
وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) }
شرح الكلمات:
﴿لا يَحْزُنْكَ﴾ : الحزن: ألم نفسي يسببه خوف فوات محبوب.
﴿يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ : بمعنى: يسرعون فيه إذ ما خرجوا منه كلما سنحت فرصة للكفر أظهروه.
﴿قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ : هؤلاء هم المنافقون.
﴿وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ : أي: اليهود.
﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ : أي: كثيرو الاستماع للكذب.
﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ﴾ : يبدلون الكلام ويغيرونه ليوافق أهواءهم.
﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا﴾ : أي: أعطيتم.
﴿فِتْنَتَهُ﴾ : أي: ضلالة لما سبق له من موجبات الضلال.
﴿أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ : من الكفر والنفاق.
﴿خِزْيٌ﴾ : ذل.

﴿أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ : كثيروا الأكل للحرام؛ كالرشوة والربا.
﴿أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ : أي: لا تحكم بينهم.
﴿بِالْقِسْطِ﴾ : أي: بالعدل.
﴿وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ : أي: صدقاً وحقاً وإن ادعوه نطقاً.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ١ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ إلى قوله: ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ في نهاية الآية نزل تسلية لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتخفيفاً مما كان يجده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ألم نفسي من جراء ما يسمع ويرى من المنافقين واليهود فناداه ربه تعالى بعنوان الرسالة التي كذب بها المنافقون واليهود معاً: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ الحق، لينهاه عن الحزن الذي يضاعف ألمه: ﴿لا يَحْزُنْكَ﴾ حال الذين ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ بتكذيبك فإنهم ما خرجوا من الكفر، بل هم فيه منغمسون، فإذا سمعت منهم قول الكفر لا تحفل به حتى لا يسبب لك حزناً في نفسك. ﴿مِنَ الَّذِينَ٢ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ أي: لا يحزنك كذلك حال اليهود الذين يكذبون بنبؤتك ويجحدون رسالتك، ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ سماعون ليهود آخرين لم يأتوك؛ كيهود خيبر وفدك، أي: كثيروا السمع للكذب الذي يقوله أحبارهم لما فيه من الإساءة إليك سماعون لأهمل قوم آخرين ينقلون إليهم أخبارك كوسائط، وهم لم يأتوك، وهم يهود خيبر إذ أوعزوا إليهم أن يسألوا لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حد الزنى ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾، أي: يغيرون حكم الله الذي تضمنه الكلام، يقولون لهم إن أفتاكم في الزانين المحصنين بالجلد والتحميم بالفحم، فاقبلوا ذلك وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا قبول ذلك. هذا معنى تعالى في هذه الآية: ﴿وكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا﴾، وقال تعالى لرسوله: {وَمَنْ يُرِدِ اللهُ
٢ من: بيانية، أي: بينت أن المسارعين في الكفر: هم من المنافقين.

فِتْنَتَهُ} أي: إضلاله عن الحق لما اقترف ن عظائم الذنوب وكبائر الأثام ﴿فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً﴾ إذا أراد الله إضلاله، إذاً فلا يحزنك مسارعتهم في الكفر، ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ من الحسد والشرك والنفاق لسوابق الشر التي كانت لهم فحالت دون قبول الإيمان ولاحق، ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾ أي: ذل وعار، ﴿وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ جزاء كفرهم وبغيهم. هذا ما دلت عليه الآية (٤١)، أما الآية الثانية (٤٢) فقد تضمنت وصف أولئك اليهود بصفة كثرة استماع الكذب مضافاً إليه كثرة أكلهم للسحت، وهو المال الحرام أشد حرمة؛ كالرشوة والربا١، فقال تعالى عنهم: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ٢ فَإِنْ جَاءُوكَ﴾ أي: للتحاكم عندك فأنت مخير بين أن تحكم بحكم الله٣. أو تعرض عنهم وتتركهم لأحبارهم يحكمون بينهم كما شاءوا وإن تعرض عنهم فلم تحكم بينهم لن يضروك شيئاً، أي: من الضرر ولو قل، لأن الله تعالى وليك وناصرك، وإن حكمت بينهم فاحكم بينهم بالقسط أي: العدل، لأن الله تبارك وتعالى يحب ذلك فافعله لأجله إنه يحب القسط والمقسطين، وقوله تعالى في الآية الثالثة (٤٣) :﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ﴾. أي: إنه مما يتعجب منه أن يحكموك فتحكم بينهم برجم الزناة، وعندهم التوراة فيها نفس الحكم فرفضوه معرضين عنه اتباعاً لأهوائهم، ﴿وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ لا بك ولا بحكمك ولا بحكم التوراة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- استحباب ترك الحزن باجتناب أسبابه ومثيراته.
٢- حرمة سماع الكذب لغير حاجة تدعو إلى ذلك.
٣- حرمة تحريف الكلام وتشويهه للإفساد.
٢ أصل السحت: الهلاك، والشدة. قال تعالى: ﴿فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ﴾، وقال الفرزدق:
وعض زمانٍ يا ابن مروان لم يدع | من المال إلا مسحتًا أو مجلف |
٣ يرى مالك والشافعي أن اليهود إذا رفعوا للإمام قضية دم أو مال أو عرض حكم بينهم بما أنزل الله، وإن كان ما رفعوه لا يتعلق بالمال أو الدم أو العرض تركهم معرضًا عنهم، وأبي حنيفة يرى الحكم بينهم مطلقًا.

٤- الحاكم المسلم مخير في الحكم بين أهل الكتاب إن شاء حكم بينهم وإن شاء أحالهم على علمائهم.
٥- وجوب العدل في الحكم ولو كان المحكوم عليه غير مسلم.
٦- تقرير كفر١ اليهود وعدم إيمانهم.
{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ