
وقوله: عَلى مِثْلِهِ يريد بالمثل: التوراة، والضمير عائد في هذا التأويل على القرآن، أي جاء شاهد من بني إسرائيل بمثله وشهد أنه من عند الله تعالى.
وقوله: فَآمَنَ على هذا التأويل، يعني به تصديق موسى بأمر محمد وتبشيره به، فذلك إيمان به، وأما من قال: الشاهد عبد الله بن سلام، فإيمان بين، وكذلك إيمان الإسرائيلي الذي كان بمكة في قول من قاله، وحكى بعضهم أن الفاعل ب «آمن»، هو محمد عليه السلام، وهذا من القائلين بأن الشاهد هو موسى بن عمران عليه السلام، وإنما اضطر إلى هذا لأنه لم ير وجه إيمان موسى عليه السلام، ثم قرر تعالى استكبارهم وكفرهم بإيمان هذا المذكور، فبان ذنبهم وخطؤهم.
وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ قال قتادة: هي مقالة قريش، يريدون عمارا وصهيبا وبلالا ونحوهم ممن أسلم وآمن بالنبي عليه السلام. وقال الزجاج والكلبي وغيره: هي مقالة كنانة وعامر وسائر قبائل العرب المجاورة، قالت ذلك حين أسلمت غفار ومزينة وجهينة.
وقال الثعلبي: هي مقالة اليهود حين أسلم ابن سلام وغيره منهم. والإفك: الكذب، ووصفوه بالقدم، بمعنى أنه في أمور متقادمة، وهذا كما تقول لرجل حدثك عن أخبار كسرى وقيصر، هذا حديث قديم، ويحتمل أن يريدوا أنه إفك قيل قديما.
قوله عز وجل:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٢ الى ١٥]
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥)
الضمير في قوله: وَمِنْ قَبْلِهِ للقرآن، و: كِتابُ مُوسى هو التوراة. وقرأ الكلبي: «كتاب موسى» بنصب الباء على إضمار أنزل الله أو نحو ذلك. والإمام: خيط البناء، وكل ما يهتدى ويقتدى به فهو إمام. ونصب إِماماً على الحال، وَرَحْمَةً عطف على إمام، والإشارة بقوله: وَهذا كِتابٌ إلى القرآن. و: مُصَدِّقٌ معناه للتوراة التي تضمنت خبره وأمر محمد، فجاء هو مصدقا لذلك الإخبار، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: «مصدق لما بين يديه لسانا»، واختلف الناس في نصب قوله: لِساناً فقالت فرقة من النحاة، هو منصوب على الحال، وقالت فرقة: لِساناً توطئة مؤكدة. و: عَرَبِيًّا حال، وقالت فرقة: لِساناً مفعول ب مُصَدِّقٌ، والمراد على هذا القول باللسان: محمد رسول الله ولسانه،

فكان القرآن بإعجازه وأحواله البارعة يصدق الذي جاء به، وهذا قول صحيح المعنى جيد وغيره مما قدمناه متجه.
وقرأ نافع وابن عامر وابن كثير فيما روي عنه، وأبو جعفر والأعرج وشيبة وأبو رجاء والناس: «لتنذر» بالتاء، أي أنت يا محمد، ورجحها أبو حاتم، وقرأ الباقون والأعمش «لينذر» أي القرآن و: الَّذِينَ ظَلَمُوا هم الكفار الذين جعلوا العبادة في غير موضعها في جهة الأصنام والأوثان.
وقوله: وَبُشْرى يجوز أن تكون في موضع رفع عطفا على قوله: مُصَدِّقٌ، ويجوز أن تكون في موضع نصب، واقعة موقع فعل عطفا على لِيُنْذِرَ أي وتبشر المحسنين، ولما عبر عن الكفار ب الَّذِينَ ظَلَمُوا، عبر عن المؤمنين ب «المحسنين» لتناسب لفظ الإحسان في مقابلة الظلم. ثم أخبر تعالى عن حسن حال المسلمين المستقيمين ورفع الظلم. ثم أخبر تعالى عن حسن حال المسلمين المستقيمين ورفع عنهم الخوف والحزن، وذهب كثير من الناس إلى أن معنى الآية: ثُمَّ اسْتَقامُوا بالطاعات والأعمال الصالحات. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه المعنى: ثُمَّ اسْتَقامُوا بالدوام على الإيمان وترك الانحراف عنه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول أعم رجاء وأوسع، وإن كان في الجملة المؤمنة من يعذب وينفذ عليه الوعيد، فهو ممن يخلد في الجنة وينتفي عنه الخوف والحزن الحال بالكفرة، والخوف هو الهم لما يستقبل، والحزن هو الهم بما مضى، وقد يستعمل فيما يستقبل استعارة، لأنه حزن لخوف أمر ما.
وقرأ ابن السميفع: «فلا خوف» دون تنوين.
وقوله: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، «ما» واقعة على الجزء الذي هو اكتساب العبد، وقد جعل الله الأعمال أمارات على صبور العبد، لا أنها توجب على الله شيئا.
وقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ يريد النوع، أي هكذا مضت شرائعي وكتبي لأنبيائي، فهي وصية من الله في عباده.
وقرأ جمهور القراء: «حسنا» بضم الحاء وسكون السين، ونصبه على تقدير وصيناه ليفعل أمرا ذا حسن، فكأن الفعل تسلط عليه مفعولا ثانيا. وقرأ علي بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن وعيسى: «حسنا» بفتح الحاء والسين، وهذا كالأول ومحتمل كونهما مصدرين كالبخل والبخل، ومحتمل، أن يكون هذا الثاني اسما لا مصدرا، أي ألزمناه بهما فعلا حسنا. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «إحسانا»، ونصب هذا على المصدر الصريح والمفعول الثاني في المجرور، والباء متعلقة ب وَصَّيْنَا أو بقوله: «إحسانا».
وبر الوالدين واجب بهذه الآية وغيرها، وعقوقهما كبيرة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كل شيء بينه وبين الله حجاب إلا شهادة أن لا إله إلا الله ودعوة الوالدين.
قال القاضي أبو محمد: ولن يدعوا إلا إذا ظلمهما الولد، فهذا الحديث في عموم قوله عليه السلام:
«اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب».

ثم عدد تعالى على الأبناء منن الأمهات وذكر الأم في هذه الآيات في أربع مراتب، والأب في واحدة، جمعهما الذكر في قوله: بِوالِدَيْهِ، ثم ذكر الحمل للأم ثم الوضع لها ثم الرضاع الذي عبر عنه بالفصال، فهذا يناسب ما قال رسول الله ﷺ حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر، والربع للأب، وذلك إذ قال له رجل: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: ثم أمك، قال ثم من؟
قال: ثم أمك، قال ثم من؟ قال: أباك وقوله: كُرْهاً معناه في ثاني استمرار الحمل حين تتوقع حوادثه، ويحتمل أن يريد في وقت الحمل، إذ لا تدبير لها في حمله ولا تركه، وقال مجاهد والحسن وقتادة: المعنى حملته مشقة ووضعته مشقة.
وقرأ أكثر القراء: «كرها» بضم الكاف. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة والأعرج:
«كرها» بفتح الكاف، وقرأ بهما معا مجاهد وأبو رجاء وعيسى. قال أبو علي وغيره: هما بمعنى، الضم الاسم، والفتح المصدر. وقالت فرقة: الكره بالضم: المشقة، والكره بالفتح هو الغلبة والقهر، وضعفوا على هذا قراءة الفتح. قال بعضهم: لو كان «كرها» لرمت به عن نفسها، إذ الكره القهر والغلبة، والقول الذي قدمناه أصوب.
وقرأ جمهور الناس: «وفصاله» وذلك أنها مفاعلة من اثنين، كأنه فاصل أمه وفاصلته. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري: «وفصله»، كأن الأم هي التي فصلته.
وقوله: ثَلاثُونَ شَهْراً يقتضي أن مدة الحمل والرضاع هذه المدة، لأن في القول حذف مضاف تقديره: ومدة حمله وفصاله، وهذا لا يكون إلا بأن يكون أحد الطرفين ناقصا، وذلك إما بأن تلد المرأة لستة أشهر وترضع عامين، وإما بأن تلد لتسعة على العرف وترضع عامين غير ربع العام، فإن زادت مدة الحمل نقصت مدة الرضاع، وبالعكس فيترتب من هذا أن أقل مدة الحمل ستة أشهر. وأقل ما يرضع الطفل عام وتسعة أشهر، وإكمال العامين هو لمن أراد أن يتم الرضاعة، وهذا في أمر الحمل هو مذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجماعة من الصحابة ومذهب مالك رحمه الله.
واختلف الناس في الأشد: فقال الشعبي وزيد بن أسلم: البلوغ إذا كتبت عليه السيئات وله الحسنات. وقال ابن إسحاق: ثمانية عشر عاما، وقيل عشرون عاما، وقال ابن عباس وقتادة: ثلاثة وثلاثون عاما، وقال الجمهور من النظار: ثلاثة وثلاثون. وقال هلال بن يساف وغيره: أربعون، وأقوى الأقوال ستة وثلاثون، ومن قال بالأربعين قال في الآية إنه أكد وفسر الأشد بقوله: وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
قال القاضي أبو محمد: وإنما ذكر تعالى الأربعين، لأنها حد للإنسان في فلاحه ونجابته، وفي الحديث: «إن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب فيقول: بأبي وجه لا يفلح» وقال أيمن بن خريم الأسدي: [الطويل]
إذا المرء وفّى الأربعين ولم يكن | له دون ما يأتي حياء ولا ستر |
فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى | وإن جر أسباب الحياة له العمر |