آيات من القرآن الكريم

۞ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
ﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ

سورة الجاثية
وتسمى سورة الشريعة وسورة الدهر كما حكاه الكرماني في العجائب لذكرهما فيها، وهي مكية قال ابن عطية:
بلا خلاف، وذكر الماوردي إلا قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا [الجاثية: ١٤] الآية فمدنية، وحكى هذا الاستثناء في جمال القراء عن قتادة، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى. وهي سبع وثلاثون آية في الكوفي وست وثلاثون في الباقية لاختلافهم في «حم» هل هي آية مستقلة أو لا، ومناسبة أولها لآخر ما قبلها في غاية الوضوح.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إن جعل اسما للسورة فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا مسمى بحم، وقوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ خبر بعد خبر على أنه مصدر أطلق على المفعول مبالغة، وقوله سبحانه:
مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ صلته أو خبر ثالث أو حال من تَنْزِيلُ عاملها معنى الإشارة أو من الْكِتابِ الذي هو مفعول معنى عاملها المضاف، وقيل: حم مبتدأ وهذا خبره والكلام على المبالغة أيضا أو تأويل تَنْزِيلُ بمنزل،

صفحة رقم 136

والإضافة من إضافة الصفة لموصوفها، واعتبار المبالغة أولى أي المسمى به تنزيل إلخ. وتعقب بأن الذي يجعل عنوانا للموضوع حقه أن يكون قبل ذلك معلوم الانتساب إليه وإذ لا عهد بالتسمية بعد فحقها الإخبار بها، وجوز جار الله جعل «حم» مبتدأ بتقدير مضاف أي تنزيل حم وتَنْزِيلُ المذكور خبره ومِنَ اللَّهِ صلته، وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر إيذانا بأنه الكتاب الكامل إن أريد بالكتاب السورة، وفيه تفخيم ليس في تنزيل حم تنزيل من الله، ولهذا لما لم يزاع في حم السجدة هذه النكتة عقب بقوله تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ [فصلت: ٣] ليفيد هذه الفائدة مع التفنن في العبارة، وإن أريد الكتاب كله فللإشعار بأن تنزيله كإنزال الكل في حصول الغرض من التحدي والتهدي، فدعوى عراء هذا الوجه عن فائدة يعتد بها عراء عن إنصاف يعتد به، وإن جعل تعديدا للحروف فلا حظ له من الإعراب وكان تَنْزِيلُ خبر مبتدأ مضمر يلوح به ما قبله أي المؤلف من جنس ما ذكر تنزيل الكتاب أو مبتدأ خبره الظرف بعده على ما قاله جار الله، وقيل: حم مقسم به ففيه حرف جر مقدر وهو في محل جر أو نصب على الخلاف المعروف فيه وتَنْزِيلُ نعت مقطوع فهو خبر مبتدأ مقدر والجملة مستأنفة وجواب القسم قوله تعالى: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وهو على ما تقدم استئناف للتنبيه على الآيات التكوينية، وجوز أن يكون تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ مبتدأ وخبرا والجملة جواب القسم، وهو خلاف الظاهر، وقيل: يقدر حم على كونه مقسما به مبتدأ محذوف الخبر أي حم قسمي ويكون «تنزيل» نعتا له غير مقطوع، وعلى سائر الأوجه قوله سبحانه: الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ نعت للاسم الجليل.
وجوز الإمام كونه صفة للكتاب إلا أنه رجح الأول بعد احتياجه إلى ارتكاب المجاز مع زيادة قرب الصفة من الموصوف فيه، وأوجبه أبو حيان لما في الثاني من الفصل بين الصفة والموصوف الغير الجائز.
وقوله عزّ وجلّ: «إن في السموات» إلخ يجوز أن يكون بتقدير مضاف أي إن في خلق السموات كما رواه الواحدي عن الزجاج لما أنه قد صرح به في آية أخرى والقرآن يفسر بعضه بعضا، ويناسبه قوله عزّ وجلّ:
وَفِي خَلْقِكُمْ إلى آخره، ويجوز أن يكون على ظاهره وحينئذ يكون على أحد وجهين. أحدهما إن فيهما لآيات أي ما فيهما من المخلوقات كالجبال والمعادن والكواكب والنيرين وعلى هذا يكون قوله سبحانه وَفِي خَلْقِكُمْ من عطف الخاص على العام. والثاني أن أنفسهما لآيات لما فيها من فنون الدلالة على القادر الحكيم جل شأنه، وهذا أظهر وهو أبلغ من أن يقال: إن في خلقهما لآيات وإن كان المعنى آئلا إليه، وفِي خَلْقِكُمْ خبر مقدم وقوله سبحانه: وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ عطف على خلق، وجوز في ما كونها مصدرية وكونها موصولة إما بتقدير مضاف أي وفي خلق ما ينشره ويفرقه من دابة أو بدونه.
وجوز عطفه على الضمير المتصل المجرور بالإضافة وما موصولة لا غير على الظاهر، وهو مبني على جواز العطف على الضمير المتصل المجرور من غير إعادة الجار وذلك مذهب الكوفيين ويونس والأخفش قال أبو حيان:
وهو الصحيح، واختاره الأستاذ أبو علي الشلوبين، ومذهب سيبويه وجمهور البصريين منع العطف المذكور سواء كان الضمير مجرورا بالحرف أو بالإضافة لشدة الاتصال فأشبه العطف على بعض الكلمة.
وذكر ابن الحاجب في شرح المفصل في باب الوقف منه أن بعض النحويين يجوزون العطف في المجرور بالإضافة دون المجرور بالحرف لأن اتصال المجرور بالمضاف ليس كاتصاله بالجار لاستقلال كل واحد منهما بمعناه فلم يشتد اتصال فيه اشتداده مع الحرف وأجاز الجرمي والزيادي العطف إذ أكد الضمير المتصل بمنفصل نحو مررت بك أنت وزيد وقوله تعالى آياتٌ مبتدأ مؤخر والجملة معطوفة على جملة إِنَّ فِي السَّماواتِ إلخ. وقرأ أبي

صفحة رقم 137

وعبد الله «لآيات» باللام كذا في البحر ولم يبين أن آيات مرفوع أو منصوب، فإن كان منصوبا فاللام زائدة في اسم إن المتقدم عليه خبرها وهو أحد مواضع زيادته المطردة الكثيرة، وإن كان مرفوعا فهي زائدة في المبتدأ ويقل زيادتها فيه، وحسن زيادتها هنا تقدم أن في الجملة المعطوف عليها فهو كقوله:

إن الخلافة بعدهم لذميمة وخلائف ظرف لمما أحقر
وقرأ زيد بن علي «آية» بالإفراد. وقرأ الأعمش والجحدري وحمزة والكسائي ويعقوب «آيات» بالجمع والنصب على أنها عطف على «آيات» السابق الواقع اسما لأن وفِي خَلْقِكُمْ معطوف على فِي السَّماواتِ فكأنه قيل:
وإن في خلقكم وما يبث من دابة آيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هي عليه وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ بالجر على إضمار في، وقد قرأ عبد الله بذكره. وجاء حذف الجار مع إبقاء عمله كما في قوله:
إذا قيل أي الناس شر قبيلة أشارت كليب بالأكف الأصابع
وحسن ما هنا ذكر الجار في الآيتين قبل. وقرىء بالرفع على أنه مبتدأ خبره آياتٌ بعد والمراد باختلافهما تعاقبهما أو تفاوتهما طولا وقصرا، وقيل: اختلافهما في أن أحدهما نور والآخرة ظلمة وَما أَنْزَلَ اللَّهُ عطف على اخْتِلافِ مِنَ السَّماءِ جهة العلو، وقيل: السحاب، وقيل: الجرم المعروف بضرب من التأويل.
مِنْ رِزْقٍ من مطر، وسمي رزقا لأنه سببه فهو مجاز، ولو لم يؤول صح لأنه في نفسه رزق أيضا.
فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بأن أخرج منها أصناف الزرع والثمرات والنبات، والسببية عادية اقتضتها الحكمة بَعْدَ مَوْتِها يبسها وعرائها عن آثار الحياة وانتفاء قوة التنمية عنها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ من جهة إلى أخرى ومن حال إلى حال، وتأخيره عن إنزال المطر مع تقدمه عليه في الوجود إما للإيذان بأنه آية مستقلة حيث لو روعي الترتيب الوجودي لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح وإنزال المطر آية واحدة، وإما لأن كون التصريف آية ليس بمجرد كونه مبدأ لإنشاء المطر بل له ولسائر المنافع التي من جملتها سوق السفن في البحار.
وقرأ زيد بن علي وطلحة وعيسى «وتصريف الريح» بالإفراد آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بالرفع على أنه مبتدأ خبره ما تقدم من الجار والمجرور أعني «في اختلاف» على ما سمعت، والجملة معطوفة على ما قبلها. وقيل: إن اخْتِلافِ بالجر عطف على خَلْقِكُمْ المجرور بفي قبله وآياتٌ عطف على آيات السابق المرفوع بالابتداء، وفيه العطف على معمولي عاملين مختلفين، ومن الناس من يمنعة وهم أكثر البصريين، ومنهم من يجيزه وهم أكثر الكوفيين، ومنهم من يفصل فيقول: وهو جائز في نحو قولك: في الدار زيد والحجرة عمرو وغير جائز في نحو قولك: زيد في الدار وعمرو الحجرة لأن الأول يلي المجرور فيه العاطف فقام العاطف مقام الجار، والثاني لم يل فيه المجرور العاطف فكان فيه إضمار الجار من غير عوض، وتمام الكلام في هذه المسألة في محله وقيل: إن اخْتِلافِ عطف على المجرور قبله وآياتٌ خبر مبتدأ محذوف أي هي آيات واختاره من لم يجوز العطف على معمولي عاملين ويقول بضعف حذف الجار مع بقاء عمله وإن تقدمه ذكر جار.
وقال أبو البقاء: آياتٌ مرفوع على التأكيد لآيات السابق وهم يعيدون الشيء إذا طال الكلام في الجملة للتأكيد والتذكير. وتعقب بأن ذلك إنما يكون بعين ما تقدم واختلاف الصفات يدل على تغاير الموصوفات فلا وجه للتأكيد، وأيضا فيه الفصل بين المعطوف المجرور والمعطوف عليه وبين المؤكد والمؤكد وهو إن جاز يورث تعقيدا ينافى فصاحة القرآن العظيم. وقرأ آيات هنا بالنصب من قرأها هناك به فهي مفعول لفعل محذوف أي أعني آيات،

صفحة رقم 138

وقيل: العاطف في قوله تعالى وَاخْتِلافِ عطف اختلاف على المجرور بفي قبل وعطفها على اسم إن وهو مبني على جواز العطف على معمولي عاملين، وقال أبو البقاء: هي منصوبة على التأكيد والتكرير لاسم إن نحو بثوبك دما وبثوب زيد دما، ومر آنفا ما فيه.
وقال بعضهم: إنها اسم إن مضمرة وهي قد تضمر ويبقى عملها، ذكر أبو حيان في الارتشاف في الكلام على أن من خير الناس أو خيرهم زيد أن محمد بن يحيى بن المبارك اليزيدي ذهب إلى نصب خيرهم ورفع زيد فاسم إن محذوف وأو خيرهم منصوب بإضمار إن لدلالة إن المذكورة تقديره إن من خير الناس زيدا وإن خيرهم زيد. وقد أقر الشاطبي تخريج النصب في الآية على ذلك لكن نقله السفاقسي عن أبي البقاء ورده بأن إن لا تضمر.
وقال ابن هشام في آخر الباب الرابع من المغني: إنه بعيد، والظاهر أنه لا بد عليه من إضمار الجار في اخْتِلافِ وحينئذ لا يخفى حاله، وسائر القراءات مروية هنا عمن رويت عنه فيما تقدم، وتنكير آياتٌ في الآيات للتفخيم كما وكيفا، والمعنى إن المنصفين من العباد إذا نظروا في السموات والأرض النظر الصحيح علموا أنها مصنوعة وأنها لا بد لها من صانع فآمنوا بالله تعالى وأقروا، وإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال وهيئة إلى أخرى وفي خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان ازدادوا إيمانا وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدد في كل وقت كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار وحياة الأرض بعد موتها وتصريف الرياح جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا وشدة وضعفا وحرارة وبرودة عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم كذا في الكشاف ومنه يعلم نكتة اختلاف الفواصل.
وفي الكشف أنه ذكر ما حاصله أنه على سبيل الترقي وهو يوافق ما عليه الصوفية وغيرهم من أن الإيقان مرتبة خاصة في الإيمان، ثم العقل لما كان مدارهما أي الإيمان والإيقان ونعني به العقل المؤيد بنور البصيرة جعله لخلوص الإيقان من اعتراء الشكوك من كل وجه ففي استحكامه كل خير، وروعي في ترتيب الآيات ما روعي في ترتيب المراتب الثلاث من تقديم ما هو أقدم وجودا، ولا يلزم أن تكون الآية الثانية أعظم من الأولى ولا الثالثة من الثانية لما ذكره من أن الجامع بين النظرين موقن وبين الثلاثة عاقل على أنها كذلك في تحصيل هذا الغرض فإن كانت أعظم من وجه آخر فلا بأس فإن النظر إلى حال نفسه وما هو من نوعه ثم جنسه من سائر الأناسي والحيوان للقرب والتكرر وكثرة العدد أدخل في انتفاء الشك وحصول اليقين وإن كان النظر في السماء والأرض أتم دلالة على كمال القدرة والعلم فذلك لا يضر ولا هو المطلوب هاهنا ثم النظر إلى الاختلاف المذكور أدل على استحكام ذلك اليقين من حيث إنه يتجدد حينا فحينا ويبعث على النظر والاعتبار كلما تجدد هذا، والتحقيق أن تمام النظر في الثاني يضطر إلى النظر في الأول لأن السموات والأرض من أسباب تكون الحيوان بوجه، وكذلك النظر في الثالث يضطر إلى النظر في الأولين، أما على الأول فظاهر وأما على الثاني فلأنه العلة الغائية فلا بد من أن يكون جامعا انتهى، وهو كلام نفيس جدا.
وقال الإمام في ترتيب هذه الفواصل: أظن أن سببه أنه قيل إن كنتم مؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين بل كنتم من طلاب الجزم واليقين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل، ولا يخفى أنه فاته ذلك التحقيق ولم يختر الترقي وهو بالاختيار حقيق، والمغايرة بين ما هنا وما في سورة [البقرة: ١٦٤] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ الآية للتفنن والكلام المعجز مملوء منه، وذكر الإمام في ذلك ما لا يهش له السامع فتأمل تِلْكَ آياتُ اللَّهِ مبتدأ وخبر، وقوله تعالى: نَتْلُوها عَلَيْكَ حال عاملها معنى

صفحة رقم 139

الإشارة نحو هذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: ٧٢] على المشهور، وقيل: هو الخبر وآياتُ اللَّهِ بدل أو عطف بيان وقوله سبحانه: بِالْحَقِّ حال من فاعل نَتْلُوها أو من مفعوله أي نتلوها محقين أو ملتبسة بالحق فالباء للملابسة ويجوز أن تكون للسببية الغائية، والمراد بالآيات المشار إليها إما آيات القرآن أو السورة أو ما ذكر قبل من السموات والأرض وغيرهم فتلاوتها بتلاوة ما يدل عليها، وفسرت بالسرد أي نسردها عليك.
وقال ابن عطية: الكلام بتقدير مضاف أي نتلو شأنها وشأن العبرة بها. وقرىء «يتلوها» بالياء على أن الفاعل ضميره تعالى والمراد على القراءتين تلاوتها عليه صلّى الله عليه وسلّم بواسطة الملك عليه السلام فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ هو من باب قولهم: أعجبني زيد وكرمه يريدون أعجبني كرم زيد إلا أنهم عدلوا عنه للمبالغة في الإعجاب أي فبأي حديث بعد هذه الآيات المتلوة بالحق يؤمنون، وفيه دلالة على أنه لا بيان أزيد من هذا البيان ولا آية أدل من هذه الآية، وتفخيم شأن الآيات من اسم الإشارة وإضافتها إلى الله عز وجلّ، وجعل «نتلوها» حالا مع ضمير التعظيم ثم تكرير الاسم الجليل للنكتة المذكورة وإضافتها إليه بواسطة الضمير مرة أخرى، وقد ذكر ذلك الزمخشري وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بشيء لأن فيه من حيث المعنى إقحام الأسماء من غير ضرورة والعطف، والمراد غير العطف من إخراجه إلى باب البدل لأن تقدير كرم زيد إنما يكون في أعجبني زيد كرمه بغير واو على البدل وهذا قلب لحقائق النحو، وإنما المعنى في المثال إن ذات زيد أعجبته وأعجبه كرمه فهما إعجابان لا إعجاب واحد وهو مبني على عدم التعمق في فهم كلام جار الله.
ومن تعمق فيه لا يرى أنه قائل بالإقحام وإنما بيان حاصل المعنى يوهمه، وبين هذه الطريقة وطريقة البدل مغايرة تامة، فقد ذكر أن فائدة هذه الطريقة وهي طريقة إسناد الفعل إلى شيء والمقصود إسناده إلى ما عطف عليه قوة اختصاص المعطوف بالمعطوف عليه من جهة الدلالة على أنه صار من التلبس بحيث يصح أن يسند أوصافه وأفعاله وأحواله إلى الأول قصدا لأنه بمنزلته ولا كذلك البدل لأن المقصود فيه بالنسبة هو الثاني فقط وهنا هما مقصودان، فإن قلت: إذا لم يكن ذلك الوصف منسوبا للمعطوف عليه لزم إقحامه كما قال أبو حيان، وما يذكر من المبالغة لا يدفع المحذور، وعلى فرض تسليمه فدلالته على ما ذكر بأي طريق من طرق الدلالة المشهورة.
أجيب بأنه غير منسوب إليه في الواقع لكن لما كان بينهما ملابسة تامة من جهة ما ككون الآيات هاهنا بإذنه تعالى أو مرضية له عز وجل جعل كأنه المقصود بالنسبة وكني بها عن ذلك الاختصاص كناية إيمائية ثم عطف عليه المنسوب إليه وجعل تابعا فيها وبهذا غاير البدل مغايرة تامة غفل عنها المعترض فالنسبة بتمامها مجازية كذا قرره بعض المحققين.
وقال الواحدي: أي فبأي حديث بعد حديث الله أي القرآن وقد جاء إطلاقه عليه في قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر: ٢٣] وحسن الإضمار لقرينة تقدم الحديث، وقوله سبحانه: وَآياتِهِ عطف عليه لتغايرهما إجمالا وتفصيلا لأن الآيات هي ذلك الحديث ملحوظ الأجزاء، وإن أريد ما بين فيه من الآيات والدلائل فليس من عطف الخاص على العام لأن الآيات ليست من القرآن وإنما وجه دلالتها وإيرادها منه فيكون في هذا الوجه الدلالة أيضا على حال البيان والمبين كما في الوجه الأول، وقال الضحاك: أي فبأي حديث بعد توحيد الله ولا يخفى أنه بظاهره مما لا معنى له فلعله أراد بعد حديث توحيده تعالى أي الحديث المتضمن ذلك أو هو بعد تقدير المضاف من باب أعجبني زيد وكرمه، وأيا ما كان فالفاء في جواب شرط مقدر والظرف صفة «حديث» وجوز أن يكون متعلقا بيؤمنون قدم للفاصلة.

صفحة رقم 140

وقرأ ابن عامر وأبو بكر وحمزة والكسائي «تؤمنون» بالتاء الفوقانية وهو موافق لقوله تعالى: وَفِي خَلْقِكُمْ بحسب الظاهر والصورة وإلا فالمراد هنا الكفار بخلاف ذلك.
وقرأ طلحة «توقنون» بالتاء الفوقانية والقاف من الإيقان وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ كثير الإفك أي الكذب أَثِيمٍ كثير الإثم، والآية نزلت في أبي جهل، وقيل: في النضر بن الحارث وكان يشتري حديث الأعاجم ويشغل به الناس عن استماع القرآن لكنها عامة كما هو مقتضى كل ويدخل من نزلت فيه دخولا أوليا، وأَثِيمٍ صفة أَفَّاكٍ وقوله تعالى: يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ صفة أخرى له، وقيل استئناف، وقيل حال من الضمير في أَثِيمٍ وقوله سبحانه تُتْلى عَلَيْهِ حال من آياتِ اللَّهِ ولم يجوز جعله مفعولا ثانيا ليسمع لأن شرطه أن يكون ما بعده مما لا يسمع كسمعت زيدا يقرأ، والظاهر أن المراد بتتلى الاستمرار لأنه المناسب للاستبعاد المدلول عليه بقوله عز وجل ثُمَّ يُصِرُّ فإن ثم لاستبعاد الإصرار بعد سماع الآيات وهي للتراخي الرتبي ويمكن إبقاؤه على حقيقته إلا أن الأول أبلغ وأنسب بالمقام، ونظير ذلك في الاستبعاد قول جعفر بن علية:

لا يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها
والإصرار على الشيء ملازمته وعدم الانفكاك عنه من الصر وهو الشد ومنه صرة الدراهم، ويقال: صر الحمار أذنيه ضمهما صرا وأصر الحمار ولا يقال أذنيه على ما في الصحاح وكأن معناه حينئذ صار صارّا أذنيه.
والمراد هنا ثم يقيم على كفره وضلاله مُسْتَكْبِراً عن الإيمان بالآيات وهو حال من ضمير يُصِرُّ وقوله سبحانه كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها حال بعد حال أو حال من ضمير مُسْتَكْبِراً وجوز الاستئناف، وكَأَنْ مخففة من كأن بحذف إحدى النونين واسمها ضمير الشأن، وقيل: لا حاجة إلى تقديره كما في أن المفتوحة، والمعنى يصر مستكبرا مثل غير السامع لها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ على إصراره ذلك، والبشارة في الأصل الخبر المغير للبشرة خيرا كان أو شرا، وخصها العرف بالخبر السار فإن أريد المعنى العرفي فهو استعارة تهكمية أو هو من قبيل:
تحية بينهم ضرب وجيع وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً وإذا بلغه شيء من آياتنا وعلم أنه منها.
اتَّخَذَها هُزُواً بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلها ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه، وجوز أن يكون المعنى وإذا علم من آياتنا شيئا يمكن أن يتشبث به المعاند ويجد له محملا يتسلق به على الطعن والغميزة افترصه واتخذ آيات الله تعالى هزوا وذلك نحو اعتراض ابن الزبعري في قوله تعالى إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: ٩٨] ومغالطته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقوله على ما بعض الروايات: خصمتك فضمير اتَّخَذَها على الوجهين للآيات، والفرق بينهما أن شَيْئاً على الثاني فيه تخصيص لقرينة اتَّخَذَها هُزُواً إذ لا يحتمل إلا ما يحسن أن يخيل فيه ذلك ثم يجعله دستورا للباقي فيقول: الكل من هذا القبيل، وفرق بين الوجهين أيضا بأن في الأول الاتخاذ قبل التأمل وفي الثاني بعده وبعد تمييز آية عن أخرى، وقيل: الاستهزاء بما علمه من الآيات إلا أنه أرجع الضمير إلى الآيات لأن الاستهزاء بواحدة منها استهزاء بكلها لما بينها من التماثل، وجوز أن يرجع الضمير إلى شيء والتأنيث لأنه بمعنى الآية كقول أبي العتاهية:
نفسي بشيء من الدنيا معلقة الله والقائم المهدي يكفيها
يعني الشيء وأراد به عتبة جارية للمهدي من حظاياه وكان أبو العتاهية يهواها فقال ما قال. وقرأ قتادة ومطر الوراق «علّم» بضم العين وشد اللام مبنيا للمفعول أُولئِكَ إشارة إلى كل أفاك من حيث الاتصاف بما ذكر من

صفحة رقم 141

القبائح، والجمع باعتبار الشمول للكل كما في قوله تعالى: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: ٣٢] كما أن الإفراد فيما سبق من الضمائر باعتبار كل واحد واحد، وأداة البعد للإشارة إلى بعد منزلتهم في الشر.
لَهُمْ بسبب جناياتهم المذكورة عَذابٌ مُهِينٌ وصف العذاب بالإهانة توفية لحق استكبارهم واستهزائهم بآيات الله عز وجلّ مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ أي من قدامهم لأنهم متوجهون إليها أو من خلفهم لأنهم معرضون عن الالتفات إليها والاشتغال عما ينجيهم منها مقبلون على الدنيا والانهماك في شهواتها، والوراء تستعمل في هذين المعنيين لأنها اسم للجهة التي يواريها الشخص فتعم الخلف والقدام، وقيل في توجيه الخلفية: إن جهنم لما كانت تتحقق لهم بعد الأجل جعلت كأنها خلفهم وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ولا يدفع ما كَسَبُوا أي الذي كسبوه من الأموال والأولاد شَيْئاً من عذاب الله تعالى أو شيئا من الإغناء على أن شَيْئاً مفعول به أو مفعول مطلق وَلا مَا اتَّخَذُوا أي الذي اتخذوه مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أي الأصنام.
وجوز أن تفسر ما بما تعمها وسائر المعبودات الباطلة، والأول أظهر، وجوز في ما في الموضعين أن تكون مصدرية، وتوسيط حرفي النفي بين المعطوفين مع أن عدم إغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إغناء الأموال والأولاد قطعا مبني على زعمهم الفاسد حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم، وفيه تهكم وَلَهُمْ فيما وراءهم من جهنم عَذابٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره هذا أي القرآن كما يدل عليه ما بعد وكذا ما قبل ك يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا وتِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها هُدىً في غاية الكمال من الهداية كأنه نفسها وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ يعني القرآن أيضا على أن الإضافة للعهد، وكان الظاهر الإضمار لكن عدل عنه إلى ما في النظم الجليل لزيادة تشنيع كفرهم به وتفظيع حالهم وجوز أن يراد بالآيات ما يشمله وغيره.
لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ من أشد العذاب أَلِيمٌ بالرفع صفة عَذابٌ أخر للفاصلة.
وقرأ غير واحد من السبعة أليم بالجر على أنه صفة رِجْزٍ، وجعله صفة عَذابٌ أيضا والجر للمجاورة مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وقيل: على قراءة الرفع إن الرجز بمعنى الرجس الذي هو النجاسة، والمعنى لهم عذاب أليم من تجرع رجس أو شرب رجس والمراد به الصديد الذي يتجرعه الكافر ولا يكاد يسيغه ولا داعي لذلك كما لا يخفى، وتنوين عَذابٌ في المواقع الثلاثة للتفخيم، ورفعه إما على الابتداء وإما على الفاعلية للظرف اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ بأن جعله أملس السطح يطفو عليه ما يتخلخل كالأخشاب ولا يمنع الغوص فيه لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ بتسخيره تعالى إياه وتسهيل استعمالها فيما يراد بها، وقيل: بتكوينه تعالى أو بإذنه عز وجلّ، وسياق الامتنان يقتضي أن يكون المعنى لتجري الفلك فيه وأنتم راكبوها.
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة والغوص والصيد وغيرها وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ولكي تشكروا النعم المترتبة على ذلك، وهذا أعني اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ إلخ ذكر تتميما للتقريع ولهذا رتب عليه الأغراض العاجلة فإنه مما يستوجب الشكر غالبا للكافر أيضا فكأنه قيل: تلك الآيات أولى بالشكر ولهذا عقب بما يعم القسمين أعني قوله سبحانه: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي من الموجودات بأن جعل فيها منافع لكم منها ظاهرة ومنها خفية، وعقب بالتفكر لينبه على أن التفكر هو الذي يؤدي إلى ما ذكر من الأولوية ويدل به على أن التفكر ملاك الأمر في ترتيب الغرض على ما جعل آية من الإيمان والإيقان والشكر جَمِيعاً حال من ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أو توكيد له وقوله تعالى: مِنْهُ حال من ذلك أيضا، والمعنى سخر هذه الأشياء جميعا كائنة منه وحاصلة من عنده يعني أنه سبحانه مكونها وموجدها بقدرته وحكمته ثم مسخرها لخلقه.

صفحة رقم 142

وجوز فيه أوجه أخر. الأول أن يكون خبر مبتدأ محذوف فقيل جَمِيعاً حينئذ حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور بناء على جواز تقدم الحال على مثل هذا العامل أو من المبتدأ بناء على تجويز الحال منه أي هي جميعا منه تعالى وقيل: جميعا على ما كان ويلاحظ في تصوير المعنى فالضمير المبتدأ يقدر بعده ويعتبر رجوعه إلى ما تقدم بقيد جميعا، والجملة على القولين استئناف جيء به تأكيدا لقوله تعالى: سَخَّرَ أي إنه عز وجل أوجدها ثم سخرها لا أنها حصلت له سبحانه من غيره كالملوك، الثاني أن يجعل ما فِي السَّماواتِ مبتدأ ويكون هو خبره وجَمِيعاً حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور الواقع صلة ويكون وَسَخَّرَ لَكُمْ تأكيدا للأول أي سخر وسخر، وفي العطف إيماء إلى أن التسخير الثاني كأنه غير الأول دلالة على أن المتفكر كلما فكر يزداد إيمانا بكمال التسخير والمنة عليه، وجملة ما فِي السَّماواتِ إلخ مستأنفة لمزيد بيان القدرة والحكمة.
واعترض بأنه إن أريد التأكيد اللغوي فهو لا يخلو من الضعف لأن عطف مثله في الجمل غير معهود، وإن أريد التأكيد الاصطلاحي كما قيل به في قوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكوير: ٣- ٤] فهو مخالف لما ذكره ابن مالك في التسهيل من أن عطف التأكيد يختص بثم، وقال الرضي: يكون بالفاء أيضا وهو هاهنا بالواو ولم يجوزه أحد منهم وإن لم يذكروا وجه الفرق على أنه قد تقرر في المعاني أنه لا يجري في التأكيد العطف مطلقا لشدة الاتصال، واعترض أيضا بأن فيه حذف مفعول «سخر» من غير قرينة وهذا كما ترى، الثالث أن يكون ما فِي الْأَرْضِ مبتدأ ومِنْهُ خبره ولا يخفى أنه ضعيف بحسب المساق.
وأخرج ابن المنذر من طريق عكرمة أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يكن يفسر هذه الآية، ولعله إن صح محمول على أنه لم يبسط الكلام فيها، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال فيها كل شيء هو من الله تعالى.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن طاوس قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال: فمم خلق هؤلاء؟ قال: لا أدري ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله فقال مثل قول عبد الله بن عمرو فأتى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فسأله مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال: فمم خلق هؤلاء؟ فقرأ ابن عباس وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ فقال الرجل: ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم.
واختلف أهل العلم فيما أراد ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بذلك فقال البيهقي: أراد أن مصدر الجميع منه تعالى أي من خلقه وإبداعه واختراعه خلق الماء أولا أو الماء وما شاء عز وجل من خلقه لا عن أصل ولا عن مثال سبق ثم جعله تعالى أصلا لما خلق بعده فهو جل شأنه المبدع وهو سبحانه البارئ لا إله غيره ولا خالق سواه اهـ، وعليه جميع المحدثين والمفسرين ومن حذا حذوهم، وقال الشيخ إبراهيم الكوراني من الصوفية: إن المخلوقات تعينات الوجود المفاض الذي هو صورة النفس الرحماني المسمى بالعماء وذلك أن العماء قد انبسط على الحقائق التي هي أمور عدمية متميزة في نفس الأمر والانبساط حادث والعماء من حيث اقترانه بالماهيات غير ذات الحق تعالى فإنه سبحانه الوجود المحض الغير المقترن بها فالموجودات صور حادثة في العماء قائمة به والله تعالى قيومها لأنه جلّ وعلا الأول الباطن الممد لتلك الصور بالبقاء ولا يلزم من ذلك قيام الحوادث بذات الحق تعالى ولا كونه سبحانه مادة لها لأن وجوده تعالى مجرد عن الماهيات غير مقترن بها والمتعين بحسبها هو العماء الذي هو الوجود المفاض منه تعالى بإيجاده جلّ شأنه، وبهذا ينطبق الجواب على السؤال من غير تكلف ولا محذور، ولو كان مراد ابن عباس مجرد ما ذكره البيهقي من أن مصدر الجميع من خلقه تعالى كان يكفي في ذلك قوله تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: ١٦، الزمر: ٦٢] لكن

صفحة رقم 143

السؤال إنما وقع بمم ووقع الجواب بمنه في تلاوته الآية فالظاهر أن ما فهمه السائل من تلاوته رضي الله تعالى عنه ليس مجرد ما ذكره بقرينة مدحه بقوله: ما كان ليأتي بهذا إلخ فإن ما ذكره البيهقي يعرفه كل من آمن بقوله تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فلا يظهر حينئذ وجه لقول كل من ابن عمرو وابن الزبير لا أدري فإنهما من أفضل المؤمنين بأن الله تعالى خالق كل شيء بل ما فهمه هو ما أشرنا إليه اهـ، وعليه عامة أهل الوحدة «وأجاب الأولون» بأن مراد ابن عباس قطع التسلسل في السؤال بعد ذكر مادة لبعضها بأن مرجع الأمر أن الأشياء كلها خلقت بقدرته تعالى لا من شيء وهو كلام حكيم يمدح قائله لم يهتد إليه ابن الزبير. وابن عمرو، ولا يعكر على هذا قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ [الطور:
٣٥] لما قاله المفسرون فيه وسيأتي إن شاء الله تعالى في محله فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، وقد أورد الحسين بن علي بن واقد في مجلس الرشيد هذه الآية ردا على بعض النصارى في زعمه أن قوله تعالى في عيسى عليه السلام:
وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء: ١٧١] يدل على ما يزعمه فيه عليه السلام من أنه ابن الله سبحانه وتعالى عما يصفون.
وحكى أبو الفتح. وصاحب اللوامح عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو والجحدري. وعبد الله بن عبيد بن عمير أنهم قرؤوا «منّة» بكسر الميم وشد النون ونصب التاء على أنه مفعول له أي سخر لكم ذلك نعمة عليكم، وحكاها عن ابن عباس أيضا ابن خالويه. لكن قال أبو حاتم: إن سند هذه القراءة إليه مظلم فإذا صح السند يمكن أن يقال فيما تقدم من حديث طاوس: إنه ذكر الآية على قراءة الجمهور ويحتمل أن له قراءتين فيها.
وقرأ مسلمة بن محارب كذلك إلا أنه ضم التاء على تقدير هو أو هي منة، وعنه أيضا فتح الميم وشد النون وهاء الكتابة عائدة على الله تعالى أي انعامه وهو فاعل سَخَّرَ على الإسناد المجازي كما تقول: كرم الملك العشي أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هذا أو هو منه تعالى، وجوزت الفاعلية في قراءته الأولى، وتذكير الفعل لأن الفاعل ليس مؤنثا حقيقيا مع وجود الفاصل، والوجه الأول أولى وإن كان فيه تقدير إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر لَآياتٍ عظيمة الشأن كثيرة العدد لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في بدائع صنعه تعالى وعظائم شأنه جلّ شأنه فإن ذلك يجرهم إلى الإيمان والإيقان والشكر.
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا حذف المقول لدلالة يَغْفِرُوا عليه فإنه جواب للأمر باعتبار تعلقه به لا باعتبار نفسه فقط أي قل لهم اغفروا يغفروا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أي يعفوا ويصفحوا عن الذين لا يتوقعون وقائعه تعالى بأعدائه ونقمته فيهم فالرجاء مجاز عن التوقع وكذا الأيام مجاز عن الوقائع من قولهم: أيام العرب لوقائعها وهو مجاز مشهور وروي ذلك عن مجاهد أولا يأملون الأوقات التي وقتها الله تعالى لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز فيها، والآية قيل نزلت قبل آية القتال ثم نسخت بها.
وقال بعضهم: لا نسخ لأن المراد هنا ترك النزاع في المحقرات والتجاوز عن بعض ما يؤذي ويوحش، وحكى النحاس. والمهدوي عن ابن عباس أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه شتمه مشرك (١) بمكة قبل الهجرة فهمّ أن يبطش به فنزلت وروي ذلك عن مقاتل وهذا ظاهر في كونها مكية كأخواتها. وإرادة فهم أن يبطش به بعد الهجرة لأن المسلمين بمكة قبلها عاجزون مقهورون لا يمكنهم الانتصار من المشركين والعاجز لا يؤمر بالعفو والصفح غير ظاهر محتاج إلى نقل، ودوام عجز كل من المسلمين غير معلوم بل من وقف على أحوال أبي حفص رضي الله تعالى عنه لا يتوقف في أنه قادر على ما هم به لا يبالي بما يترتب عليه.

(١) قيل هو من غفار اهـ منه.

صفحة رقم 144
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية