
فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ يعني: إن تنصروا دين الله بقتال الكفار، يَنْصُرْكُمْ بالغلبة على أعدائكم وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ فلا تزول في الحرب.
ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ يعني: بعداً، ونكساً، وخيبة لهم. وهو من قولك: تعست أي: عثرت، وسقطت، وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ يعني: أبطل ثواب حسناتهم، فلم يقبلها منهم.
ثم بيّن المعنى الذي أبطل به حسناتهم، فقال: ذلِكَ يعني: ذلك الإبطال بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ يعني: أنكروا، وكرهوا الإيمان بما أنزل الله على محمد صلّى الله عليه وسلم. فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ يعني: ثواب أعمالهم.
ثم خوّفهم ليعتبروا فقال عز وجل: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ يعني: أفلم يسافروا في الأرض فَيَنْظُرُوا يعني: فيعتبروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: كيف كان آخر أمرهم. دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني: أهلكهم الله تعالى بالعذاب وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها يعني:
للكافرين من هذه الأمة أمثالها من العذاب، وهذا وعيد لكفار قريش.
ثم قال: ذلِكَ يعني: النصرة التي ذكر في قوله: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد: ٧] بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا يعني: إن الله تبارك وتعالى ناصر أولياءه بالغلبة على أعدائهم، وَأَنَّ الْكافِرِينَ لاَ مَوْلى لَهُمْ يعني: لا ناصر، ولا ولي لهم، لا تنصرهم آلهتهم، ولا تمنعهم مما نزل بهم من العذاب.
ثم ذكر مستقر المؤمنين، ومستقر الكافرين، فقال: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وقد ذكرناه، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ يعني:
يعيشون بما أعطوا في الدنيا، وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ ليس لهم هَمٌّ إِلاَّ الأكل، والشرب، والجماع، وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي: منزلاً، ومستقرا لهم.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٣ الى ١٨]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧)
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨)

قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ يعني: وكم من قرية فيما مضى. يعني: أهل قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً يعني: أشد منعة، وأكثر عدداً، وأكثر أموالاً، مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ يعني:
أهل مكة الذين أخرجوك من مكة إلى المدينة، أَهْلَكْناهُمْ يعني: عذبناهم عند التكذيب فَلا ناصِرَ لَهُمْ يعني: لم يكن لهم مانع مما نزل بهم من العذاب، وهذا تخويف لأهل مكة.
قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ قال مقاتل والكلبي:
يعني: محمدا صلّى الله عليه وسلم وأبا جهل بن هشام يعني: لا يكون حال من كان على بيان من الله تعالى، كمن حسن له قبح عمله. وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ بعبادة الأوثان. ويقال: هذا في جميع المسلمين، وجميع الكافرين. لا يكون حال الكفار، مثل حال المؤمنين في الثواب.
قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ يعني: صفة الجنة الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ الذين يتقون الشرك، والفواحش، فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ قرأ ابن كثير: مِن مّاء غير أسن بغير مد.
والباقون: بالمد، ومعناهما واحد. يعني: ماء غير منتن، ولا متغير الطعم والريح. وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ إلى الحموضة كما يتغير لبن أهل الدنيا من الحالة الأولى. وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ يعني: لذيذة. ويقال: لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) [الواقعة: ١٩].
وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ليس فيها العكر، ولا الكدرة، ولا الدردي، كعسل أهل الدنيا. قال مقاتل: هذه الأنهار الأربعة تتفجر من الكوثر، إلى أهل الجنة. ويقال: من تحت شجرة طوبى إلى أهل الجنة.
وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ يعني: من ألوان الثمرات وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ لذنوبهم