آيات من القرآن الكريم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ

[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٢]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢)
تفسير المفردات
اجتنبوا: أي تباعدوا، وأصل اجتنبته: كنت منه على جانب، ثم شاع استعماله فى التباعد اللازم له، والإثم: الذنب، والتجسس: البحث عن العورات والمعايب والكشف عما ستره الناس، والغيبة: ذكر الإنسان بما يكره فى غيبته،
فقد روى مسلم وأبو داود والترمذي «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت لو كان فى أخى ما أقول؟
قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه»
.
المعنى الجملي
أدب الله عباده المؤمنين بآداب إن تمسكوا بها دامت المودة والوئام بينهم: منها ما تقدم قبل هذا، ومنها ما ذكره هنا من الأمور العظام التي تزيد توثيق رباط المجتمع الإسلامى قوة وهى:
(١) البعد عن سوء الظن بالناس وتخوّنهم فى كل ما يقولون وما يفعلون، لأن بعض ذلك قد يكون إثما محضا فليجتنب كثير منه،
وقد روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال: ولا تظننّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا، وأنت تجد لها فى الخير محملا.
(٢) البحث عن عورات الناس ومعايبهم.
(٣) عدم ذكر بعضهم بعضا بما يكرهون فى غيبتهم، وقد مثل الشارع المغتاب بآكل لحم الميتة استفظاعا له.

صفحة رقم 136

قال قتادة: كما تكره إن وجدت جيفة ممدودة أن تأكل منها، كذلك فاكره لحم أخيك وهو حىّ.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) أي يا أيها الذين آمنوا ابتعدوا عن كثير من الظن بالمؤمنين، بأن تظنوا بهم السوء ما وجدتم إلى ذلك سبيلا،
ففى الحديث «إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه، وأن يظن به ظن السوء».
ولا يحرم سوء الظن إلا ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة، أما من يجاهر بالفجور كمن يدخل إلى الخانات أو يصاحب الغواني الفواجر فلا يحرم سوء الظن به.
أخرج البيهقي فى شعب الإيمان عن سعيد بن المسيّب قال: كتب إلىّ بعض إخوانى من أصحاب رسول صلّى الله عليه وسلم. أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظننّ بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها فى الخير محملا، ومن عرّض نفسه للتهم فلا يلومنّ إلا نفسه، ومن كتم سرّه كانت الخيرة فى يده، وما كافأت من عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وعليك بإخوان الصدق فكن فى اكتسابهم، فإنهم زينة فى الرخاء، وعدّة عند عظيم البلاء، ولا تتهاون بالحلف فيهينك الله تعالى، ولا تسألن عما لم يكن حتى يكون، ولا تضع حديثك إلا عند من تشتهيه، وعليك بالصدق وإن قتلك، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشى الله، وشاور فى أمرك الذين يخشون ربهم بالغيب.
ثم علل الأمر باجتناب كثير من الظن بقوله:
(إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أي إن ظن المؤمن بالمؤمن الشرّ إثم، لأن الله قد نهاه عنه ففعله إثم. ونحو الآية قوله: «وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً».

صفحة رقم 137

قال ابن عباس فى الآية: نهى الله المؤمن أن يظن بالمؤمن سوءا اه.
ثم لما أمرهم سبحانه باجتناب كثير من الظن نهاهم عن التجسس فقال:
(وَلا تَجَسَّسُوا) أي ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره يبتغى بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فاحمدوا أو ذموا، لا على ما تعلمون من الخفايا.
وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام»
التجسس: البحث عما يكتم عنك، والتحسس: طلب الأخبار والبحث عنها، والتناجش:
البيع على بيع غيرك (الزيادة عليه) والتدابر: الهجر والقطيعة.
وعن أبى برزة الأسلمى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه فى عقر بيته».
وروى الطبراني عن حارثة بن النعمان رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «ثلاث لازمات لأمتى: الطّيرة والحسد وسوء الظن، فقال رجل وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال صلّى الله عليه وسلم: إذا حسدت فاستغفر الله، وإذا ظننت فلا تحقّق، وإذا تطيرت فامض».
وقال عبد الرحمن بن عوف: حرست ليلة مع عمر بن الخطاب بالمدينة، إذ تبين لنا سراج فى بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب، فما ترى؟ قلت: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه، قال تعالى: «وَلا تَجَسَّسُوا» وقد تجسسنا، فانصرف عمر وتركهم.

صفحة رقم 138

وقال أبو قلابة: حدّث عمر بن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له فى بيته، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: إن هذا لا يحل لك، قد نهاك الله عن التجسس. فخرج عمر وتركه.
(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي ولا يذكر بعضكم بعضا بما يكره فى غيبته، والمراد بالذكر الذكر صريحا أو إشارة أو نحو ذلك مما يؤدى مؤدى النطق، لما فى ذلك من أذى المغتاب، وإيغار الصدور وتفريق شمل الجماعات، فهى النار تشتعل فلا تبقى ولا تذر، والمراد بما يكره ما يكره فى دينه أو دنياه أو خلقه أو خلقه أو ماله أو ولده أو زوجته أو خادمه أو ملبسه أو غير ذلك مما يتعلق به.
قال الحسن: الغيبة ثلاثة أوجه كلها فى كتاب الله: الغيبة، والإفك، والبهتان.
(١) فأما الغيبة: فهى أن تقول فى أخيك ما هو فيه.
(٢) وأما الإفك: فأن تقول فيه ما بلغك عنه.
(٣) وأما البهتان: فأن تقول فيه ما ليس فيه.
ولا خلاف بين العلماء فى أن الغيبة من الكبائر وأن على من اغتاب أحدا التوبة إلى الله أو الاستغفار لمن اغتابه أو الاستحلال منه.
وعن شعبة قال: قال لى معاوية بن قرّة: لو مرّ بك رجل أقطع (مقطوع اليد) فقلت هذا أقطع كان غيبة، قال شعبة فذكرته لأبى إسحاق فقال صدق.
ثم ضرب سبحانه مثلا للغيبة للتنفير والتحذير منها فقال:
(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) أي أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته؟ فإذا كنتم لا تحبون ذلك بل تكرهونه لأن النفس تعافه، فكذلك فاكرهوا أن تغتابوه فى حياته.
والخلاصة- إنكم كما تكرهون ذلك طبعا فاكرهوا ذلك شرعا لما فيه من شديد العقوبة.

صفحة رقم 139

وقد شبهت بأكل اللحم لما فيها من تمزيق الأعراض المشابه لأكل اللحم وتمزيقه، وقد جاء هذا على نهج العرب فى كلامهم. قال المقنّع الكندي:

فإن أكلوا لحمى وفرت لحومهم وإن هدموا مجدى بنيت لهم مجدا
وقد زادت الآية فجعلت اللحم لحم أخ ميت تصويرا له بصورة بشعة تستقذرها النفوس جميعا.
سمع على بن الحسين رضى الله عنهما رجلا يغتاب آخر فقال: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس،
وقيل لعمرو بن عبيد: لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك، قال:
إياه فارحموا.
وقال رجل للحسن البصري: بلغني أنك تغتابنى، فقال: لم يبلغ قدرك عندى أن أحكمك فى حسناتى.
وقد ثبت فى الصحيح من غير وجه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال حين خطب فى حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا».
(وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي فاكرهوا الغيبة، واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، وراقبوه واخشوه.
ثم علل هذا بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) أي إن الله يتوب على من تاب إليه عما فرط منه من الذنب، رحيم به أن يعذبه بعد توبته.
ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة حين صدورها منه، بأن يقلع عنها ويندم على ما فرط منه، ويعزم عزما مؤكدا على ألا يعود إلى مثل ما فرط منه.
ولا تحرم الغيبة إذا كانت لغرض صحيح شرعا لا يتوصل إليه إلا بها، وينحصر ذلك فى ستة أمور:

صفحة رقم 140
تفسير المراغي
عرض الكتاب
المؤلف
أحمد بن مصطفى المراغي
الناشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر
الطبعة
الأولى، 1365 ه - 1946 م
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية