِ، تريد: بقدومها.
وقوله (كفّارة له) يعني: للجارح والجاني، وأجر للمجروح.
وقوله: وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً... (٤٦)
ثم قال (ومصدّقا) فإن شئت جعل (مصدّقا) من صفة عيسى، وإن شئت من صفة الإنجيل.
وقوله وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ متبع للمصدق فِي نصبه، ولو رفعته عَلَى أن تتبعهما قوله (فيه هدى ونور) كان صوابا.
وقوله: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ... (٤٧)
قرأها حَمْزَةُ وغيره نصبًا «٦»، وجعلت اللام فِي جهة كى. وقرئت (وليحكم) جزما على أنها لام أمر.
(٢) آية ١٥٦ سورة الأعراف.
(٣) يريد أن «هادوا» فى قوله: «والذين هادوا» بمعنى تابوا ورجعوا إلى الحق، كما فى آية الأعراف، وليس معنى «الذين هادوا» الذين كانوا على دين اليهودية. والذين هادوا بالمعنى الأوّل يدخل فيه بعض الصابئين فيصح العطف، بخلافه على المعنى الثاني.
(٤) تقدم بعض هذه الآية قبل الآية السابقة.
(٥) فى الأصول: «عن ألهو» والظاهر أنه مغير عما أثبتنا.
(٦) فالميم عنده مفتوحة. وقد كسر اللام.