قوله: ﴿فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ أي: من قبل الدخول فتحاً قريباً، يعني فتح خيبر في قول ابن عباس في رواية عطاء ومقاتل وابن زيد (١)، وفي قول الآخرين هو صلح الحديبية (٢).
٢٨ - قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ﴾ مفسَّر في سورة براءة [آية: ٣٣] إلى قوله: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ أي: على ما أرسل، قال مقاتل: وهذا رد على المشركين لمَّا أملى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذا ما صالح عليه محمد رسوله، أنكروا ذلك على ما بينا، فأنزل الله هذه الآية (٣).
٢٩ - قوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس: شهد له بالرسالة (٤) وهو جملة مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون محمد ابتداء، ورسول الله نعته، والذين معه عطف على الابتداء، وخبره فيما بعده (٥).
قال ابن عباس: (والذين معه) أهل الحديبية (٦).
(٢) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١٠٨ عن مجاهد والزهري وابن إسحاق، ونسبه الثعلبي لأكثر المفسرين ١٠/ ١٥٣ أ، ونسبه الماوردي لمجاهد ٥/ ٣٢٢، وانظر: "تفسير مجاهد" ص ٦٠٩، ونسبه ابن الجوزي لمجاهد والزهري وابن إسحاق ٧/ ٤٤٤، ونسبه القرطبي لمجاهد ١٦/ ٢٩١.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٧، "زاد المسير" ٧/ ٤٤٥، "القرطبي" ١٦/ ٢٩٢.
(٤) ذكر ذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٤٤٥، وفي "الوسيط" ٤/ ١٤٦ عن ابن عباس.
(٥) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٤/ ٢٠٥، "مشكل إعراب القرآن" لمكي ٢/ ٣١٣.
(٦) ذكر ذلك القرطبي "الجامع" ١٦/ ٢٩٢، ونسبه لابن عباس، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس، انظر ٤/ ١٤٦.
وقال مقاتل: والذين آمنوا معه من المؤمنين (١).
﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ غلاظ عليهم كالأسد على فريسته ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ يرحم أحدهم الآخر، قال ابن عباس: الرجل للرجل منهم كالولد لوالده، والعبد لسيده (٢).
وقال مقاتل: متوادون بعضهم لبعض (٣)، وهذا كقوله: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٤].
﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ إخبار عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها، قال ابن عباس: إن عروة بن مسعود الثقفي أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بالحديبية فأقام بلال فتقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم خلفه وعروة يعجب من حسن ما يرى من ركوعهم وسجودهم (٤).
قوله تعالى: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ قال مقاتل: يعني الجنة ورضا الله (٥).
﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: أي: مما حملت من الأرض جباههم، وهذا قول عكرمة وسعيد بن جبير وأبي العالية، قال سعيد: هو ندى الطهور وندى الأرض (٦).
(٢) ذكره بغير نسبة: البغوي ٧/ ٣٢٣ - ٣٢٤ دون قوله: والعبد لسيده، والمصنف في "الوسيط" ٤/ ١٤٦ بنصه.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٨.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٨، ونص العبارة: (فضلاً، يعني: رزقًا من الله ورضوانًا، يعنىِ يطلبون رضي ربهم).
(٦) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١١١ - ١١٢ عن سعيد بن جبير وعكرمة، ونسبه الثعلبي =
وقال أبو العالية: لأنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب (١).
وقال شمر بن عطية: هو التهيج والصفرة في الوجه وأثر السهر (٢). وهو قول الحسن والضحاك، قال الحسن: تحسبهم مرضى وما هم بمرضى، يعني من كثرة السهر للصلاة.
وقال الضحاك: إذا سهر الرجل أصبح مصفراً.
وقال عطية: (مواضع السجود (٣) أشد وجوههم بياضاً يوم القيامة) (٤)، وعلى هذا القول هذه السيما تعرف في وجوههم يوم القيامة، وهذا قول الزهري وشهر بن حوشب، قال: يكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر، والقولان جميعاً ذكرهما الكلبي عن ابن عباس فقال: سيماهم من السهر بالليل والصفرة في وجوههم يعرفون بها يوم القيامة غرًّا (٥).
وقال مجاهد: هو الخشوع والتواضع وأنكر أن يكون [السحادة] (٦)
(١) ذكر ذلك الثعلبي ١٠/ ١٥٣، ١٥٤، والبغوي ٧/ ٣٢٤، وابن الجوزي ٧/ ٤٤٦.
(٢) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١١١ عن شمر، وذكر ذلك الثعلبي ١٠/ ١٥٣ ب، وابن الجوزي ٧/ ٤٤٧، والقرطبي ١٦/ ٢٩٤ ونسبوه لشمر.
(٣) نص العبارة عند ابن الجوزي: (مواضع السجود من وجوههم يكون أشد وجوههم بياضًا يوم القيامة) انظر: "زاد المسير" ٧/ ٤٤٧. ونصها عند الطبري ١٣/ ١١٠: (مواضع السجود من وجوههم يوم القيامة أشد وجوههم بياضًا).
(٤) ذكر هذه الأقوال الثعلبي ١٠/ ١٥٣ ب، والماوردي ٥/ ٣٢٣، البغوي ٧/ ٣٢٤، وابن الجوزي ٧/ ٤٤٦ - ٤٤٧، والقرطبي ١٦/ ٢٩٤.
(٥) ذكر ذلك الثعلبي ١٠/ ١٥٣ - ١٥٤، وابن الجوزي ٧/ ٤٤٧، والقرطبي ١٦/ ٢٩٤.
(٦) كذا في الأصل، ولعل المراد (السحنة).
بين العينين، وقال إنه ليكون في وجه الرجل مثل ركبة العنز، وإنه لأخبث من كذا (١)، وهذا قول طاوس ومقاتل، ورواية الوالبي عن ابن عباس، قالوا: هو الهدي والسمت الحسن وسيما الإسلام وسحنته (٢)، وعلى هذا معنى قوله (من أثر السجود) أي: من أثر الصلاة، والمعنى: أن السجود أورثهم ذلك الخشوع والسمت الحسن الذي يعرفون به.
وحكى أبو إسحاق: أن هذه السيما هو أنهم يبعثون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الطهور، يجعله الله لهم يوم القيامة علامة يبين بها فضلهم على غيرهم (٣).
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾ يعني: ما ذكر من وصفهم وهو ما وصفوا في التوراة أيضًا، والمعنى أنهم وصفوا في التوراة بما وصفوا في القرآن، وتم الكلام هاهنا في قول ابن عباس فيما روى عنه ابن جريج، وهو قول الضحاك وقتادة ومقاتل وابن زيد (٤).
(٢) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١١١ عن ابن عباس، ونسبه الثعلبي ١٠/ ١٥٣ ب، والبغوي ٧/ ٣٢٤ لابن عباس، وانظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٨، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس في رواية الوالبي.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٩، وقد ورد ذلك في الحديث الصحيح عند مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أمتي يأتون يوم القيامة غرًا محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فيلفعل"، انظر: "صحيح مسلم"، كتاب: الطهارة باب (١٢) اسححباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء ١/ ٢١٦.
(٤) أخرج ذلك الطبرى عن قتادة والضحاك وابن زيد ورجح هذا القول، انظر: =
قال مقاتل: يقول ذلك الذي ذكر نعت أمة محمد عليه السلام في التوراة، ثم ذكر نعتهم في الإنجيل (١) فقال: ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ﴾ وقال مجاهد: المثلان في التوراة والإنجيل واحد، وهذا قول ابن عباس في رواية الكلبي قال: يقول صفتهم في التوراة والإنجيل كصفتهم في القرآن (٢)، وذكر الفراء القولين أيضًا (٣)، وتمام الكلام على قول مجاهد: عند قوله في الإنجيل، ثم ابتدأ، فقال: كزرع، أي: هم كزرع، أو هو يعني: رسول الله كزرع، والكاف في محل الرفع، لأنه خبر المبتدأ المحذوف (٤).
قوله تعالى: ﴿أَخْرَجَ شَطْأَهُ﴾ يقرأ: بسكون الطاء وفتحها (٥)، قال أبو زيد: أشطأت الشجرة بغصونها، إذا أخرجت غصونها (٦)، وقال ابن الأعرابي: أخرج شطأه، أي: فراخه، وجمعه أشطاء، وقد أشطأ الزرع، إذا فرخ (٧)، ونحو هذا قال أبو عبيدة (٨).
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٨.
(٢) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١١٣ عن مجاهد، ونسبه القرطبي ١٦/ ٢٩٤ لمجاهد.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٦٩.
(٤) انظر: "مشكل إعراب القرآن" لمكي ٢/ ٣١٤، "الدر المصون" ٦/ ١٦٦.
(٥) قرأ ابن كثير وابن عامر: بالفتح، وقرأ الباقون: بالسكون، انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ٢٠٣.
(٦) انظر: "الحجة" ٦/ ٢٠٤ "تهذيب اللغة" (شطأ) ١١/ ٣٩٢.
(٧) انظر: "تهذيب اللغة" (شطأ) ١١/ ٣٩٢، "اللسان" (شطأ) ١/ ١٠٠.
(٨) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢١٨.
وقال الزجاج: أخرج نباته (١).
وقال المبرد: أشطأ فراخ الزرع يقال قد أشطأ الزرع، ومن هذا يقال للواحد من الأولاد: إنك لشطأةٌ صالحة (٢).
وقال أبو علي الفارسي: والشَّطْأ والشَطَأ يشبه أن يكونا لغتين، كالشَّمْع والشَّمَع والنَّهْر والنَّهَر (٣).
أما التفسير فقال أنس بن مالك: نباته وفروخه (٤).
وقال مجاهد: جوانبه (٥)، وقال [أبو زيد] (٦): أولاده (٧).
وقال الضحاك: هو ما يخرج بجنب الحلقة فينمو (٨).
قوله تعالى: ﴿فآزره﴾ القراءة بالمد، وقرأ ابن عامر: (فأزره) مقصوراً على فعله (٩).
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ٢٠٤.
(٤) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١١٣ عن أنس بدون لفظ (فروخه)، ونسبه له الثعلبي ١٠/ ١٥٤ أ.
(٥) أخرج الطبري ١٣/ ١١٤ عن مجاهد بلفظ: (ما يخرج بجنب الحلقة فيتم وينمو)، وكذلك الثعلبي نسب هذا المعنى لمجاهد، انظر: "تفسيره" ١٠/ ١٥٤ أ.
(٦) كذا في الأصل، وهو تصحيف والصحيح [ابن زيد].
(٧) أخرج الطبري هذا القول عن ابن زيد انظر: "تفسيره" ١٣/ ١١٤، وكذلك نسبه الثعلبي لابن زيد ١٠/ ١٥٤ أ، وكذلك نسبه القرطبي ١٦/ ٢٩٤ لابن زيد وغيره.
(٨) أخرج الطبري ١٣/ ١١٤ هذا عن مجاهد، ونسبه الثعلبي في "تفسيره" لمجاهد والضحاك ١٠/ ١٥٤ أ.
(٩) انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص ٦٠٤ - ٦٠٥، "الحجة" لأبي علي ٦/ ٢٠٤
قال أبو عبيدة: ساواه وصار مثل الأم، وأنشد لحميد الأرقط (١):
يَسْقِي بغَيْثٍ غَدِقٍ السَّاحَاتِ | زَرْعَاً وقَضْباً مُؤْزَر النباتِ (٢) |
وقال الأصمعي: فساوى الفراخ الطوال فاستوى طولها، وأنشد قول امرئ القيس:
بِمَحْنِيَّةٍ قَدْ آزَرَ الضَّالَ نَبْتُها | مَجَرَّ جُيُوشٍ غانِمِيْنَ وخُيَّبِ (٤) |
وقال بُزُرْج: يقال: وأزرني فلان على الأمر وآزرني، والألف أعرب (٥) وهو من المؤازرة، وفعلت منها آزرت أزراً (٦).
(٢) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢١٨، والبيت بلفظ: (السَّحات).
(٣) ذكر ذلك في "الوسيط" ونسبه للمبرد، انظر ٤/ ١٤٦.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" (وزر) ١٣/ ٢٤٧، "اللسان" (أزر) ٤/ ١٨، "الحجة" لأبي علي ٦/ ٢٠٤، "شرح الأبيات المشكلة الإعراب" ص ٣٣٢ - ٣٣٣، والمحنية: واحدة المحاني، وهي معاطف الأودية، والمحنية أخصب موضع في الوادي، والضال: شجر السدر، وآزر: ساوى، يريد: لحق النبت بالشجر، وهي مجمع للجيوش فلا ينزلها أحد ليرعاها خوفًا من الجيوش، وانظر: "ديوان امرئ القيس" ص ٥١.
(٥) في "تهذيب اللغة" (والألف أفصح) انظر: "تهذيب اللغة" (وزر) ١٣/ ٢٤٦.
(٦) انظر. "تهذيب اللغة" (وزر) ١٣/ ٢٤٦ - ٢٤٧.
وقال الفراء: آزرت فلاناً آزره أزراً، قويته على وزن عَزَّرته، وآزرته عاونته (١).
وقال الزجاج: آزرت الرجل على فلان، إذا أعنته عليه وقويته (٢)، وعلى هذا القول آزر وزنه فاعل.
قال المبرد: يقال: آزرني على أمري، أي: قواني (٣) ومنه قوله تعالى: ﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾ [طه: ٣١]، وفلان موازر، لفلان على أمره وليس هذا من الوزير لأن هذا فاؤه مهموز، والوزير فاؤه وواوه، فا عل (آزر) على هذا القول الزرعُ، والمعنى: آزر الزرعُ الشطأ (٤).
قال أبو الحسن الأخفش: الأشبه في آزر أفعل (٥) لا فاعل ليكون قول أبي عامر أزره فعله، فيكون فيه لغتان فَعَل وأفْعَل، لأنهما كثيرًا ما يتعاقبان على الكلمة كما قالوا: ألَتَهُ وآلَتَهُ يُولِتُهُ، وكذلك آزره وأزره (٦).
قال ابن عباس ومقاتل ومجاهد: فآزره فشده وأعانه (٧)، وقال الزهري وقتادة: فتلاحق (٨).
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" (وزر) ١٣/ ٢٤٧، ونسبه للزجاج والذي في "معاني القرآن" ٥/ ٢٩ للزجاج: (فآزره أي: فآزر الصغار الكبار حتى استوى بعضه مع بعض).
(٣) لم أقف على قول المبرد، وفي "تهذيب اللغة" الأزر: القوة (وزر) ١٣/ ٢٤٧، وفي "اللسان" الأزر: القوة والشدة (أزر) ٤/ ١٧.
(٤) انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ٢٠٥، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٩٥.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٩٥، وهذا النقل بنصه في "الحجة" ٦/ ٢٠٥.
(٦) انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ٢٠٥.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ١١٤، "الثعلبي" ١٠/ ١٥٤ ب، "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٨.
(٨) أخرج ذلك الطبري عن قتادة والزهري، انظر: "تفسيره" ١٣/ ١١٥.
قوله: ﴿فَاسْتَغْلَظَ﴾ يقال: استغلظ الشيء، إذا صار غليظاً، وهذا لازم، واستغلظت الثوب، إذا خيّل إليك أنه غليظ (١) واقع، واستغلظ النبات والشجر إذا غلظ، قوله: ﴿فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ﴾ ذكرنا تفسير السوق عند قوله: ﴿فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ﴾ [ص: ٣٣] وهي جمع ساق، قال الكلبي: فقام على قصبه وأصوله فأعجب ذلك زارعه (٢) وهو قوله: ﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾، وقال مقاتل: يعجب الزارع حُسْنُ زرعه حين استوى قائماً على ساقه (٣).
قال المفسرون: وهذا كله مثل ضربه الله تعالى لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فالزرع محمد، والشطأ أصحابه والمؤمنون حوله، وكانوا في ضعف وقلة (٤)، كان أول الزرع دقيقاً ثم غلظ وقوي وتلاحق، كذلك المؤمنون يقوي بعضهم بعضاً حتى يستغلظوا ويستووا على أمرهم، كما استغلظ هذا الزرع واستوى على سوقه، وهذا قول مقاتل (٥).
وقال الكلبي: محمد -صلى الله عليه وسلم- بدأ حين بدأ وحْدَه، فجعل الناس يأتونه وجعلوا يزدادون ويكثرون حتى امتنعوا وهابهم العدو وقهروا من حولهم (٦).
(٢) لم أقف عليه بهذا النص، وقد ذكر الثعلبي أنه بمعنى أصوله ولم ينسبه ١٠/ ١٥٤ ب، وكذا البغوي ٧/ ٣٢٥، وذكره في "الوسيط" ٤/ ١٤٧ بنص ما هنا ولم ينسبه.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٨.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ١١٥، "تفسير الثعلبي" ١٠/ ١٥٤ ب، "تفسير الماوردي" ٥/ ٣٢٤، "تفسير البغوي" ٧/ ٣٢٥، "زاد المسير" ٧/ ٤٤٨، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٩٥.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٨.
(٦) ذكر نحو ذلك في "تنوير المقباس" ص ٥١٥، وفي "تفسير الوسيط" ٤/ ١٤٧ ولم ينسبه.
قوله تعالى: ﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾ من صفة كمال ذلك الزرع وحسنه.
وقال أبو إسحاق: (الزُّراع) الدعاة إلى الإسلام (١)، وعلى هذا معنى الكلام: أن قوة صحابة محمد -صلى الله عليه وسلم- وكثرتهم تعجب الدعاة إلى دينه، كما يعجب حسن هذا الزرع الذين زرعوه، وتم الكلام ثم قال: ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ واللام متعلق بمحذوف دل عليه ما سبق والتقدير: فعل الله بهم ذلك ليغيظ بهم الكفار (٢)، أي: إنما كثرهم وقواهم لكونوا غيظاً للكافرين، وروي لنا عن الشافعي -رضي الله عنه- أنه قال في قوله: ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ ما آمن أن يكونوا قد صارعوا الكفار، يعني: الرافضة، لأن الله تعالى يقول: ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ فمن غاظه واحد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- خفت عليه أن يكون ممن دخل في قوله: ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ (٣).
وقوله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، قال أبو إسحاق: فيها قولان: يكون منهم تخليصاً للجنس من غيره، كما تقول: أنفق نفقتك من الدراهم، أي: اجعل نفقتك هذا الجنس، والمعنى: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المؤمنين أجراً عظيماً، فضلهم على غيرهم لسابقتهم وعظم أجرهم، هذا كلامه في أحد القولين، وبياف أنه ليس يمكن حمل قوله: (منهم) على التبعيض لأنهم كلهم مؤمنون
(٢) انظر: "الدر المصون" ٦/ ١٦٧، "البحر المحيط" ٨/ ١٠٣.
(٣) ذكر القرطبي ١٦/ ٢٩٧ نحو هذه المقالة، وكذلك أبو حيان في "البحر المحيط" ٨/ ١٠٣، وابن كثير ٦/ ٣٦٥ ونسبوها جميعًا لمالك.
فحمله على الجنس ليدخل فيه كلهم، وتخصيصهم بوعد المغفرة والأجر تفصيل لهم، وإن وعد المؤمنون كلهم ذلك، ولكنهم إذا ذكروا على التخصيص كان ذلك فضيلة لهم، قال: والقول الثاني: أن يكون المعنى وعد الله الذين آمنوا، أي: أقاموا على الإيمان والعمل الصالح (١).
قوله تعالى: ﴿مِنْهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ قال ابن عباس: ثواباً لا ينقطع (٢)، وقال مقاتل: يعني الجنة (٣) والله تعالى أعلم.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٨.