وهذا أولى في الجواب من أن يقال: إن الأمر بفعل ذلك بينه وبين الله تعالى بقلبه ليثاب عليه، نعم قيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال له المريسيع فأرسل ابن أبيّ غلامه ليستقي فأبطأ عليه فلما أتاه قال له: ما حسبك؟ قال: غلام عمر قعد على طرف البئر فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقرب أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال ابن أبيّ: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل سمّن كلبك يأكلك فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله تعالى الآية وحكاه الإمام عن ابن عباس وهو يدل على أنها مدنية، وكذا ما روي عن ميمون بن مهران قال: إن فنحاصا اليهودي قال: لما أنزل الله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة: ٢٤٥، الحديد: ١١] احتاج رب محمد فسمع بذلك عمر رضي الله تعالى عنه فاشتمل سيفه وخرج فبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم في طلبه حتى رده ونزلت الآية لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ تعليل للأمر بالمغفرة، وجوز أن يكون تعليلا للأمر بالقول لأنه سبب لامتثالهم المجازي عليه، والمراد بالقوم المؤمنون الغافرون والتنكير للتعظيم، ولفظ القوم في نفسه اسم مدح على ما يرشد إليه الاشتقاق والاستعمال في نحو يا ابن القوم.
وفي هذا التنكير كمال التعريف والتنبيه على أنهم لا يخفون نكروا أو عرفوا مع العلم بأن المجزي لا يكون إلا العامل وهو الغافر هنا أي أمروا بذلك ليجزي الله تعالى يوم القيامة قوما أيما قوم وقوما مخصوصين بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذية الكفار والإغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه. ما لا يحيط به نطاق البيان من الثواب العظيم، ومنهم من خص ما كسبوه بالمغفرة والصبر على الأذية، وما في الوجهين موصولة وجوز أن تكون مصدرية، والباء للسببية أو للمقابلة أو صلة يجزي، وجوز أن يراد بالقوم الكفرة وبما كسبوا سيئاتهم التي من جملتها إيذاؤهم المؤمنين والتنكير للتحقير: وتعقب بأن مطلق الجزاء لا يصلح تعليلا للأمر بالمغفرة لتحققه على تقديري المغفرة وعدمها فلا بد من تخصيصه بالكل بأن لا يتحقق بعض منه في الدنيا أو بما يصدر عنه تعالى بالذات، وفي ذلك من التكلف ما لا يخفى، وأن يراد كلا الفريقين والتنكير للشيوع، وتعقب بأنه أكثر تكلفا وأشد تمحلا، والذي يشهد للوجه السابق ما روي عن سعيد بن المسيب قال: كنا بين يدي عمر رضي الله تعالى عنه فقرأ قارئ هذه الآية فقال: ليجزي عمر بما صنع، وقرأ زيد بن علي وأبو عبد الرحمن والأعمش وأبو خليد وابن عامر وحمزة والكسائي «لنجزي» بنون العظمة، وقرىء «ليجزي» بالياء والبناء للمفعول «قوم» بالرفع على أنه نائب الفاعل، وقرأ شيبة، وأبو جعفر بخلاف عنه كذلك إلا أنهما نصبا «قوما» وروي ذلك عن عاصم، واحتج به من يجوز نيابة الجار والمجرور عن الفاعل مع وجود المفعول الصريح فيقول: ضرب بسوط زيدا فبما كسبوا نائب الفاعل هاهنا ولا يجيز ذلك الجمهور، وخرجت هذه القراءة على أن القائم مقام الفاعل ضمير المصدر أي ليجزى هو أي الجزاء، ورد بأنه لا يقام مقامه عند وجود المفعول به أيضا على الصحيح، وأجازه الكوفيون على خلاف في الإطلاق والاستحسان أو على أنه ضمير المفعول الثاني وهو الجزاء بمعنى المجزي به كما في قوله تعالى جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ [البينة:
٨] وأضمر لدلالة السياق كما في قوله سبحانه: وَلِأَبَوَيْهِ [النساء: ١١] والمفعول الثاني في باب أعطى يقوم مقام الفاعل بلا خلاف وهذا من ذاك، وأبو البقاء اعتبر الخير بدل الجزاء المذكور أو على أن «قوما» منصوب بأعني أو جزى مضمرا لدلالة المجهول على أن ثم جازيا واختاره أبو حيان ولِيَجْزِيَ حينئذ من باب يعطي ويمنع وحيل بين العير والنزوان فمعناه ليفعل الجزاء ويكون هناك جملتان.
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها لا يكاد يسري عمل إلى غير عامله ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مالك أموركم تُرْجَعُونَ فيجازيكم على أعمالكم حسبما تقتضيه الحكمة خيرا على الخير وشرا على الشر، والجملة مستأنفة لبيان كيفية الجزاء وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وهو التوراة على أن التعريف للعهد، وجوز جعله للجنس ليشمل الزبور والإنجيل ولا يضر في ذلك كون الزبور أدعية ومناجاة والإنجيل أحكامه قليلة جدا ومعظم أحكام عيسى عليه السلام من التوراة لأن إيتاء الكتاب مطلقا منة وَالْحُكْمَ القضاء وفصل الأمور بين الناس لأن الملك كان فيهم واختاره أبو حيان، أو الفقه في الدين ويقال: لم يتسع فقه الأحكام على نبي ما اتسع على لسان موسى عليه السلام، أو الحكم النظرية الأصلية والعملية الفرعية وَالنُّبُوَّةَ حيث كثر فيهم الأنبياء عليهم السلام ما لم يكثر في غيرهم وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ المستلذات الحلال وبذلك تتم النعمة وذلك كالمن والسلوى وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم من فلق البحر وإظلال الغمام ونظائرهما فالمراد تفضيلهم على العالمين مطلقا من بعض الوجوه لا من كلها ولا من جهة المرتبة والثواب فلا ينافي ذلك تفضيل أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم عليهم من وجه آخر ومن جهة المرتبة والثواب، وقيل: المراد بالعالمين عالمو زمانهم.
صفحة رقم 146
آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ دلائل ظاهرة في أمر الدين فمن بمعنى في والبينات الدلائل ويندرج فيها معجزات موسى عليه السلام وبعضهم فسرها بها، وعن ابن عباس آيات من أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلامات مبينة لصدقه عليه الصلاة والسلام ككونه يهاجر من مكة إلى يثرب ويكون أنصاره أهلها إلى غير ذلك مما ذكر في كتبهم فَمَا اخْتَلَفُوا في ذلك الأمر إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بحقيقة الحال فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجبا لرسوخه بَغْياً بَيْنَهُمْ عداوة وحسدا لا شكا فيه إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بالمؤاخذة والجزاء فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ أي سنة وطريقة من شرعه إذا سنه ليسلك، وفي البحر الشريعة في كلام العرب الموضع الذي يرد منه الناس في الأنهار ونحوها فشريعة الدين من ذلك من حيث يرد الناس منها أمر الله تعالى ورحمته والقرب منه عز وجل، وقال الراغب: الشرع مصدر ثم جعل اسما للطريق النهج فقيل له شرع وشرعة وشريعة واستعير ذلك للطريقة الإلهية من الدين ثم قال: قال بعضهم سميت الشريعة شريعة تشبيها بشريعة الماء من حيث إن من شرع فيها على الحقيقة والصدق روي وتطهر، وأعني بالري ما قال بعض الحكماء: كنت أشرب فلا أروى فلما عرفت الله تعالى رويت بلا شرب، وبالتطهر ما قال عز وجل: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: ٣٣] والظاهر هنا المعنى اللغوي، والتنوين للتعظيم أي شريعة عظيمة الشأن مِنَ الْأَمْرِ أي أمر الدين، وجوز أبو حيان كونه مصدر أمر، والمراد من الأمر والنهي وهو كما ترى فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
أي آراء الجهال التابعة للشهوات، والمراد بهم ما يعم كل ضال، وقيل: وقيل: هم جهال قريظة.
والنضير، وقيل: رؤساء قريش كانوا يقولون له صلّى الله عليه وسلّم: ارجع إلى دين آبائك.
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً من الأشياء أو شيئا من الإغناء أن اتبعتهم والجملة مستأنفة مبينة لعلة النهي وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ لا يواليهم ولا يتبع أهواءهم إلا من كان ظالما مثلهم.
وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ الذين أنت قدوتهم فدم على ما أنت عليه من توليه سبحانه خاصة والإعراض عما سواه عز وجلّ بالكلية هذا أي القرآن بَصائِرُ لِلنَّاسِ فإن ما فيه من معالم الدين وشعائر الشرائع بمنزلة البصائر في القلوب، وقيل: الإشارة إلى اتباع الشريعة والكلام من باب التشبيه البليغ، وجمع الخبر على الوجهين باعتبار تعدد ما تضمنه المبتدأ واتباع مصدر مضاف فيعم ويخبر عنه بمتعدد أيضا، وقرىء «هذه» أي الآيات وَهُدىً جليل من ورطة الضلالة وَرَحْمَةٌ عظيمة لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ من شأنهم الإيقان بالأمور أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
إلى آخره استئناف مسوق لبيان حال المسيئين والمحسنين إثر بيان حال الظالمين والمتقين، وأَمْ
منقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني، والهمزة لإنكار الحسبان على معنى أنه لا يليق ولا ينبغي لظهور خلافه، والاجتراح الاكتساب ومنه الجارحة للأعضاء التي يكتسب بها كالأيدي، وجاء هو جارحة أهله أي كاسبهم، وقال الراغب: الاجتراح اكتساب الإثم وأصله من الجراحة كما أن الاقتراف من قرف القرحة، والظاهر تفسيره هاهنا بالاكتساب لمكان السَّيِّئاتِ
والمراد بها على ما في البحر سيئات الكفر، وقوله تعالى: أَنْ نَجْعَلَهُمْ
ساد مسد مفعولي الحسبان، والجعل بمعنى التصيير وهم مفعوله الأول، وقوله سبحانه: كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
مفعوله الثاني، وقوله عز وجل: سَواءً
بدل من الكاف بناء على أنها اسم بمعنى مثل، وقوله تعالى: مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
فاعل سواء أجري مجرى مستو كما قالوا: مررت برجل سواء هو والعدم، وضمير الجمع للمجترحين، والمعنى على إنكار حسبان جعل محيا المجترحين ومماتهم مستويين مثلهما للمؤمنين، ومصب الإنكار استواء ذلك فإن المؤمنين تتوافق حالاهم لأنهم مرحومون في المحيا والممات وأولئك تتضاد حالاتهم فإنهم مرحومون حياة لا
موتا وجوز أن يكون سَواءً
حالا من الضمير في الكاف بناء على ما سمعت من معناها.
وتعقب بأنها اسم جامد على صورة الحرف فلا يصح استتار الضمير فيها وقد صرح الفارسي بمنع ذلك، نعم يجوز أن يكون كَالَّذِينَ
جارا ومجرورا في موضع المفعول الثاني وسَواءً
حالا من الضمير المستتر فيه، وقيل:
يجوز أيضا كونه حالا من ضمير نجعلهم وكذا يجوز كونه المفعول الثاني، وكون الكاف أو الجار والمجرور حالا من هذا الضمير، وما ذكر أولا أظهر وأولى، وجوز كون ضمير الجمع في مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
للمؤمنين فسواء حال من الموصول الثاني ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في كَالَّذِينَ
لفساد المعنى وكون الضمير للفريقين فسواء حال من مجموع الموصول الثاني وضمير الأول، والمعنى على إنكار حسبان أن يستوي الفريقان بعد الممات في الكرامة أو ترك المؤاخذة كما استويا ظاهرا في الرزق والصحة في الحياة، وجوز أن يكون المعنى على إنكار حسبان جعل الحياتين مستويتين لأن المؤمنين على الطاعة وأولئك على المعاصي وكذلك الموتان لأنهم ملقون بالبشرى والرضوان وأولئك بالسوء والخذلان، وقيل: به على تقدير كون الضمير للمجترحين أيضا.
ولم يجوز المدقق الإبدال من الكاف على تقدير اشتراك الضمير إذ المثل هو المشبه وسَواءً
جار على المشبه والمشبه به.
وقرأ جمهور القراء سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
برفع سواء وما بعده على أن سواء خبر مقدم وما بعده مبتدأ لا العكس لأن سواء نكرة ولا مسوغ للابتداء بها والضمير للمجترحين، والجملة قيل: بدل من المفعول الثاني لنجعل بدل كل من كل أو بدل اشتمال أو بدل بعض، وأيا ما كان ففيه إبدال الجملة من المفرد وقد أجازه أبو الفتح واختاره ابن مالك، وأورد عليه شواهد، قال أبو حيان: لا يتعين فيها البدل، وقال محمد بن عبد الله الاشبيلي المعروف بابن العلج في كتابه البسيط في النحو: لا يصح أن تكون جملة معمولة للأول في موضع البدل فإن كانت غير معمولة فهل تكون جملة بدلا من جملة لا يبعد عندي جواز ذلك كالعطف والتأكيد اللفظي.
وظاهره أنه لا يجوز الإبدال هاهنا، وفي البحر يظهر لي أنه لا يجوز إبدال هذه الجملة من ذلك المفعول لأن الجعل بمعنى التصيير ولا يجوز صيرت زيدا أبوه قائم ولا صيرت زيدا غلامه منطلق لأن في ذلك انتقالا من ذات إلى ذات أو من وصف في الذات إلى وصف آخر فيها وليس في تلك الجملة المقدرة مفعولا ثانيا انتقال مما ذكرنا وفيه بحث لا يخفى، والزمخشري قد نص على جعل الجملة بدلا من الكاف وهو إمام في العربية، لكن أفاد صاحب الكشف أنه أراد أنه بدل من حيث المعنى لا أنه بدل من ذاك لفظا قال: لأنه مفرد دال على الذات باعتبار المعنى وهذا دال على المعنى وإن كان الذات يلزم من طريق الضرورة إلا أن يقدر له موصوف محذوف بأن يقدر رجالا سواء محياهم ومماتهم مثلا، والمعنى على البدلية كما سمعت في قراءة النصب، وجوز كون الجملة مفعولا ثانيا وكَالَّذِينَ
حال من ضمير نَجْعَلَهُمْ
ولا يخفى عليك ما علي وما له، وإذا كان الضمير للمؤمنين فالجملة قيل:
حال من الموصول الثاني لا من الضمير في المفعول الثاني للفساد، وتعقب بأن فيه اكتفاء الاسمية الحالية بالضمير وهو غير فصيح على ما قيل: وقيل: استئناف يبين المقتضي للإنكار على حسبان التماثل وهو أن المؤمنين سواء حالهم عند الله تعالى في الدارين بهجة وكرامة فكيف يماثلهم المجترحون، وجوز أن تكون بيانا لوجه الشبه المجمل، وإذا كان الضمير للفريقين فالظاهر أن الجملة كلام مستأنف غير داخل في حكم الإنكار والتساوي حينئذ بين حال المؤمنين بالنسبة إليهم خاصة وحال المجترحين كذلك وتكون الجملة تعليلا للإنكار في المعنى دالا على عدم المماثلة لا في الدنيا ولا في الآخرة لأن المؤمنين متساوو المحيا والممات في الرحمة وأولئك متساوو المحيا
والممات في النقمة إذ المعنى كما يعيشون يموتون فلما افترق حال هؤلاء وحال هؤلاء حياة فكذلك موتا، وأما الإبدال فقد علم حاله فتأمل.
وقرأ الأعمش «سواء» بالنصب «محياهم ومماتهم» به أيضا، وخرج الأول على ما سمعت ونصب محياهم ومماتهم على الظرفية لأنهما اسما زمان أو مصدران أقيما مقام الزمان والعامل إما سَواءً
أو نَجْعَلَهُمْ
، هذا والآية وإن كانت في الكفار على ما نقل عن البحر وهو ظاهر ما روي عن الكلبي من أن عتبة. وشيبة. والوليد بن عتبة قالوا لعلي كرم الله تعالى وجهه. وحمزة رضي الله تعالى عنه. والمؤمنين: والله ما أنتم على شيء ولئن كان ما تقولون حقا لحالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما هو أفضل في الدنيا فنزلت الآية أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
إلخ.
وهي متضمنة للرد عليهم على جميع أوجهها كما يعرف بأدنى تدبر يستنبط منها تباين حاليّ المؤمن العاصي والمؤمن الطائع ولهذا كان كثير من العباد يبكون عند تلاوتها حتى أنها تسمى مبكاة العابدين لذلك، فقد أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد والطبراني وجماعة عن أبي الضحى قال: قرأ تميم الداري سورة الجاثية فلما أتى على قوله تعالى أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ
الآية لم يزل يكررها ويبكي حتى أصبح وهو عند المقام.
وأخرج ابن أبي شيبة عن بشير مولى الربيع بن خيثم أن الربيع كان يصلي فمر بهذه الآية أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ
إلخ فلم يزل يرددها حتى أصبح، وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه إذا قرأها: ليت شعري من أي الفريقين أنت.
وقال ابن عطية: إن لفظها يعطي أن اجتراح السيئات هو اجتراح الكفر لمعادلته بالإيمان، ويحتمل أن تكون المعادلة بالاجتراح وعمل الصالحات ويكون الإيمان في الفريقين ولهذا بكى الخائفون عند تلاوتها.
ورأيت كثيرا من المغرورين المستغرقين ليلهم ونهارهم بالفسق والفجور يقولون بلسان القال والحال: نحن يوم القيامة أفضل حالا من كثير من العابدين وهذا منهم والعياذ بالله تعالى ضلال بعيد وغرور ما عليه مزيد ساءَ ما يَحْكُمُونَ
أي ساء حكمهم هذا وهو الحكم بالتساوي فما مصدرية والكلام إخبار عن قبح حكمهم المعهود.
ويجوز أن يكون لإنشاء ذمهم على أن ساءَ
بمعنى بئس فما فيه نكرة موصوفة وقعت تمييزا مفسرا لضمير الفاعل المبهم والمخصوص بالذم محذوف أي بئس شيئا حكموا به ذلك وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ كأنه دليل على إنكار حسباتهم السابق أو دليل على تساوي محيا كل فريق ومماته وبيان لحكمته على تقدير كون قوله تعالى: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
استئنافا وذلك من حيث إن خلق العالم بالحق المقتضي للعدل يستدعي انتصاف المظلوم من الظالم والتفاوت بين المسيء والمحسن وإذا لم يكن في المحيا كان بعد الممات حتما وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ عطف على بِالْحَقِّ لأنه في معنى العلة سواء كانت الباء للسببية الغائية أو الملابسة، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن المعنى خلقها ملتبسة ومقرونة بالحكمة والصواب دون العبث والباطل وحاصله خلقها لأجل ذلك أو عطف على علة محذوفة مثل ليدل سبحانه بها على قدرته أو ليعدل، وما موصولة أو مصدرية أي ليجزى كل نفس بالذي كسبته أو بكسبها وَهُمْ أي النفوس المدلول عليها بكل نفس لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب وتضعيف عذاب، والجملة في موضع الحال، وتسمية ذلك ظلما مع أنه ليس كذلك لأنه منه سبحانه تصرف في ملكه والظلم صرف في ملك الغير بغير إذنه لأنه لو فعله غيره عز وجل كان ظلما فالكلام على الاستعارة التمثيلية أو أنه لما كان مخالفا لوعده سبحانه الحق سماه تعالى ظلما.
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ تعجيب من حال من ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى فكأنه يعبده فالكلام على التشبيه البليغ أو الاستعارة، والفاء للعطف على مقدر دخلت عليه الهمزة أي أنظرت من هذه حاله فرأيته فإن ذلك
مما يقضي منه العجب، وأبو حيان جعل أرأيت بمعنى أخبرني وقال: المفعول الأول من اتَّخَذَ والثاني محذوف يقدر بعد الصلات أي أيهتدي بدليل «فمن يهديه» والآية نزلت على ما روي عن مقاتل في الحارث بن قيس السهمي كان لا يهوى شيئا إلا ركبه، وحكمها عام وفيها من ذم اتباع هوى النفس ما فيها، وعن ابن عباس ما ذكر الله تعالى هوى إلا ذمه.
وقال وهب: إذا شككت في خير أمرين فانظر أبعدهما من هواك فأته، وقال سهل التستري: هواك داؤك فإن خالفته فدواؤك،
وفي الحديث «العاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله تعالى».
وقال أبو عمران موسى بن عمران الاشبيلي الزاهد:
فخالف هواها واعصها إن من يطع | هوى نفسه ينزع به شر منزع |
ومن يطع النفس اللجوجة ترده | وترم به في مصرع أي مصرع |
إني امرؤ سمح الخليقة ماجد | لا أتبع النفس اللجوج هواها |
وقرأ الأعرج وأبو جعفر «إلهة» بتاء التأنيث بدل هاء الضمير، وعن الأعرج أنه قرأ «آلهة» بصيغة الجمع.
قال ابن خالويه: كان أحدهم يستحسن حجرا فيعبده فإذا رأى أحسن منه رفضه مائلا إليه، فالظاهر أن آلهة بمعناها من غير تجوز أو تشبيه والهوى بمعنى المهوى مثله في قوله: هواي مع الركب اليمانين مصعد.
وَأَضَلَّهُ اللَّهُ أي خلقه ضالا أو خلق فيه الضلال أو خذله وصرفه عن اللطف على ما قيل عَلى عِلْمٍ حال من الفاعل أي أضله الله تعالى عالما سبحانه بأنه أهل لذلك لفساد جوهر روحه.
ويجوز أن يكون حالا من المفعول أي أضله عالما بطريق الهدى فهو كقوله تعالى: فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ بحيث لا يتأثر بالمواعظ ولا يتفكر في الآيات.
وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً مانعة عن الاستبصار والاعتبار والكلام على التمثيل، وقرأ عبد الله. والأعمش غِشاوَةً بفتح الغين وهي لغة ربيعة، والحسن وعكرمة وعبد الله أيضا بضمها وهي لغة عكلية، وأبو حنيفة وحمزة والكسائي وطلحة ومسعود بن صالح والأعمش أيضا «غشوة» بفتح الغين وسكون الشين، وابن مصرف. والأعمش أيضا كذلك إلا أنهما كسرا الغين فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أي من بعد إضلاله تعالى إياه، وقيل: المعنى فمن يهديه غير الله سبحانه أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي ألا تلاحظون فلا تذكرون، وقرأ الجحدري «تذكرون» بالتخفيف، والأعمش «تتذكرون» بتاءين على الأصل وَقالُوا بيان لأحكام إضلالهم والختم على سمعهم وقلوبهم وجعل غشاوة على أبصارهم فالضمير لمن باعتبار معناه أو للكفرة ما هِيَ أي ما الحياة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا التي نحن فيها، ويجوز أن يكون الضمير للحال والحياة الدنيا من جملة الأحوال فيكون المستثنى من جنس المستثنى منه أيضا لاستثناء حال الحياة الدنيا من أعم الأحوال ولا حاجة إلى تقدير حال مضافا بعد أداة الاستثناء أي ما الحال إلا حال الحياة الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيا حكم على النوع بجملته من غير اعتبار تقديم وتأخير إلا أن تأخير نحيي الله في النظم الجليل للفاصلة أي تموت طائفة وتحيا طائفة ولا حشر أصلا، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير أي نحيا ونموت وليس بذاك، وقيل: أرادوا بالموت عدم الحياة السابق على نفخ الروح فيهم أي نكون نطفا وما قبلها وما بعدها ونحيا بعد ذلك، وقيل: أرادوا بالحياة بقاء النسل والذرية صفحة رقم 150
مجازا كأنهم قالوا: نموت بأنفسنا ونحيا ببقاء أولادنا وذرارينا، وقيل: أرادوا يموت بعضنا ويحيا بعض على أن التجوز في الإسناد، وجوز أن يريدوا بالحياة على سبيل المجاز إعادة الروح لبدن آخر بطريق التناسخ وهو اعتقاد كثير من عبدة الأصنام ولا يخفى بعد ذلك، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «ونحيا» بضم النون وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ أي طول الزمان فالدهر أخص من الزمان وهو الذي ارتضاه السعد، ولهم في ذلك كلام طويل، وقال الراغب: الدهر في الأصل اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة، وهو خلاف الزمان فإنه يقع على المدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة، وهو خلاف الزمان فإنه يقع على المدة القليلة والكثيرة ودهر فلان مدة حياته، ويقال: دهر فلانا نائبة دهرا أي نزلت به حكاه الخليل فالدهر هاهنا مصدر.
وذكر بعض الأجلة أن الدهر بالمعنى السابق منقول من المصدر وأنه يقال: دهره دهرا أي غلبه وإسنادهم الإهلاك إلى الدهر إنكار منهم لملك الموت وقبضه الأرواح بأمر الله عز وجل وكانوا يسندون الحوادث مطلقا إليه لجهلهم أنها مقدرة من عند الله تعالى، وإشعارهم لذلك مملوءة من شكوى الدهر وهؤلاء معترفون بوجود الله تعالى فهم غير الدهرية فإنهم مع إسنادهم الحوادث إلى الدهر لا يقولون بوجوده سبحانه وتعالى «عما يقولون علوا كبيرا» والكل يقول باستقلال الدهر بالتأثير، ولا يبعد أن يكون الزمان عندهم مقدار حركة الفلك كما ذهب إليه معظم الفلاسفة. وقد جاء النهي عن سب الدهر.
أخرج مسلم «لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر»
وأبو داود. والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم قال الله عز وجل: «يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقل أحدكم يا خيبة الدهر أنا الدهر أقلب ليله ونهاره»
والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم أيضا يقول الله عز وجل: «استقرضت عبدي فلم يقرضني وشتمني عبدي وهو لا يدري يقول وا دهراه وأنا الدهر»
والبيهقي «لا تسبوا الدهر قال الله عز وجل: أنا الأيام والليالي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك»
ومعنى ذلك أن الله تعالى هو الآتي بالحوادث فإذا سببتم الدهر على أنه فاعل وقع السب على الله عز وجلّ.
وعد بعضهم سبه كبيرة لأنه يؤدي إلى سبه تعالى وهو كفر، وما أدى إليه فأدنى مراتبه أن يكون كفرا (١).
وكلام الشافعية صريح بأن ذلك مكروه لا حرام فضلا عن كونه كبيرة، والذي ينجه في ذلك تفصيل وهو أن من سبه فإن أراد به الزمن فلا كلام في الكراهة، أو الله عز وجل فلا كلام في الكفر، ومثله إذا أراد المؤثر الحقيقي فإنه ليس إلا الله سبحانه وإن أطلق فهذا محل التردد لاحتمال الكفر وغيره وظاهر كلامهم هنا أيضا الكراهة لأن المتبادر منه الزمن وإطلاقه على الله تعالى كما قال بعض الأجلة إنما هو بطريق التجوز.
ومن الناس من قال: إن سبه كبيرة إن اعتقد أن له تأثيرا فيما نزل به كما كان يعتقد جهلة العرب، وفيه نظر لأن اعتقاد ذلك كفر ولي الكلام فيه، وأنكر بعضهم كون ما
في حديث أبي داود. والحاكم «فإني أنا الدهر»
بضم الراء وقال: لو كان كذلك كان الدهر من أسمائه تعالى وكان
يرويه «فإني أنا الدهر»
بفتح الراء ظرفا لأقلب أي فإني أنا أقلب الليل والنهار الدهر أي على طول الزمان وممره، وفيه أن رواية مسلم فإن الله هو الدهر تبطل ما زعمه، ومن ثم كان الجمهور على ضم الراء. ولا يلزم عليه أن يكون من أسمائه تعالى لما سبق أن ذلك على التجوز، وحكى الراغب عن بعضهم أن الدهر الثاني في حديث مسلم غير الأول وأنه مصدر بمعنى الفاعل، والمعنى أن الله تعالى هو الدهر أي
المصرّف المدبر المفيض لما يحدث، وفيه بعد.
وقرأ عبد الله «إلّا دهر» وتأويله إلا دهر يمر وَما لَهُمْ بِذلِكَ أي بما ذكر من قصر الحياة على ما في الدنيا ونسبة الإهلاك إلى الدهر مِنْ عِلْمٍ مستند إلى عقل أو نقل إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد من غير أن يكون لهم ما يصح أن يتمسك به في الجملة، هذا معتقدهم الفاسد في أنفسهم وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الناطقة بالحق الذي من جملته البعث بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على ما نطقت به مما يخالف معتقدهم أو مبينات له ما كانَ حُجَّتَهُمْ بالنصب على أنه خبر كان واسمها قوله تعالى:
إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في أنا نبعث بعد الموت أي ما كان متمسكا لهم شيء من الأشياء إلا هذا القول الباطل الذي يستحيل أن يكون حجة، وتسميته حجة لسوقهم إياه مساق الحجة على سبيل التهكم بهم أو أنه من قبيل: تحية بينهم ضرب وجيع. أي ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة، والمراد نفي أن يكون لهم حجة فإنه لا يلزم من عدم حصول الشيء حالا كإعادة آبائهم التي طلبوها في الدنيا امتناعه بتعد لتمتنع الإعادة إذا قامت القيامة، والخطاب في ائْتُوا وكُنْتُمْ للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين إذ هم قائلون بمقالته صلّى الله عليه وسلّم من البعث طالبون من الكفرة الإقرار به، وجوز أن يكون له عليه الصلاة والسلام وللأنبياء عليهم السلام الجائين بالبعث وغلب الخطاب على الغيبة.
وقال ابن عطية: ائْتُوا وكُنْتُمْ من حيث المخاطبة له صلّى الله عليه وسلّم والمراد هو وإلهه والملك الذي يذكر عليه الصلاة والسلام نزوله عليه بذلك وهو جبريل عليه السلام، وهو كما ترى.
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن عامر فيما روى عنه عبد الحميد وعاصم فيما روى هارون وحسين عن أبي بكر عنه «حجّتهم» بالرفع على أنه اسم كان وما بعد خبر أي ما كان حجتهم شيئا من الأشياء إلا هذا القول الباطل، وجواب إِذا ما كان إلخ، ولم تقترن بالفاء وإن كانت لازمة في المنفي بما إذا وقعت جواب الشرط لأنها غير جازمة ولا أصلية في الشرطية، وهو سر قول أبي حيان: إن إذا خالفت أدوات الشرط بأن جوابها إذا كان منفيا بما لم تدخل الفاء بخلاف أدوات الشرط فلا بد معها من الفاء نحو إن تزرنا فما جفوتنا فلا حاجة إلى تقدير جواب لها كعمدوا إلى الحجج الباطلة خلافا لابن هشام. واستدل بوقوع ما ذكر جوابا على أن العمل في إذا ليس للجواب لصدارة ما المانعة منه ولا قائل بالفرق، ولعل من قال بالعمل يقول يتوسع في الظرف ما لم يتوسع في غيره، ثم إن المعنى على الاستقبال لمكان إِذا أي ما تكون حجتهم إلا أن يقولوا ذلك.
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ابتداء ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم على ما دل عليه الحجج لا الدهر كما تزعمون ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي فيه وجوز كون الفعل مضمنا معنى مبعوثين أو منتهين ونحوه ومعنى في أظهر أي يجمعكم في يوم القيامة لا رَيْبَ فِيهِ أي في جمعكم فإن من قدر على البدء وقدر على الإعادة والحكمة اقتضت الجمع للجزاء لا محالة في ذلك اليوم والوعد الصدق بالآيات دل على قرعها، وحاصله أن البعث أمر ممكن أخبر به الصادق وتقتضيه الحكمة وكل ما هو كذلك لا محالة واقع والإتيان بالآباء حيث كان منافيا للحكمة التشريعية امتنع إيقاعه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ استدراك من قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ وهو من تمام الكلام المأمور به أو كلام مسوق من جهته تعالى تحقيقا للحق وتنبيها على أن ارتيابهم لجهلهم وقصورهم في النظر والتفكر لا لأن فيه شائبة ريب ما وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بيان للاختصاص المطلق والتصرف الكلي فيهما وفيما بينهما بالله عز
وجلّ إثر بيان تصرفه تعالى بالإحياء والإماتة والبعث والجمع للمجازاة فهو تعميم للقدرة بعد تخصيص.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ قال الزمخشري: العامل في يَوْمَ تَقُومُ يخسر ويومئذ بدل من يوم تقول وحكاه ابن عطية عن جماعة، وتقديم الظرف على الفعل للحصر لأن كل خسران عند الخسران في ذلك اليوم كلا خسران، وفيه أيضا رعاية الفواصل على ما قيل، وتعقب حديث الإبدال بأن التنوين في يَوْمَئِذٍ عوض عن الجملة المضاف إليها، والظاهر أنها تقدر بقرينة ما قبل تَقُومُ السَّاعَةُ فيقال ويوم تقوم الساعة يوم إذ تقوم الساعة يخسر المبطلون فيكون تأكيدا لا بدلا إذ لا وجه له. ولذا قيل: إنه بالتأكيد أشبه، وقول أبي حيان: إن كان بدلا توكيديا وهو قليل جاز وإلا فلا لا يسمن ولا يغني وتكلف بعضهم فزعم أن اليوم الثاني بمعنى الوقت الذي هو جزء من يوم قيام الساعة فهو بدل بعض معه عائد مقدر ولما كان فيه ظهور خسرانهم كان هو المقصود بالنسبة، وقالت فرقة: العامل في يَوْمَ تَقُومُ ما يدل عليه الملك قالوا: وذلك أن يوم القيامة أمر ثالث ليس بالسماء ولا بالأرض لتبدلهما فكأنه قيل.
ولله ملك السموات والأرض والملك يوم تقوم الساعة، ويَوْمَئِذٍ منصوب بيخسر والجملة استئناف وإن كان لها تعلق بما قبلها من جهة تنوين العوض، وقيل: يجوز أن يكون عطفا على ظرف معمول لملك المذكور كأنه قيل: لله ملك السموات والأرض اليوم ويوم تقوم الساعة وهو كما ترى، والْمُبْطِلُونَ الداخلون في الباطل، ولعل المراد به أعظم أنواعه وهو الكفر وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ من الأمم المجموعة جاثِيَةً باركة على الركب مستوفزة وهي هيئة المذنب الخائف المنتظر لما يكره، وعن ابن عباس جاثية مجتمعة، وعن قتادة جماعات من الجثوة مثلثة الجيم وهي الجماعة تجتمع على جثى أي تراب مجتمع، وعن مؤرج السدوسي جاثية خاضعة بلغة قريش، والخطاب في تَرى لمن يصح منه الرؤية أو لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام وهي بصرية، وجاثِيَةً حال وجوز أن تكون صفة ولو كانت علمية كانت مفعولا ثانيا، وقرىء «جاذية» بالذال والجذو أشد استيفازا من الجثو لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه، وجوز أن يكون الجاذي بمعنى الجاثي أبدلت ثاؤه ذالا فإن الثاء والذال متقارضان كما قيل شحاث وشحاذ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا إلى صحيفة أعمالها التي كتبتها الحفظة لتحاسب، وأفرد على إرادة الجنس وإلا فلكل واحد من كل أمة صحيفة فيها أعماله، وقيل: المراد كتاب نبيها تدعى إليه لينظر هل عملت به أو لا وحكي ذلك عن يحيى بن سلام إلا أنه حمل كل أمة على كل أمة كافرة والظالم العموم، وقيل: المراد بذلك اللوح المحفوظ أي تدعى إلى ما سبق لها فيه، وقرأ يعقوب «كلّ» بالنصب وخرج على أنه بدل من كل الأول، وجملة تُدْعى صفة، وإبدال الأمة المدعوة إلى كتابها من الأمة الجاثية حسن وجاء ذلك من الوصف، ويقال مثل ذلك فيما إذا كانت الجملة حالا، وإذا كانت الرؤية علمية وجملة تُدْعى مفعولا ثانيا فالظاهر أنه تأكيد، وجعله تأكيدا مع كون الجملة صفة فيه تخلل التأكيد بين الوصفين وهو كما في الكشف غير مستحسن الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مقول قول مقدر وهو حال أو خبر بعد خبر.
وفي الكلام مضاف مقدر أي جزاء ما كنتم إلخ أو هو من المجاز، وقوله تعالى: هذا كِتابُنا إلى آخره من تمام ما يقال حينئذ، والإشارة إلى الكتاب الذي تدعى إليه الأمة المقول لها ذلك، وهو إذا كان صحيفة الأعمال فإضافته إلى ضميره جلّ شأنه لأدنى ملابسة على التجوز في النسبة الإضافية فإنه تعالى الذي أمر الكتبة أن يكتبوا فيه أعمالهم، وإن كان الكتاب المنزل على نبي تلك الأمة أو اللوح المحفوظ فأمر الإضافة ظاهر، وضمير العظمة على سائر الأوجه لتفخيم شأن الكتاب، وجوز أن يكون الضمير للكتبة والإضافة فيه حقيقية قيل: ويأباه نَسْتَنْسِخُ إلا أن يجعل بمعنى ننسخ ونكتب وستعلم إن شاء الله تعالى ما فيه، والأظهر عندي حمل الكتاب في الموضعين على صحيفة الأعمال
واسم الإشارة مبتدأ وما بعده خبر، وقوله سبحانه يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ أي يشهد عليكم بِالْحَقِّ من غير زيادة ولا نقص خبر آخر أو حال أو مستأنف، وبِالْحَقِّ حال من فاعل يَنْطِقُ وقوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ إلى آخره تعليل لنطقه عليهم بأعمالهم من غير إخلال بشيء منها أي إنا كنا فيما قبل نستنسخ الملائكة أي نجعلها تنسخ وتكتب ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من الأعمال حسنة كانت أو سيئة، وحقيقة النسخ كتابة من أصل ينظر فيه فكان أفعال العباد هي الأصل على ما في البحر،
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن الله تعالى خلق النون وهي الدواة وخلق القلم فقال: اكتب قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول بر أو فاجر ورزق مقسوم حلال أو حرام ثم ألزم كل شيء من ذلك بيانه دخوله في الدنيا متى ومقامه فيها كم وخروجه منها كيف ثم جعل على العباد حفظة وعلى الكتاب خزّانا فالحفظة يستنسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم فإذا فني الرزق وانقطع الأمر وانقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم فتقول الخزنة ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا فترجع فيجدونه قد مات
ثم قال ابن عباس ألستم قوما عربا تسمعون الحفظة يقولون إن كنا نستنسخ ما كنتم تعملون وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل؟ وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن الآية فذكر نحو ما سمعت ثم قال: هل يستنسخ الشيء إلا من كتاب، وكون الاستنساخ من اللوح قد رواه جماعة عنه، وما ذكرناه يصحح أن يكون هذا القول من الملائكة بدون تأويل نَسْتَنْسِخُ بننسخ كما لا يخفى، وقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ إلى آخره تفصيل للمجمل المفهوم من قوله تعالى: يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ أو يجزون من الوعد والوعيد، والمراد بالرحمة الجنة مجازا والظرفية على ظاهرها، وقيل: المراد بالرحمة ما يشمل الجنة وغيرها والأول أظهر ذلِكَ الذي ذكر من الإدخال في رحمته تعالى: هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ الظاهر كونه فوزا لا فوز وراءه.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ أي فيقال لهم بطريق التقريع والتوبيخ: ألم تكن تأتيكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم فجواب أما القول المقدر، وحذف اكتفاء بالمقصود وهو المقول وحذفه كثير مقيس حتى قيل هو البحر حدث عنه، وحذف المعطوف عليه لقرينة الفاء العاطفة وأن تلاوة الآيات تستلزم إتيان الرسل معنى، وهذا على ما ذهب إليه الزمخشري والجمهور على أن الهمزة مقدمة من تأخير لصدارتها والفاء على نية التقدير، والتقدير فيقال لهم: ألم تكن إلخ فليس هناك سوى حذف القول، وفي الكشف لو حمل على أن المحذوف فيوبخون لدلالة ما بعده عليه، وفائدة هذا الأسلوب مع أن الأصل فيدخلهم في عذابه الدلالة على أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرون بعد في الموقف معذبون بالتوبيخ لكان وجها فَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الإيمان بها وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ قوما عادتهم الإجرام وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ أي وما وعده سبحانه من الأمور الآتية أو وعده تعالى بذلك حَقٌّ أي كائن هو أو متعلقه لا محالة ففي الكلام تجوز إما في الطرف أو في النسبة.
وقرأ الأعرج وعمرو بن قائد «وإذا قيل أنّ» بفتح الهمزة على لغة سليم وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها برفع «الساعة» في قراءة الجمهور على العطف على محل إن واسمها على ما ذهب إليه أبو علي وتبعه الزمخشري، ومن زعم أن لاسم إن موضعا جوز العطف عليه هنا، وزعم أبو حيان أن الصحيح أنه لا يجوز كلا الوجهين وعليه فجملة السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها عطف على الجملة السابقة، وقرأ حمزة وَالسَّاعَةُ بالنصب عطفا على اسم أن وروي ذلك عن الأعمش وأبي عمرو وأبي حيوة وعيسى والعبسي والمفضل، وذكر أمر الساعة وإنها لا ريب في وقوعها مع أنها من جملة ما وعد الله تعالى اعتناء بأمر البعث المقصود بالمقام قُلْتُمْ لغاية عتوكم: ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أي أي شيء هي استغرابا لها جدا كما يؤذن به جمع ما نَدْرِي مع الاستفهام.
إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا استشكل ذلك لما أنه استثناء مفرغ وقد قالوا: لا يجوز تفريغ العامل إلى المفعول المطلق المؤكد فلا يقال: ما ضربت إلا ضربا لأنه بمنزلة ما ضربت إلا ضربت، وقال الرضي: إن الاستثناء المفرغ يجب أن يستثنى من متعدد مقدر معرب بإعراب المستثنى مستغرق لذلك الجنس حتى يدخل فيه المستثنى بيقين ثم يخرج بالاستثناء وليس مصدر نظن محتملا مع الظن غيره حتى يخرج الظن منه، وكذا يقال في ما ضربت إلّا ضربا ونحوه وهذا مراد من قال: إنه من قبيل استثناء الشيء من نفسه. واختلفوا في حله فقيل: إن معنى ما نظن ما نفعل الظن كما في نحو قيم وقعد وحينئذ يصح الاستثناء ويتغاير مورد النفي والإيجاب من حيث التقدير والتجوز في الاستثناء من العام المقدر وجعل نَظُنُّ في معنى نفعل الفعل لا نفعل الظن كأنه قيل: ما نفعل فعلا إلا الظن، وكذا يقال في أمثاله ومنها قول الأعشى:
وحل به الشيب أثقاله | وما اغتره الشيب إلا اغترارا |
وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه إذا تجرد الفعل لمعنى عام صار الشمول محققا على أن عدم كفاية الشمول الفرضي غير مسلم كما يعرفه من يتتبع موارده، وذهب ابن يعيش. وأبو البقاء إلى أنه على القلب والتقديم والتأخير الأصل إن نحن إلا نظن ظنا وحكي ذلك عن المبرد، وقد حمل عليه ما حكاه أبو عمرو بن العلاء وسيبويه من قول العرب: ليس الطيب إلا المسك بالرفع فقال: الأصل ليس إلا الطيب المسك ليكون اسم ليس ضمير الشأن وما بعد إلا مبتدأ وخبرا في موضع الخبر لها، ورده الرضي وقال: إنه تكلف لما فيه من التعقيد المخلّ بالفصاحة.
والمثال المحكي وارد على لغة بني تميم فإنهم عاملوا ليس معاملة ما فأهملوها لانتقاض النفي بإلا، وقيل ظَنًّا مفعول مطلق لفعل محذوف والمستثنى محذوف والتقدير إن نظن إلا أنكم تظنون ظنا.
وحكي عن المبرد أيضا وفيه حذف إن واسمها وخبرها وإبقاء المصدر وذلك لا يجوز، وفيه أيضا من التعقيد المخل بالفصاحة ما فيه، ولا أظن صحة حكايته عن المبرد لغاية برودته، وجوز صاحب التقريب أن يكون المراد إن نظن إلا ظنا ضعيفا فهو مصدر مبين للنوع حذفت صفته كما صرح به في البحر لا مؤكد، وهذا يوافق ما ذكره الإمام السكاكي في بحث أن التنكير قد يكون للتحقير. وتعقب بأن قوله تعالى: وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ يأباه فإن مقابل الاستيقان مطلق الظن لا الضعيف منه، وقد صرح غير واحد بأن هذه الجملة كالتأكيد لما قبلها والمراد بها استمرار النفي وتأكيده، قيل: والمعنى وما نحن بمستيقنين إمكان الساعة أي لا نتيقن إمكانها أصلا فضلا عن تحقق وقوعها المدلول عليه بقوله تعالى: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها فقولهم ذلك رد لهذا، ولعل المثبتين لأنفسهم صفحة رقم 155
الظن من غير إيقان بأمر الساعة غير القائلين إن هي إلا حياتنا الدنيا فإن ذلك ظاهر في أنهم منكرون للبعث جازمون بنفي الساعة فيكون الكفرة صنفين صنف جازمون بنفيها كأئمتهم وصنف مترددون متحيرون فيها فإذا سمعوا ما يؤثر عن آبائهم أنكروها وإذا سمعوا الآيات المتلوة تقهقر إنكارهم فترددوا.
ويحتمل اتحاد قائل ذاك وقائل هذا إلا أن كل قول في وقت وحال فهو مضطرب مختلف الحالات تارة يجزم بالنفي فيقول: إن هي إلا حياتنا الدنيا وأخرى يظن فيقول إن نظن إلا ظنا، وقيل: الجزم هناك بنفي وقوعها والظن من غير إيقان هنا بمجرد إمكانها فهم مترددون بإمكانها الذاتي جازمون بعدم وقوعها بالفعل فتأمل «تم الجزء الخامس والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس والعشرون وأوله (وبدا لهم) ».