
ثم ذكر ما يصيب هؤلاء من العذاب فقال:
(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي أولئك الأفاكون المتصفون بتلك الصفات لهم العذاب الذي يهينهم ويذلهم فى نار جهنم بما كانوا فى الدنيا يستكبرون عن طاعة الله واتباع آياته واتخاذها هزوا.
(مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) أي ومن وراء ما هم فيه من التعزز بالدنيا والتكبر جهنم، والمراد أنها من قدامهم، لأنهم متوجهون إليها.
(وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً) أي ولا يدفع العذاب عنهم ما كسبوا من الأموال والأولاد.
(وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ) أي ولا تغنى عنهم أصنامهم التي عبدوها من دون الله شيئا.
(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ولهم من الله يومئذ عذاب عظيم لا يقدر قدره.
(هذا هُدىً) أي هذا القرآن الذي أنزلناه إليك أيها الرسول هاد إلى الحق وإلى صراط مستقيم لمن اتبعه وعمل بما فيه.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي والذين جحدوا بآياته الكونية فى الأنفس والآفاق وآياته المنزلة على ألسنة رسله لهم العذاب المؤلم الموجع يوم القيامة.
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٢ الى ١٥]
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥)

تفسير المفردات
سخر: هيأ، الفلك: السفينة، والابتغاء: الطلب، يغفر: أي يعفو ويصفح، لا يرجون: أي لا يتوقعون حصولها، وأيام الله: وقائعه بأعداء دينه كما يقال لوقائع العرب أيام العرب، والقوم هم المؤمنون الغافرون.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف الحجج الدالة على ربوبيته ووحدانيته- أردف ذلك ذكر آثارها، فمن ذلك تسخير السفن فى البحار حاملة للأقوات والمتاجر رجاء أن تشكروا ما أنعم به عليكم، ومنها تسخيره ما فى السموات والأرض من شموس وأقمار وبحار وجبال، لتنتفعوا بها فى مرافقكم وشئونكم المعيشية.
ثم أمر المؤمنين بأحاسن الأخلاق، فطلب إليهم أن يصفحوا عن الكافرين ويحتملوا أذاهم، وعند الله جزاؤهم، فمن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها، ويوم القيامة يعرضون على ربهم ويجازى كل نفس بما كسبت من خير أو شر.
الإيضاح
(اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي إن ذلك الخالق الواحد الذي أقمت لكم الأدلة على وجوده- هو الذي يسّر لكم استخدام البحر لتجرى فيه السفن بإذنه وقدرته، حاملة أقواتكم ومتاجركم، لتقوم بشئونكم المعيشية، ولتطلبوا رزق ربكم منه بالغوص للدرّ تارة والصيد تارة أخرى،

ولتشكروه على ما أفاض عليكم من هذه النعم، فتعبدوه وتطيعوه فيما يأمركم به وينهاكم عنه.
(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي وسخر لكم جميع ما خلقه فى سمواته وأرضه مما تتعلق به مصالحكم، وتقوم به معايشكم، فمما سخر لكم من المخلوقات السماوية الشمس والقمر والنجوم النيرات والمطر والسحاب والرياح، ومن المخلوقات الأرضية الدواب والأشجار والجبال والسفن رحمة منه وفضلا، وكل هذه أدلة على أنه الله الذي لا إله غيره، لمن تأمل فيها واعتبر بها وتدبرها حق التدبر.
والخلاصة- إن العالم كله كأنه جسم واحد يحتاج كل جزء منه إلى الأجزاء الباقية، فلا يستقيم مطر بلا حرارة شمس، ولا تسير سفن إلا بهواء أو فحم أو كهرباء وما شاكل ذلك، فالعالم كله كساعة منتظمة لا يستقيم سيرها إلا إذا استكملت آلاتها وعددها.
وعن طاوس قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله مم خلق الخلق فقال من الماء والنور والظلمة والهواء والتراب، قال فمم خلق هؤلاء؟ قال لا أدرى، ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله، فقال مثل قول عبد الله بن عمرو، فأتى ابن عباس فسأله مم خلق الخلق؟ فقال من الماء والنور والظلمة والريح والتراب، قال مم خلق هؤلاء؟
فقرأ ابن عباس: «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ» فقال الرجل ما كان ليأتى بهذا إلا رجل من أهل بيت النبوة.
ولما علّم سبحانه عباده دلائل التوحيد والقدرة والحكمة- أردفه تعليمهم فضائل الأخلاق فقال:
(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) أي قل للذين صدقوا الله ورسوله:
اعفوا واصفحوا عن هؤلاء المشركين الذين لا يخافون بأس الله ونقمته، إذا نالكم منهم أذى ومكروه قاله مجاهد.

روى الواحدي والقشيري عن ابن عباس أن الآية نزلت فى عمر بن الخطاب مع عبد الله بن أبىّ فى غزوة بنى المصطلق، فإنهم نزلوا على بئر يقال لها المريسيع، فأرسل عبد الله غلامه ليستقى فأبطأ عليه، فقال ما حبسك؟ قال غلام عمر قعد على فم البئر، فما ترك أحدا يستقى حتى ملأ قرب النبي ﷺ وقرب أبى بكر وملأ لمولاه، فقال عبد الله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل «سمّن كلبك يأكلك» فبلغ عمر قوله، فاشتمل على سيفه يريد التوجه إليه ليقتله، فأنزل الله هذه الآية:
وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس سببا آخر قال: لما نزل قوله تعالى:
«مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» قال يهودى بالمدينة يسمى فنحاصا، احتاج رب محمد. قال فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج فى طلبه، فجاء جبريل إلى النبي ﷺ فقال: إن ربك يقول لك: «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ» فبعث رسول الله ﷺ فى طلب عمر فلما جاء قال: (يا عمر ضع سيفك) قال يا رسول الله صدقت. أشهد إنك أرسلت بالحق، ثم تلا رسول الله ﷺ الآية. فقال عمر: لا جرم والذي بعثك بالحق لا ترى الغضب فى وجهى.
ثم علل الأمر بالمغفرة فقال:
(لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ليجزى الله تعالى يوم القيامة قوما بما كسبوا فى الدنيا من أعمال طيبة، من جملتها الصبر على أذى الكفار والإغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه- ما لا يحيط به الوصف من الثواب العظيم فى جنات النعيم.
ولما رغب سبحانه ورهّب وقرر أنه لا بد من الجزاء- أبان أن النفع والضر لا يعدو المحسن والمسيء فقال:
(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي من عمل من عباد الله بطاعته، فانتهى إلى أمره وازدجر عن نهيه- فلنفسه عمل، ولها طلب الخلاص من عذابه،