
هذه آية ضرب مثل وإسوة لمحمد عليه السلام بموسى عليه السلام ولكفار قريش بفرعون وَمَلَائِهِ. والآيات التي أرسل بها موسى وهي التسع المذكورة وغير ذلك مما جاءت به الروايات، وخص الملأ بالذكر لأنهم يسدون مسد جميع الناس، ثم وصفهم تعالى بالضحك من آيات موسى، كما كانت قريش تضحك وتسخر من أخبار محمد عليه السلام، ثم وصف تعالى صورة عرض الآيات عليهم وإنما كانت شيئا بعد شيء.
وقوله: إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها عبارة عن شدة موقعها في نفوسهم بحدة أمرها وحدوثه، وذلك أن أول آية عرض موسى هي: العصا واليد، وكانت أكبر آياته، ثم كل آية بعد ذلك كانت تقع فيعظم عندهم لحينها وتكبر، لأنهم قد كانوا أنسوا التي قبلها، فهذا كما قال الشاعر: [الطويل]
على أنها تعفو الكلوم وإنما | توكل بالأدنى وان جل ما يقضى |
وقوله: لَعَلَّهُمْ ترج بحسب معتقد البشر وظنهم. و: يَرْجِعُونَ معناه: يتوبون ويقلعون.
وقوله تعالى: وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ جائز أن يكون قائل ذلك من أعلمهم بكفر السحر فيقول: قوله استهزاء وهو يعلم قدر السحر وانحطاط منزلته، ويكون قوله: عِنْدَكَ بمعنى: في زعمك وعلى قولك، ويحتمل أن يكون القائل ليس من المتمردين الحذاق ويطلق لفظة الساحر لأحد وجهين، إما لأن السحر كان عند عامتهم علم الوقت، فكأنه قال: يا أيه العالم، وإما لأن هذه الاسمية قد كانت انطلقت عندهم على موسى لأول ظهورها، فاستصحبها هذا القائل في مخاطبة قلة تحرير وغباوة، ويكون القول على هذا التأويل جدا من القائل، ويكون قوله: إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ بمعنى إن نفعتنا دعوتك، وهذا التأويل أرجح، أعني أن كلام هذا القائل مقترن بالجد.
وقرأ ابن عامر وحده: «يا أي» بياء مضمومة فقط.
ثم أخبر عنهم أنه لما كشف عنهم العذاب نكثوا، ولو كان الكلام هزلا من أوله لما وقع نكث.
قوله عز وجل:
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٥١ الى ٥٦]
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥)
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦) صفحة رقم 58

نداء فرعون يحتمل أن يكون بلسانه في ناديه، ويحتمل أن يكون بأن أمر من ينادي في الناس، ومعنى هذه الحجة التي نادى بها أنه أراد أن يبين فضله على موسى، إذ هو ملك مصر، وصاحب الأنهار والنعم، وموسى خامل متقلل لا دنيا له، قال: فلو أن إله موسى يكون حقا كما يزعم، لما ترك الأمر هكذا.
و: مِصْرَ من بحر الإسكندرية إلى أسوان بطول النيل. و: الْأَنْهارُ التي أشار إليها هي الخلجان الكبار الخارجة من النيل وعظمها نهر الإسكندرية وتنيس ودمياط ونهر طولون.
وقوله: أَمْ أَنَا خَيْرٌ قال سيبويه: أَمْ هذه المعادلة، والمعنى: أم أنتم لا تبصرون، فوضع موضع قوله: أم تبصرون الأمر الذي هو حقيق أن يبصر عنده، وهو أنه خير من موسى. و «لا» على هذا النظر نافية.
وقالت فرقة: أَفَلا تُبْصِرُونَ أم لا تبصرون، ثم اقتصر على أَمْ لدلالة ظاهر الكلام على المحذوف منه، وابتدأ قوله: أَنَا خَيْرٌ إخبارا منه، فقوله: أَفَلا على هذا النظر بمنزلة: هلا ولولا على معنى التخصيص. وقالت فرقة: أَبمعنى بل.
وقرأ بعض الناس: «أما أنا خير»، حكاه الفراء، وكان مجاهد يقف على أَمْ ثم يبتدئ: أَنَا خَيْرٌ. قال قتادة: وفي مصحف أبي بن كعب: «أم أنا خير أم هذا». ومَهِينٌ معناه ضعيف وقوله:
وَلا يَكادُ يُبِينُ إشارة إلى ما بقي في لسان موسى من أثر الجمرة، وذلك أنها كانت أحدثت في لسانه عقدة، فلما دعا في أن تحل ليفقه قوله، أجيبت دعوته، لكنه بقي أثر كان البيان يقع منه، لكن فرعون عير به. وقوله: وَلا يَكادُ يُبِينُ يقتضي أنه كان يبين.
وقرأ أبو جعفر بن علي: «يبين» بفتح الياء الأولى.
وقوله: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ يريد من السماء على معنى التكرمة.
وقراءة الجمهور: «ألقي» على بناء الفعل للمفعول. وقرأ الضحاك: «ألقى» بفتح الهمزة والقاف على بنائه للفاعل «أساورة» نصبا.
وقرأ جمهور القراء: «أساورة» وقرأ حفص عن عاصم: «أسورة»، وهي قراءة الحسن والأعرج وقتادة وأبي رجاء ومجاهد. وقرأ أبي بن كعب: «أساور». وفي مصحف ابن مسعود: «أساوير»، ويقال سوار وأسوار لما يجعل في الذراع من الحلي، حكى أبو زيد اللغتين وأبو عمرو بن العلاء، وهو كالقلب، قاله ابن عباس، وكانت عادة الرجال يومئذ حبس ذلك والتزيي به. و: أساورة جمع أسوار، ويجوز أن يكون جمع أسورة، كأسقية وأساقي، وكذلك: أساور، جمع أسوار. والهاء في: أساورة عوض من الياء المحذوفة، لأن الجمع إنما هو أساوير كما في مصحف ابن مسعود، فحذفوا الياء وجعلوا الهاء عوضا منها،