
قلبه آثار التمرد فكان ذلك طهارة وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ببيان كيفية الطهارة وهي نعمة الدين بعد ذكر نعمة الدنيا وهي إباحة الطيبات من المطاعم والمناكح أو بالترخص في التيمم والتخفيف في حال السفر والمرض فاستدلوا بذلك على أنه تعالى يخفف عنكم يوم القيامة بأن يعفو عن ذنوبكم ويتجاوز عن سيئاتكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) نعمته وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي تأملوا في جنس نعم الله عليكم وهو إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل، والهداية والصون عن الآفات والإيصال إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة فجنس نعمة الله جنس لا يقدر عليه غير الله فمتى كانت النعمة على هذا الوجه كان وجوب الاشتغال بشكرها أتم وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ بواسطة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وهو المواثيق التي جرت بين رسول الله والمسلمين في أن يكونوا على السمع والطاعة في المحبوب والمكروه مثل مبايعته صلّى الله عليه وسلّم مع الأنصار في أول الأمر ليلة العقبة ومبايعته صلّى الله عليه وسلّم مع عامة المؤمنين بيعة الرضوان تحت الشجرة في الحديبية وغيرهما.
وقال السدي: المراد بالميثاق الدلائل العقلية والشرعية التي نصبها الله تعالى على التوحيد والشرائع وهو اختيار أكثر المتكلمين وَاتَّقُوا اللَّهَ في نسيان نعمته ونقض ميثاقه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) فلا تعزموا بقلوبكم على نقض تلك العهود فإنه إن خطر ببالكم فالله يعلم ذلك وكفى بالله مجازيا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ بأن تقوموا لله بالحق في كل ما يلزمكم القيام به من العمل بطاعته واجتناب نواهيه شُهَداءَ بِالْقِسْطِ فلا تشهدوا بأمر مخالف للواقع بل اشهدوا بما في نفس الأمر والتكاليف محصورة في نوعين تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله فقوله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ إشارة إلى النوع الأول وهو حقوق الله، وقوله تعالى:
شُهَداءَ بِالْقِسْطِ إشارة إلى الثاني وهو حقوق الخلق وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا أي لا يحملنكم بغض قوم على أن تجوزوا عليهم وتجاوزوا الحد فيهم بل اعدلوا فيهم وإن أساؤوا عليكم. والمعنى إن الله تعالى أمر جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحدا إلا على سبيل الإنصاف وترك الاعتساف اعْدِلُوا في عدوكم ووليكم هُوَ أي العدل أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي إلى الاتقاء من معاصي الله تعالى أو إلى الاتقاء من عذاب الله وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم ونهاكم إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم فيجازيكم على ذلك وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بالعدل والتقوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي إسقاط السيئات وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وهو إيصال الثواب وجملة قوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ بيان للوعد لا محل لها فكأنه قيل: وأي شيء وعده؟ فقال المجيب: لهم مغفرة وأجر عظيم وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) أي ملازموها وهذه الجملة مستأنفة أتى بها جمعا بين الترغيب والترهيب إيفاء لحق الدعوة بالتبشير والإنذار
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ

عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ
أي كونوا مواظبين على طاعة الله ولا تخافوا أحدا في إقامة طاعات الله تعالى وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وسبب نزول هذه الآية وجهان: الأول: أنها نزلت في واقعة عامة وذلك أن المشركين في أول الأمر- وهو في ضعف المسلمين- يريدون إيقاع البلاء والقتل والنهب بالمسلمين والله تعالى كان يمنعهم عن مطلوبهم إلى أن قوي الإسلام وعظمت شوكة المسلمين.
الثاني: أنها نزلت في واقعة خاصة. وفي هذا ثلاثة أوجه:
الأول: أنها نزلت في شأن يهود من بني قريظة أو بني النضير، وذلك أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر وعثمان وعليا دخلوا عليهم وقد كانوا عاهدوا النبي على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات فطلب منهم مالا قرضا لدية رجلين مسلمين أو معاهدين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين أو حربيين، فقالوا: اجلس حتى نطعمك ونعطيك ما تريد، ثم همّوا بالفتك برسول الله وبأصحابه فجاء عمرو بن جحاش برحى عظيمة ليطرحها عليه صلّى الله عليه وسلّم بموافقتهم، فأمسك الله تعالى يده، فنزل جبريل عليه صلّى الله عليه وسلّم وأخبره بذلك فقام في الحال مع أصحابه وخرجوا إلى المدينة.
والثاني:
عن قتادة أنها نزلت في قوم من العرب وهم بنو ثعلبة وبنو محارب أرادوا الفتك به صلّى الله عليه وسلّم وهو في غزوته فأرسلوا له أعرابيا ليقتله ببطن نخل، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نزل منزلا وتفرق أصحابه عنه يستظلون في شجر العضاه وعلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيفه بشجرة، فجاء أعرابي وسلّ سيف رسول الله ثم أقبل عليه وقال: يا محمد من يمنعك مني؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: «الله» قالها ثلاثا فأسقطه جبريل من يده فأخذه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال: «من يمنعك مني؟» «١» فقال: لا أحد ثم صاح رسول الله بأصحابه فأخبرهم ولم يعاقبه.
وفي رواية أن الأعرابي قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وعلى هذين القولين، فالمراد من قوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. تذكير نعمة الله عليهم بدفع الشر عن نبيهم فإنه لو حصل ذلك لكان من أعظم المحن.
والثالث: أنها نزلت في شأن المشركين أنهم رأوا رسول الله وأصحابه بعسفان في غزوة ذي أنمار، وهي غزوة ذات الرقاع وهي السابعة من مغازيه صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أن المسلمين قاموا إلى صلاة الظهر بالجماعة فلما صلوا ندم المشركون في عدم إكبابهم عليهم وقالوا: ليتنا أوقعنا بهم في أثناء صلاتهم. فقيل لهم: إن للمسلمين بعد هذه الصلاة صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وآبائهم.
فهموا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إلى صلاة العصر فرد الله تعالى كيدهم بأن أنزل جبريل بصلاة

الخوف وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي إقرارهم أن لا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وهو المسند إليه أمور القوم وتدبير مصالحهم.
روي أن بني إسرائيل لما استقروا بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله تعالى بالسير إلى أريحاء أرض الشام وقد سكنها الجبابرة الكنعانيون وقال لهم: «إني كتبتها لكم دارا فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها وإني ناصركم». وكان بنو إسرائيل اثني عشر سبطا فاختار الله تعالى من كل سبط رجلا يكون نقيبا لهم وحاكما فيهم والنقباء الاثنا عشر كما قال ابن إسحاق هم شموع وشوقط، وكالب، وبعورك، ويوشع، ويعلى، وكرابيل، وكدي، وعمابيل، وستور، ويحيى، وآل. ثم إن هؤلاء النقباء بعثوا إلى مدينة الجبارين الذين أمر موسى عليه السلام بالقتال معهم ليقفوا على أحوالهم ويرجعوا بذلك إلى نبيهم موسى عليه السلام، فلما ذهبوا إليهم رأوا أجراما عظيمة وقوة وشوكة فهابوهم ورجعوا، فحدّثوا قومهم وقد نهاهم موسى عليه السلام أن يحدثوهم فنكثوا الميثاق إلا كالب ويوشع وهما اللذان قال الله تعالى في حقهما: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ [المائدة: ٢٣] الآية وَقالَ اللَّهُ لهؤلاء النقباء إِنِّي مَعَكُمْ بالعلم والقدرة فأسمع كلامكم وأرى أفعالكم وأعلم ضمائركم وأقدر على إيصال الجزاء إليكم لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ أي التي فرضت عليكم وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ أي زكاة أموالكم وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي أي بجميعهم وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أي نصرتموهم بالسيف على الأعداء وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي صادقا من قلوبكم. والمراد بهذا الإقراض: الصدقات المندوبة، وخصها بالذكر تنبيها على شرفها وعلو مرتبتها. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وهذا إشارة إلى إزالة العقاب وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهذا إشارة إلى إيصال الثواب فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد أخذ الميثاق مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) أي أخطأ الطريق المستقيم الذي هو الدين الذي شرعه الله تعالى لهم فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ أي بسبب نقضهم ميثاقهم بتكذيب الرسل وقتل الأنبياء وكتمان صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم لعناهم أخرجناهم من رحمتنا وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً أي منصرفة عن الانقياد للدلائل.
وقرأ حمزة والكسائي قسية بغير ألف بعد القاف وتشديد الياء أي رديئة يابسة بلا نور يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ يغيرون نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم وحكم الرجم بعد بيانه أي في التوراة وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أي تركوا بعضا مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وَلا تَزالُ يا أشرف الخلق تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ أي تظهر على خيانة صادرة من بني قريظة إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين آمنوا كعبد الله بن سلام وأصحابه أو الذين بقوا على الكفر لكنهم بقوا على العهد ولم يخونوا فيه فَاعْفُ عَنْهُمْ أي لا تعاقبهم وَاصْفَحْ أي أعرض عن صغائر زلاتهم ما داموا باقين على العهد إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) إلى الناس.

قال ابن عباس: إذا عفوت فأنت محسن، وإذا كنت محسنا فقد أحبك الله وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ في الإنجيل باتباع محمد وبيان صفته وأن لا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا، كما أخذنا الميثاق على بني إسرائيل اليهود فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أي اتركوا نصيبا عظيما مما أمروا به في الإنجيل من الإيمان ونقضوا الميثاق فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي ألصقنا بين نصارى أهل نجران العداوة بالقتل والبغضاء في القلب بعد أن جعلناهم فرقا أربعة: نسطورية، والملكانية، واليعقوبية، والمرقوسية، فإن بعضهم يكفر بعضا إلى يوم القيامة وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ أي يخبرهم في الآخرة بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤) من المخالفة والخيانة والكتمان فيجازيهم عليه يا أَهْلَ الْكِتابِ أي يا معشر اليهود والنصارى قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد أفضل الخلق يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ أي تكتمون من التوراة والإنجيل كنعت محمد وآية الرجم في التوراة وبشارة عيسى بأحمد في الإنجيل وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي لا يظهر كثيرا مما تكتمونه إذا لم تدع حاجة دينية إلى إظهاره قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ أي رسول وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) وهو القرآن لما فيه من إبانة ما خفي على الناس من الحق يَهْدِي بِهِ أي بذلك الكتاب اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ وهو من كان مطلوبه من طلب الدين اتباع الدين الذي يرتضيه الله تعالى سُبُلَ السَّلامِ أي إلى طرق السلامة من العذاب وهو دين الإسلام، وهذا منصوب بنزع الخافض لأن «يهدي» يتعدى إلى الثاني ب «إلى» أو ب «اللام». وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ أي ظلمات فنون الكفر إِلَى النُّورِ أي نور الإيمان بِإِذْنِهِ أي بتوفيقه والباء تتعلق باتبع ولا يجوز أن تتعلق بيهدي ولا بيخرج إذ لا معنى لها حينئذ، فدلت الآية على أنه لا يتبع رضوان الله إلا من أراد الله منه ذلك وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦) أي يثبتهم على ذلك الدين بعد إجابة دعوة الرسول لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا وهم نصارى نجران إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وهذه المقالة لليعقوبية فإنهم قالوا:
إن الله قد يحل في بدن إنسان معين أو في روحه. وقيل: لم يصرح به أحد منهم ولكن مذهبهم يؤدي إليه حيث اعتقدوا اتصاف عيسى بصفاته الخاصة أي بأنه يخلق ويحيي ويميت ويدبر أمر العالم. قُلْ لهم يا أكرم الخلق: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي فمن الذي يقدر على دفع شيء من أفعال الله تعالى ومنع شيء من مراده إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أي إن عيسى مماثل لمن في الأرض في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وتغيير الصفات والأحوال، فلما سلمتم كونه تعالى خالقا للكل مدبرا للكل وجب أن يكون أيضا خالقا لعيسى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ فتارة يخلق من غير أصل كخلق السموات والأرض، وتارة أخرى يخلق من أصل كخلق ما بينهما فينشئ من أصل ليس من جنسه كخلق آدم وكثير من الحيوانات ومن أصل من جنسه إما من ذكر وحده كخلق

حواء أو من أنثى وحدها كخلق عيسى عليه السلام، أو منهما كخلق سائر الناس ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات كخلق عامة المخلوقات وقد يخلق بتوسط مخلوق آخر كخلق الطير على يد عيسى عليه السلام معجزة له وكإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص على يده أيضا فيجب أن ينسب كله إليه تعالى لا إلى من أجرى ذلك على يده وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وإظهار الاسم الجليل للتعليل وتقوية استقلال الجملة وَقالَتِ الْيَهُودُ أي إن يهود أهل المدينة وَالنَّصارى أي نصارى أهل نجران نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ أي إن اليهود لما زعموا أن عزيزا ابن الله. والنصارى زعموا أن المسيح ابن الله، ثم زعموا أن عزيرا والمسيح كانا منهم صار ذلك كأنهم قالوا: نحن أبناء الله كما يقول أقارب الملوك عند المفاخرة: نحن الملوك. فالمراد بأبناء الله خاصته وقال ابن عباس: إن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوّفهم بعقاب الله تعالى فقالوا: تخوّفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله وأحباؤه. والذي قال تلك الكلمة من اليهود: نعمان ويحرى وشاس. قُلْ أي لهم يا أكرم الخلق إلزاما وتبكيتا: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي إن صح ما زعمتم فلأي شيء يعذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ وقد اعترفتم بأنه تعالى سيعذبكم في الآخرة أياما بعدد أيام عبادتكم العجل، ولو كان الأمر كما زعمتم لما صدر عنكم ما صدر ولما وقع عليكم ما وقع، فأنتم كاذبون لأن الأدب لا يعذب ولده والحبيب لا يعذب حبيبه بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ أي لستم كذلك بل أنتم بشر من جنس من خلقه الله تعالى من غير مزية لكم عليهم يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له من أولئك المخلوقين وهم الذين آمنوا به تعالى وبرسله وتابوا من اليهودية والنصرانية وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أن يعذبه منهم. وهم الذين كفروا به تعالى وبرسله وماتوا على اليهودية والنصرانية وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فمن كان ملكه هكذا وقدرته هكذا فكيف يستحق البشر الضعيف عليه تعالى حقا واجبا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) في الآخرة فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته يا أَهْلَ الْكِتابِ أي يا أهل التوراة والإنجيل قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد صلّى الله عليه وسلّم يُبَيِّنُ لَكُمْ أي مبينا لكم الشرائع عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أي على حين انقطاع من الأنبياء.
فروي عن سلمان أنه قال: فترة ما بين عيسى ومحمد ستمائة سنة. أخرجه البخاري. وكان بينهما أربعة من الأنبياء ثلاثة من بني إسرائيل كما قال تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ [يس: ١٤] وواحد من العرب وهو خالد بن سنان وقال في حقه نبينا صلّى الله عليه وسلّم: «نبي ضيعه قومه» «١» أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ أي إنما بعثنا إليكم الرسول في وقت فترة من