
[المائدة: ٩٨] أَتْبَعَهُ بِالتَّكْلِيفِ بِقَوْلِهِ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ مُكَلَّفًا بِالتَّبْلِيغِ فَلَمَّا بَلَّغَ خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ وَبَقِيَ الْأَمْرُ مِنْ جَانِبِكُمْ وَأَنَا عَالِمٌ بِمَا تُبْدُونَ وَبِمَا تَكْتُمُونَ، فَإِنْ خَالَفْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه شَدِيدُ الْعِقَابِ، وَإِنْ أَطَعْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٠]
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا زَجَرَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَرَغَّبَ فِي الطَّاعَةِ بِقَوْلِهِ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: ٩٨] ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالتَّكْلِيفِ بِقَوْلِهِ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة: ٩٩] ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ وَالتَّنْفِيرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ [المائدة: ٩٩] أَتْبَعَهُ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ وَالتَّنْفِيرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَقَالَ: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَبِيثَ وَالطَّيِّبَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِي يَكُونُ جُسْمَانِيًّا، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالثَّانِي: الَّذِي يَكُونُ رُوحَانِيًّا، وَأَخْبَثُ الْخَبَائِثِ الرُّوحَانِيَّةِ الْجَهْلُ وَالْمَعْصِيَةُ، وَأَطْيَبُ الطَّيِّبَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ مَعْرِفَةُ اللَّه تَعَالَى وَطَاعَةُ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِسْمَ الَّذِي يَلْتَصِقُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَاتِ يَصِيرُ مُسْتَقْذَرًا عِنْدَ أَرْبَابِ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ، فَكَذَلِكَ الْأَرْوَاحُ الْمَوْصُوفَةُ بِالْجَهْلِ باللَّه وَالْإِعْرَاضِ عَنْ طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى تَصِيرُ مُسْتَقْذَرَةً عِنْدَ الْأَرْوَاحِ الْكَامِلَةِ الْمُقَدَّسَةِ. وَأَمَّا الْأَرْوَاحُ الْعَارِفَةُ باللَّه تَعَالَى الْمُوَاظِبَةُ عَلَى خِدْمَةِ اللَّه تَعَالَى، فَإِنَّهَا تَصِيرُ مُشْرِقَةً بِأَنْوَارِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ مُبْتَهِجَةً بِالْقُرْبِ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْمُقَدَّسَةِ الطَّاهِرَةِ، وَكَمَا أَنَّ الْخَبِيثَ وَالطَّيِّبَ فِي عَالَمِ الْجُسْمَانِيَّاتِ لَا يَسْتَوِيَانِ، فَكَذَلِكَ فِي عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ لَا يَسْتَوِيَانِ، بَلِ الْمُبَايَنَةُ بَيْنَهُمَا فِي عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ أَشَدُّ، لِأَنَّ مَضَرَّةَ خُبْثِ الْخَبِيثِ الْجُسْمَانِيِّ شَيْءٌ قَلِيلٌ، وَمَنْفَعَتَهُ طَيِّبَةٌ مُخْتَصَرَةٌ، وَأَمَّا خُبْثُ الْخَبِيثِ الرُّوحَانِيِّ فَمَضَرَّتُهُ عَظِيمَةٌ دَائِمَةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَطَيِّبُ الطَّيِّبِ الرُّوحَانِيِّ فَمَنْفَعَتُهُ عَظِيمَةٌ دَائِمَةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَهُوَ الْقُرْبُ مِنْ جِوَارِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالِانْخِرَاطُ فِي زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَالْمُرَافَقَةُ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ وُجُوهِ التَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ وَالتَّنْفِيرِ/ عَنِ الْمَعْصِيَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ يَعْنِي أَنَّ الَّذِي يَكُونُ خَبِيثًا فِي عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ، قَدْ يَكُونُ طَيِّبًا فِي عَالَمِ الْجُسْمَانِيَّاتِ، وَيَكُونُ كَثِيرَ الْمِقْدَارِ، وَعَظِيمَ اللَّذَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ مَعَ كَثْرَةِ مِقْدَارِهِ وَلَذَاذَةِ مُتَنَاوَلِهِ وَقُرْبِ وِجْدَانِهِ، سَبَبٌ لِلْحِرْمَانِ مِنَ السَّعَادَاتِ الْبَاقِيَةِ الْأَبَدِيَّةِ السَّرْمَدِيَّةِ، الَّتِي إِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ [الْكَهْفِ: ٤٦] وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْخَبِيثُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَتُهُ، يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلطَّيِّبِ الَّذِي هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالطَّاعَةُ وَالِابْتِهَاجُ بِالسَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْكَرَامَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ التَّرْغِيبَاتِ الْكَثِيرَةَ فِي الطَّاعَةِ، وَالتَّحْذِيرَاتِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، أَتْبَعَهَا بِوَجْهٍ آخَرَ يُؤَكِّدُهَا، فَقَالَ تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَيْ فَاتَّقُوا اللَّه بَعْدَ هَذِهِ الْبَيَانَاتِ الْجَلِيَّةِ، وَالتَّعْرِيفَاتِ الْقَوِيَّةِ، وَلَا تُقْدِمُوا عَلَى مُخَالَفَتِهِ لَعَلَّكُمْ تَصِيرُونَ فَائِزِينَ بِالْمَطَالِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١)

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة: ٩٩] صَارَ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ، مَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ إِلَيْكُمْ فَخُذُوهُ، وَكُونُوا مُنْقَادِينَ لَهُ، وَمَا لَمْ يُبَلِّغْهُ الرَّسُولُ إِلَيْكُمْ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ، وَلَا تَخُوضُوا فِيهِ، فَإِنَّكُمْ إِنْ خُضْتُمْ فِيمَا لَا تَكْلِيفَ فِيهِ عَلَيْكُمْ فَرُبَّمَا جَاءَكُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْخَوْضِ الْفَاسِدِ مِنَ التَّكَالِيفِ مَا يَثْقُلُ عَلَيْكُمْ وَيَشُقُّ عَلَيْكُمْ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَهَذَا ادِّعَاءٌ مِنْهُ لِلرِّسَالَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُطَالِبُونَهُ بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ، بِمُعْجِزَاتٍ أُخَرَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْهُمْ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاءِ: ٩٠] إِلَى قَوْلِهِ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: ٩٣] وَالْمَعْنَى أَنِّي رَسُولٌ أُمِرْتُ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ إِلَيْكُمْ، واللَّه تَعَالَى قَدْ أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَايَ فِي الرِّسَالَةِ بِإِظْهَارِ أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ طَلَبُ الزِّيَادَةِ مِنْ بَابِ التَّحَكُّمِ/ وَذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِي وَلَعَلَّ إِظْهَارَهَا يُوجِبُ مَا يَسُوءُكُمْ مِثْلُ أَنَّهَا لَوْ ظَهَرَتْ فَكُلُّ مَنْ خَالَفَ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتَوْجَبَ الْعِقَابَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا سَمِعُوا الْكُفَّارَ يُطَالِبُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ، وَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ مَيْلٌ إِلَى ظُهُورِهَا فَعَرَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَطْلُبُوا ذَلِكَ فَرُبَّمَا كَانَ ظُهُورُهَا يُوجِبُ مَا يَسُوءُهُمْ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ [المائدة: ٩٩] فَاتْرُكُوا الْأُمُورَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَلَا تَسْأَلُوا عَنْ أحوال مخفية إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَشْيَاءَ جمع شيء وأنها غير متصرفة وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِي سَبَبِ امْتِنَاعِ الصَّرْفِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: قَوْلُنَا شَيْءٌ جَمْعُهُ فِي الْأَصْلِ شَيْآءُ عَلَى وَزْنِ فَعْلَاءَ فَاسْتَثْقَلُوا اجْتِمَاعَ الْهَمْزَتَيْنِ فِي آخِرِهِ، فَنَقَلُوا الْهَمْزَةَ الْأُولَى الَّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ إِلَى أَوَّلِ الْكَلِمَةِ فَجَاءَتْ لَفْعَاءُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ مَنْعَ الصَّرْفِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، وَاحِدٌ مِنْهَا مَذْكُورٌ، وَاثْنَانِ خَطَرَا بِبَالِي.
أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَذْكُورُ فَهُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ لَمَّا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ عَلَى وَزْنِ فَعَلَاءَ، مِثْلُ حمراء، لا جرم لم تنصرف كما لم ينصرف حَمْرَاءُ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ شَيَآءَ ثُمَّ جُعِلَتْ أَشْيَاءَ كَانَ ذَلِكَ تَشْبِيهًا بِالْمَعْدُولِ كَمَا فِي عَامِرٍ وَعُمَرَ، وَزَافِرٍ وَزُفَرَ، وَالْعَدْلُ أَحَدُ أَسْبَابِ مَنْعِ الصَّرْفِ. الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّا لَمَّا قَطَعْنَا الْحَرْفَ الْأَخِيرَ مِنْهُ وَجَعَلْنَاهُ أَوَّلَهُ، وَالْكَلِمَةُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا قُطِعَ مِنْهَا الْحَرْفُ الْأَخِيرُ صَارَتْ كَنِصْفِ الْكَلِمَةِ، وَنِصْفُ الْكَلِمَةِ لَا يَقْبَلُ الْإِعْرَابَ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ ذَلِكَ الْحَرْفَ الَّذِي قَطَعْنَاهُ مِنْهَا مَا حَذَفْنَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ أَلْصَقْنَاهُ بِأَوَّلِهَا، كَانَتِ الْكَلِمَةُ كَأَنَّهَا بَاقِيَةٌ بِتَمَامِهَا، فَلَا جَرَمَ مَنَعْنَاهُ بَعْضَ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ دُونَ الْبَعْضِ، تَنْبِيهًا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، فَهَذَا مَا خَطَرَ بِالْبَالِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ السَّبَبِ فِي مَنْعِ الصَّرْفِ مَا ذَكَرَهُ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ: وَهُوَ أَنَّ أَشْيَاءَ وَزْنُهُ أَفْعِلَاءُ، كَقَوْلِهِ أَصْدِقَاءُ وَأَصْفِيَاءُ، ثُمَّ إِنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوا اجْتِمَاعَ الْيَاءِ وَالْهَمْزَتَيْنِ فَقَدَّمُوا الْهَمْزَةَ، فَلَمَّا كَانَ أَشْيَاءُ فِي الْأَصْلِ أَشْيِيَاءَ عَلَى وَزْنِ أَصْدِقَاءَ وَأَفْعِلَاءَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجْرِي فِيهِ الصَّرْفُ، فَكَذَا هَاهُنَا.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ الْكِسَائِيُّ: وَهُوَ أَنَّ أَشْيَاءَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَالٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَصْرِفُوهُ لِكَوْنِهِ شَبِيهًا فِي الظَّاهِرِ بِحَمْرَاءَ وَصَفْرَاءَ، وَأَلْزَمَهُ الزَّجَّاجُ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ أَسْمَاءٌ وَأَبْنَاءٌ، وَعِنْدِي أَنَّ سُؤَالَ الزَّجَّاجِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ لِلْكِسَائِيِّ أَنْ يَقُولَ: الْقِيَاسُ يَقْتَضِي ذَلِكَ فِي أَبْنَاءٍ وَأَسْمَاءٍ، إِلَّا أَنَّهُ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ لِلنَّصِّ، لِأَنَّ النَّصَّ أَقْوَى مِنَ الْقِيَاسِ، وَلَمْ يُوجَدِ النَّصُّ فِي لَفْظِ أَشْيَاءَ فَوَجَبَ الْجَرْيُ فِيهِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَلِأَنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعِلَلَ النَّحْوِيَّةَ لَا تُوجِبُ الِاطِّرَادَ، أَلَا تَرَى أَنَّا إِذَا قُلْنَا/ الْفَاعِلِيَّةُ تُوجِبُ الرَّفْعَ، لَزِمَنَا أَنْ نَحْكُمَ بِحُصُولِ الرَّفْعِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ، كَقَوْلِنَا جَاءَنِي هَؤُلَاءِ وَضَرَبَنِي هَذَا بَلْ نَقُولُ: الْقِيَاسُ ذَلِكَ فَيُعْمَلُ بِهِ، إِلَّا إِذَا عَارَضَهُ نَصٌّ فَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا أَوْرَدَهُ الزَّجَّاجُ عَلَى الْكِسَائِيِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
رَوَى أَنَسٌ أَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكْثَرُوا الْمَسْأَلَةَ، فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: «سلوني فو اللَّه لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا إِلَّا حَدَّثْتُكُمْ بِهِ» فَقَامَ عَبْدُ اللَّه بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ وَكَانَ يُطْعَنُ فِي نَسَبِهِ، فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّه مَنْ أَبِي فقال: «أبو حُذَافَةُ بْنُ قَيْسٍ» وَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ وَيُرْوَى عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ يَا رَسُولَ اللَّه: الْحَجُّ عَلَيْنَا فِي كُلِّ عَامٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَعَادَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
«وَيْحَكَ وَمَا يُؤَمِّنُكَ أَنْ أَقُولَ نَعَمْ واللَّه لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَتَرَكْتُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ لَكَفَرْتُمْ فَاتْرُكُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ» وَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه أَيْنَ أَبِي فَقَالَ «فِي النَّارِ» وَلَمَّا اشْتَدَّ غَضَبُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عُمَرُ وَقَالَ:
رَضِينَا باللَّه رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الْأَشْيَاءِ رُبَّمَا يُؤَدِّي إِلَى ظُهُورِ أَحْوَالٍ مَكْتُومَةٍ يُكْرَهُ ظُهُورُهَا وَرُبَّمَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ تَكَالِيفُ شَاقَّةٌ صَعْبَةٌ فَالْأَوْلَى بِالْعَاقِلِ أَنْ يَسْكُتَ عَمَّا لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي سَأَلَ عَنْ أَبِيهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يُلْحِقَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِغَيْرِ أَبِيهِ فَيَفْتَضِحَ، وَأَمَّا السَّائِلُ عَنِ الْحَجِّ فَقَدْ كَادَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ: «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ كَانَ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ حَلَالٍ إِذْ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَقُولَ فِي الْحَجِّ إِيجَابٌ فِي كُلِّ عَامٍ»
وَكَانَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ يَقُولُ: إِنَّ اللَّه أَحَلَّ وَحَرَّمَ فَمَا أَحَلَّ فَاسْتَحِلُّوهُ، وَمَا حَرَّمَ فَاجْتَنِبُوهُ، وَتَرَكَ بَيْنَ ذَلِكَ أَشْيَاءَ لَمْ يُحَلِّلْهَا وَلَمْ يُحَرِّمْهَا، فَذَلِكَ عَفْوٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ: إِنَّ اللَّه فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَعَفَا عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تبحثوا عنها.
ثم قال تعالى: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَيَّنَ بِالْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي سَأَلُوا عَنْهَا إِنْ أُبْدِيَتْ لَهُمْ سَاءَتْهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ إِنْ سَأَلُوا عَنْهَا أُبْدِيَتْ لَهُمْ، فَكَانَ حَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُمْ إِنْ سَأَلُوا عَنْهَا أُبْدِيَتْ لَهُمْ، وَإِنْ أُبْدِيَتْ لَهُمْ سَاءَتْهُمْ، فَيَلْزَمُ مِنْ مَجْمُوعِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ أَنَّهُمْ إِنْ سَأَلُوا عَنْهَا ظَهَرَ لَهُمْ مَا يَسُوءُهُمْ وَلَا يَسُرُّهُمْ. وَالْوَجْهُ/ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنَّ السُّؤَالَ عَلَى قِسْمَيْنِ. أَحَدُهُمَا:
السُّؤَالُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ ذِكْرُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَهَذَا السُّؤَالُ منهى عنه بقوله لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنَ السُّؤَالِ: السُّؤَالُ عَنْ شَيْءٍ نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ لَكِنَّ السَّامِعَ لَمْ يَفْهَمْهُ كَمَا ينبغي فههنا السؤال واجب، وهو المراد بقوله وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا الْقِسْمِ أَنَّهُ لَمَّا مَنَعَ