آيات من القرآن الكريم

وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ۚ وَهَٰذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ
ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐ ﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍ

إلى مكة، ولم ير النبي صلّى الله عليه وسلم إلا بعد الهجرة بالمدينة، فلما رآه وصارت اليهود تقول هذا كذاب، قال لهم وجه هذا ليس بوجه كذاب، على أنه لو فرض صحة اجتماعه به في بصرى فإن ذلك الوقت كان عمره صلّى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة، ولم تحدثه نفسه بنزول كتاب عليه كي يؤلفه له، ولم يدع النبوة ليركن إليه ويعلمه، ولم يبق في بصرى زمنا يستوعب تعرفه به فضلا عن تعليمه، وقد بقي حتى بلغ الأربعين من عمره، ولم يتكلم بشيء من الوحي، قاتلهم الله على إفكهم وكفرهم، وما هذا إلا حسد منهم لعبد الله على إيمانه ليس إلا وكان من أمره ما كان رضي الله عنه، ولهذا البحث صلة في الآية ٤٧ من سورة النساء في ج ٣، لأنه رضي الله عنه تأخر في إعلان إسلامه لليهود خوفا من الطعن فيه كما يشير إليه قوله (هذا الذي كنت أخافه) بالحديث المار ذكره في معرض العذر عن تأخير إسلامه، وهناك أقوال بأن الشاهد في هذه الآية موسى عليه السلام شهد على التوراة التي هي مثل القرآن بأنها منزلة من عند الله، كما شهد محمد على القرآن فآمن من آمن بموسى والتوراة واستكبرتم يا معشر قريش عن الإيمان بالقرآن ومحمد، وأن الآية نزلت في محاججة كانت بين الرسول وقومه، واستدل صاحب هذا القول بأن السورة مكية، وعبد الله بن سلام أسلم في المدينة، والأول أولى، لأن هذه الآية من المستثنيات بمقتضى الأحاديث الصحيحة المتقدمة، ومنها ما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن عوف ابن مالك الأشجعي أنها نزلت بالمدينة في قصة عبد الله بن سلام، وروى ذلك عن محمد ابن سيرين وهو ما عليه جمهور المفسرين وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وروى ذلك ابن سعيد وابن عساكر عن عكرمة.
قال تعالى «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» من أهل مكة «لِلَّذِينَ آمَنُوا» منهم بمحمد صلّى الله عليه وسلم «لَوْ كانَ» ما جاء به محمد «خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ» هؤلاء المؤمنون به بادئ الرأي لفقرهم ومهانتهم عندنا يعنون عمارا وصهيبا وابن مسعود وأمثالهم من فقراء المسلمين، ويسكتون عن أبي بكر وأصحابه الذين آمنوا قبل هؤلاء «وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ» هؤلاء الكفرة «فَسَيَقُولُونَ» عنادا وجحودا «هذا» الذي جاء به محمد وآمن به هو وأولئك «إِفْكٌ قَدِيمٌ» ١١ كان يقوله مثله من قبله لقومه ليس بقرآن. قال

صفحة رقم 127

تعالى ردا لقولهم كيف يقولون ذلك «وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى» أنزلناه عليه كما أنزلنا هذا القرآن على محمد «إِماماً» يقتدي به قومه «وَرَحْمَةً» منا لمن آمن به وصدقه وعمل به وهو شاهد أيضا لما جاء به محمد لأن ما جاء فيه من المعاني مطابقة لما في قرآنه من التوحيد والوعد والوعيد والقصص والأخبار «وَهذا كِتابٌ» أنزلناه عليك يا محمد «مُصَدِّقٌ» لما قبله من الكتب في المعنى وخاصة فيما هو في كتاب موسى لأنه أعم من غيره بالنسبة لسائر الكتب وجعلناه «لِساناً عَرَبِيًّا» حال من فاعل مصدق وهو الضمير العائد للكتاب «لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا» منهم بلسانهم كي يفهموه ويعوه «وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ» ١٢ العاملين به «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا» على إيمانهم وجمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والاستقامة في الدين التي هي منتهى العمل «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» مما يخافه غيرهم أن يلحقهم ما يكرهونه «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» ١٣ على ما فاتهم من الدنيا لأن الله عوضهم خيرا منها في دار جزائه ولا على ما يناله غيرهم مما يحبونه لأن كلا منهم راض بما أعطاه الله ويعتقد أن لا أحد أحسن منه من صنفه ولذلك فلا تحاسد عند أهل الجنة، راجع الآية ٣٠ من فصلت «أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ١٤ في دنياهم من الإحسان وناهيك بإحسان يكون من الملك الديان. وهذه الآية المدنية الثانية، قال تعالى «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً» بأن يحسن إليهما ولا يسيء «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً» حين ثقل عليها «وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً» بشدة الطلق حالة الوضع «وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ» فطامه عن الرضاع «ثَلاثُونَ شَهْراً» وذلك أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وأكثر مدة الرضاع سنتان، فإذا وضع لأكثر من ستة نقص من مدة الرضاع مثل ما زاد على مدة أقل الحمل، فإذا كان الوضع لتسعة مثلا كان الرضاع واحدا وعشرين شهرا وهكذا، أما من يولد لتمام سنتين على قول أبي حنيفة أو لتمام أربع سنين على قول الشافعي رحمهما الله فهو نادر، وعلى كل يكون رضاعه دون السنتين، ولهذا البحث صلة في الآية ١٤ من سورة المؤمنين الآتية، «حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ» جمع لا واحد له من لفظه.

صفحة رقم 128

وقال سيبويه واحده شدة، راجع تفصيل ما فيه في الآية ١٤ من سورة القصص في ج ١، «وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً» هي نهاية تمام قوته واستوائه وغاية كمال شبابه وعقله وكماله، ولهذا جاء في الحديث أن الشيطان يمر يديه على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ويقول له يأبى وجه لا يفلح. وأخرج أبو الفتح الأزدي من طريق جديد عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا: من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره على شره فليتجهز إلى النار. وقيل في هذا المعنى:

إذا المرء في الأربعين ولم يكن له دون ما يهوى حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى وإن جرّ أسباب الحياة له العمر
لأنه والعياذ بالله ينطبع على ما هو عليه فيصعب تبديل خلقه كما يستحيل تغير خلقه، وفي هذا المعنى أيضا يقول الآخر:
وماذا يبتغي الشعراء مني وقد جاوزت سنّ الأربعين
وقال الآخر:
أبعد شيي أبتغي الأدبا وكنت قبلا فتى مهذبا
إلا من شملته عناية الله فخصه بلطف منه بسائق ما قدر له في الأزل، لأنه قد يسبق عليه كتابه كما جاء في الحديث الصحيح المار ذكره. «قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي» ألهمني ووفقني «أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ» بالإيمان والهداية والرشد «وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ» مني بأن يكون خالصا لوجهك «وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي» بأن تكون صالحة مرضية أنتفع بها وتنتفع بي في الدنيا والآخرة «إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ١٥ قلبا وقالبا «أُولئِكَ» أمثال هذا القائل هم «الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا» في الدنيا من الطاعات، لأن المباحات وإن كانت حسنة إلا أنها قد تكون لا حسنة ولا قبيحة فلا يثاب عليها، ولهذا عبّر بالأحسن جل إحسانه القائل «وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ» فلا نؤاخذهم عليها وسيعدّون «فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ» في الآخرة وكان هذا الوعد بالقبول والتجاوز وإدخال الجنة لهؤلاء الشاكرين التائبين «وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» ١٦ به في الدنيا على لسان رسلهم لا خلف فيه البتة.

صفحة رقم 129

مطلب فيما اختص به أبو بكر ورد عائشة على مروان ومعرفة الراهب:
أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهم أنها نزلت في أبى بكر الصديق رضي الله عنه، وقال علي كرم الله وجهه إنها نزلت في أبي بكر حيث أسلم أبواه جميعا، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أنه أسلم أبواه غيره وأوصاه الله بهما، ولزمت هذه الوصية من بعده، وفي قوله كرم الله وجهه (مِنَ الْمُهاجِرِينَ) دليل على مدنية هذه الآية، إذ لم تطلق هذه الكلمة على أحد قبل الهجرة. قال ابن عباس وقد أجاب الله دعاءه فأعتق تسعة من المؤمنين كانوا يعذبون في الله منهم بلال، ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه ووفقه لفعله. وقد أجاب دعاءه بإسلام أهله أيضا فاجتمع له أبواه أبو قحافة عثمان بن عمرو، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو، وابنه عبد الرحمن، وحفيده أبو عتيق، وكلهم مسلمون. ولم يجتمع لأحد من الصحابة مثل هذا، وقد صحب رضي الله عنه محمدا صلّى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة والنبي ابن عشرين سنة في تجارة إلى الشام، فنزلوا منزلا فيه سدرة، فقعد صلّى الله عليه وسلم في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين، فقال له الراهب من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب نسبة لجده ليعلمه مقامه وقدره لأن عبد المطلب مشهور في مكة وغيرها، وكان يلقب بقاضي العرب وخطيب الحرم ليحترمه، فقال الراهب هذا والله نبي، وما استظل تحتها بعد عيسى أحد إلا هذا، وهو نبي آخر الزمان، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، فكان لا يفارقه في سفر ولا في حضر، وبعد أن شرفه الله بالنبوة آمن به، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ودعا ربه بما حكاه الله عنه في هذه الآية. وما قيل إنها نزلت في سعد بن أبي وقاص لم يثبت، وهو أهل لأن ينزل به قرآن لأنه من العشرة المبشرين بالجنة، ومن رءوس المهاجرين الأخيار وأحبهم إلى النبي المختار، والآية بلفظها عامة يدخل فيها كل من هذا شأنه ويدخل فيها أبو بكر وسعد وأمثالهما من الصحابة دخولا أوليا، وعلى القول بأنها خاصة بالصديق فيكون لفظ الإنسان بالآية من العام المخصوص، لأن لفظ الإنسان

صفحة رقم 130

لم يأت في القرآن العظيم إلا في سياق الذم، قال تعالى (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) الآية ١٧ من عبس (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الآية ٦ من الإنفطار (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) الآية ٦ من الإنشقاق (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) الآية ٢ من العصر في ج ١ وقال (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) من آخر الأحزاب في ج ٣، فهذه كلها في معرض الذم، فتكون الأولى في معرض المدح هنا، إذ ما عموم إلا وخص منه. قال تعالى «وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما» تضجر منهما كراهية لهما راجع الآية ٢٣ من الإسراء في ج ١، «أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ» هذه الجملة مقول القول أي أأنشر حيّا من قبري بعد بلائي «وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي» فلم يحيى منهم أحد «وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ» عليه لما سمعا كلامه الدال على إنكار البعث، وعدم الإيمان وصارا يقولان له «وَيْلَكَ» هلاكك من وبال هذا الكلام، وأصل الويل الدعاء بالثبور والهلاك، ويقوم مقام الحث على الفعل أو تركه «آمِنْ» بالله وصدق رسوله واعتقد بالحياة الآخرة بعد الموت، فقد وعد الله به رسله وأخبرونا به «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» واقع لا محالة، وأنه سيدخل المؤمنين الجنة والكافرين به النار البتة «فَيَقُولُ» لهما «ما هذا» الذي تدعوان إليه بأن أصدقه وأقبله «إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» ١٧ خرافاتهم الكاذبة الملعقة، وهذه الآية عامة في كل كافر دعواه والداه إلى الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، فلم يفعل ولم يصغ لقولهما، وما زعمه مروان في الحديث الذي رواه البخاري عن يوسف بن ماهك قال:
كان مروان على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له، فقال له عبد الرحمن بن ابي بكر رضي الله عنهما شيئا، فقال لشرطته خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه، فقال مروان هذا الذي أنزل الله فيه (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) فقالت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها من وراء الحجاب ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن (تريد مما هو يفيد الذم) إلا ما أنزل الله في سورة النور من براءتي. ومما يؤيد قول عائشة وينفي قول مروان عليه ما يستحق من الملك الديان قوله تعالى «أُولئِكَ» العاقون الكافرون هم «الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ

صفحة رقم 131

الْقَوْلُ»
بالعذاب المقدر أزلا «فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ» ١٨ الآخرة كما خسروا الدنيا، وعبد الرحمن رضي الله عنه وعن والديه من أفاضل المؤمنين فلا يتصور دخوله في هذه الآية البتة، وإسلام أبويه قبله لا يقتضي نزول هذه الآية فيه، لأن إسلامه جب ما قبله فضلا عن أنه من أبطال المؤمنين، وله مواقف مشهورة يوم اليمامة وغيره، لهذا فلا يعقل نزول هذه الآية فيه، بل هي عامة في كل مؤمنين دعيا أولادهما للإيمان، قال تعالى «وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا» بحسب برهم وكمال إيمانهم، وللكافرين الدركات بمقتضى عقوقهم وعصيانهم، وفيه تغليب الدرجات على الدركات «وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ» يوم القيامة «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ١٩ فيها فلا يزاد على سيئات المسيء ولا ينقص من حسنات المحسن.
مطلب فى قوله (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ) الدنيا وكيفية إهلاك قوم عاد:
«وَ» اذكر لقومك يا محمد «يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ» فيقال لهم على رءوس الأشهاد «أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها» فلم يبق لكم في الآخرة ما تكافأون عليه لأنكم استوفيتم حظكم في الدنيا «فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ» الذي فيه الذل والصغار والخزي والهوان «بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» بطرا، والكبرياء من خصائص الإله فلا يحق لكم أن تتصفوا به بسبب ما خولكم من نعمه من مال وولد ورئاسة بل عليكم أن تشكروا نعمه وتتواضعوا لجلاله ليزيدكم «وَ» يجازيكم أيضا «بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ» ٢٠ تخرجون عن طاعته وتتجاوزون حدوده وتقعون في حماه، وقد وصف الله تعالى هذا الصنف بالاستكبار وهو من عمل القلب، والفسق وهو من عمل الجوارح، وجعل عذابهم بالذل والهوان بمقابلة ذلك.
روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا هو متكىء على رمال حصير قد أثر في جنبه، فقلت أستأنس يا رسول الله؟ قال نعم، فجلست فرفعت رأسي في البيت فو الله ما رأيت شيئا يرد البصر إلا أهبّة ثلاث، فقلت أدع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس

صفحة رقم 132

والروم ولا يعبدون الله، فاستوى جالسا، ثم قال أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟
أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت استغفر لي يا رسول الله.
طلب المغفرة رضي الله عنه إذ فهم من كلام صاحبه صلّى الله عليه وسلم أن طلبه ذلك مما لا ينبغي أن يقع من مثله وظن أنه أخطأ باقتراحه ذلك، غفر الله له ورضي عنه يخاف من مثل هذا وهو مبشر بالجنة، فكيف بنا أيها الناس؟ نسألك اللهم العفو والعافية والرضاء، ولنذكر نبذة مما كان عليه حضرة الرسول لعلنا نتعظ ونقنع بما عندنا رزقنا الله القناعة بالدنيا والشفاعة بالآخرة. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت:
ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
ورويا عنها قالت: كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا إنما هو (غذاؤنا) الأسودان التمر والماء إلا أن نؤتى باللحم، أي من قبل الغير. وروى البخاري عن أبي هريرة قال:
لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار أو كساء قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. وروى البخاري عن ابراهيم بن عبد الرحمن أن عبد الرحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائما فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، فكفن في برده إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، قال وأراه قال قتل حمزة وهو خير مني فلم يوجد ما يكفن به إلا برده، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وقد خشيت أن تكون عجّلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام. وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير. وقال جابر بن عبد الله: رأى عمر بن الخطاب لحما معلقا في يدي، فقال ما هذا يا جابر. فقلت اشتهيت لحما فاشتريته، فقال أو كلما اشتهيت يا جابر اشتريت أما تخاف هذه الآية (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) إلخ. وجاء رجل إلى عمر فرآه يأكل في قصعة وآخرين يأكلون في قصعة أخرى، فجلس معه بزعمه أن الذي أمامه أحسن فإذا هي عظام وعصب فقال ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال فما تظن، إنا إذا ذبحنا الجزور بعثنا بمطايبها إلى آل محمد صلّى الله عليه وسلم، والذي يليه إلى

صفحة رقم 133
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية