آيات من القرآن الكريم

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ

والرسل، وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى.
وكان تخصيص بني إسرائيل مناسبا أيضا لما عزموا عليه من الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبأكابر أصحابه «١».
والقتل حرام في جميع الشرائع إلا بثلاث خصال: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل نفس ظلما وتعديا. وقوله: أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ هو الشرك، وقيل: قطع طريق. وقتل نفس بمثابة قتل جميع الناس، وإحياؤها بمثابة إحياء جميع الناس.
ودلت الآية أيضا على أن أحكام الله تعالى قد تكون معللة لأنه تعالى قال:
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا أي أن تشريع تلك الأحكام معلل بتلك المعاني.
حد الحرابة أو حكم قطاع الطرق
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)

(١) المرجع السابق: ١١/ ٢١١، تفسير القرطبي: ٦/ ١٤٦

صفحة رقم 160

الإعراب:
إِنَّما جَزاءُ... : ما: من إنما كافة. وجَزاءُ الَّذِينَ: مبتدأ مرفوع، وخبره: أَنْ يُقَتَّلُوا. فَساداً منصوب على المصدر في موضع الحال. وأَوْ في قوله: أَوْ يُصَلَّبُوا وما بعده للتخيير في رأي بعضهم أي أن الحكم فيه للإمام على اجتهاده، أو للتنويع في رأي آخر.
إِلَّا الَّذِينَ... الَّذِينَ: مستثنى منصوب: لأنه استثناء من موجب، وهو الَّذِينَ يُحارِبُونَ وهم المعاقبون عقاب قطع الطريق خاصة.
البلاغة:
يُحارِبُونَ اللَّهَ مجاز على حذف مضاف أي يحاربون عباد الله لأن الله لا يحارب ولا يغالب.
المفردات اللغوية:
يُحارِبُونَ أي يحاربون المسلمين وغيرهم في دار الإسلام، من المحاربة، وهي مأخوذة من الحرب ضد السلم والأمن على النفس والمال. وأصل معنى كلمة الحرب: التعدي وسلب المال.
فَساداً الفساد: ضد الصلاح، والمراد بالفساد هنا قطع الطريق بتخويف المارّة والاعتداء على الأنفس والأموال والأعراض أَنْ يُقَتَّلُوا التقتيل: المبالغة في القتل لإرهاب المفسدين أَوْ يُصَلَّبُوا التصليب: المبالغة في الصلب، والصلب في رأي الشافعي وأحمد: يكون بعد القتل ثلاثة أيام، بأن يربط على خشبة ونحوها منتصب القامة ممدود اليدين.
أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أي أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى. أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ومعناه عند المالكية: أن ينقلوا إلى بلد آخر من بلاد الإسلام إذا كانوا مسلمين، فإن كانوا كفارا جاز نفيهم إلى بلد إسلامي أو بلد من بلاد أهل الحرب. والنفي عند الحنابلة: أن يشردوا فلا يتركون يأوون إلى بلد. وعند الحنفية والشافعية معناه: الحبس. وحرف أَوْ للتنويع وترتيب الأحوال عند الجمهور، فالقتل لمن قتل فقط، والصلب لمن قتل وأخذ المال، والقطع لمن أخذ المال ولم يقتل، والنفي لمن أخاف فقط، كما قال ابن عباس. وأَوْ عند المالكية للتخيير، يتخير الإمام فيهم ما يناسب.
خِزْيٌ فِي الدُّنْيا ذل وفضيحة عَذابٌ عَظِيمٌ هو عذاب النار إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من المحاربين وقطاع الطرق مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ أي من قبل التمكن من عقابهم فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لهم ما أتوه رَحِيمٌ بهم. والتعبير بالمغفرة والرحمة للدلالة على أن التوبة لا تسقط

صفحة رقم 161

إلا حقوق الله وحدوده، دون حقوق الآدميين، كما ذكر السيوطي، فإذا قتل قاطع الطريق أحدا، وأخذ المال وتاب، يقتل ويقطع ولا يصلب، وهو أصح قولي الشافعي، ولا تفيد توبته بعد القدرة عليه شيئا، وهو أصح قوليه أيضا.
سبب النزول:
نزلت هذه الآية في قطّاع الطرق، لا في المشركين ولا في المرتدين، كما قيل بكل فإن كلا منهما إذا تاب، قبلت توبته، سواء أكانت التوبة قبل القدرة عليهم أم بعدها، أما قطاع الطريق فيسقط عنهم الحد إذا تابوا قبل القدرة عليهم ولا يسقط عنهم إذا تابوا بعد القدرة عليهم.
روى البخاري ومسلم عن أنس: أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتكلموا بالإسلام، فاستوخموا المدينة «١»، فأمر لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بزود من الإبل «٢» وراع، وأمرهم أن يخرجوا إلى الصحراء، فيشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرّة، كفروا بعد إسلام، وقتلوا الراعي- وفي رواية: مثّلوا به، واستاقوا الزود من الإبل، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبعث في طلبهم، فأتوا فأمر بهم، فسملوا أعينهم «٣»، وقطعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف، وتركوا حتى ماتوا، فنزلت الآية.
وقيل:
نزلت في قوم هلال بن عويمر الأسلمي، وكان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد على أنه لا يعينه ولا يعين عليه، وأنه إن مرّ به أحد من المسلمين، أو مرّ عليه من يقصد النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يتعرض له بسوء، فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بقوم من بني هلال، وكان هلال غائبا، فقطعوا عليهم الطريق، وقتلوا منهم، وأخذوا أموالهم.

(١) وجدوها رديئة المناخ.
(٢) الزود: من ثلاثة إلى تسعة.
(٣) كحلوها بمسامير الحديد المحماة.

صفحة رقم 162

وقيل: نزلت في قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد، فنقضوا العهد، وقطعوا الطريق على المسلمين.
ولا مانع من تعدد سبب النزول، وهي تتناول كل من اتصف بصفة المحاربة، سواء أكان كافرا أم مسلما، فإن كانت الآية قد نزلت في الكفار، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى خطورة جريمة القتل وأن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، وما رتب عليه من تشريع القصاص، ذكر هنا عقاب المحاربين الذين يفسدون في الأرض ويرتكبون القتل غالبا، حتى لا يجرأ أحد على المحاربة.
التفسير والبيان:
هذه آية المحاربة وهي المضادة والمخالفة الشاملة لجريمة الكفر وقطع الطريق وإخافة السبيل والإفساد في الأرض، وبما أن هذه الجريمة تمس أمن المجتمع كله وتهز كيانه وتنشر الرعب والقلق والخوف في أوساط الناس الآمنين، شدد الله تعالى في عقوبة المحاربين: وهم الذين لهم قوة ومنعة وشوكة، ويتعرضون للمارة من المسلمين أو أهل الذمة، ويعتدون على الأرواح والأموال والأعراض.
وعقابهم أو جزاؤهم على سبيل الترتيب والتوزيع على حسب جناياتهم، وتكون أَوْ للتنويع، فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن أخذ المال فقط قطعت يده ورجله من خلاف، ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالا، نفي من الأرض. وهذا رأي أكثر العلماء وأئمة المذاهب.
وقال المالكية: الآية تدل على التخيير بين الجزاءات، عملا بما تقتضيه أَوْ فيخير الإمام بين تطبيق إحدى هذه العقوبات حسبما يرى من المصلحة،

صفحة رقم 163

وإن لم يأخذ المحاربون مالا ولم يقتلوا نفسا، أي أن الإمام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم إما بالقتل أو الصلب أو القطع أو النفي، عملا بظاهر الآية.
وقصر الإمام أبو حنيفة التخيير على محارب خاص وهو الذي قتل النفس وأخذ المال، فيخير الإمام بين هذه العقوبات الأربع: إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وقتله، وإن شاء قطع يده ورجله من خلاف وصلبه، وإن شاء صلبه فقط، وإن شاء قتله فقط، ولا يفرد القطع في هذه الحالة، بل لا بد من انضمام القتل أو الصلب إليه لأن الجناية قتل وأخذ مال، وقال الصاحبان في هذه الحالة: يصلب ويقتل ولا يقطع. واتفق الإمام مع صاحبيه على أن المحاربين إذا قتلوا فقط يقتلون، وإذا أخذوا المال فقط تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن أخافوا الطريق فقط ينفون من الأرض.
دليل المالكية: أن كلمة أَوْ موضوعة للتخيير، كما في كفارة اليمين، وكفارة جزاء الصيد، فيعمل بحقيقة هذا الحرف، ما لم يقم دليل على خلافه، ولم يوجد، فيبقى التخيير.
ودليل الجمهور: ١- أن العقل يقضي أن يكون الجزاء مناسبا للجناية، زيادة ونقصا، بدليل إجماع الأمة على أن قطاع الطريق إذا أخذوا المال وقتلوا، لا يكون جزاؤهم النفي فقط.
٢- أن التخيير يعمل به إذا كان سبب الوجوب واحدا كما في كفارة اليمين وكفارة جزاء الصيد، أما إذا اختلف السبب، فإنه لا يعمل بظاهر التخيير، ويكون الغرض بيان الحكم لكل واحد في نفسه.
وذلك مثل قوله تعالى: قُلْنا: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ، وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً [الكهف ١٨/ ٨٦] والمعنى: إما أن تعذب من جحد وظلم، وإما

صفحة رقم 164

أن تحسن إلى من آمن وعمل صالحا، فليس المراد التخيير لأن اختلاف السبب يؤدي إلى اختلاف الحكم لكل نوع.
ودليل أبي حنيفة: أن الآية لا يمكن صرفها إلى ظاهر التخيير في مطلق المحارب، فإما أن تحمل على ترتيب الأحكام ويضمر في كل حكم ما يناسبه من الجنايات، وفيه إلغاء حرف التخيير، وإما أن يعمل بظاهر التخيير بين الجزاءات الثلاثة، وذلك في محارب خاص لا في مطلق المحارب، والمحارب الخاص: هو الذي قتل وأخذ المال، وهذا هو الأقرب والأولى لأن فيه عملا بحقيقة حرف التخيير وبما هو المعقول.
وسمي فعل المحاربين محاربة لله ورسوله للتهويل والتشنيع، وبيان خطورة هذه الجريمة على الحق والعدل الذي أنزله الله على رسوله، كما قال تعالى في أكلة الربا: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة ٢/ ٢٧٩] فليست محاربة الله على سبيل الحقيقة لأن الله منزه عن الكون في جهة ومكان، والمحاربة تستلزم أن يكون كل من المتحاربين متواجهين، وإنما هذا مجاز عن المخالفة وإغضاب الله، أو المعنى يحاربون أولياء الله ورسوله، فيكون نظير قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب ٣٣/ ٥٧].
ويشترط في المحاربين ثلاثة شروط:
١- أن يكون لهم قوة وشوكة ومنعة، ليمتازوا عن السرّاق، وأن يعتدوا على المارة بسلاح أو غيره من العصا والحجر والخشب ونحوها، سواء أكانوا جماعة أم واحدا، وسواء أخذوا المال من مسلم أم من ذمي.
٢- أن يكون قطع الطريق في دار الإسلام، وأن يكون في رأي أبي حنيفة خارج المصر بين حدود البلاد أو في الصحراء لأنه يمكن للمعتدى عليه في داخل المصر الاستغاثة بالآخرين. ولم يفرق الجمهور بين داخل المصر وخارجه، فيمكن

صفحة رقم 165

حدوث جريمة المحاربة فيهما على حد سواء، وقد أثبت الواقع صحة هذا الرأي لأن عصابات المجرمين يتعرضون للناس بعد منتصف الليل في الشوارع العامة، وفي الأحياء السكنية.
٣- أن يأخذوا المال مجاهرة، فإن أخذوه خفية فهم سرّاق، يعاقبون بحد السرقة وهو قطع اليد فقط. وإن اختطفوا شخصا وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم، وإن استلبوا شيئا من قافلة أو اغتصبوه لا يحدون حد السرقة ولا حد الحرابة.
والسعي في الأرض بالفساد: هو إخافة الطريق بحمل السلاح وإزعاج الناس، سواء صحبه قتل وأخذ مال أو لا.
أما عقوبات المحاربين فهي في الآية دنيوية وأخروية.
والعقوبات الدنيوية أربعة:
١- التقتيل حدا من غير صلب إن قتلوا فقط، ولا يسقط القتل بعفو الأولياء، والتعبير بصيغة التفعيل لما في القتل هنا من الزيادة باعتبار أنه محتوم لا يسقط، ولو عفا الأولياء. فيجب على الحاكم إنزال هذه العقوبة بالمحاربين، ولا يملك العفو عنها أو إسقاطها، وعلى المسلمين التعاون معه على قتالهم وكفهم عن أذى المسلمين.
٢- القتل مع الصلب: إن قتلوا وأخذوا المال.
٣- قطع اليد والرجل من خلاف أي قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى إن أخذوا المال، لا غير.
٤- النفي من الأرض إن أخافوا الطريق فقط، ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا.

صفحة رقم 166

والصلب: يكون على خشبة تغرز في الأرض، بأن يربط جميع الشخص بها، بعد وضع قدميه على خشبة عريضة من الأسفل، وتربط يداه على خشبة عريضة من الأعلى. ويحدث في الأصح من مذهب الحنفية والراجح لدى المالكية في حال الحياة لمدة ثلاثة أيام، ثم يطعن بحربة ويقتل لأن الصلب عقوبة مشروعة تغليظا، وإنما يعاقب الحي، أما الميت فليس من أهل العقوبة، وليس صلبه من قبيل المثلة المنهي عنها لأن المثلة قطع بعض الأعضاء.
وقال الشافعية والحنابلة: الصلب يكون بعد القتل لأن الله تعالى قدم القتل على الصلب لفظا، وفي صلبه حيا تعذيب له وتمثيل به،
وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن المثلة وعن تعذيب الحيوان (أي ما له روح) فقال فيما رواه الجماعة عن شداد بن أوس: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة»
والغرض من صلبه بعد قتله هو التنكيل به، وزجر غيره ليشتهر أمره.
وأما النفي: فمعناه عند الحنفية الحبس لأن فيه نفيا عن وجه الأرض التي يحيا فيها الناس عادة بحرية وطمأنينة. وأما التغريب ففيه إضرار ببلد آخر، وتعريض للكفر، وتمكين له من الهرب إلى دار الحرب.
ورأى المالكية أن النفي هو إخراجه من البلد الذي كان فيه إلى بلد آخر بينهما مسافة القصر (٨٩ كم) ويسجن فيه، إلى أن تظهر توبته. فيكون رأي الجمهور بالنفي هو الحبس.
وذهب الحنابلة إلى أن النفي: أن يشردوا، فلا يتركون يأوون إلى بلد، عملا بما روي عن الحسن والزهري.
وأما عقوبة المحاربين الأخروية: فهي المذكورة في قوله تعالى: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ أي ذلك العقاب المذكور هو ذل لهم وفضيحة في الدنيا، لشناعة المحاربة وعظم ضررها، وليكونوا عبرة لغيرهم، ولهم

صفحة رقم 167

في الآخرة عذاب عظيم جدا بسبب ما ارتكبوا من جريمة هزت أركان المجتمع، وأدت إلى تعطيل التجارة.
ثم استثنى الله تعالى من العقاب التائبين فقال:
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ أي أن من تاب قبل أن يقع في قبضة السلطة، أو قبل أن يتمكن الحاكم من القبض عليه، فيسقط عنه العقاب، إذا كانت التوبة صادقة خالصة لله عز وجل، لا تحايلا وتهربا من العقوبة لأن الهدف قد تحقق وهو ترك الإفساد ومحاربة أولياء الله ورسوله، بدليل قوله تعالى:
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي أن الله غفور لذنوبهم، رحيم بهم بإسقاط العقوبة عنهم لأنه لا تهمة حينئذ، وتكون التوبة نافعة.
وهذه التوبة تسقط ما هو من حقوق الله تعالى فقط وهو الحد، أما حقوق العباد من القصاص وضمان الأموال فتبقى، ويكون للأولياء الحق في المطالبة بالقصاص من القاتل، واسترداد المال المأخوذ، وولي القتيل مخير بين القصاص والدية والعفو، ولا تصح التوبة إلا برد الأموال المسلوبة إلى أصحابها، وإذا أعفاه الحاكم من حق مالي وجب ضمانه من بيت المال (خزانة الدولة). ومن تاب بعد القدرة عليه فظاهر الآية أن التوبة لا تنفع، وتقام الحدود عليه لأنه متهم بالكذب في توبته والتصنع فيها إذا نالته يد الإمام.
أما الشرّاب والزناة والسرّاق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم، وإن رفعوا إليه فقالوا: تبنا لم يتركوا، وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا.

صفحة رقم 168

فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت آية المحاربة حكمين: حكم عقاب المحاربين، وحكم التائبين.
أما عقوبتهم في الدنيا: فهي القتل، والصلب، وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، والنفي من الأرض أي الحبس أو الإبعاد من بلده إلى بلد آخر بينهما على الأقل مسافة قصر الصلاة المقدرة بحوالي ٨٩ كم.
ولا خلاف في أن الحرابة يقتل فيها من قتل، وإن لم يكن المقتول مكافئا للقاتل.
ونصت الآية على عقوبة أخروية: وهي استحقاق العذاب في نار جهنم، لعظم الجريمة، واقتصر على وصف عقوبة الدنيا بالخزي أي الذل والفضيحة مع أن لهم فيها عذابا أيضا، وعلى وصف عقوبة الآخرة بالعذاب العظيم مع أن لهم فيها خزيا أيضا لأن الخزي في الدنيا أعظم من عذابها، والعذاب في الآخرة أشد من خزيها.
ويؤخذ من الجمع بين العقوبتين المذكورتين للمحاربين: أن الحدود لا تسقط العقوبة في الآخرة، فالحدود زواجر لا جوابر كما هو صريح الآية، وهذا مذهب الحنفية. وقال الجمهور: الحدود جوابر أيضا، أي أنها تجبر الذنوب وتكفرها، لما رواه مسلم في صحيحة عن عبادة بن الصامت: «من أصاب من هذه المعاصي شيئا فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئا من ذلك، فستره الله، فأمره إلى الله: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه».
وأما حكم التائبين قبل القدرة عليهم: فهو حكم سائر المجرمين العاديين، فمن قتل يقتل أي يقتص منه، ومن جرح يجرح، أو يغرم الأرش (التعويض المالي المقدر شرعا) ومن سرق تقطع يده، ومن سلب مالا رده، ويجوز العفو حينئذ لأولياء الدم عنهم.

صفحة رقم 169
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية