آيات من القرآن الكريم

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ
ﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ ﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍ

إنكار المشركين البعث وإثباته لهم
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٩]
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨)
ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩)
الإعراب:
إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى: إِنْ: بمعنى «ما» مثل قوله تعالى: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ وهِيَ مبتدأ، ومَوْتَتُنَا: خبره، ولا يجوز أن تعمل إِنْ هنا في لغة من أعملها، لدخول إِلَّا لأن «إلا» إذا دخلت على «ما» بطل عملها، ومثلها «إن».
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الَّذِينَ: إما مرفوع على أنه مبتدأ، وأَهْلَكْناهُمْ خبره، أو على أنه معطوف على قَوْمُ تُبَّعٍ وإما منصوب بفعل مقدر دلّ عليه أَهْلَكْناهُمْ وتقديره:
وأهلكنا الذين من قبلهم أهلكناهم.
لاعِبِينَ حال.
البلاغة:
إِنَّ هؤُلاءِ الإشارة هنا للتحقير.
فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أسلوب التعجيز.
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ.. استفهام إنكار، للتحقير والاستصغار.
المفردات اللغوية:
إِنَّ هؤُلاءِ كفار قريش، لأن الكلام فيهم، قال البيضاوي: وقصة فرعون- السابقة-

صفحة رقم 227

وقومه مسوقة للدلالة على أنهم مثلهم في الإصرار على الضلالة، والإنذار عن مثل ما حل بهم. إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أي ما نهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية، وليس هناك حياة أخرى. بِمُنْشَرِينَ بمبعوثين أحياء بعد الموتة الأولى، يقال: نشر اللَّه الموتى وأنشرهم:
أحياهم فَأْتُوا بِآبائِنا خطاب لمن وعدهم بالنشور والبعث من الرسل والأنبياء. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في وعدكم.
أَهُمْ خَيْرٌ في القوة والمنعة. تُبَّعٍ كل من ملك اليمن والشّحر وحضر موت، وجمعه التبابعة وهم ملوك اليمن، وهذا شبيه بفرعون لدى قدماء المصريين، وهو كل من ملك مصر. ومن التبابعة: ذو القرنين أو إفريقش ويسمى الصعب، وجاء بعده عمرو زوج بلقيس، ثم أبو كرب ابنه، ثم ذو نواس.
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم كعاد وثمود. أَهْلَكْناهُمْ بكفرهم، والمراد: ليس كفار قريش أقوى منهم، وأهلكوا لاعِبِينَ لاهين عابثين. ما خَلَقْناهُما وما بينهما إِلَّا بِالْحَقِّ أي محقين في ذلك، ليستدل به على قدرتنا على البعث وغيره وعلى وحدانيتنا وغير ذلك.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي كفار مكة لا يعلمون ذلك، لقلة نظرهم.
المناسبة:
بعد أن ذكر اللَّه تعالى قصة فرعون وقومه مع موسى عليه السلام ليتعظ بها كفار قريش، عاد إليهم بعد أن وصفهم أولا بأنهم في شك من البعث والقيامة، وأنهم في إصرارهم على كفرهم مثل قوم فرعون الذين أهلكهم ونجّى بني إسرائيل، وذكر هنا صراحة أنهم منكرون للبعث، ثم رد عليهم بأن اللَّه خالق السموات والأرض وما بينهما قادر على بعثهم، ثم توعدهم بالهلاك، كما أهلك قوم تبّع من قحطان ملوك اليمن، الذين هم أقوى منهم.
وبه تبين أن اللَّه هدد كفار مكة بمصير مشؤوم، مثل مصير قوم فرعون وقوم تبّع.
التفسير والبيان:
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ: إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أي

صفحة رقم 228

إن كفار مكة هؤلاء يقولون: ما هي وما العاقبة إلا الموتة الأولى التي نموتها بعد هذه الحياة الدنيوية، ولا حياة بعدها، ولا بعث، وما نحن بمبعوثين.
وهذا إنكار من اللَّه تعالى على المشركين في إنكارهم البعث والمعاد، وأنه ما ثمّ إلا هذه الحياة الدنيا، ولا حياة بعد الممات، ولا بعث ولا نشور، وهذا كقوله تعالى: وَقالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام ٦/ ٢٩].
ثم احتجوا بآبائهم الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا مخاطبين النبي والمؤمنين:
فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي فإن كان البعث حقا، فأرجعوا إلينا آباءنا بعد موتهم إلى الدنيا، إن كنتم صادقين فيما تدعونه من البعث.
يروى أنهم طلبوا من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يعجل اللَّه لهم إحياء الموتى، فينشر كبيرهم قصيّ بن كلاب ليشاوروه في صحة نبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وصحة البعث، فلم يجبهم اللَّه إلى ذلك.
وهذه حجة واهية، فإن المعاد إنما هو يوم القيامة، لا في الدار الدنيا، بل بعد انقضائها وذهابها، يعيد اللَّه العالمين خلقا جديدا.
ثم هددهم تعالى وتوعدهم وأنذرهم بأسه الذي لا يرد، فقال:
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ، وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أَهْلَكْناهُمْ، إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ أي أهم كفار قريش الذين هم عرب من عدنان خير في القوة والمنعة، أم قوم تبّع الحميري الذين هم عرب من قحطان، الذين كانوا أقوى جندا وأكثر عددا، وكان لهم دولة وحضارة عريقة ومجد، وكذلك الأمم الذين سبقوهم، كعاد وثمود ونحوهم، أهلكناهم جميعا لكفرهم وإجرامهم، فإهلاك من هو دونهم لجرمه وضعفه وعجزه بالأولى، فهم ليسوا بخير من قوم تبع في العدد والعز والمنعة.

صفحة رقم 229

وتبّع: رجل صالح دار في الدنيا بجيوشه وغلب أهلها وقهرهم، وقد كانت حمير وهم سبأ، كلما ملك فيهم رجل سموه تبّعا، كما يقال (كسرى) لمن ملك الفرس، و (قيصر) لمن ملك الروم، و (فرعون) لمن ملك مصر كافرا، و (النجاشي) لمن ملك الحبشة، وغير ذلك من الألقاب السلطانية.
أخرج الطبراني عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «لا تسبّوا تبّعا فإنه قد أسلم». وكان يكتب إذا كتب: بسم اللَّه الذي ملك برا وبحرا.
ثم أقام تعالى الدليل على قدرته الفائقة ليستدل بذلك على إمكان البعث، فقال:
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أي كيف ينكرون البعث، وقد شاهدوا أدلة قدرتنا في خلق هذا الكون، فإنا خلقنا هذه السموات والأرضين وما بينهما من المخلوقات المنظورة وغير المنظورة، ما خلقنا ذلك عبثا ولعبا، وباطلا ولهوا، وإنما بإبداع لا مثيل له، ولحكمة منقطعة النظير، كقوله جل وعلا: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا، ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص ٣٨/ ٢٧] وقوله تعالى:
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ، فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون ٢٣/ ١١٥- ١١٦] فهذا برهان على صحة البعث. وإنما جمع السموات في قوله. وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ لموافقة قوله في أول السورة: رَبِّ السَّماواتِ.
ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي ما خلقنا السماء والأرض وما بينهما إلا خلقا ملازما للحق، ولإظهار الحق، وهو الاستدلال على وجود الخالق ووحدانيته، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون ذلك، لقلة نظرهم، فصاروا لا يرجون ثوابا ولا يخشون عقابا.

صفحة رقم 230

فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- لا يؤمن المشركون بالبعث، فهم قوم ماديون دهريون كما في آية أخرى:
وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا، وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية ٤٥/ ٢٤] وقالوا هنا: ما الموتة التي من شأنها أن تعقبها حياة إلا الموتة الأولى في عالم الذر والنطف دون الموتة الثانية.
٢- احتجوا بحجة واهية وهي الإتيان بآبائهم وأجدادهم أحياء، بعد أن ماتوا، وتلك مغالطة، لأن المقصود بالبعث: هو إحياء جميع الخلق بعد فناء الدنيا، ولأن الإعادة إنما هي للجزاء لا للتكليف مرة أخرى.
قيل: إن قائل هذا من كفار قريش أبو جهل، قال: يا محمد، إن كنت صادقا في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا أحدهما- قصيّ بن كلاب، فإنه كان رجلا صادقا، لنسأله عما يكون بعد الموت.
٣- إنهم بهذا القول استحقوا العذاب، إذ ليسوا هم خيرا من قوم تبّع والأمم المهلكة، وإذا أهلكنا أولئك، فكذا هؤلاء. وكان من قبلهم أظهر نعمة وأكثر أموالا، وأعز وأشد وأمنع جانبا، فأهلكهم اللَّه لكفرهم وإجرامهم.
قال القرطبي: وليس المراد بتبّع رجلا واحدا، بل المراد به ملوك اليمن، فكانوا يسمون ملوكهم التبابعة، فتبّع لقب للملك منهم كالخليفة للمسلمين، وكسرى للفرس، وقيصر للروم.
ثم قال: والظاهر من الآيات أن اللَّه سبحانه إنما أراد واحدا من هؤلاء، وكانت العرب تعرفه بهذا الاسم اشدّ من معرفة غيره، ولذلك
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ولا

صفحة رقم 231
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية