الدين. وقوله: فَأَصْلِحُوا دليل على أن من رجا صلاح ما بين متعاديين من المؤمنين أن عليه الإصلاح بينهما «١».
- ٣- آداب المؤمن مع المؤمن ومع الناس كافة
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١١ الى ١٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)
الإعراب:
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ الْفُسُوقُ: بدل من الِاسْمُ، لإفادته أنه فسق.
وَلا تَجَسَّسُوا أصله: تتجسسوا، فحذف منه إحدى التاءين.
لِتَعارَفُوا أصله لتتعارفوا، حذف منه إحدى التاءين.
البلاغة:
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً؟ تشبيه تمثيلي، مثّل المغتاب بمن يأكل لحم الإنسان الميت، وفيه تقبيح التشبيه بأقبح الصور.
المفردات اللغوية:
لا يَسْخَرْ لا يهزأ ولا يحتقر ولا يعيب، والسّخرية والسخرى: الازدراء والاحتقار، ويقال: سخر به وسخر منه. وقد تكون السخرية: بمحاكاة القول أو الفعل أو الإشارة. قَوْمٌ هم الرجال دون النساء، فالقوم مختص بالرجال، لأنهم قوّامون على النساء. وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يعب بعضكم بعضا، ولا تعيبوا، فتعابوا، واللمز: الطعن والتنبيه إلى المعايب بقول أو إشارة باليد أو العين أو نحوهما.
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي لا تتداعوا بالمكروه من الألقاب، فإن النبز مختص بلقب السوء عرفا، ومنه: يا فاسق، ويا كافر. بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أي ساء الاسم والصيت، وهو المذكور من السخرية واللمز والتنابز، بأن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم الإيمان واشتهارهم به، والمراد تهجين نسبة الكفر والفسق إلى المؤمنين، مأخوذ من قولهم: طار اسمه في الآفاق أي ذكره وشهرته. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ من ذلك المنهي عنه. فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فهم لا غيرهم ظلمة، بوضع العصيان موضع الطاعة، وتعريض النفس للعذاب.
اجْتَنِبُوا تباعدوا وكونوا بمنأى عنه أو على جانب منه. كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ الظَّنِّ حد وسط بين العلم (اليقين) والشك أو الوهم، وهو ما يطرأ للنفس بسبب شبهة أو أمارة قوية أو ضعيفة. وإبهام الكثير ليحتاط في كل ظن ويتأمل من أي نوع، فبعض الظن واجب الاتباع كالاجتهاد في الأحكام العملية وحسن الظن بالله، وبعضه حرام كالظن في الإلهيات والنبوات، أو عند مصادمة الدليل القاطع، وظن السوء بالمؤمنين، وبعضه مباح كالظن في الأمور المعاشية.
إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ أي ذنب مؤثم موجب العقوبة عليه، وهو كثير كظن السوء بأهل الخير من المؤمنين، وهو تعليل مستأنف للأمر بالاجتناب. وَلا تَجَسَّسُوا التجسس: البحث عن العورات والمعايب وكشف ما ستره الناس. وَلا يَغْتَبْ الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره في غيبته، وإن كان العيب فيه. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً؟ أي لا يحسن به، وهو تمثيل لما يناله المغتاب من عرض غيره على أفحش وجه، مع مبالغات الاستفهام المقرّر، وإسناد الفعل إلى أحد للتعميم، وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، وجعل المأكول أخا وميتا، وتعقيب ذلك بقوله: فَكَرِهْتُمُوهُ أي تقريرا وتحقيقا لذلك، أي فاغتيابه في حياته كأكل لحمه بعد مماته، وقد عرض عليكم أكل لحوم البشر فكرهتموه، فاكرهوا الغيبة التي هي مثل الأكل المذكور. وَاتَّقُوا اللَّهَ عقاب اللَّه في الاغتياب، بأن تتوبوا منه. إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ قابل توبة التائبين بكثرة، رحيم بهم، فيجعل صاحب التوبة كمن لم يذنب.
مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى من آدم وحواء عليهما السلام، أو من أب وأم، فالكل سواء في ذلك، فلا وجه للتفاخر بالنسب ما دام أصلهم واحدا شُعُوباً جمع شعب: وهم الجماعة من الناس التي لها وطن خاص، أو من أصل واحد كربيعة ومضر، وهو يجمع القبائل وأعم منها. وَقَبائِلَ جمع قبيلة: وهي ما دون الشعب. وطبقات النسل عند العرب سبع: الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، ثم العشيرة، مثاله: خزيمة: شعب، وكنانة: قبيلة، وقريش:
عمارة، وقصي: بطن، وعبد مناف: فخذ، وهاشم: فصيلة، والعباس: عشيرة.
لِتَعارَفُوا ليعرف بعضكم بعضا، لا للتفاخر بالآباء والقبائل، فلا تتفاخروا بعلو النسب، وإنما الفخر بالتقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ بالتقوى تكمل النفوس وتتفاضل الأشخاص، والتقوى: التزام المأمورات واجتناب المنهيات إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ أي عليم بكم وبكل شيء، خبير ببواطنكم وأسراركم كجهركم.
سبب النزول:
نزول الآية (١١) :
لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ: قال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذين تقدم ذكرهم في بيان سبب نزول الآية الأولى من هذه السورة، استهزءوا بفقراء الصحابة، مثل عمّار وخبّاب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم.
وقال مجاهد: هو سخرية الغني من الفقير. وقال ابن زيد: لا يسخر من ستر اللَّه عليه ذنوبه ممن كشفه اللَّه، فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة.
وقيل: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس عيّره رجل بأم كانت له في الجاهلية، فنكس الرجل استحياء، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
وقيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلما، وكان المسلمون إذا رأوه قالوا: ابن فرعون هذه الأمة، فشكا ذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنزلت.
والخلاصة: لا مانع من تعدد وقائع النزول، فقد يكون كل ما ذكر سببا لنزول الآية، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
نزول الآية (١١) أيضا:
وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ:
قال ابن عباس: إن صفيّة بنت حييّ بن أخطب أتت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالت: يا رسول اللَّه، إن النساء يعيّرنني، ويقلن لي:
يا يهودية بنت يهوديّين! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «هلا قلت: إن أبي هارون، وإن عمي موسى، وإن زوجي محمد» فأنزل اللَّه هذه الآية.
وقيل: نزلت في نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عيّرن أم سلمة بالقصر.
نزول الآية (١١) كذلك:
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ: أخرج أصحاب السنن الأربعة عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: كان الرجل منا يكون له الاسمان والثلاثة، فيدعى ببعضها، فعسى أن يكرهه، فنزلت: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ قال الترمذي: حسن.
وأخرج الحاكم وغيره من حديث أبي جبيرة أيضا قال: كانت الألقاب في الجاهلية، فدعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا منهم بلقبه، فقيل له: يا رسول اللَّه، إنه يكرهه، فأنزل اللَّه: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ.
ولفظ أحمد عنه قال: فينا نزلت في بني سلمة: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول اللَّه، إنه يغضب من هذا، فنزلت «١».
نزول الآية (١٢) :
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً: أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: زعموا
أنها نزلت في سلمان الفارسي أكل ثم رقد، فذكر رجل أكله ورقاده، فنزلت.
نزول الآية (١٣) :
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة قال: لما كان يوم الفتح، رقي بلال على ظهر الكعبة، فأذّن، فقال بعض الناس: أهذا العبد الأسود يؤذّن على ظهر الكعبة؟ فقال بعضهم: إن يسخط اللَّه هذا يغيّره أو إن يرد اللَّه شيئا يغيره، فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى الآية، فدعاهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وزجرهم على التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء.
وقال ابن عساكر في مبهماته: وجدت بخط ابن بشكوال أن أبا بكر بن أبي داود أخرج في تفسير له أنها نزلت في أبي هند، أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بني بياضة أن يزوجوه امرأة منهم، فقالوا: يا رسول اللَّه: نزوج بناتنا موالينا؟ فنزلت الآية.
قال الزهري: نزلت في أبي هند خاصة.
المناسبة:
بعد أن بيّن اللَّه تعالى وأرشد إلى ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع اللَّه تعالى، ومع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومع من يخالفهما ويعصيهما وهو الفاسق، بيّن ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن ومع الناس كافة، من الامتناع عن السخرية، والهمز واللمز والتنابز بالألقاب، وإساءة الظن وتتبع عورات الناس ومعايبهم، والغيبة والنميمة، ووجوب المساواة بين الناس، واعتقاد أن معيار التفاضل والتمييز هو التقوى والصلاح وكمال الأخلاق.
ويلاحظ سمو الترتيب الإلهي في سرد الآداب العامة في الموضوعات المذكورة، حيث رتّب اللَّه تعالى وقوع النزاع والاقتتال بين الطوائف والأفراد
على أنباء الفاسقين، ثم نهى عن الأخلاق المرذولة التي ينشأ عنها النزاع، ثم أعلن وحدة الإنسانية في الأصل والمنشأ، كل ذلك من أجل الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية، وجعلها مثالا يحتذي في التعامل مع الأمم والشعوب الأخرى، لنشر الإسلام وإعلاء كلمة اللَّه في كل مكان.
التفسير والبيان:
هذه أخلاق الإسلام وآدابه العالية أدّب اللَّه تعالى بها عباده المؤمنين وهي:
١- النهي عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم وازدراؤهم والاستهزاء بهم:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ، عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ، وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله لا يهزأ رجال من آخرين، فربما كان المسخور بهم عند اللَّه خيرا من الساخرين بهم، أو قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند اللَّه تعالى وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له، فهذا حرام قطعا، ذكر فيه علة التحريم أو النهي، كما قال بعضهم:
لا تهين الفقير علّك أن | تركع يوما، والدهر قد رفعه |
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم- فيما رواه الحاكم وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة- «ربّ أشعث أغبر ذي طمرين «١» تنبو عنه أعين الناس، لو أقسم على اللَّه لأبرّه»
ورواه أحمد ومسلم بلفظ: «رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على اللَّه لأبرّه».
وبالرغم من أن النساء يدخلن عادة في الخطاب التشريعي مع الرجال، فقد أفردهن بالنهي هنا دفعا لتوهم عدم شمول النهي لهن، وأكد معنى النهي للنساء أيضا، وذلك بالأسلوب نفسه، فنص على نهي الرجال، وعطف بنهي النساء،
بصيغة الجمع، لأن أغلب السخرية تكون في مجامع الناس، فقال: ولا يسخر نساء من نساء، فلعل المسخور منهن يكنّ خيرا من الساخرات.
ولا يقتصر النهي على جماعة الرجال والنساء، وإنما يشمل الأفراد، لأن علة النهي عامة، فتفيد عموم الحكم لعموم العلة.
أخرج مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»
فالتميز إنما يكون بإخلاص الضمير، ونقاء القلب، وإخلاص الأعمال لله عز وجل، لا بالمظاهر والثروات، ولا بالألوان والصور، ولا بالأعراق والأجناس.
٢- النهي عن الهمز واللمز، أي التعييب بقول أو إشارة خفية:
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا تلمزوا الناس، ولا يطعن بعضكم على بعض، ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو فعل أو إشارة. وقد جعل اللَّه لمز بعض المؤمنين لمزا للنفس، لأنهم كنفس واحدة، فمتى عاب المؤمن أخاه، فكأنما عاب نفسه، وهذا مثل قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء ٤/ ٢٩] أي لا يقتل بعضكم بعضا.
أخرج أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى رأسه اشتكى كله، وإن اشتكى عينه اشتكى كله».
والهماز اللماز مذموم ملعون، كما قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة ١٠٤/ ١]. والهمز يكون بالفعل، واللمز يكون بالقول، وقد عاب اللَّه من اتصف بذلك في قوله: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم ٦٨/ ١١] أي: يحتقر الناس ويهمزهم طاعنا بهم، ويمشي بينهم بالنميمة وهي اللمز بالمقال «١».
والفرق بين السخرية واللمز: أن السخرية احتقار الشخص مطلقا، على وجه مضحك بحضرته، واللمز: التنبيه على معايبه، سواء أكان على شيء مضحك أم غيره، وسواء أكان بحضرته أم لا، وعلى هذا يكون اللمز أعم من السخرية، ويكون من عطف العام على الخاص، لإفادة الشمول.
٣- التنابز بالألقاب أي التداعي بالألقاب التي يسوء الشخص سماعها:
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي لا يلقّب بعضكم بعضا لقب سوء يغيظه، كأن يقول المسلم لأخيه المسلم: يا فاسق، يا منافق، أو يقول لمن أسلم: يا يهودي أو يا نصراني، أو يقول لأي إنسان: يا كلب، يا حمار، يا خنزير، ويعزر المرء القائل ذلك بعقوبة تعزيرية. وقد نص العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره، سواء أكان صفة له أم لأبيه أم لأمه، أم لكل من ينتسب إليه. والتنابز يقتضي المشاركة بين الاثنين، وعبر بذلك لأن كل واحد سرعان ما يقابل الآخر بلقب ما، فالنبز يفضي في الحال إلى التنابز، بعكس اللمز يكون غالبا من جانب، ويحتاج للبحث عن عيب ما يرد به.
ويستثني من ذلك: أن يشتهر بلقب لا يسوؤه، فيجوز إطلاقه عليه، كالأعمش والأعرج من رواة الحديث. أما الألقاب المحمودة فلا تحرم ولا تكره كما قيل لأبي بكر: عتيق، ولعمر: الفاروق، ولعثمان: ذو النورين، ولعلي:
أبو تراب «١»، ولخالد: سيف اللَّه، ولعمرو بن العاص: داهية الإسلام.
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أي ساء الوصف أن يسمى الرجل فاسقا أو كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته، أو أن يذكر بالفسوق بعد الدخول في الإيمان. والفسوق: هو التنابز بالألقاب كما كان أهل الجاهلية يفعلون بعد ما دخلوا في الإسلام وعقلوه. والمراد: ذم اجتماع صفة الفسوق بسبب التنابز
بالألقاب مع الإيمان، وذلك تغليظ وتنفير شديد، حيث جعل التنابز فسقا، وهو تعليل للنهي السابق.
وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي ومن لم يتب عما نهى اللَّه عنه من الأمور الثلاثة (السخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب) فهو من الظالمين، بل هم لا غيرهم الظالمون أنفسهم، بسبب العصيان بعد الطاعة، وتعريض النفس للعذاب.
وسبب وصف العصاة بالظلم: أن الإصرار على المنهي كفر، إذ جعل المنهي كالمأمور، فوضع الشيء في غير موضعه.
٤- النهي عن سوء الظن وتحريمه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ أي يا أيها المصدقون بالله ورسوله، ابتعدوا عن كثير من الظن، فيشمل بعض الظن، وهو أن يظن بأهل الخير سوءا، وهذا هو الظن القبيح، وهو متعلق بمن ظاهره الصلاح والخير والأمانة.
أما أهل السوء والفسوق المجاهرون بالفجور، كمن يسكر علانية أو يصاحب الفاجرات، فيجوز ظن السوء به لتجنبه والتحذير من سلوكه، دون تكلم عليه، فإن تكلم بذلك الظن وأبداه أثم.
ثم علل اللَّه تعالى النهي بأن بعض الظن وهو ظن السوء بأهل الخير، أو ظن الشر بالمؤمن ذنب مؤثم أي موقع في الإثم، لنهي اللَّه عنه، كما قال تعالى:
وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ، وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً [الفتح ٤٨/ ١٢] أي هلكى.
وقد وردت أحاديث كثيرة في تحريم سوء الظن بالمؤمن، منها
ما رواه ابن ماجه عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما قال: رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يطوف بالكعبة
ويقول: «ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند اللَّه تعالى حرمة منك، ماله ودمه، وأن يظن به إلا خيرا».
قال ابن عباس في الآية: نهى اللَّه المؤمن أن يظن بالمؤمن إلا خيرا.
ومنها
ما رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسّسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد اللَّه إخوانا».
وفي رواية أخرى لمسلم والترمذي: «لا تقاطعوا ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد اللَّه إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام»
والتدابر: الهجر والقطيعة.
٥- تحريم التجسس:
وَلا تَجَسَّسُوا أي لا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم، وتستكشفوا ما ستروه، وتستطلعوا أسرارهم، فالتجسس: البحث عما هو مكتوم عنك من عيوب المسلمين وعوراتهم. أما التجسس: فهو البحث عن الأخبار، والاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون، أو يتسمع على أبوابهم.
أخرج أبو داود وغيره عن أبي برزة الأسلمي قال: خطبنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان إلى قلبه، لا تتّبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورات المسلمين، فضحه اللَّه في قعر بيته».
وأخرج الطبراني عن حارثة بن النعمان رضي اللَّه عنه قال: قال
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ثلاث لازمات لأمتي: الطّيرة «١» والحسد وسوء الظن، فقال رجل: وما يذهبهن يا رسول اللَّه ممن هن فيه؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا حسدت فاستغفر اللَّه، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيّرت فامض».
وأخرج أبو داود أيضا عن أبي أمامة وآخرين من الصحابة رضي اللَّه عنهم عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة من الناس أفسدهم».
قال أبو قلابة: حدّث عمر بن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: إن هذا لا يحل لك، قد نهاك اللَّه عن التجسس، فخرج عمر وتركه.
٦- تحريم الغيبة، وهي ذكرك أخاك بما يكره:
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ؟ أي لا يذكر بعضكم بعضا في غيبته بما يكره، سواء أكان الذكر
والفأل: هو ما يظن عنده الخير، عكس الطيرة والتطير، والفأل الحسن: كالكلمة الحسنة والتسمية بالاسم الحسن، والفأل الحرام: كأخذ الفأل من المصحف وضرب الرمل والقرعة والضرب بالشعير، وجميع هذا النوع حرام، لأنه من باب الاستقسام بالأزلام. والأزلام:
أعواد كانت في الجاهلية: مكتوب على أحدهما: افعل، وعلى الآخر: لا تفعل، وعلى الآخر:
غفل، فيخرج أحدها، فإن وجد عليه: افعل، أقدم على حاجته، أو لا تفعل، أعرض عنها واعتقد أنها ذميمة، أو خرج المكتوب عليه: غفل، أعاد الضرب، فهو طلب قسمة الغيب بتلك الأعواد، ويسمى استقساما، أي طلب القسم الجيد من الرديء (انظر الفروق للقرافي، الفرق بين قاعدة التطير وقاعدة الطيرة وما يحرم منهما وما يحرم منهما وما لا يحرم، والفرق بين قاعدة الطيرة وقاعدة الفأل الحلال والفأل الحرام: ٤/ ٢٣٨، ٢٤٠).
صراحة أم إشارة أم نحو ذلك، لما فيه من الأذى بالمغتاب. وهو يتناول كل ما يكره، سواء في دينه أو دنياه، في خلقه أو خلقه، في ماله أو ولده أو زوجته أو خادمه أو لباسه ونحو ذلك.
وقد فسر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الغيبة فيما رواه أبو داود والترمذي وابن جرير عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول اللَّه ما الغيبة؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه»
أي فإن كان الوصف موجودا فيه فهو الغيبة، وإن كان مفترى والمغتاب خال من ذلك، فذلك هو البهتان.
وروى أبو داود أيضا عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قلت للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
حسبك من صفية كذا وكذا- أي قصيرة- فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته»
قال معاوية بن قرّة: لو مرّ بك رجل أقطع (مقطوع اليد) فقلت: هذا أقطع كان غيبة.
ثم شبّه اللَّه تعالى الغيبة بأكل لحم الإنسان الميت للتنفير، وهو أيحب أحدكم أن يتناول لحم أخيه بعد موته؟ فكما كرهتم هذا، فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا، فإنه تعالى مثّل الغيبة بأكل جثة الإنسان الميت، وهذا من التنفير، فإن لحم الإنسان مما تنفر عن أكله الطباع الإنسانية، فضلا عن كونه محرّما شرعا، وفي الآية أنواع من المبالغات: منها الاستفهام للتقرير ومحبة المكروه، وإسناد الفعل إلى أَحَدُكُمْ للإشعار بأن لا أحد يحب ذلك، وتقييد المكروه بأكل لحم الإنسان، وتقييد الإنسان بالأخ، وجعل الأخ أو اللحم ميتا، فيه مزيد تنفير للطبع.
وهذا دليل على تحريم الغيبة وعلى قبحها شرعا، لذا كانت الغيبة محرّمة بالإجماع وعلى المغتاب التوبة إلى اللَّه والاستحلال ممن اغتابه، ولا يستثني من
ذلك إلا ما رجحت مصلحته، كما في الجرح والتعديل والنصيحة،
كقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر فيما رواه البخاري عن عائشة: «ائذنوا له، بئس أخو العشيرة».
وكقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم لفاطمة بنت قيس رضي اللَّه عنها، وقد خطبها معاوية وأبو الجهم: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له» «١».
وتحريم الغيبة مرتبط بحماية الكرامة الإنسانية، ثبت في الأحاديث الصحيحة من غير وجه
أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال في خطبة حجة الوداع فيما رواه الشيخان عن أبي بكرة: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا».
وروى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كل المسلم على المسلم حرام: ماله وعرضه ودمه، حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم».
وروى أبو داود أيضا عن أبي بردة البلوي قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم، فإن من يتبع عوراتهم يتبع اللَّه عورته، ومن يتبع اللَّه عورته، يفضحه في بيته».
وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ أي واتقوا اللَّه فيما أمركم به ونهاكم عنه، فراقبوه في ذلك واخشوا منه، وأكرهوا الغيبة وتباعدوا عنها، إن اللَّه تواب على من تاب إليه، رحيم بمن رجع إليه واعتمد عليه.
قال جمهور العلماء: طريق المغتاب للناس في توبته أن يقلع عن ذلك، وأن يعزم على ألا يعود، ويندم على ما فعل، وأن يتحلل من الذي اغتابه. وقال آخرون: لا يشترط أن يتحلله، فإنه إذا أعلمه بذلك، ربما تأذى أشد مما إذا لم
يعلم بما كان منه، فطريقه إذن أن يثني عليه في المجالس التي كان يذمه فيها، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته، لتكون تلك بتلك، كما
روى الإمام أحمد وأبو داود عن معاذ بن أنس الجهني رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «من حمى مؤمنا من منافق يغتابه، بعث اللَّه تعالى إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مؤمنا بشيء يريد سبه، حبسه اللَّه تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال».
٧- المساواة بين الناس في الأصل والمنشأ، والتفاضل بالتقوى:
يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ كان النداء السابق لأهل الإيمان لتأديبهم بالأخلاق الفاضلة، ونادى هنا بصفة الناس الذي هو اسم الجنس الإنساني، ليناسب بيان المطلوب، ويؤكد ما نهى عنه سابقا، وليعمم الخطاب للناس جميعا منعا من السخرية واللمز وغير ذلك على الإطلاق، فقال:
يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية.
والمعنى: أيها البشر، إنا خلقناكم جميعا من أصل واحد، من نفس واحدة، من آدم وحواء، فأنتم متساوون، لأن نسبكم واحد، ويجمعكم أب واحد وأم واحدة، فلا موضع للتفاخر بالأنساب، فالكل سواء، ولا يصح أن يسخر بعضكم من بعض، ويلمز بعضكم بعضا، وأنتم إخوة في النسب.
وقد جعلناكم شعوبا (أمة كبيرة تجمع قبائل) وقبائل دونها لتتعارفوا لا لتتناكروا وتتحالفوا، والمقصود أن اللَّه سبحانه خلقكم لأجل التعارف، لا للتفاخر بالأنساب.
وإن التفاضل بينكم إنما هو بالتقوى، فمن اتصف بها كان هو الأكرم والأشرف والأفضل، فدعوا التفاخر، إن اللَّه عليم بكم وبأعمالكم، خبير ببواطنكم وأحوالكم وأموركم.
والآية دليل للمالكية الذين لم يشترطوا الكفاءة في الزواج، سوى الدين، لقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ.
وقد وردت أحاديث صحاح كثيرة، منها ما رواه أبو بكر البزار في مسنده عن حذيفة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على اللَّه تعالى من الجعلان».
وروى ابن أبي حاتم والترمذي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: طاف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم فتح مكة على ناقته القصواء يستلم الأركان بمحجن في يده، فما وجد لها مناخا في المسجد، حتى نزل صلّى اللَّه عليه وسلّم على أيدي الرجال، فخرج بها إلى بطن المسيل، فأنيخت، ثم إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خطبهم على راحلته، فحمد اللَّه تعالى، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:
«يا أيها الناس، إن اللَّه تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل برّ تقي كريم على اللَّه تعالى، ورجل فاجر شقي هيّن على اللَّه تعالى، إن اللَّه عز وجل يقول: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ثم قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أقول قولي هذا، وأستغفر اللَّه لي ولكم» «١».
وروى الطبري في آداب النفوس قال: «خطب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمنى في وسط أيام التشريق، وهو على بعير، فقال:
يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم، قال: فليبلّغ الشاهد الغائب».
وقد تقدم ذكر حديث مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة: «إن اللَّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»
وعند الطبراني عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، فمن كان له قلب صالح تحنّن اللَّه عليه، وإنما أنتم بنو آدم، وأحبكم إليه أتقاكم».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الأحكام التالية:
١- حرّم اللَّه تعالى بدلالة النهي في الآية الأولى ثلاثة أشياء: هي السخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب، ومن فعل ما نهى اللَّه عنه منها فذلك فسوق، وهو لا يجوز، وهو من الظالمين أنفسهم بتعريضها بسبب ظلمه غيره إلى العذاب والعقاب إن لم يتب. والعلة واضحة وهي احتمال أن يكون المسخور منه والملموز والملقّب خيرا ممن عابه.
واستثني من التنابز بالألقاب المكروهة من غلب عليه اللقب في الاستعمال والشهرة، فلم يعد يعرف إلا بها، كالأعرج والأحدب والأعمش.
أما الألقاب الحسنة كالصدّيق لأبي بكر، والفاروق لعمر، وذي النورين لعثمان، وتلقيب خزيمة بذي الشهادتين، وأبي هريرة بذي الشمالين، والخرباق بن عمرو بذي اليدين، وحمزة بأسد اللَّه، وخالد بسيف اللَّه، فذلك جائز مقبول مألوف بين العرب والعجم. لهذا كانت التسمية بالأسماء الحسنة مطلوبة.
ذكر الزمخشري: روي عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من حق المؤمن على المؤمن أن يسمّيه بأحب أسمائه إليه. وكانت التكنية من السنة والأدب الحسن»
قال عمر رضي اللَّه عنه: «أشيعوا الكنى فإنها منبّهة، وقد لقّب أبو بكر بالعتيق
والصديق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد اللَّه، وخالد بسيف اللَّه، وقل من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب، ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها- من العرب والعجم- تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير».
٢- كذلك حرّم اللَّه سبحانه بدلالة النهي أيضا في الآية الثانية ثلاثة أشياء:
هي سوء الظن بأهل الخير والصلاح والإيمان، والتجسس، والغيبة.
والظن أنواع «١» :
الأول- ظن واجب أو مأمور به: كحسن الظن بالله تعالى وبالمؤمنين، كما
جاء في الحديث القدسي فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة: «أنا عند ظن عبدي بي»
وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن جابر: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله»
وقال أيضا فيما رواه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة: «حسن الظن من حسن العبادة»
ومثل قبول شهادة العدول، وتحري القبلة، وتقويم المستهلكات وأروش الجنايات غير المقدرة شرعا.
الثاني- ظن محظور أو حرام: كسوء الظن بالله، وبأهل الصلاح، وبالمسلمين مستوري الحال، ظاهري العدالة،
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه حرم من المسلم دمه وعرضه، وأن يظنّ به ظنّ السوء» ذكره القرطبي والألوسي
وقال أيضا عن عائشة مرفوعا: «من أساء بأخيه الظن فقد أساء الظن بربه، إن اللَّه تعالى يقول: اجتنبوا كثيرا من الظن».
روى أبو داود عن صفية قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم معتكفا. فأتيته أزوره ليلا، فحدثته وقمت، فانقلبت فقام معي ليقلبني «٢»، وكان مسكنها في دار
(٢) أي فانصرفت فقام معي ليصرفني.
أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أسرعا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: على رسلكما، إنها صفية بنت حييّ، قالا: سبحان اللَّه، يا رسول اللَّه! قال: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا أو سوءا» «١».
أما من يجاهر بالخبائث أو يتعاطى الريب، فلا يحرم إساءة الظن به، فليس الناس أحرص منه على نفسه، وقد أمر اللَّه أن يتجنب الإنسان مواضع الريبة ومواقف التهم.
الثالث- ظن مندوب إليه: كإحسان الظن بالأخ المسلم، وإساءة الظن إذا كان المظنون به ظاهر الفسق،
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من الحزم سوء الظن»
وقال أيضا فيما رواه الطبراني في الأوسط وابن عدي عن أنس، وهو ضعيف: «احترسوا من الناس بسوء الظن».
فإذا كان الظن لاتقاء الشر ولا يتعدى إلى الغير، فهو من هذا النوع، محمود غير مذموم، وعليه يحمل هذان الحديثان، وما جاء في الحكم:
«حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة».
وحرمة سوء الظن بالناس: إنما تكون إذا كان لسوء الظن أثر يتعدى إلى الغير.
الرابع- ظن مباح: كالظن في استنباط الأحكام الشرعية الفرعية العملية بالاجتهاد، والعمل بغالب الظن في الشك في الصلاة، كم صلّى ثلاثا أو أربعا.
وأما التجسس فهو من الكبائر وهو البحث عن الأمور المكتومة أو السرية، ومنه الجاسوس، وكذلك التحسس وهو الاستماع لحديث القوم وهم له كارهون حرام أيضا، لكنه قد يستعمل في البحث عن الخير، كما قال تعالى: فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ [يوسف ١٢/ ٨٧].
والغيبة أيضا حرام، وهي من الكبائر بالإجماع كما ذكر القرطبي، وأن من
اغتاب أحدا عليه أن يتوب إلى اللَّه عز وجل، مع استحلال المغتاب في رأي جماعة، ودون استحلاله في رأي آخرين كما تقدم.
والفرق بين الغيبة والإفك والبهتان: أن الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه، والإفك: أن تقول فيه ما بلغك عنه، والبهتان: أن تقول فيه ما ليس فيه. واللَّه تعالى نفرّ من الغيبة أشد تنفير، مشبها الاغتياب بأكل لحم الإنسان ميتا.
وقد ذكر العلماء أشياء ليس لها حكم الغيبة، فالغيبة لا تحرم إذا كانت لغرض صحيح شرعا لا يتوصل إليه إلا به وهي ستة أمور «١» :
الأول- التظلم: فلمن ظلم تقديم شكوى للحاكم لإزالة ظلمه،
لحديث أخرجه البخاري والترمذي عن أبي هريرة: «دعوه فإن لصاحب الحق مقالا»
وحديث أخرجه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة: «مطل الغني ظلم» أو «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن الشريد.
الثاني- الاستعانة على تغيير المنكر: بأن يذكره لمن يظن قدرته على تغييره، لقوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء ٤/ ١٤٨].
الثالث- الاستفتاء: كأن يقول للمفتي: ظلمني فلان بكذا، فما طريق الوصول إلى حقي؟
لقول هند للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديث المتفق عليه عن عائشة:
«إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي، فآخذ من غير علمه؟ فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: نعم فخذي».
الرابع- التحذير من الفسّاق: فلا غيبة لفاسق فاجر كمدمن خمر وارتياد أماكن الفجور،
للحديث الذي رواه الطبراني وابن حبان في الضعفاء وابن عدي عن بهز بن حكيم: «اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس»
وفي رواية للبيهقي
عن أنس، وهو ضعيف: «من ألقى جلباب الحياء، فلا غيبة له، واتقوا اللَّه فيما نهاكم، وتوبوا فيما وجد منكم» «١».
الخامس- التحذير من سر عام: كجرح الشهود والرواة والمصنفين والمفتين مع عدم الأهلية، ونصح الخاطب والشريك ونحو ذلك.
السادس- التعريف بلقب مشهور إذا لم تمكن المعرفة بغيره، كالأعور والأعمش والأعرج. وصنف القرافي ما استثناه العلماء من الغيبة المحرمة وهي ست صور كما يلي: النصيحة، والتجريح والتعديل في الشهود، والمعلن بالفسوق، وأرباب البدع والتصانيف المضلة، ينبغي أن يشهر الناس فسادها وعيبها، والعلم السابق بالمغتاب به بين المغتاب والمغتاب عنده، والدعوى عند ولاة الأمور «٢».
٣- ذكرت الآية الثالثة ثلاثة أشياء: المساواة، وتعارف المجتمع الإنساني، وحصر التفاضل بالتقوى والعمل الصالح.
أما المساواة: فالناس سواسية كأسنان المشط في الأصل والمنشأ الإنساني، فهم من أب وأم واحدة، وفي الحقوق والواجبات التشريعية، وهذه أصول الديمقراطية الحقة.
وقد أبان اللَّه أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى، ولو شاء لخلقه من غيرهما كخلقه لآدم، أو دون ذكر كخلقه لعيسى عليه السلام، أو دون أنثى كخلقه حواء، أو دون أب كخلقه عيسى عليه السلام.
وأما التعارف: فإن اللَّه خلق الخلق أنسابا وأصهارا، وقبائل وشعوبا من أجل التعارف والتواصل والتعاون، لا للتناكر والتقاطع، والمعاداة واللمز والسخرية والغيبة المؤدية إلى التنازع والعداوة، ولا للتفاخر بالأنساب والأعراق
(٢) الفروق: الفرق بين الغيبة المحرمة والغيبة التي لا تحرم: ٤/ ٢٠٥- ٢٠٨
والأصول، فكل ذلك اعتبارات وهمية مصطنعة تتعارض مع وحدة الأصل والمنشأ الإنساني.
وأما التقوى: فهي ميزان التفاضل بين الناس، فالأكرم عند اللَّه، الأرفع منزلة لديه تعالى في الدنيا والآخرة هو الأتقى الأصلح لنفسه وللجماعة، فإن حدث تفاخر فليكن بالتقوى التي هي التزام المأمورات واجتناب المنهيات.
أخرج الترمذي عن سمرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «الحسب المال، والكرم التقوى»
وفي حديث آخر: «من أحب أن يكون أكرم الناس، فليتق اللَّه».
وعن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه تعالى يقول يوم القيامة: إني جعلت نسبا، وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم أتقاكم، وأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان، وأنا اليوم أرفع نسبي، وأضع وأنسابكم، أين المتقون، أين المتقون؟!».
وروى الطبري من حديث أبي هريرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن أوليائي المتقون يوم القيامة، وإن كان نسب أقرب من نسب، يأتي الناس بالأعمال، وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم، تقولون: يا محمد، فأقول: هكذا وهكذا»
وأعرض في كل عطفيه.
٤- احتج مالك بآية إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى على عدم اشتراط النسب في الكفاءة في الزواج إلا الدين، فيجوز زواج الموالي بالعربية، وقد تزوج سالم مولى امرأة من الأنصار هندا بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وتزوج بلال أخت عبد الرحمن بن عوف، وتزوج زيد بن حارثة زينب بنت جحش، فالكفاءة إنما تراعى في الدّين فقط.
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديث الذي رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) :«تنكح المرأة لما لها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدّين، تربت يداك».
وقال الجمهور: يراعى الحسب والمال، عملا بالأعراف، ومراعاة لواقع الحياة المعيشية، وتحقيقا لهدف الزواج وهو الدوام والاستقرار.