الشرك والوعيد افتتح هذه بالتوحيد ثم بالتوبيخ لأهل الكفر من العبيد فقال عز وجلّ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ الكلام فيه كالذي تقدم في مطلع السورة السابقة ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بما فيهما من حيث الجزئية منهما ومن حيث الاستقرار فيهما وَما بَيْنَهُما من المخلوقات إِلَّا بِالْحَقِّ استثناء مفرع من أعم المفاعيل أي لا خلقا ملتبسا بالحق الذي تقتضيه الحكمة التكوينية والتشريعية، وفيه من الدلالة على وجود الصانع وصفات كماله وابتناء أفعاله على حكم بالغة وانتهائها إلى غايات جليلة ما لا يخفى، وجوز كونه مفرغا من أعم الأحوال من فاعل خَلَقْنَا أو من مفعوله أي ما خلقناها في حال من الأحوال إلا حال ملابستنا بالحق أو حال ملابستها به وَأَجَلٍ مُسَمًّى عطف على (الحق) بتقدير مضاف أي وبتقدير أجل مسمى، وقدر لأن الخلق إنما يلتبس به لا بالأجل نفسه والمراد بهذا الأجل. كما قال ابن عباس. يوم القيامة فإنه ينتهي إليه أمور الكل وتبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار، وقتل:
مدة البقاء المقدر لكل واحد، ويؤيد الأول قوله تعالى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ فإن ما أنذروه يوم القيامة وما فيه من الطامة التامة والأهوال العامة لا آخر أعمارهم. وجوز كون ما مصدرية أي عن إنذارهم بذلك الوقت على إضافة المصدر إلى مفعوله الأول القائم مقام الفاعل، والجملة حالية أي ما خلقنا الخلق إلا بالحق وتقدير الأجل الذي يجازون عنده والحال أنهم غير مؤمنين به معرضون عنه غير مستعدين لحلوله قُلْ توبيخا لهم وتبكيتا أَرَأَيْتُمْ أخبروني وقرىء «أرأيتكم» ما تَدْعُونَ ما تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام أو جميع المعبودات الباطلة ولعله الأظهر، والموصول مفعول أول- لأرأيتم- وقوله تعالى: أَرُونِي تأكيد له فإنه بمعنى أخبروني أيضا، وقوله تعالى: ماذا خَلَقُوا جوز فيه أن تكون ما اسم استفهام مفعولا مقدما- لخلقوا- وذا زائدة وأن تكون ماذا اسما واحدا مفعولا مقدما أي أي شيء خلقوا وأن تكون اسم استفهام مبتدأ أو خبرا مقدما وذا اسم موصول خبرا أو مبتدأ مؤخرا وجملة خَلَقُوا صلة الموصول أي ما الذي خلقوه، وعلى الأولين جملة خَلَقُوا مفعول ثان- لأرأيتم- وعلى ما بعدهما جملة ماذا خَلَقُوا وجوز أن يكون الكلام من باب الأعمال وقد أعمل الثاني وحذف المفعول الأول وأختاره أبو حيان، وقيل:
يحتمل أن يكون أَرُونِي بدل اشتمال من أَرَأَيْتُمْ وقال ابن عطية: يحتمل أَرَأَيْتُمْ وجهين: كونها متعدية وما مفعولا لها. وكونها منبهة لا تتعدى وما استفهامية على معنى التوبيخ، وهذا الثاني قاله الأخفش في أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ [الكهف: ٦٣].
وقوله تعالى: مِنَ الْأَرْضِ تفسير للمبهم في ماذا خَلَقُوا قيل: والظاهر أن المراد من أجزاء الأرض وبقعها، وجوز أن يكون المراد ما على وجهها من حيوان وغيره بتقدير مضاف يؤدي ذلك، ويجوز أن يراد بالأرض السفليات مطلقا ولعله أولى أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ أي شركة مع الله سبحانه فِي السَّماواتِ أي في خلقها، ولعل الأولى فيها أيضا أن تفسر بالعلويات. وأَمْ جوز أن تكون منقطعة وأن تكون متصلة، والمراد نفي استحقاق آلهتهم للمعبودية على أتم وجه، فقد نفى أولا مدخليتها في خلق شيء من أجزاء العالم السفلي حقيقة واستقلالا، وثانيا مدخليتها على سبيل الشركة في خلق شيء من أجزاء العالم العلوي، ومن المعلوم أن نفي ذلك يستلزم نفي استحقاق المعبودية وتخصيص الشركة في النظم الجليل بقوله سبحانه: فِي السَّماواتِ مع أنه لا شركة فيها وفي الأرض أيضا لأن القصد إلزامهم بما هو مسلم لهم ظاهر لكل أحد والشركة في الحوادث السفلين ليست كذلك لتملكهم وإيجادهم لبعضها بحسب الصورة الظاهرة. وقيل: الأظهر أن تجعل الآية من حذف معادل أَمْ المتصلة لوجود دليله والتقدير ألهم شرك في الأرض أم لهم شرك في السموات وهو كما ترى، وقوله تعالى: ائْتُونِي بِكِتابٍ إلى آخره تبكيت لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقلي فهو من جملة القول أي ائتوني بكتاب إلهي كائن مِنْ قَبْلِ هذا الكتاب أي القرآن الناطق بالتوحيد وإبطال الشرك دال على صحة دينكم أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين شاهدة باستحقاقهم العبادة، فالاثارة مصدر كالضلالة بمعنى البقية من قولهم: سمنت الناقة على أثارة من لحم أي بقية منه. وقال القرطبي: هي بمعنى الإسناد والرواية، ومنه قول الأعشى:
إن الذي فيه تماريتما... بيّن للسامع والآثر
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن، وقتادة: المعنى أو خاصة من علم فاشتقاقها من الأثرة فكأنها قد آثر الله تعالى بها من هي عنده، وقيل: هي العلامة. وأخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قال: الخط، وروي ذلك أيضا موقوفا على
ابن عباس، وفسر بعلم الرمل كما
في حديث أبي هريرة مرفوعا «كان نبي من الأنبياء يخط فمن صادف مثل خطه علم».
وفي رواية عن الحبر أنه قال أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ خط كان يخطه العرب في الأرض، وهذا ظاهر في تقوية أمر علم الرمل وأنه شيء له وجه ويرشد إلى بعض الأمور، وفي ذلك كلام يطلب من محله. وفي البحر قيل: إن صح تفسير ابن عباس الأثارة بالخط على التراب كان ذلك من باب التهكم بهم وبأقوالهم ودلائلهم، والتنوين للتقليل ومِنْ عِلْمٍ صفة أي أو ائتوني بأثارة قليلة كائنة من علم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم فإنها لا تكاد تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو دليل نقلي وحيث لم يقم عليها شيء منهما وقد قاما على خلافها تبين بطلانها، وقرىء «إثارة» بكسر الهمز وفسرت بالمناظرة فإنها تثير المعاني، قيل: وذلك من باب الاستعارة على تشبيه ما يبرز ويتحقق بالمناظرة بما يثور من الغبار الثائر من حركات الفرسان. وقرأ علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم بخلاف عنهما. وزيد بن علي وعكرمة وقتادة والحسن والسلمي والأعمش وعمرو بن ميمون «أثرة» بغير ألف وهي واحدة جمعها أثر كقترة وقتر، وعلي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وقتادة أيضا بإسكان الثاء وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر أي قد قنعت منكم بخبر واحد أو أثر واحد يشهد بصحة قولكم وعن الكسائي ضم الهمزة وإسكان الثاء فهي اسم للمقدار كالغرفة لما يغرف باليد أي ائتوني بشيء ما يؤثر من علم، وروي عنه أيضا أنه قرأ «إثرة» بكسر الهمزة وسكون الثاء وهي بمعنى الأثرة بفتحتين وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إنكار لأن يكون أضل من المشركين، وذكر بعض الفضلاء أن المراد نفي أن يكون أحد يساويهم في الضلالة وإن كان سبك التركيب لنفي الأضل، وقد مر ما يتعلق بذلك فتذكر أي هو أضل من كل ضال حيث ترك دعاء المجيب القادر المستجمع لجميع صفات الكمال كما يشعر بذلك الاسم الجليل ودعا من ليس شأنه الاستجابة له وإسعافه بمطلوبه إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي ما دامت الدنيا، وظاهره أنه بعدها تقع الاستجابة وليس بمراد لتحقق ما يدل على خلافه، فهذه الغاية على ما في الانتصاف من الغايات المشعرة بأن ما بعدها وإن وافق ما قبلها إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالمباين حتى كأن الحالتين وإن كانتا نوعا واحدا لتفاوت ما بينهما كالشيء وضده، وذلك أن الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة لا تزيد على عدم الاستجابة، والحالة الثانية التي في القيامة زادت على عدم الاستجابة بالعداوة وبالكفر بعبادتهم إياهم كما ينطق به ما بعد فهو من وادي قول تعالى: في سورة [الزخرف: ٢٩] بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ الآية، ونحوه قوله سبحانه في إبليس: إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ [ص: ٧٨] وقد يقال: المراد بهذه الغاية التأبيد كما قيل في قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ [هود: ١٠٧] وقولهم: ما دام ثبير، وقال بعضهم: لا إشكال في الآية لأن الغاية مفهوم فلا تعارض المنطوق، وفيه بحث، ففي الدرر والينبوع عن البديع أن الغاية عندنا من قبيل إشارة النص لا المفهوم.
وقال الزركشي في شرح جمع الجوامع: ذهب القاضي أبو بكر إلى أن الحكم في الغاية منطوق وادعى أن أهل اللغة صرحوا بأن تعليق الحكم بالغاية موضوع على أن ما بعدها خلاف ما قبلها لأنهم اتفقوا على أنها ليست كلاما مستقلا فإن قوله تعالى: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: ٢٣٠] وقوله سبحانه: حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة: ٢٢٢] لا بد فيه من إضمار لضرورة تتميم الكلام وذلك أن المضمر إما ضد ما قبله أو لا والثاني لأنه ليس في الكلام ما يدل عليه فيقدر حتى يطهرن فاقربوهن، حتى تنكح زوجا غيره فتحل، قال: والمضمر بمنزلة الملفوظ فإنه إنما يضمر لسبقه إلى ذهن العارف باللسان، وعليه جرى صاحب البديع من الحنفية فقال: هو عندنا من دلالة الإشارة لا من المفهوم، لكن الجمهور على أنه مفهوم ومنعوا وضع اللغة لذلك انتهى، ويعلم من هذا أن قوله في التلويح: إن مفهوم الغاية متفق عليه لا يخلو من الخلل وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ الضمير الأول لمفعول يَدْعُوا أعني مَنْ لا يَسْتَجِيبُ والثاني
لفاعله، والجمع فيهما باعتبار معنى مَنْ كما أن الأفراد فيما سبق باعتبار لفظها أي والذين يدعون من لا يستجيبون لهم عن دعائهم إياهم غافِلُونَ لا يسمعون ولا يدرون، أما إن كان المدعو جمادا فظاهر، وأما إن كان من ذوي العقول فإن كان من المقبولين المقربين عند الله تعالى فلاشتغاله عن ذلك بما هو فيه من الخير أو كونه في محل ليس من شأن الذي فيه أن يسمع دعاء الداعي للبعد كعيسى عليه الصلاة والسلام اليوم أو لأن الله تعالى يصون سمعه عن سماع ذلك لأنه لكونه مما لا يرضي الله تعالى يؤلمه لو سمعه، وإن كان من أعداء الله تعالى كشياطين الجن والإنس الذين عبدوا من دون الله تعالى فإن كان ميتا فلاشتغاله بما هو فيه من الشر، وقيل: لأن الميت ليس من شأنه السماع ولا يتحقق منه سماع إلا معجزة كسماع أهل القليب، وفي هذا كلام تقدم بعضه وإن كان حيا فإن كان بعيدا مثلا فالأمر ظاهر، وإن كان قريبا سليم الحاسة فقيل: الكلام بالنسبة إليه بعد تأويل الغفلة بعدم السماع وعلى التغليب لندرة هذا الصنف.
ومن الناس من أوّل الغفلة بعدم الفائدة وتعقب بأنه حينئذ لا يكون لوصفهم بالغفلة بعد وصفهم بعدم الاستجابة كثير فائدة، واعتبر بعضهم التغليب من غير تأويل بمعنى أنه غلب من يتصور منه الغفلة حقيقة على غيره، وهذا كالتغليب في التعبير عن تلك الآلهة بما هو موضوع لأن يستعمل في العقلاء، وإن كانت الآية في عبدة الأصنام ونحوها مما لا يعقل تجوز في الغفلة وكان التعبير بما هو للعاقل لإجراء العبدة إياها مجرى العقلاء.
وقال بعضهم: على جعلها في عبدة الأصنام. إن وصفها بما ذكر من ترك الاستجابة والغفلة مع ظهور حالها للتهكم بها فتدبر ولا تغفل وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ عند قيام القيامة كانُوا أي المعبودون لَهُمْ أي العابدين أَعْداءً شديدي العداوة وَكانُوا أي المعبودون أيضا بِعِبادَتِهِمْ أي بعبادة الكفرة إياهم كافِرِينَ مكذبين، والأمر ظاهر في ذوي العقول. وأما في الأصنام فقد روي أن الله تعالى يخلق لها إدراكا وينطقها فتتبرأ عن عبادتهم وكذا تكون أعداء لهم، وجوز كون تكذيب الأصنام بلسان الحال لظهور أنهم لا يصلحون للعبادة وأنهم لا نفع لهم كما توهموه أولا حيث قالوا: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ [الزمر: ٣] ورجوا الشفاعة منهم. وفسرت العداوة بالضر على أنها مجاز مرسل عنه فمعنى كانُوا لَهُمْ أَعْداءً كانوا لهم ضارين، وما ذكرناه في بيان الضمائر هو الظاهر، وقيل: ضمير (هم) المرفوع البارز والمستتر في قوله تعالى: وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ للكفرة الداعين وضمير دُعائِهِمْ لهم أو للمعبودين، والمعنى أن الكفار عن ضلالهم بأنهم يدعون من لا يستجيب لهم غافلون لا يتأملون ما عليهم في ذلك، وفيه من ارتكاب خلاف الظاهر ما فيه، وفي الضمائر بعد نحو ذلك، والمعنى إذا حشر الناس كان الكفار أعداء لآلهتهم الباطلة لما يرون من ترتب العذاب على عبادتهم إياها وكانوا لذلك منكرين أنهم عبدوا غير الله تعالى كما حكى الله تعالى عنهم أنهم يقولون: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: ٢٣] وتعقب بأن السياق لبيان حال الآلهة معهم لا عكسه، ولأن كفرهم حينئذ إنكار لعبادتهم وتسميته كفرا خلاف الظاهر وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ أي واضحات أو مبينات ما يلزم بيانه قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ أي الآيات المتلوة، ووضع موضع ضميرها تنصيصا على حقيتها ووجوب الإيمان بها كما وضع الموصوف موضع ضمير المتلو عليهم تسجيلا عليهم بكمال الكفر والضلالة.
وجوز كون المراد- بالحق- النبوة أو الإسلام فليس فيه موضوعا موضع الضمير، والأول أظهر، واللام متعلقة.
بقال على أنها لام العلة أي قالوا لأجل الحق وفي شأنه وما يقال في شأن شيء مسوق لأجله، وجوز تعلقه- بكفروا- على أنه بمعنى الباء أو حمل الكفر على نقيضه وهو الإيمان فإنه يتعدى باللام نحو أَنُؤْمِنُ لَكَ [الشعراء: ١١١] وهو
خلاف الظاهر كما لا يخفى لَمَّا جاءَهُمْ أي في وقت مجيئه إياهم، ويفهم منه في العرف المبادرة وتستلزم عدم التأمل والتدبر فكأنه قيل: بادروا أول سماع الحق من غير تأمل إلى أن قالوا: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي ظاهر كونه سحرا، وحكمهم بذلك على الآيات لعجزهم عن الإتيان بمثلها، وعلى النبوة لما معها من الخارق للعادة، وعلى الإسلام لتفريقه بين المرء وزوجه وولده أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ إضراب وانتقال من حكاية شناعتهم السابقة إلى حكاية ما هو أشنع منها وهو الكذب عمدا على الله تعالى فإن الكذب خصوصا عليه عز وجل متفق على قبحه حتى ترى كل أحد يشمئز من نسبته إليه بخلاف السحر فإنه وإن قبح فليس بهذه المرتبة حتى تكاد تعد معرفته من الأمور المرغوبة، وما في أَمْ المنقطعة من الهمزة معنى للإنكار التوبيخي المتضمن للتعجب من نسبته إلى الافتراء مع قولهم: هو سحر لعجزهم عنه، والضمير المنصوب في افْتَراهُ كما قال أبو حيان لِلْحَقِّ الذي هو الآيات المتلوة، وقال بعضهم:
للقرآن الدال عليه ما تقدم أي بل أيقولون افتراه.
قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ على الفرض فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي عاجلني الله تعالى بعقوبة الافتراء عليه سبحانه فلا تقدرون على كفه عز وجلّ من معالجتي ولا تطيقون دفع شيء من عقابه سبحانه عني فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه، فجواب إِنِ في الحقيقة محذوف وهو عاجلني وما ذكر مسبب عنه أقيم مقامه أو تجوز به عنه هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ بالذي تأخذون فيه من القدح في وحي الله تعالى والطعن في آياته وتسميته سحرا تارة وافتراء أخرى، واستعمال الإفاضة في الأخذ في الشيء والشروع فيه قولا كان أو فعلا مجاز مشهور، وأصلها إسالة الماء يقال: أفاض الماء إذا أساله، وما أشرنا إليه من كون (ما) موصولة وضمير فيه عائد عليه هو الظاهر وجوز كون (ما) مصدرية وضمير فِيهِ للحق أو للقرآن كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ حيث يشهد لي سبحانه بالصدق والبلاغ وعليكم بالكذب والجحود، وهو وعيد بجزاء إفاضتهم في الطعن في الآيات، واستؤنف لأنه في جواب سؤال مقدر، وبِهِ في موضع الفاعل- بكفى- على أصح الأقوال، وشَهِيداً حال وبَيْنِي وَبَيْنَكُمْ متعلق به أو بكفى وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وعد بالغفران والرحمة لمن تاب وآمن وإشعار بحلم الله تعالى عليهم إذ لم يعاجلهم سبحانه بالعقوبة وأمهلهم جل شأنه ليتداركوا أمورهم قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أي بديعا منهم يعني لست مبتدعا لأمر يخالف أمورهم بل جئت بما جاؤوا به من الدعوة إلى التوحيد أو فعلت نحو ما فعلوا من إظهار ما آتاني الله تعالى من المعجزات دون الإتيان بالمقترحات كلها، فقد قيل: إنهم كانوا يقترحون عليه عليه الصلاة والسلام آيات عجيبة ويسألونه عن المغيبات عنادا ومكابرة فأمر صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم ذلك، ونظير بدع الخف بمعنى الخفيف والخل بمعنى الخليل فهو صفة مشبهة أو مصدر مؤول بها، وجوز إبقاؤه على أصله. وقرأ عكرمة وأبو حيوة وابن أبي عبلة «بدعا» بفتح الدال، وخرج علي أنه جمع بدعة كسدرة وسدر، والكلام بتقدير مضاف أي ذا بدع أو مصدر والإخبار به مبالغة أو بتقدير المضاف أيضا.
وقال الزمخشري: يجوز أن يكون صفة على فعل كقولهم: دين قيم ولحم زيم أي متفرق. قال في البحر: ولم يثبت سيبويه صفة على هذا الوزن إلا عدي حيث قال: ولا نعلمه جاء صفة إلا في حرف معتل يوصف به الجمع وهو قوم عدي، واستدرك عليه زيم وهو استدراك صحيح، وأما قيم فمقصور من قيام ولولا ذلك لصحت عينه كما صحت في حول وعوض، وأما قول العرب: مكان سوي وماء روي ورجل رضا وماء صرى فمتأولة عند التصريفيين إما بالمصدر أو بالقصر، وعن مجاهد وأبي حيوة «بدعا» بفتح الباء وكسر الدال وهو صفة كحذر.
وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أي في الدارين على التفصيل كما قيل.
وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال في الآية: أما في الآخرة فمعاذ الله تعالى قد علم صلّى الله عليه وسلّم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل ولكن ما أدري ما يفعل بي في الدنيا أأخرج كما أخرجت الأنبياء عليهم السلام من قبلي أم أقتل كما قتلت الأنبياء عليهم السلام من قبلي ولا بكم أأمتي المكذبة أم أمتي المصدقة أم أمتي المرمية بالحجارة من اسماء قذفا أم المخسوف بها خسفا ثم أوحى إليه وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ [الإسراء: ٦٠] يقول سبحانه:
أحطت لك بالعرب أن لا يقتلوك فعرف عليه الصلاة والسلام أنه لا يقتل ثم أنزل الله تعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [الفتح: ٢٨] يقول: أشهد لك على نفسه أنه سيظهر دينك على الأديان ثم قال سبحانه له عليه الصلاة والسلام في أمته: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: ٣٣] فأخبره الله تعالى بما صنع به وما يصنع بأمته،
وعن الكلبي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال له أصحابه وقد ضجروا من أذى المشركين: حتى متى نكون على هذا؟ فقال: وما أدري ما يفعل بي. ولا بكم أأترك بمكة أم أؤمر بالخروج إلى أرض قد رفعت لي ورأيتها
يعني في منامه ذات نخل وشجر. وحكى في البحر عن مالك بن أنس وقتادة وعكرمة والحسن أيضا. وابن عباس أن المعنى ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة،
وأخرج أبو داود في ناسخه من طريق عكرمة عن ابن عباس أنه قال في الآية: نسختها الآية التي في [الفتح: ٢] لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ فخرج صلّى الله عليه وسلّم إلى الناس فبشرهم بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال رجل من المؤمنين: هنيئا لك يا نبي الله قد علمنا الآن ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى في سورة [الأحزاب: ٤٧] وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً وقال سبحانه: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ
[الفتح: ٥] فبين الله تعالى ما يفعل به وبهم. واستشكل على تقدير صحته بأن النسخ لا يجري في الخبر فلعل المنسوخ الأمر بقوله تعالى: قُلْ إن قلنا: إنه هنا للتكرار أو المراد بالنسخ مطلق التغيير.
وقال أبو حيان: هذا القول ليس بظاهر بل قد أعلم الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام من أول الرسالة بحاله وحال المؤمن وحال الكافر في الآخرة، وقال الإمام: أكثر المحققين استبعدوا هذا القول واحتجوا بأن النبي لا بد أن يعلم من نفسه كونه نبيا ومتى علم ذلك علم أنه لا يصدر عنه الكبائر وأنه مغفور وإذا كان كذلك امتنع كونه شاكا في أنه هل هو مغفور له أم لا، وبأنه لا شك أن الأنبياء أرفع حالا من الأولياء، وقد قال الله تعالى فيهم: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: ٦٢] فكيف يعتقد بقاء الرسول وهو رئيس الأنبياء وقدوة الأولياء شاكا في أنه هل هو من المغفورين أم لا، وقد يقال: المراد أيضا أنه عليه الصلاة والسلام ما يدري ذلك على التفصيل، وما ذكر لا يتعين فيه حصول العلم التفصيلي لجواز أن يكون عليه الصلاة والسلام قد أعلم بذلك في مبدأ الأمر إجمالا بل في إعلامه صلّى الله عليه وسلّم بعد بحال كل شخص شخص على سبيل التفصيل بأن يكون قد أعلم عليه الصلاة والسلام بأحوال زيد مثلا في الآخرة على التفصيل وبأحوال عمرو كذلك وهكذا توقف.
وفي صحيح البخاري وأخرجه الإمام أحمد والنسائي وابن مردويه عن أم العلاء، وكانت بايعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنها قالت لما مات عثمان بن مظعون: رحمة الله تعالى عليك يا أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله تعالى فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «وما يدريك أن الله تعالى أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم، قالت أم العلاء: فو الله ما أزكي بعده أحدا
وفي رواية ابن حبان والطبراني عن زيد بن ثابت أنها قالت لما قبض: طب أبا السائب نفسا إنك في الجنة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: وما يدريك؟
قالت: يا رسول الله عثمان بن مظعون قال: أجل وما رأينا إلا خيرا والله ما أدري ما يصنع بي
وفي رواية الطبراني. وابن
مردويه عن ابن عباس أنه لما مات قالت امرأته أو امرأة: هنيئا لك ابن مظعون الجنة فنظر إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نظر مغضب وقال: وما يدريك؟ والله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل الله بي فقالت: يا رسول الله صاحبك وفارسك وأنت أعلم فقال: أرجو له رحمة ربه تعالى وأخاف عليه ذنبه
، لكن في هذه الرواية أن ابن عباس قال: وذلك قبل أن ينزل لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: ٢] وعن الضحاك المراد لا أدري ما أومر به ولا ما تؤمرون به في باب التكاليف والشرائع والجهاد ولا في الابتلاء والامتحان، والذي أختاره أن المعنى على نفي الدراية من غير جهة الوحي سواء كان الدراية تفصيلية أو إجمالية وسواء كان ذلك في الأمور الدنيوية أو الأخروية وأعتقد أنه صلّى الله عليه وسلّم لم ينتقل من الدنيا حتى أوتي من العلم بالله تعالى وصفاته وشؤونه والعلم بأشياء يعد العلم بها كمالا ما لم يؤته أحد غيره من العالمين، ولا أعتقد فوات كمال بعدم العلم بحوادث دنيوية جزئية كعدم العلم بما يصنع زيد مثلا في بيته وما يجري عليه في يومه أو غده، ولا أرى حسنا قول القائل: إنه عليه الصلاة والسلام يعلم الغيب وأستحسن أن يقال بدله: إنه صلّى الله عليه وسلّم أطلعه الله تعالى على الغيب أو علمه سبحانه إياه أو نحو ذلك، وفي الآية رد على من ينسب لبعض الأولياء علم كل شيء من الكليات والجزئيات، وقد سمعت خطيبا على منبر المسجد الجامع المنسوب للشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره يوم الجمعة قال بأعلى صوت: يا باز أنت أعلم بي من نفسي، وقال لي بعض: إني لأعتقد أن الشيخ قدس سره يعلم كل شيء مني حتى منابت شعري، ومثل ذلك مما لا ينبغي أن ينسب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكيف ينسب إلى من سواه؟ فليتق العبد مولاه، وفيما تقدم من الأخبار في شأن عثمان بن مظعون رد أيضا على من يقول فيمن دونه في الفضل أو من لم يبشره الصادق بالجنة والكرامة نحو ما قيل فيه. نعم ينبغي الظن الحسن في المؤمنين أحياء وأمواتا ورجاء الخير لكل منهم فالله تعالى أرحم الراحمين، هذا والظاهر أن ما استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء والجملة بعدها خبر وجملة المبتدأ والخبر معلق عنها الفعل القلبي وهو إما متعد لواحد أو اثنين، وجوز أن تكون ما موصولة في محل نصب على المفعولية لفعل الدراية وهو حينئذ متعد لواحد والجملة بعدها صلة، وأن تكون حرفا مصدريا فالمصدر مفعول أَدْرِي والاستفهامية أقضى لحق مقام التبري عن الدراية، ولا لتذكير النفي المنسحب على ما يُفْعَلُ إلخ وتأكيده، ولولا اعتبار الانسحاب لكان التركيب ما يفعل بي وبكم دون لا لأنه ليس محلا للنفي ولا لزيادة لا ونظير ذلك زيادة مِنَ في قوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ [البقرة: ١٠٥] لانسحاب النفس فإنه إذا انتفت ودادة التنزيل انتفى التنزيل، وزيادة الباء في قوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ [الأحقاف: ٣٣] لانسحاب النفي، على أن مع ما في حيزها ولولاه ما زيدت الباء في الخبر، وقيل: الأصل ولا ما يفعل بكم فاختصر، وقيل: ولا بكم، وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة «يفعل» بالبناء للفاعل وهو ضمير الله عز وجل إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أي ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي على معنى قصر أفعاله صلّى الله عليه وسلّم على اتباع الوحي، والمراد بالفعل ما يشمل القول وغيره، وهذا جواب عن اقتراحهم الإخبار عما لم يوح إليه عليه الصلاة والسلام من الغيوب، والخطاب السابق للمشركين.
وقيل: عن استعجال المسلمين أن يتخلصوا عن أذية المشركين والخطاب السابق لهم، والأول أوفق لقوله تعالى: وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ أنذركم عقاب الله تعالى حسبما يوحى إليّ مُبِينٌ بين الإنذار بالمعجزات الباهرة، والحصر إضافي. وقرأ ابن عمير «يوحي» على البناء للفاعل قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ أي ما يوحى إلي من القرآن، وقيل:
الضمير للرسول، وفيه أن الظاهر لو كان المعنى عليه كنت مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لا سحرا ولا مفترى كما تزعمون وَكَفَرْتُمْ
بِهِ
الواو للحال والجملة حال بتقدير قد على المشهور من الضمير في الخبر وسطت بين أجزاء الشرق اهتماما بالتسجيل عليهم بالكفر أو للعطف على كانَ كما في قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ [فصلت: ٥٢] وكذا الواو في قوله تعالى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ إلا أنها تعطفه بما عطف عليه على جملة ما قبله، فالجمل المذكورات بعد الواوات ليست متعاطفة على نسق واحد بل مجموع شَهِدَ فَآمَنَ واسْتَكْبَرْتُمْ معطوف على مجموع كانَ وما معه، مثله في المفردات هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [الحديد: ٣] والمعنى إن اجتمع كونه من عند الله تعالى مع كفركم واجتمع شهادة الشاهد فإيمانه مع استكباركم عن الإيمان، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في جواب الشرط وفي مفعولي أَرَأَيْتُمْ وضمير «به» عائد على ما عاد عليه اسم كان وهو ما يوحى من القرآن أو الرسول، وعن الشعبي أنه للرسول، ولعله يقول في ضمير كانَ أيضا كذلك وكنا في ضمير عَلى مِثْلِهِ لئلا يلزم التفكيك. وأنت تعلم أن الظاهر رجوع الضمائر كلها للقرآن، وتنوين شاهِدٌ للتفخيم، وكذا وصفه بالجار والمجرور أي وشهد شاهد عظيم الشأن من بني إسرائيل الواقفين على شؤون الله تعالى وأسرار الوحي بما أوتوا من التوراة على مثل القرآن من المعاني المنطوية في التوراة من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك فإنها في الحقيقة عين ما فيه كما يعرب عنه قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: ١٩٦] على وجه، وكذا قوله سبحانه: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى [الأعلى: ١٨] والمثلية باعتبار تأديتها بعبارات أخرى أو على مثل ما ذكر من كونه من عند الله تعالى والمثلية لما ذكر، وقيل: على مثل شهادته أي لنفسه بأنه من عند الله تعالى كأنه لإعجازه يشهد لنفسه بذلك، وقيل مثل كناية عن القرآن نفسه للمبالغة، وعلى تقدير كون الضمير للرسول صلّى الله عليه وسلّم فسر المثل بموسى عليه السلام.
والفاء في قوله تعالى: فَآمَنَ أي بالقرآن للسببية فيكون إيمانه مترتبا على شهادة له بمطابقته للوحي، ويجوز أن تكون تفصيلية فيكون إيمانه به هو الشهادة له، والمعنى على تقدير أن يراد فآمن بالرسول صلّى الله عليه وسلّم ظاهر بأدنى التفات، وقوله تعالى: وَاسْتَكْبَرْتُمْ أي عن الإيمان معطوف على ما أشرنا إليه على شَهِدَ شاهِدٌ وجوز كونه معطوفا على «آمن» لأنه قسيمه ويجعل الكل معطوفا على الشرط، ولا تكرار في اسْتَكْبَرْتُمْ لأن الاستكبار بعد الشهادة والكفر قبلها، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي الموسومين بهذا الوصف، استئناف بياني في مقام التعليل للاستكبار عن الإيمان، ووصفهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم فتشعر هذه الجملة بأن كفرهم به لضلالهم المسبب عن ظلمهم وهو دليل جواب الشرط ولذا حذف ومفعولا أَرَأَيْتُمْ محذوفان أيضا لدلالة المعنى عليهما، والتقدير أرأيتم حالكم إن كان كذا فقد ظلمتم ألستم ظالمين، فالمفعول الأول حالكم والثاني ألستم ظالمين، والجواب فقد ظلمتم، وقال ابن عطية: في أَرَأَيْتُمْ يحتمل أن تكون منبهة فهي لفظ موضوع للسؤال لا تقتضي مفعولا، ويحتمل أن تكون جملة إِنْ كانَ إلخ سادة مسد مفعوليها، وهو خلاف ما قرره محققو النحاة في ذلك. وقدر الزمخشري الجواب ألستم ظالمين بغير فاء. ورده أبو حيان بأن الجملة الاستفهامية إذا وقعت جوابا للشرط لزمها الفاء فإن كانت الأداة الهمزة تقدم على الفاء وإلا تأخرت، ولعله تقدير معنى لا تقدير إعراب، وقدره بعضهم أفتؤمنون لدلالة فَآمَنَ وقدره الحسن فمن أضل منكم لقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [فصلت: ٥٢] وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام: ١٤٤، القصص: ٥٠، الأحقاف: ١٠] وقيل: التقدير فمن المحقق منا ومنكم ومن المبطل؟ وقيل: تهلكون، وقيل: هو فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ أي فقد آمن محمد صلّى الله عليه وسلّم به أو الشاهد واستكبرتم أنتم عن الإيمان، وأكثرها كما ترى.
والشاهد عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه عند الجمهور وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وابن سيرين والضحاك وعكرمة في رواية ابن سعد. وابن عساكر عنه. وفي الكشف في جعله شاهدا والسورة مكية بحث ولهذا استثنيت هذه الآية، وتحقيقه أنه نزل ما سيكون منزلة الواقع ولهذا عطف شَهِدَ وما بعده على قوله تعالى: كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ ليعلم أنه مثله في التحقيق فيكون على أسلوب قوله سبحانه: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ [الحجر: ٩٠] أي أنذر قريشا مثل ما أنزلناه على يهود بني قريظة وقد أنزل عليهم بعد سبع سنين من نزول الآية، ومصب الإلزام في قوله تعالى: فَآمَنَ كأنه قيل: أخبروني إن يؤمن به عالم من بني إسرائيل أي عالم لما تحقق عنده أنه مثل التوراة ألستم تكونون أضل الناس، ففيه الدلالة على أنه مثل التوراة يجب الإيمان به شهد ذلك الشاهد أو لم يشهد لأن تلك الشهادة يعقبها الإيمان من غير مهلة فلو لم يؤمن لم يكن عالما بما في التوراة وهذا يصلح جوابا مستقلا من غير نظر إلى الأول فافهم، وقول من قال: الشاهد عبد الله على هذا بيان للواقع وأنه كان ممن شهد وآمن لا أن المراد بلفظ الآية عبد الله خصوصا، وعلى الوجهين لا بد من تأويل قول سعد، وقد تقدم في حديث الشيخين وغيرهما وفيه نزل وَشَهِدَ شاهِدٌ بأن المراد في شأنه الذي سيحدث على الأول أو فيه وفيمن هو على حاله كأنه قيل: هو من النازلين فيه لأنه كان من الشاهدين انتهى.
وتعقب قوله: إنه نزل ما سيكون منزلة الواقع بأنه لا حاجة إلى ذلك التنزيل على تقدير مكيتها، وكون الشاهد ابن سلام لمكان العطف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلا وحينئذ لا ضير في شهادة الشاهد بعد نزولها، ومع هذا فالظاهر من الأخبار أن النزول كان في المدينة وأنه بعد شهادة ابن سلام.
أخرج أبو يعلى والطبراني والحاكم بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يحبط الله تعالى عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه فسكتوا فما أجابه منهم أحد ثم رد عليهم عليه الصلاة والسلام فلم يجبه أحد فثلث فلم يجبه أحد فقال: أبيتم فو الله لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا المقفى آمنتم أو كذبتم ثم انصرف صلّى الله عليه وسلّم وأنا معه حتى كدنا أن نخرج فإذا رجل من خلفه فقال: كما أنت يا محمد فأقبل فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود؟ قالوا: والله ما نعلم فينا رجلا أعلم بكتاب الله تعالى ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدك قال: فإني أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه في التوراة والإنجيل فقالوا: كذبت ثم ردوا عليه وقالوا شرا فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا وابن سلام فأنزل الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الآية
، وروي حديث شهادته وإيمانه على وجه آخر، ولا يظهر لي الجمع بينه وبين ما ذكر، وهو أيضا ظاهر في كون النزول بعد الشهادة.
وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: جاء ميمون بن يامين إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان رأس اليهود بالمدينة فأسلم وقال: يا رسول الله ابعث إليهم- يعني اليهود- فاجعل بينك وبينهم حكما من أنفسهم فإنهم سيرضوني فبعث عليه الصلاة والسلام إليهم وأدخله الداخل فأتوه فخاطبوه مليا فقال لهم:
اختاروا رجلا من أنفسكم يكون حكما بيني وبينكم قالوا: فإنا قد رضينا بميمون بن يامين فأخرجه إليهم فقال لهم ميمون: لنشهد أنه رسول الله وأنه على الحق فأبوا أن يصدقوه فأنزل الله تعالى فيه قُلْ أَرَأَيْتُمْ الآية
، وهو ظاهر في مدنية الآية وأن نزولها قبل شهادة الشاهد لكنه ظاهر في أن الشاهد غير عبد الله بن سلام، وكونه كان يسمى بذلك قبل لم أره، ولا يظهر لي وجه التعبير به دون المشهود إن كان، والذي رأيته في الاستيعاب في ترجمة عبد الله أنه ابن سلام بن الحرث الإسرائيلي الأنصاري يكنى أبا يوسف وكان اسمه في الجاهلية الحصين فلما أسلم سماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله والله تعالى أعلم.
ومن كذب اليهود وجهلهم بالتاريخ ما يعتقدونه في عبد الله بن سلام أنه صلّى الله عليه وسلّم حين سافر إلى الشام في تجارة لخديجة رضي الله تعالى عنها اجتمع بأحبار اليهود وقص عليهم أحلامه فعلموا أنه صاحب دولة فأصحبوه عبد الله بن سلام وبقي معه مدة فتعلم منه علم الشرائع والأمم السالفة وأفرطوا في الكذب إلى أن نسبوا القرآن المعجز إلى تأليف عبد الله بن سلام وعبد الله هذا مما ليس له إقامة بمكة ولا تردد إليها، ولم ير النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا في المدينة وأسلم إذ قدمها عليه الصلاة والسلام أو قبل وفاته صلّى الله عليه وسلّم بعامين على ما حكاه في البحر عن الشعبي، فما أكذب اليهود وأبهتهم لعنهم الله تعالى، وناهيك من طائفة ما ذم في القرآن طائفة مثلها.
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن مسروق أن الشاهد هو موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وقد تقدم أنه كان يدّعي مكية الآية وينكر نزولها في ابن سلام ويقول: إنما كانت خصومة خاصم بها محمد صلّى الله عليه وسلّم، وكأنه على هذا لا يحتاج إلى القول بأنها نزلت بخصوص شاهد، وأيد عدم إرادة الخصوص بأن شاهِدٌ في الآية نكرة والنكرة في سياق الشرط تعم، وأنا أقول: بكون التنوين في شاهِدٌ للتعظيم وبمدنية الآية ونزولها في ابن سلام، والخطابات فيها مطلقا لكفار مكة، وربما يظن على بعض الروايات أنها لليهود وليس كذلك، وهم المعنيون أيضا بالذين كفروا في قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى آخره، وهو حكاية لبعض آخر من أقاويلهم الباطلة في حق القرآن العظيم والمؤمنين به. وفيه تحقيق لاستكبارهم أي وقال كفار مكة: لِلَّذِينَ آمَنُوا أي لأجلهم وفي شأنهم فاللام للتعليل كما سمعت في قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ [سبأ: ٤٣].
وقيل: هي لام المشافهة والتبليغ والتفتوا في قولهم: لَوْ كانَ أي ما جاء به صلّى الله عليه وسلّم من القرآن، وقيل: الإيمان خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ ولولاه لقالوا: سبقتمونا بالخطاب أو لما سمعوا أن جماعة آمنوا خاطبوا جماعة أخرى من المؤمنين أي قالوا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقنا إليه أولئك الذين بلغنا إيمانهم.
وتعقب بأن هذا ليس من مواطن الالتفات، وكونهم قصدوا تحقير المؤمنين بالغيبة لا وجه له، وكون المشافهين طائفة من المؤمنين والمخبر عنهم طائفة أخرى خلاف الظاهر، فالأولى كونها للتعليل وقالوا ذلك لما رأوا أن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ضعفاء كعمار وصهيب وبلال وكانوا يزعمون أن الخير الديني يتبع الخير الدنيوي وأنه لا يتأهل للأول إلا من كان له القدح المعلى من الثاني، ولذا قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] وخطؤهم في ذلك مما لا يخفى.
وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال: كانت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمة أسلمت قبله يقال لها زنيرة (١) فكان رضي الله تعالى عنه يضربها على إسلامها وكان كفار قريش يقولون: لو كان خيرا ما سبقتنا إليه زنيرة فأنزل الله تعالى في شأنها وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية، ولعلهم لم يريدوا زنيرة بخصوصها بل من شابهها أيضا.
وفي الآية تغليب المذكر على المؤنث، وقال أبو المتوكل: أسلم أبو ذر ثم أسلمت غفار فقالت قريش ذلك، وقال الكلبي والزجاج. قال ذلك بنو عامر بن صعصعة وغطفان وأسد وأشجع لما أسلم أسلم وجهينة ومزينة وغفار وقال الثعلبي: هي مقالة اليهود حين أسلم ابن سلام، وأصحابه منهم، ويلزم عليه القول بأن الآية مدنية وعدها في المستثنيات أو كون قالَ فيها كنادى في قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ [الأعراف: ٤٨] وهذا كما ترى والمعول عليه ما تقدم وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ أي بالقرآن، وقيل: بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، و «إذ» على ما اختاره جار الله ظرف لمقدر دل
عليه السابق واللاحق أي وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم واستكبارهم، وقوله تعالى: فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ أي يتحقق منهم هذا القول والطعن حينا فحينا كما يؤذن بذلك صيغة المضارع مسبب عن العناد والاستكبار، وإذا جاز مثل حينئذ الآن أي كان ذلك حينئذ واسمع الآن بدليل قرينة الحال فهذا أجوز، والإشارة إلى القرآن العظيم، وقولهم: ذلك فيه كقولهم: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنعام: ٢٥ وغيرها] ولم يجوز أن يكون فَسَيَقُولُونَ عاملا في الظرف لتدافع دلالتي المضي والاستقبال، وإنما لم يجعله من قبيل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ [غافر: ٧٠- ٧١] نظما للمستقبل في سلك المقطوع كما اختاره ابن الحاجب في الأمالي لأن المعنى هاهنا- كما في الكشف- على أن عدم الهداية محقق واقع لا أنه سيقع البتة، ألا ترى إلى قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا بعد ما بين استكبارهم وعنادهم كيف ينص على أنهم مجادلون معرضون عن القرآن وتدبره غير مهتدين ببشائره ونذره.
وقال بعضهم: الظرف معمول- لسيقولون- والفاء لا تمنع عن عمل ما بعدها فيما قبلها كما ذكره الرضي، والتسبب المشعرة به عن كفرهم، و (سيقولون) بمعنى قالوا، والعدول إليه للإشعار بالاستمرار وتعقب بأن ذلك مع السين بعيد، وقيل: إذ تعليلية للقول. وتعقب بأنه معلل بكفرهم كما آذنت به الفاء، وقدر بعضهم العامل المحذوف قالوا ما قالوا، ورجحه على التقدير السابق وليس براجح عليه كما لا يخفى على راجح وَمِنْ قَبْلِهِ أي من قبل القرآن وهو خبر مقدم لقوله تعالى: كِتابُ مُوسى قدم للاهتمام، وجوز الطبرسي كون كِتابُ معطوفا على شاهِدٌ والظرف فاصل بين العاطف والمعطوف، والمعنى وشهد كتاب موسى من قبله، وجعل ضمير قَبْلِهِ للقرآن أيضا وليس بشيء أصلا، وقوله سبحانه: إِماماً وَرَحْمَةً حال من الضمير في الخبر أو من كِتابُ عند من جوز الحال من المبتدأ، وقيل: حال من محذوف والعامل كذلك أي أنزلناه إماما وهو كما ترى.
والمعنى وكائن من قبله كتاب موسى يقتدى به في دين الله تعالى وشرائعه كما يقتدى بالإمام ورحمة من الله سبحانه لمن آمن به وعمل بموجبه، وقوله تعالى: وَهذا أي القرآن الذي يقولون في شأنه ما يقولون كِتابُ مبتدأ خبر، وقوله عز وجل: مُصَدِّقٌ نعت كِتابُ وهو مصب الفائدة أي مصدق لكتاب موسى الذي هو إمام ورحمة أو لما بين يديه من جميع الكتب الإلهية، وقد قرىء «مصدق لما بين يديه» والجملة عطف على الجملة قبلها وهي حالية أو مستأنفة، وأيا ما كان فالكلام رد لقولهم: هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ وإبطال له، والمعنى كيف يصح كونه إفكا قديما وقد سلموا كتاب موسى والقرآن مصدق له متحد معه في المعنى أو لجميع الكتب الإلهية، وقوله تعالى: لِساناً عَرَبِيًّا حال من ضمير كِتابُ المستتر في مُصَدِّقٌ أو منه نفسه لتخصيصه بالصفة، وعامله على الأول مُصَدِّقٌ وعلى الثاني ما في هذا من معنى الفعل، وفائدة هذه الحال مع أن عربيته أمر معلوم لكل أحد الاشعار بالدلالة على أن كونه مصدقا كما دل على أنه حق دل على أنه وحي وتوقيف من الله تعالى.
هذا على القول بأن الكلام مع اليهود ظاهر، وأما على القول بأنه مع كفار مكة فلأنهم قد يسلمون التوراة ونحوها من الكتب الإلهية السابقة وإن كانوا أحيانا ينكرون إنزال الكتب وإرسال الرسل عليهم السلام مطلقا. وفي الكشف وجه تقديم الخبر في قوله تعالى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أن إرسال الرسل وإنزال الكتب أمر مستمر كائن من عند الله تعالى فمن قبل إنزال القرآن إماما ورحمة كان إنزال التوراة كذلك، وليس من تقديم الاختصاص بل لأن العناية والاهتمام بذكره، ولما ألزم الكفار بنزول مثله وشهادة أعلم بني إسرائيل ذكر على سبيل الاعتراض من حال كتاب موسى عليه السلام ما يؤكد كونه من عند الله تعالى وأن ما يطابقه يكون من عنده سبحانه لا محالة وتوصل منه إلى أن القرآن لما كان مصدقه بل مصدق سائر الكتب السماوية وجب أن يؤمن به ويتلقى بالقبول وهو بالحقيقة إعادة
للدعوى الأولى على وجه أخصر وأشمل إذ دلّ فيه على أن كونه مصدقا كاف شهد شاهد بني إسرائيل أو لا، وإن قيل: نزلوا لعنادهم منزلة من لا يعرف أن كتاب موسى قبله إذ لو عرفوا وقد تبين أنه مثله لأذعنوا فقيل: وَمِنْ قَبْلِهِ لا من بعده لكان وجها موفى فيه حق الاختصاص كما آثره السكاكي من أنه لازم التقديم انتهى. وهو ظاهر في أن الجملة ليست حالية.
وجوز كون لِساناً مفعولا لمصدق. والكلام بتقدير مضاف أي ذا لسان عربي وهو النبي عليه الصلاة والسلام وتصديقه إياه بموافقته كتاب موسى أو الكتب السماوية مطلقا وإعجازه، وجوز على المفعولية كون «هذا» إشارة إلى كتاب موسى فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، ويراد بلسانا عربيا: القرآن، ووضعت الإشارة موضع الضمير للتعظيم، والأصل وهو مصدق لسانا عربيا، وقيل: هو منصوب بنزع الخافض أي مصدق بلسان عربي والكل كما ترى. وقرأ الكلبي «ومن قبله» بفتح الميم «كتاب موسى» بالنصب، وخرجت على أن من موصولة معمولة لفعل مقدر وكذا كِتابُ أي وآتينا الذين كانوا قبل نزول القرآن من بني إسرائيل كتاب موسى.
لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا متعلق بمصدق. وفيه ضمير للكتاب أو لله تعالى أو للرسول عليه الصلاة والسلام، ويؤيد الأخير قراءة أبي رجاء وشيبة والأعرج وأبي جعفر وابن عامر ونافع وابن كثير في رواية «لتنذر» بتاء الخطاب فإنه لا يصلح بدون تكلف لغير الرسول، والتعليل صحيح على الكل، ولا يتوهم لزوم حذف اللام على أن الضمير للكتاب لوجود شرط النصب لأنه شرط الجواز وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ عطف على المصدر الحاصل من أن والفعل، وقال الزمخشري: وتبعه أبو البقاء هو في محل النصب معطوف على محل لِيُنْذِرَ لأنه مفعول له، وزعم أبو حيان أن ذلك لا يجوز على الصحيح من مذهب النحويين لأن المحل ليس بحق الأصالة وهم يشترطون في الحمل عليه ذلك إذ الأصل في المفعول له الجر، والنصب ناشىء من نزع الخافض لكنه كثر بشرطه، وحكى في إعرابه أوجها فقال: قيل معطوف على مُصَدِّقٌ وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي هو بشرى، وقيل: منصوب بفعل محذوف معطوف على (ينذر) أي ويبشر بشرى، وقيل: منصوب بنزع الخافض أي ولبشرى، والظاهر أن (المحسنين) في مقابلة الَّذِينَ ظَلَمُوا والمراد بالأول الكفرة وبالثاني المؤمنون. وفي شرح الطيبي إنما عدل عن العادلين إلى (المحسنين) ليكون ذريعة إلى البشارة بنفي الخوف والحزن لمن قالوا: ربنا الله ثم استقاموا، وقيل: (المحسنين) دون الذين أحسنوا بعد قوله تعالى: الَّذِينَ ظَلَمُوا ليكون المعنى لينذر الذين وجد منهم الظلم ويبشر الذين ثبتوا واستقاموا على الصراط السوي فيناسب تعليل البشارة بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا إلى آخره أي إن الذين جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والاستقامة في الدين التي هي منتهى العمل، وثُمَّ للتراخي الرتبي فالعمل متراخي الرتبة عن التوحيد، وقد نصوا على أنه لا يعتد به بدونه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من فوات محبوب، والمراد استمرار النفي، والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط مع بقاء معنى الابتداء فلا تدخل في خبر ليت ولعل وكان وإن كانت أسماؤها موصولات، وتقدم في سورة السجدة نظير هذه الآية وذكرنا في تفسير ما ذكرنا فليراجع أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من الوصفين الجليلين أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها حال من المستكن في أَصْحابُ وقوله تعالى: جَزاءً منصوب إما بعامل مقدر أي يجزون جزاء، والجملة استئناف أو حال وإما بمعنى ما تقدم على ما قيل فإن قوله تعالى: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ في معنى جازيناهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الحسنات القلبية والقالبية.