آيات من القرآن الكريم

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ

التي أذن في التعلق بها والاستدلال منها إلا الرؤيا، فإنه أذن فيها وأخبر أنها جزء من النبوة، وكذلك الفأل، فأما الطّيرة والزّجر فإنه نهى عنهما. والفأل: هو الاستدلال بما يستمع من الكلام على ما يريد من الأمر إذا كان حسنا، فإن سمع مكروها فهو تطيّر، وأمر الشرع بأن يفرح بالفأل، ويمضي على أمره مسرورا به. وإذا سمع المكروه أعرض عنه ولم يرجع لأجله،
وقال- كما علّمه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك» «١».
شبهات المشركين حول الوحي والنبوة والقرآن- ١-
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٧ الى ١٠]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)
الإعراب:
بَيِّناتٍ حال.
كَفى بِهِ شَهِيداً تمييز منصوب.

(١) أحكام القرآن: ٤/ ١٦٨٥

صفحة رقم 13

ما يُفْعَلُ بِي ما: إما موصولة منصوبة أو استفهامية مرفوعة.
وَكَفَرْتُمْ بِهِ جملة حالية.
وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ.. أدغمت الدال من شَهِدَ في الشين من شاهِدٌ لقرب الدال من الشين، كما يجوز إدغام الثاء والسين والضاد في الشين، فالثاء كقوله تعالى: حَيْثُ شِئْتُمْ والسين كقوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً والضاد كقوله تعالى: لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ. وإنما أدغمت هذه الأحرف في الشين، ولم يدغم الشين في هذه الأحرف، لأنها أزيد صوتا منها، لما فيها من التفشي.
البلاغة:
أَمْ يَقُولُونَ أَمْ: بمعنى «بل» الإضرابية، والإضراب: الانتقال من معنى لآخر، والهمزة للإنكار.
بِما تُفِيضُونَ فِيهِ استعارة تبعية، استعمل الإفاضة في الأخذ في الشيء والاندفاع فيه.
وَشَهِدَ شاهِدٌ بينهما جناس الاشتقاق.
المفردات اللغوية:
عَلَيْهِمْ أي على أهل مكة آياتُنا القرآن بَيِّناتٍ واضحات ظاهرات قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة لِلْحَقِّ أي آيات القرآن والمعنى في شأن الحق ولأجله لَمَّا جاءَهُمْ حينما جاءهم من غير نظر وتأمل هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر بطلانه.
أَمْ يَقُولُونَ أي بل أيقولون، والهمزة الاستفهامية للإنكار، والمراد: الإضراب عن تسميتهم إياه سحرا إلى ذكر ما هو أشنع منه وإنكار له وتعجيب افْتَراهُ أي اختلقه وهو القرآن قُلْ: إِنِ افْتَرَيْتُهُ على سبيل الافتراض مِنَ اللَّهِ من عذابه شَيْئاً أي إن عاجلني اللَّه بالعقوبة، فلا تقدرون على دفع شيء منها، فكيف أجترئ عليه، وأعرّض نفسي للعقاب من غير توقع نفع، ولا دفع ضرّ من قبلكم تُفِيضُونَ تندفعون وتقولون في القرآن من القدح والطعن والتكذيب كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ يشهد لي بالصدق والبلاغ، وعليكم بالكذب والإنكار، وهو وعيد بالجزاء على إفاضتهم في آيات القرآن الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الكثير المغفرة والرحمة، وهو وعد بالمغفرة والرحمة لمن تاب وآمن، وإشعار بحلم اللَّه، فلم يعاجلهم بالعقوبة.
بِدْعاً أو بديعا، أي مبتدعا ليس له مثال أو سابقة، وقرئ: بدعا جمع بدعة مِنَ الرُّسُلِ أي لست أول مرسل، فقد سبق قبلي كثيرون منهم، فكيف تكذبونني؟ وَما أَدْرِي

صفحة رقم 14

ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ
في الدارين، إذ لا علم لي بالغيب، ولا لتأكيد النفي، وما إما موصولة منصوبة، أو استفهامية مرفوعة إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أي ما أتبع إلا القرآن الموحى به، ولا أبتدع شيئا من عندي، وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار عما لم يوح إليه من الغيوب وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ منذر بيّن الإنذار بالشواهد والمعجزات عن عقاب اللَّه.
أَرَأَيْتُمْ أخبروني عن حالكم إِنْ كانَ القرآن وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ هو عبد اللَّه بن سلام، وشهادته بما في التوراة من نعت الرسول عَلى مِثْلِهِ مثل القرآن، أي شهد على مثل ما في القرآن من التوراة من المعاني المصدّقة للقرآن المطابقة لها، أو شهد على مثل ذلك وهو كون القرآن من عند اللَّه فَآمَنَ الشاهد وَاسْتَكْبَرْتُمْ تكبرتم عن الإيمان إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ هذا دليل على جواب الشرط المحذوف، تقديره: ألستم ظالمين؟.
سبب النزول: نزول الآية (١٠) :
قُلْ أَرَأَيْتُمْ..:
أخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا معه، دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا معشر اليهود، أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، يحطّ اللَّه عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه، فسكتوا، فما أجابه منهم أحد، ثم انصرف، فإذا رجل من خلفه، فقال: كما أنت يا محمد، فأقبل، فقال: أي رجل تعلموني يا معشر اليهود؟
قالوا: واللَّه ما نعلم فينا رجلا كان أعلم بكتاب اللَّه، ولا أفقه منك، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك، قال: فإني أشهد أنه النبي الذي تجدون في التوراة، قالوا: كذبت، ثم ردوا عليه، وقالوا فيه شرا، فأنزل اللَّه: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ.. الآية.
وأخرج الشيخان (البخاري ومسلم) عن سعد بن أبي وقاص قال: في

صفحة رقم 15

عبد اللَّه بن سلام نزلت، وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله. وأخرج ابن جرير والترمذي وابن مردويه عن عبد اللَّه بن سلام قال: «فيّ نزلت» ونزل فيّ: قُلْ: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرعد ١٣/ ٤٣].
المناسبة:
بعد تقرير التوحيد ونفي الأضداد والأنداد، ذكر اللَّه تعالى أمر النبوة وشبهات المشركين حولها وحول القرآن، فأبان أنهم يسمون معجزة القرآن بالسحر، وأنهم متى سمعوا القرآن قالوا: إن محمدا افتراه واختلقه من عند نفسه، ثم أبطل تعالى شبهتهم، فقال: إن افتريته على سبيل الفرض، فإن اللَّه تعالى يعاجلني بالعقوبة، وأنتم لا تقدرون على دفع العذاب عني، فكيف أقدم على هذه الفرية، وأعرّض نفسي لعقابه؟! ثم حكى عنهم نوعا آخر من الشبهات، وهو أنهم كانوا يقترحون عليه معجزات عجيبة، ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات، فأجابهم اللَّه تعالى بأن يقول لهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لست بأول رسول أرسله اللَّه، حتى تنكروا إخباري بأني رسول اللَّه إليكم، وتنكروا دعوتي لكم إلى التوحيد، ونهي عن عبادة الأصنام، فإن كل الرسل إنما بعثوا لهذه الأهداف والغايات، وأنا من جنس الرسل وواحد منهم لا أستطيع ولا أقدر على الإتيان بالمعجزات والإخبار عن المغيبات، فذلك ليس في وسع البشر، وإنما هو بقدرة اللَّه تعالى.
التفسير والبيان:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي إذا تليت على المشركين آيات القرآن حال كونها بيّنة واضحة

صفحة رقم 16

جلية، قالوا في شأن الحق الذي أتاهم وهو القرآن: هذا سحر واضح وتمويه خادع، فكذبوا به وافتروا، وكفروا وضلوا.
ثم ذكر اللَّه تعالى ما هو أشنع من وصف القرآن بالسحر ورد عليهم، فقال:
أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ، قُلْ: إِنِ افْتَرَيْتُهُ، فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي بل أيقولون: افترى محمد هذا القرآن واختلقه من عند نفسه، كذبا على اللَّه؟
فرد اللَّه تعالى عليهم: قل لهم أيها الرسول: لو افتريته وكذبت على اللَّه على سبيل الفرض والتقدير كما تدّعون، وزعمت أنه أرسلني رسولا إليكم، ولم يكن الأمر كذلك، لعاقبني أشد العقوبة، ولم يقدر أحد من أهل الأرض، لا أنتم ولا غيركم أن يدفع عقابه عني، فكيف أقدم على هذه الفرية، وأعرّض نفسي لعقابه؟
وقوله: أَمْ للإنكار والتعجيب كما تقدم، كأنه قيل: دع هذا واسمع القول المنكر العجيب.
ونظير الآية قوله تعالى: قُلْ: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً، إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ [الجن ٧٢/ ٢٣]. وقوله سبحانه:
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة ٦٩/ ٤٤- ٤٧] وذكر هنا:
هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ، كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي اللَّه أعلم بما تقولون في القرآن، وتخوضون فيه، من التكذيب له، والقول بأنه سحر وكهانة، كفى بالله شاهدا صادقا يشهد لي بأن القرآن من عنده، وبالبلاغ لكم، وبالتكذيب والجحود منكم، ومع كل هذا الذي صدر منكم فالله هو الغفور لمن تاب وآمن، وصدّق بالقرآن، وعمل بما فيه.
وهذا جمع بين الوعيد والتهديد والترهيب وبين الترغيب لهم في التوبة

صفحة رقم 17

والإنابة، وذلك كقوله تعالى: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، قُلْ: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان ٢٥/ ٥- ٦].
ثم رد اللَّه على المشركين شبهة أخرى هي اقتراح الإتيان بمعجزات، والإخبار عن مغيبات فقال:
قُلْ: ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ، وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أي لست بأول رسول جاء إلى العالم، بل قد بعث اللَّه قبلي كثيرا من الرسل، فما أنا بالأمر المبتدع الذي لا نظير له، حتى تستنكروني وتستبعدوا بعثتي إليكم، ولست أعلم ما يفعل بي ولا بكم في مستقبل الزمان في الدنيا وكذا يوم القيامة، هل أبقى في مكة أو أخرج منها؟ وهل أموت أو أقتل، وهل تعجل لكم العقوبة أيها المكذبون أم تمهلون؟ والمعنى: إني لا أعلم بما لي بالغيب، فأفعاله تعالى وما يقدره لي ولكم من قضاياه لا أعلمها «١».
إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ، وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي إنما أتبع الوحي الذي ينزله اللَّه علي في القرآن والسنة، ولا أبتدع من عندي شيئا، ولست إلا نذيرا لكم أنذركم عقاب اللَّه وأخوفكم عذابه على نحو واضح ظاهر لكل عاقل.
وهذا دليل على أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يدري ما يؤول إليه أمره وأمر المشركين في دار الدنيا، أما في الآخرة فهو صلّى اللَّه عليه وسلّم جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه، وذلك في الجملة، ولا يقطع لشخص معين بالجنة إلا الذي نص الشارع على تعيينهم كالعشرة المبشرين بالجنة «٢»، وابن سلام، والعميصاء، وبلال، وسراقة،

(١) البحر المحيط: ٨/ ٥٦
(٢) وهم الخلفاء الراشدون الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وطلحة بن عبد اللَّه، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنهم.

صفحة رقم 18

وعبد اللَّه بن عمرو بن حرام والد جابر، والقرّاء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة، وزيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن رواحة، وما أشبه هؤلاء رضي اللَّه عنهم، والدليل على ذلك الحديث التالي:
أخرج أحمد والبخاري عن أم العلاء- وهي امرأة من نساء الأنصار- قالت: «لما مات عثمان بن مظعون، قلت: رحمك اللَّه أبا السائب، شهادتي عليك، لقد أكرمك اللَّه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وما يدريك أن اللَّه أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، واللَّه ما أدري- وأنا رسول اللَّه- ما يفعل بي ولا بكم، قالت أمّ العلاء: فو اللَّه لا أزكي بعده أحدا».
وفي رواية الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس: «أنه لما مات قالت امرأته أو امرأة: هنيئا لك ابن مظعون الجنة، فنظر إليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نظر مغضب، وقال: وما يدريك؟ واللَّه، إني لرسول اللَّه، وما أدري ما يفعل اللَّه بي، فقالت: يا رسول اللَّه، صاحبك وفارسك وأنت أعلم، فقال: أرجو له رحمة ربه تعالى، وأخاف عليه ذنبه».
ثم أكد اللَّه تعالى خسارة المشركين قائلا:
قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَفَرْتُمْ بِهِ، وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ، فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الكافرين بالقرآن: أخبروني إن كان هذا القرآن من عند اللَّه في الحقيقة، والحال أنكم قد كفرتم به، وشهد شاهد من بني إسرائيل العالمين بما أنزل اللَّه في التوراة على صحته وعلى مثله وهو القرآن، أو على مثل ما قلت، فآمن الشاهد بالقرآن لما تبيّن له أنه من كلام اللَّه، وهذا الشاهد هو عبد اللَّه بن سلام الذي أسلم بعد الهجرة، ثم تكبرتم عن الإيمان به، فقد ظلمتم أنفسكم «١» وكنتم

(١) هذا جواب الشرط المحذوف لقوله: إِنْ المفهوم من قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي...
والمفعول الثاني لقوله أَرَأَيْتُمْ مقدر، أي ألستم ظالمين؟

صفحة رقم 19

من الخاسرين. وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ معناه لا يوفقهم إلى الخير، وهو استئناف بياني، تعليل لاستكبارهم.
وبعبارة أخرى: ما ظنكم أن اللَّه صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي قد جئتكم به قد أنزله اللَّه علي لإبلاغكم به، وقد كفرتم به وكذبتموه، ألستم تكونون أضل الناس وأظلمهم؟! أو ألستم كنتم ظالمين لأنفسكم؟ يدل على هذا الجواب المحذوف قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
والشاهد في رأي أكثر المفسرين هو عبد اللَّه بن سلام، بدليل
ما ذكر صاحب الكشاف: «لما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة نظر- أي ابن سلام- إلى وجهه، فعلم أنه ليس بوجه كذاب، وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر، وقال له: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم:
أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما الولد، فإذا سبق ماء الرجل نزعه، وإن سبق ماء المرأة نزعته، فقال: أشهد أنك رسول اللَّه حقا، ثم قال:
يا رسول اللَّه، إن اليهود قوم بهت، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، فجاءت اليهود، فقال لهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أيّ رجل عبد اللَّه فيكم؟
فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال:
أرأيتم إن أسلم عبد اللَّه؟ قالوا: أعاذه اللَّه من ذلك، فخرج إليهم عبد اللَّه، فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدا رسول اللَّه، فقالوا: شرنا وابن شرنا، وانتقصوه، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول اللَّه، وأحذر»
«١».
أما إنكار أن يكون الشاهد هو عبد اللَّه بن سلام، لأن إسلامه كان بالمدينة

(١) الكشاف: ٣/ ١١٩

صفحة رقم 20

قبل وفاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعامين، وهذه السورة مكية، فالجواب عليه- كما ذكر الكلبي- بأن السورة مكية إلا هذه الآية، فإنها مدنية، وكانت الآية تنزل، فيؤمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن يضعها في سورة كذا، فهذه الآية نزلت بالمدينة، وإن اللَّه تعالى أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن يضعها في هذه السورة المكية، في هذا الموضع المعين «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- عادى مشركو مكة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فكذبوا كون القرآن نازلا من عند اللَّه، وكذبوا النبوة، ووصفوا القرآن بأنه سحر واضح.
٢- ولم يكتفوا بوصف القرآن بأنه سحر، بل قالوا ما هو أشنع من ذلك، قالوا: إن محمدا اختلقه وافتراه من عند نفسه، لا من عند اللَّه.
٣- ردّ اللَّه عليهم افتراءهم بأنه لو افتراه محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم على سبيل الفرض والتقدير لعجّل اللَّه له العقوبة في الدنيا، ولم يقدر أحد أن يرد عنه عذاب اللَّه، واللَّه أعلم بما يتقوّله ويخوض به من التكذيب هؤلاء المشركون، وكفى بالله شاهدا على أن القرآن من عند اللَّه، وأنه يعلم صدق نبيه وأنهم مبطلون.
وبالرغم من ذلك فالله الغفور لمن تاب، الرحيم بعباده المؤمنين، فإذا آمن هؤلاء المشركون، غفر لهم ما قد سلف منهم من الذنوب والمعاصي.
٤- ليس النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أول رسول يرسل، بل هو خاتم الرسل الكرام، قد كان قبله رسل، فليست دعوته إلى التوحيد، وإنكار عبادة الأصنام، وعدم علمه بالغيب مقصورا عليه، وتلك دعوة قديمة هي دعوة جميع الرسل.

(١) تفسير الرازي: ٢٨/ ١٠

صفحة رقم 21

٥- النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم غير عالم بالغيبيات إلا بطريق الوحي، فلا وجه لطلب إخباره بمغيبات لا يعلم بها، فهو لا يدري بما يفعل به ولا بالناس من أحوال الدنيا وأحوال الآخرة، من الأحكام والتكاليف وما يؤول أمر المكلفين إليه. وبه يعلم أن ما يدّعى من علم بعض الأولياء بالغيب هو أمر باطل وكذب مفترى.
لكن نظرا لأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعلم كونه نبيا، فهو يعلم أنه لا تصدر عنه الكبائر، وأنه مغفور له، وقد تأكد هذا بقوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح ٤٨/ ٢] وقوله سبحانه: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الفتح ٤٨/ ٥] وقوله عز وجل:
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب ٣٣/ ٤٧].
٦- لا نسخ في آية: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ لما
ذكر الواحدي وغيره عن ابن عباس: لما اشتد البلاء بأصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء، فقصّها على أصحابه، فاستبشروا بذلك، ورأوا فيها فرجا مما هم فيه من أذى المشركين، ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك، فقالوا: يا رسول اللَّه، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأنزل اللَّه تعالى: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أي لا أدري أأخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا، ثم قال: «إنما هو شيء رأيته في منامي، ما أتبع إلا ما يوحى إلي»
أي لم يوح إليّ ما أخبرتكم به. قال القشيري: فعلى هذا لا نسخ في الآية.
٧- دلت آية قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.. على إنذار المشركين الظالمين بعذاب أليم إذا استمروا في تكذيبهم بالقرآن، وتكبروا عن الإيمان به وعن اتباعه وطاعة الرسول المنزل عليه، بالرغم من شهادة رجل منصف عارف بالتوراة بأن القرآن حق، سواء أكان عبد اللَّه بن سلام أم موسى عليه السلام. وعلى كل حال فهذه الآية بشارة بالنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في التوراة وعلى لسان موسى عليه السلام

صفحة رقم 22
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية