آيات من القرآن الكريم

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا
ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ

فقال الحنفية: لا دية ولا كفارة.
وقال الشافعية والثوري: تجب الدية والكفارة «١».
٧- لم يكن منع أهل مكة المشركين من دخول المؤمنين المسجد الحرام لسبب معقول، وإنما بدوافع الأنفة أو الحمية الجاهلية التي لا يؤيدها دليل ولا برهان، دفعتهم عصبيتهم لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون اللَّه تعالى، والأنفة من أن يعبدوا غيرها.
كذلك حملتهم تلك العصبية لوثنية الجاهلية على الامتناع من كتابة «بسم اللَّه الرحمن الرحيم» و «محمد رسول اللَّه» في مقدمة الصلح.
٨- أما المؤمنون فقد أنزل اللَّه عليهم الطمأنينة والوقار، وثبّتهم على الرضى والصبر والتسليم، ولم يدخل قلوبهم ما أدخل في قلوب أولئك من الحمية والغضب، وألزمهم كلمة «لا إله إلا اللَّه» لأنهم كانوا أحق بها من كفار مكة، لأن اللَّه تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه.
تصديق رؤيا الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الفتح
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٢٨)

(١) أحكام القرآن للجصاص: ٤/ ٣٩٥

صفحة رقم 198

الإعراب:
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ... الرُّؤْيا بحذف مضاف أي تأويل الرؤيا، لأن الرؤيا مخايل ترى في النوم، فلا تحتمل صدقا ولا كذبا، وإنما يحتمل الصدق والكذب تأويلها. وبالحق: إما صفة مصدر محذوف أي صدقا ملتبسا بالحق، أو قسم باسم اللَّه أو بنقيض الباطل. ولَتَدْخُلُنَّ أصله: لتدخلون، إلا أنه لما دخلت نون التوكيد حذفت النون التي هي نون الإعراب، لتوالي الأمثال، والفعل معرب عند الجمهور، ويرى ابن الأنباري أن النون المحذوفة للبناء.
وآمِنِينَ مُحَلِّقِينَ مُقَصِّرِينَ كلها منصوبات على الحال من الضمير المحذوف في لَتَدْخُلُنَّ وكذلك قوله: لا تَخافُونَ جملة في موضع الحال، وتقديره: غير خائفين.
وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً تقديره: كفاكم اللَّه شهيدا، فحذف مفعولي كَفى، وكَفى يتعدى إلى مفعولين، قال تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة ٢/ ١٣٧].
وشَهِيداً منصوب على التمييز، أو الحال.
البلاغة:
مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا صدّقه في رؤياه ولم يكذبه، فحذف الجار وهو «في» ووصل الفعل، كقوله تعالى: صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الفتح ٤٨/ ٢٧] بِالْحَقِّ يرى الزمخشري أنه متعلق ب صَدَقَ، أي صدقه فيما رأى وفي كونه وحصوله صدقا ملتبسا بالحق، أي بالغرض الصحيح والحكمة البالغة، ويجوز أن يتعلق ب الرُّؤْيا حالا منها، أي صدقه الرؤيا ملتبسا بالحق، على معنى أنها لم تكن أضغاث أحلام، ويجوز أن يكون بِالْحَقِّ قسما إما بالحق الذي هو نقيض الباطل، أو بالحق الذي هو من أسماء اللَّه تعالى.
لَتَدْخُلُنَّ جواب القسم على أن بِالْحَقِّ قسم، وعلى الرأي الأول والثاني هو جواب قسم محذوف إِنْ شاءَ اللَّهُ تعليق للوعد (أو للعدة) بالمشيئة، تعليما للعباد مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ محلقا بعضكم جميع شعورهم، ومقصرا آخرون بعض شعورهم لا تَخافُونَ أبدا فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا من الحكمة في تأخير ذلك فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ جعل من دون دخول المسجد، أو من دون فتح مكة فَتْحاً قَرِيباً هو فتح خيبر، ثم تحققت الرؤيا في العام القابل.

صفحة رقم 199

بِالْهُدى ملتبسا بالهدى وَدِينِ الْحَقِّ دين الإسلام لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ليعليه على جنس الدين كله بنسخ ما كان حقا، وإظهار فساد ما كان باطلا، وفيه تأكيد الوعد بالفتح وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على أن ما وعده كائن، أو على نبوته بإظهار المعجزات.
سبب النزول: نزول الآية (٢٧) :
لَقَدْ صَدَقَ: أخرج الفريابي وعبد بن حميد والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال: أري النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو بالحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، فلما نحر الهدي بالحديبية قال أصحابه: أين رؤياك يا رسول اللَّه، فنزلت: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا الآية.
وقال قتادة: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأي في المنام أنه يدخل مكة على هذه الصفة، فلما صالح قريشا بالحديبية، ارتاب المنافقون حتى قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه يدخل مكة، فأنزل اللَّه تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ
فأعلمهم أنهم سيدخلون في غير ذلك العام، وأن رؤياه صلّى اللَّه عليه وسلّم حق.
وقصة الرؤيا: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى في المنام- وهو في المدينة «١» - أن ملكا قال له:
لَتَدْخُلُنَّ إلى قوله: لا تَخافُونَ فأخبر أصحابه بالرؤيا، ففرحوا وجزموا بأنهم داخلون في عامهم، فلما صدّوا عن البيت، واستقر الأمر على الصلح، قال بعض الضعفة المنافقون: واللَّه ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا البيت.
وقالوا أيضا: أليس كان يعدنا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن نأتي البيت، فنطوف به؟
فقال لهم أهل البصيرة: هل أخبركم أنكم تأتونه العام؟ فقالوا: لا، قال: فإنكم تأتونه وتطوفون بالبيت، فأنزل اللَّه تصديقه.

(١) الظاهر أن مكان الرؤيا في المدينة أصح من القول بأنها في الحديبية.

صفحة رقم 200

وجاء في السيرة: أن عمر بن الخطاب قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلت: ألست نبي اللَّه حقا؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: إني رسول اللَّه، ولست أعصيه وهو ناصري، قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر: أليس هذا نبي اللَّه حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال:
بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟.
قال: أيها الرجل، إنه رسول اللَّه، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه «١»، فو اللَّه إنه لعلى الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنه سيأتي البيت ويطوف به؟ قال: بلى، قال: فأخبرك أنه آتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك تأتيه وتطوف به «٢».
التفسير والبيان:
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ، لا تَخافُونَ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا، فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً أي تاللَّه لقد صدّق اللَّه تعالى تأويل رؤياه التي رآها تصديقا مقترنا بالحق، أنكم ستدخلون المسجد الحرام بمشيئة اللَّه في العام القابل، وليس في هذا العام عام الحديبية، حالة كونكم آمنين من العدو، ومحلقا بعضكم جميع شعره، ومقصرا بعضكم الآخر، وأنكم غير خائفين.
وهذا تأكيد للأمن، فإنه تعالى أثبت لهم الأمن حال الدخول، ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد، لا يخافون من أحد. وكان ذلك في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، فإن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة إلى

(١) أي سر على نهجه.
(٢) انظر تفسير ابن كثير: ٤/ ١٩٤- ٢٠٠

صفحة رقم 201

المدينة، أقام بها ذا الحجة والمحرم، وخرج في صفر إلى خيبر، ففتحها اللَّه عليه بعضها عنوة، وبعضها صلحا.
فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم معتمرا هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة، وساق معه الهدي، قيل: كان ستين بدنة، فلبّى، وسار أصحابه يلبّون. ثم دخل مكة بالسيوف مغمدة في قربها، كما شارط أهل مكة في صلح الحديبية.
ثم رتب اللَّه تعالى على التصديق وسوء ظن القوم قوله: فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا «١» من الحكمة والمصلحة في تأخير الفتح إلى العام القابل، فجعل من دون ذلك الفتح فتحا آخر قريب الحصول، وهو فتح خيبر.
وقوله: إِنْ شاءَ اللَّهُ لتعليم العباد وإرشادهم إلى تعليق كل أمر بمشيئة اللَّه.
ثم أكّد تعالى صدق الرؤيا بتصديق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في كل شيء بقوله:
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي إن اللَّه عز وجل هو الذي أرسل رسوله محمدا بالعلم النافع والعمل الصالح، وبما يرشد إلى طريق الهداية الصحيح، ودين الإسلام، ليعليه على كل الأديان، بنسخ سائر الديانات السابقة، وإظهار فساد العقائد الزائفة، وكفى بالله شهيدا على هذا الوعد من إظهار دينه على جميع الأديان، وعلى أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم رسوله، وهو ناصره. وفي هذا رد على سهيل بن عمرو الذي أبي أن يكتب في مقدمة صلح الحديبية: «محمد رسول اللَّه» وتسلية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،

(١) الفاء لعطف فَعَلِمَ على صَدَقَ وبما أن العلم متقدم على الرؤيا، فإن المراد بالتعقيب والترتيب علم الوقوع والشهادة لا علم الغيب.

صفحة رقم 202

وتأكيد لصدق رؤياه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتبشير بفتح مكة لقوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.
فقه الحياة أو الأحكام
إن رؤيا الأنبياء حق لا شك فيه، ولكن توقيت حدوث مقتضى الرؤيا بعلم اللَّه، لا بعلم البشر، ولم يكن في إخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه وصحبه سيدخلون المسجد الحرام في زمن محدد معين، ففهم الصحابة أن ذلك سيكون عام الحديبية، ولكن لله الحكمة البالغة، يفعل الأشياء، حسبما يرى من المصلحة والخير والحكمة، وصدّق الرؤيا في العام القابل. وجعل في الفترة ما بين العامين فتح خيبر.
وكان دخولهم آمنين من العدو، غير خائفين أثناء استقرارهم في مكة لأداء العمرة.
والتحليق والتقصير جميعا للرجال، وكلاهما جائز،
ثبت في الصحيحين أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «رحم اللَّه المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول اللَّه؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: رحم اللَّه المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول اللَّه؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: رحم اللَّه المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول اللَّه؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: والمقصرين»
في الثالثة أو الرابعة.
واللَّه تعالى تأكيدا لتصديق رؤيا رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، أبان أنه صدّق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في كل شيء، فأرسله رسول الهدى، ورسول الدين الحق: دين الإسلام، ليعليه على كل الأديان، وكفى بالله شاهد عدل وحق لنبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم على صحة نبوته بالمعجزات، وعلى أنه رسول من عند اللَّه، وعلى إظهار دينه على جميع الأديان.

صفحة رقم 203
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية