آيات من القرآن الكريم

مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ۙ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۖ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ
ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ

والتوفيق بين ما ذكر من كراهية السؤال والنهي عنه وبين قوله تعالى:
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل ١٦/ ٤٣] : أن النهي منصب على ما لم يتعبد الله به عباده ولم يذكره في كتابه، والأمر موجه لما ثبت وتقرر وجوبه مما يجب العمل به.
ما حرّمه الجاهليون من الماشية والإبل
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٤]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤)
المفردات اللغوية:
ما جَعَلَ ما شرع شيئا من هذه الأحكام التي كان العرب يفعلها في الجاهلية، ولا أمر بالتبحير والتسبيب وغير ذلك، ولكنهم يفترون ويقلدون في تحريمها كبارهم.
البحيرة هي الناقة التي كانوا يبحرون أذنها، أي يشقونها شقا واسعا، إذا نتجت خمسة أبطن إناثا آخرها أنثى وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها. فإن كان آخرها ذكرا نحروه تأكله الرجال والنساء. وقيل: غير ذلك بأن آخرها ذكر.
والسائبة الناقة التي كانت تسيّب بنذرها لآلهتهم الأصنام، فتعطى للسدنة، وترعى حيث شاءت، ولا يحمل عليها شيء، ولا يجزّ صوفها ولا يحلب لبنها إلا لضيف.
والوصيلة الشاة أو الناقة التي تصل أخاها، فإذا بكرت في أول النتاج بأنثى كانت لهم، وإذا ولدت ذكرا كان لآلتهم، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وقيل: غير ذلك.
والحامي: الفحل الذي يضرب في مال صاحبه فيولد من ظهره عشرة أبطن، فيقولون: حمى ظهره، فلا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى.

صفحة رقم 85

روى البخاري عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة: التي يمنع درّها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس. والسائبة: التي كانوا يسيبونها لآلهتهم، فلا يحمل عليها شيء. والوصيلة: الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل بأنثى ثم تثني بعد بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بأخرى، ليس بينهما ذكر. والحام: فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه، ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل عليه، فلا يحمل عليه شيء، وسموه الحامي.
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي يختلقون الكذب في ذلك، وفي نسبته إلى الله. وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أن ذلك افتراء لأنهم قلدوا فيه آباءهم. إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ أي إلى حكمه من تحليل ما حرمتم. حَسْبُنا كافينا. ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من الدين والشريعة. أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ استفهام إنكاري. وَلا يَهْتَدُونَ إلى الحق.
المناسبة:
كما نهى تعالى ومنع الناس من السؤال والبحث عن أمور ما كلفوا بالبحث عنها، كذلك منعهم عن التزام أمور ما كلفوا التزامها، وبيّن ضلال أهل الجاهلية فيما حرموه على أنفسهم وما شرعوه بغير إذن ربهم، وأن ذلك باطل، وأن التقليد باطل أيضا مناف للعلم والدين.
التفسير والبيان:
ما شرع الله أصلا تحريم هذه الأشياء الأربعة، وما حرّم البحيرة ولا السائبة، ولا الوصيلة، ولا الحامي، ولكن أهل الجاهلية بتحريمهم ما حرموا يفترون على الله الكذب، حيث ما كانوا يفعلون ما يفعلون، وينسبونه إلى شرع الله، وأكثرهم لا يفعلون أن ذلك افتراء على الله، وتعطيل للعقل والفكر، وكفر ووثنية وشرك، والله لا يأمر بالكفر ولا يرضاه لعباده.
وكان أول من حرم هذه المحرمات، وشرع للعرب عبادة الأصنام هو عمرو بن لحيّ الخزاعي، فهو الذي غيّر دين إبراهيم، وبحر البحيرة، وسيّب السائبة وحمى الحامي.

صفحة رقم 86

روى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، ورأيت عمرا يجرّ قصبه- أمعاءه- وهو أول من سيّب السوائب» «١».
وروى الطبري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأكثم بن الجون: «يا أكثم، رأيت عمرو بن لحيّ بن قمعة بن خندف يجرّ قصبه- أمعاءه- في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك، فقال أكثم: أخشى أن يضرّني شبهه يا رسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا، إنك مؤمن، وهو كافر، إنه أول من غيّر دين إسماعيل، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، وحمى الحامي» «٢».
ثم ناقشهم القرآن بقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا.. أي إذا قيل للمشركين: تعالوا إلى العمل بما أنزل الله من الأحكام المؤيدة بالبراهين، وإلى الرسول المبلّغ لها والمبين لمجملها، أجابوا: يكفينا ما وجدنا عليه آباءنا، فهم لنا أئمة قادة مشرّعون، ونحن لهم تبع.
فردّ الله عليهم مستفهما استفهاما إنكاريا: أيكفيهم ذلك، ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا أبدا من الشرائع، ولا يهتدون إلى مصلحة أو خير أصلا في الدين والدنيا، فهم يتخبطون في ظلمات الوثنية وخرافة المعتقدات، ويشرعون لأنفسهم بحسب أهوائهم، من وأد البنات، وشرب الخمور، وظلم الأيتام والنساء، وارتكاب الفواحش والمنكرات، وشن الحروب لأتفه الأسباب، وإثارة العداوة والبغضاء.
وهذا تنديد بالتقليد الأعمى والتعصب الموروث من غير وعي ولا إدراك،

(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ١٠٧.
(٢) تفسير الطبري: ٧/ ٥٦، ابن كثير، المكان السابق.

صفحة رقم 87

كما قال تعالى في آيات كثيرة منها: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا، أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً، وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة ٢/ ١٧٠]
فقه الحياة أو الأحكام:
الله تعالى خالق الخلق هو مصدر الشرائع والأنظمة كلها للناس، وكل شرع لم يشرعه الله فهو مرفوض، وقد نفى الله تعالى في هذه الآيات تشريع أهل الضلال في الجاهلية، وأعلن لهم: ما سمّى الله، ولا سنّ ذلك حكما، ولا تعبّد به شرعا، وإن علم به وأوجده بقدرته وإرادته خلقا، فإن الله خالق كل شيء من خير وشر، ونفع وضرّ، وطاعة ومعصية.
ولو عقل الجاهليون لما فعلوا أصل الكفر والوثنية والشرك، ولما ضللوا أنفسهم بتحريم ما حرموا، فأي هدف يرتجى، وأي نفع يؤمّل، وأي مصلحة تعود عليهم من عبادة حجر لا يضرّ ولا ينفع، ومن تحريم أشياء لا فائدة ولا جدوى من تعطيل منافعها، وحجرها للأصنام؟!! ولو عقلوا أيضا لنظروا وفكروا فيما ورثوه، فاختاروا الصالح، وأعرضوا عن الفاسد، ولكنه التقليد الأعمى للآباء والأسلاف من غير روية ولا إمعان، ولا دراية ولا تفكير، فالتقليد أمر ضار، مناف للعلم والدين، مناقض للعقل والمصلحة.
وفضلا عن ذلك إنهم يحرمون بأهوائهم ويقلدون آباءهم، ويزعمون أنهم يفعلون ذلك لإرضاء ربهم وإطاعة خالقهم، من دون دليل ولا برهان على ما يقولون، وإنما هو محض الكذب والافتراء على الله، كما قال تعالى: وَقالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ، وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا، افْتِراءً عَلَيْهِ، سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ.

صفحة رقم 88

وَقالُوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا، وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ، سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
[الأنعام ٦/ ١٣٨- ١٣٩] حقا إنه تعالى حكيم عليم بالتحريم والتحليل، ولكن المشكلة تكمن في إهمال العقل وتعطيل الفكر، إنها آفة العقل المعطل لدى زعماء الجاهلية وأتباعها!! والخلاصة: لقد حرموا على أنفسهم من الأنعام ما لم يحرمه الله، اتباعا منهم خطوات الشيطان، فوبخهم الله تعالى بذلك، وأخبرهم أن كل ذلك حلال، فالحرام من كل شيء: ما حرمه الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم بنص أو دليل، والحلال منه: ما أحله الله ورسوله كذلك.
وقد استدل أبو حنيفة رضي الله عنه بهذه الآية في منعه الأحباس ورده الأوقاف، بأن الله تعالى عاب على العرب ما كانت تفعل من تسييب البهائم وحمايتها وحبس أنفاسها عنها، وقاس على البحيرة والسائبة. غير أن هناك فرقا بيّنا بين الأوقاف الإسلامية للأراضي والدور ونحوها، وبين هذه الأحباس التي لا معنى لها، وقد عابهم الله أن تصرفوا بعقولهم بغير شرع توجه إليهم، وعطلوا المنافع والمصالح للناس في تلك الإبل من غير فائدة.
لذا قرر جمهور العلماء القول بجواز الأحباس والأوقاف لما
روي أن ابن عمر في رواية النسائي استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أن يتصدق بسهمه بخيبر، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «احبس الأصل وسبّل الثمرة»
أي اجعلها وقفا وأبح ثمرتها لمن وقفتها عليه، وهو حديث صحيح. وقد أجمع الصحابة على مشروعية الوقف، وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا، وعائشة وفاطمة، وعمرو بن العاص، وابن الزبير، وجابرا كلهم وقفوا الأوقاف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة. وروي أن أبا يوسف قبل أن يرجع عن قول أبي حنيفة في ذلك قال

صفحة رقم 89

لمالك بحضرة الرشيد: إن الحبس لا يجوز، فقال له مالك: هذه الأحباس أحباس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخيبر وفدك وأحباس أصحابه.
وأما قول شريح: «لا حبس عن فرائض الله» فليس الوقف حبسا عن الفرائض، قال الطبري: الصدقة التي يمضيها المتصدق في حياته، على ما أذن الله به على لسان نبيه، وعمل به الأئمة الراشدون رضي الله عنهم، ليس من الحبس عن فرائض الله، ولا حجة في قول شريح، ولا في قول أحد يخالف السنة، وعمل الصحابة الذين هم الحجة على جميع الخلق.
والمجيزون للوقف لا يجيزون أن ينتفع الواقف بوقفه لأنه أخرجه لله وقطعه عن ملكه، فانتفاعه بشيء منه رجوع في صدقته وإنما يجوز له الانتفاع إن شرط ذلك في الوقف، أو افتقر هو أو ورثته، فيجوز لهم الأكل منه كسائر الفقراء.
وهل حق التصرف في منافع الموقوف للواقف أو لغيره؟ قال الشافعي وأبو يوسف: يحرم على الواقف ملكه، إلا أنه يجوز له أن يتولى صدقته، فيفرّقها ويوزعها بين المستحقين لأن عمر رضي الله عنه لم يزل يلي صدقته، حتى قبضه الله عز وجل، وكذلك علي وفاطمة كانا يليان صدقاتهما.
وقال مالك: لا يتم الوقف حتى يتولاه غير الواقف، فيقبضه ويتصرف بمنافعه من كراء وقسمة بين المساكين المستحقين، ما عدا الخيل والسلاح.

صفحة رقم 90
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية