آيات من القرآن الكريم

فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ
ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓ

٨- إن دين التوحيد قديم، ونبذ الشرك قديم، فإذا سئلت أمم الرسل عليهم السلام قبل الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم: هل أذن اللَّه بعبادة الأوثان، وهل أمر بعبادة غير اللَّه؟ أجابوا عن السؤالين بالنفي. والسبب الأقوى في بغض الكفار وعداوتهم للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إنكاره لأصنامهم، فبين تعالى أنه غير مخصوص بهذا الإنكار، ولكنه دين كل الأنبياء ودعوتهم.
العبرة من قصة موسى عليه السلام وفرعون
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤٦ الى ٥٦]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠)
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥)
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦)

صفحة رقم 162

الإعراب:
وَهذِهِ الْأَنْهارُ الواو: إما عاطفة على مُلْكُ مِصْرَ وتَجْرِي حال منها، أو واو الحال، وهذِهِ مبتدأ والْأَنْهارُ صفتها، وتَجْرِي خبرها.
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا أَمْ هنا: منقطعة، لأنه لو أراد أم المعادلة لقال: أم تبصرون، لكنه أضرب عن الأول بقوله: أَنَا خَيْرٌ وكأنه قال: أنا خير منه، فلما كان فيه هذا المعنى، لم تكن أَمْ للمعادلة للهمزة.
البلاغة:
أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ الاستفهام للتقرير، لا للإنكار، أي أقروا بما تعلمون من أني ملك مصر.
المفردات اللغوية:
بِآياتِنا الآيات هي المعجزات. وَمَلَائِهِ أشراف قومه ورعاياهم القبط، والمراد بإيراد القصة هنا الاستشهاد بدعوة موسى عليه السلام إلى التوحيد، وتسلية الرسول ومناقضة قول قريش:
نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ.
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ حين جاءهم بآياتنا الدالة على رسالته، فاجؤوه بضحكهم منها واستهزءوا بها أول ما رأوها ولم يتأملوا فيها. وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ من آيات العذاب كالطوفان والجراد. إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها إلا وهي أعظم في الإعجاز بحيث يظن أنها أكبر من الآيات الأخرى، وأُخْتِها قرينتها التي قبلها، والمراد وصف الكل بالكبر، كقولك:
رأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض، أو إلا وهي مختصة بنوع من الإعجاز مفضلة على غيرها بذلك الاعتبار. وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ أي أخذ قهر بعذاب كالسنين (الجدب) والطوفان والجراد.
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ليرجعوا عن الكفر أو على نحو يرجى رجوعهم.
وَقالُوا لموسى لما رأوا العذاب. السَّاحِرُ العالم الماهر، لأن السحر عندهم علم عظيم.
بِما عَهِدَ عِنْدَكَ بعهده إليك أنا إن آمنا كشف العذاب عنا، أو بعهده عندك من النبوة. إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ مؤمنون بشرط أن تدعو لنا، فيكشف عنا العذاب. يَنْكُثُونَ ينقضون العهد الذي عاهدوا به موسى، ويصرون على الكفر.
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ افتخارا، إما بنفسه أو بواسطة مناديه، في مجمعهم أو فيما بينهم بعد كشف العذاب عنهم، مخافة أن يؤمن بعضهم. وَهذِهِ الْأَنْهارُ فروع النيل، وأهمها أربعة:

صفحة رقم 163

نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تنيس، والمشهور الآن فرع دمياط وفرع الرشيد المكونان لدلتا النيل فيما بينهما. مِنْ تَحْتِي تحت قصري وفي جناتي. أَفَلا تُبْصِرُونَ عظمتي.
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا أَمْ منقطعة أي بل أنا مع هذا الملك والسعة أفضل من موسى، أو متصلة بمعنى: أم تبصرون فتعلمون أني خير منه. الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ضعيف حقير ليس أهلا للرياسة، مأخوذ من المهانة: وهي القلة. يُبِينُ يفصح عن مراده بكلامه، بسبب لثغته في لسانه بالجمرة التي تناولها في صغره.
فَلَوْلا هلا. أُلْقِيَ عَلَيْهِ إن كان صادقا. أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ جمع سوار كأخمرة وخمار، وقرئ «أساورة» جمع الجمع، أي جمع أسورة، وهذا تأثر منه بعادة الملوك، فإنهم كانوا إذا سؤدوه وتوّجوه ألبسوه أسورة ذهب وطوق ذهب. مُقْتَرِنِينَ مقرونين به يعينونه على مخالفه، أو متتابعين يشهدون بصدقه.
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ استخف واستصغر عقولهم، فدعاهم إلى الضلال، فأجابوه.
فَأَطاعُوهُ فيما يريد من تكذيب موسى. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ هذا تعليل للطاعة.
آسَفُونا أغضبونا بالإفراط في العصيان والعناد، والأسف: الحزن والغضب معا، وقد يطلق على أحدهما. فَأَغْرَقْناهُمْ في اليم. فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً قدوة لمن بعدهم من الكفار، جمع سالف، كخدم وخادم، وقرئ «سلفا» جمع سليف كرغف. وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ عظة وعبرة لمن يأتي بعدهم.
المناسبة:
بعد بيان طعن قريش بنبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم لكونه فقيرا عديم المال والجاه، ذكر اللَّه تعالى شبيها لذلك في قصة فرعون حيث قال: إنّي غني كثير المال والجاه. ولما أمر اللَّه نبيه بسؤال أمم المرسلين، ذكر هنا قصة موسى، وبعده عيسى عليهما السلام، للاستدلال بما جاءا به من التوحيد، وإبطال عبادة الأصنام. ثم ذكر شبهة لفرعون وهي أن الملك يلازم النبوة، فطلب من موسى بما جرت العادة لديهم أنهم إذا جعلوا منهم رئيسا لهم سوّروه بسوار من ذهب، وطوّقوه بطوق من ذهب، أو طلب أن تصاحبه الملائكة لدعم موقفه أمام المخالفين.

صفحة رقم 164

وأعقب هذا توضيحا لأثر السلطة والحكم، فإن فرعون استخف عقول قومه، حينما دعاهم إلى تكذيب موسى، فأطاعوه لضلالهم، فانتقم اللَّه منهم أشد الانتقام.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ. فَقالَ: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أي لقد بعثنا موسى مؤيدا بالمعجزات الدالة على صدقه وهي الآيات التسع المذكورة في سورة الإسراء [الآية ١٠١] إلى فرعون وأشراف قومه وأتباعهم من القبط وبني إسرائيل، يدعوهم إلى عبادة اللَّه وحده لا شريك له، وينهاهم عن عبادة ما سواه، وقال لهم: إني مرسل إليكم من اللَّه رب العالمين: الإنس والجن.
ومعجزاته: الطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، والسنين. أي نقص الزروع والأنفس، والثمرات، واليد، والعصا، فاستكبروا عن الإيمان بها وكذبوها وسخروا منها، كما قال تعالى:
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ أي فلما أتاهم بتلك الآيات والأدلة على صدقه، إذا فرعون وقومه يضحكون ويسخرون ممن جاءهم بها.
وقوله: إِذا هُمْ معناه أنهم فاجؤوا المجيء بها بالضحك عليها والسخرية منها.
وهذا تسلية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عما يلقاه من صدود قومه عن دعوته.
وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها، وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي وما نري فرعون وملأه من كل حجة دالة على صدق موسى في دعواه الرسالة إلا كانت أعظم من سابقتها في الحجية عليهم، والدلالة على صحة دعوته إلى التوحيد، مع كون التي قبلها عظيمة في نفسها، لقوله: أُخْتِها أي مثيلتها وقرينتها في الدلالة على صدق نبوة موسى.

صفحة رقم 165

ومع هذا ما رجعوا عن غيهم وضلالهم، فأخذناهم أخذ قهر بإنزال العذاب عليهم بسبب تكذيبهم بتلك الآيات، لكي يرجعوا عن كفرهم، ويؤمنوا باللَّه وحده لا شريك له، ويطيعوه فيما أمر ونهى.
وكانوا كلما جاءتهم آية يصفونها بالسحر وبأن موسى ساحر، كما قال تعالى:
وَقالُوا: يا أَيُّهَا السَّاحِرُ، ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ، إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ أي وقالوا يا أيها الساحر العالم- وكانوا يسمون العلماء سحرة تعظيما لهم- ادع لنا ربك لكشف العذاب عنا بما أخبرتنا به من عهده إليك أنا إذا آمنا كشف عنا العذاب، فإننا بعدئذ لمؤمنون بما جئت به.
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أي فدعا موسى ربه، فكشف عنهم العذاب، فلما كشف عنهم العذاب، نقضوا عهدهم، وعادوا إلى كفرهم، كما جاء في آية أخرى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ، فَاسْتَكْبَرُوا، وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ، لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ، وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ، إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ [الأعراف ٧/ ١٣٣- ١٣٥].
ثم أخبر اللَّه تعالى عن تمرد فرعون وعتوّه وكفره وعناده، فقال:
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ: يا قَوْمِ، أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ، وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي، أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ أي لما خاف فرعون ميل القوم إلى موسى، فجمعهم ونادى بصوته فيهم مفتخرا، أو أمر مناديا ينادي بقوله: أليس لي ملك مصر العظيم، فلا ينازعني فيه أحد، والسلطة المطلقة لي، وأنهار النيل تجري من تحت قصري وبين يدي في جناتي، أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك، وتستدلون به على أحقيتي بالسلطة وفرض النظام، وتنظروا إلى فقر موسى

صفحة رقم 166

وضعفه هو وأتباعه عن مقاومتي؟
ونحو الآية فَحَشَرَ فَنادى، فَقالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى [النازعات ٧٩/ ٢٣- ٢٥].
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ، وَلا يَكادُ يُبِينُ أي بل أنا خير وأفضل بمالي من الملك والسلطة والسعة والجاه من هذا، أي موسى الذي هو ضعيف حقير ممتهن في نفسه، لا عزّ له، ولا يكاد يبين الكلام، لما في لسانه من العقدة. وهذا حكم عليه بما يعلم عنه في الماضي، دون أن يدري أن الله الكريم أزال عقدته، فقال تعالى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي إلى أن قال: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه ٢٠/ ٢٧- ٢٨ و٣٦] فقد كان أصاب لسانه في حال صغره شيء من اللكنة بسبب الجمرة التي تناولها، فسأل الله عز وجل أن يحل عقدة لسانه، ليفقهوا قوله، فاستجاب الله ذلك. والتعييب بالأشياء الخلقية التي ليست من فعل العبد خسّة ونقيصة في صاحبه الذي يعيب، فذلك لا يعاب به ولا يذم عليه. وفرعون، وإن كان يدرك هذا، لكنه أراد التزويج على رعيته الجهلة الأغبياء.
ثم استعلى فرعون على موسى بمظاهر الترف والملوك، ظنّا منه أن الرئاسة تلازم النبوة، فقال تعالى:
فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ أي فهلّا حلّي بأساور الذهب إن كان عظيما، أو هلّا ألقى عليه ربه أساور الذهب إن كان صادقا في نبوته، وهذا يشبه قول كفار قريش عن استحقاق عظيم القريتين النبوة.
أو جاء معه الملائكة متتابعين متقاربين إن كان صادقا، يعينونه على مهمته، ويشهدون له بالنبوة، فأوهم قومه أن الرسل لا بد أن يكونوا على هيئة

صفحة رقم 167

الجبابرة أو محفوفين بالملائكة، ونظر إلى الشكل الظاهر، ولم يدرك الجوهر المعنوي لحقيقة الرسل.
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي فاستهان بعقول قومه ورعيته، ودعاهم إلى الضلالة، فاستجابوا له، وأطاعوه فيما أمرهم به، وكذّبوا موسى، إنهم كانوا خارجين عن طاعة الله تعالى.
ثم جاء دور العقاب مما فعلوا، فقال تعالى:
فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ، فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ أي فلما أسخطونا وأغضبونا، انتقمنا منهم أشد الانتقام، فأغرقناهم جميعا في البحر، وإنما أهلكوا بالغرق ليناسب ما تفاخروا وتباهوا به وهو قوله: وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي.
أخرج أحمد والطبراني والبيهقي وابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا رأيت الله تبارك وتعالى يعطي العبد ما يشاء، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك استدراج منه له، ثم تلا صلّى الله عليه وسلّم: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ.
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ أي فجعلنا فرعون وقومه قدوة لمن عمل بعملهم من الكفار في استحقاق العذاب، وعبرة وعظة لمن يأتي بعدهم من الكافرين، أو قصة عجيبة تجري مجرى الأمثال.
فقه الحياة أو الأحكام:
يؤخذ من القصة ما يأتي:
١- إن هذه القصة تمثل صراع الجبابرة الطغاة أصحاب الثروة والمال مع أهل القيم الإنسانية والدينية الرشيدة ذوي الدخل المتوسط أو الفقراء، تشابهت حالة

صفحة رقم 168

فرعون مع موسى، مع حالة النبي صلّى الله عليه وسلّم مع كفار قريش أصحاب النفوذ والثراء.
اتفق الأنبياء كلهم على توحيد الإله، فكذب فرعون وقومه موسى عليه السلام، بالرغم من تدعيمه بالمعجزات وهي التسع آيات، فكانت عاقبتهم الإغراق بسبب التكذيب، ونجّى الله موسى وقومه بني إسرائيل، وجعلت العاقبة الحميدة له. وكذلك حصل الأمر مع النبي صلّى الله عليه وسلّم كذّبه قومه فأهلكهم الله، ونصر رسوله والمؤمنين بدعوته.
٢- كانت حيثيات الحكم ومسوغاته على فرعون وقومه هي الضحك والسخرية والاستهزاء من معجزات موسى عليه السلام، كالسنين (نقص الأنفس والزروع) ونقص الثمرات، والطوفان والجراد والقمّل والضفادع، وكانت هذه الآيات عذابا لهم وآيات لموسى.
وكانت المعجزات قوية التأثير، فما من آية إلا وهي أعظم من أختها- سابقتها- ومع ذلك لم يؤمنوا بها، فأخذهم الله بالعذاب على تكذيبهم بتلك الآيات.
ووصفوا موسى بأنه ساحر لما عاينوا العذاب، تعظيما له على حسب عادتهم في احترام السحرة، وكانوا يسمون العلماء سحرة، ويحتمل أنهم أرادوا به الساحر على الحقيقة على الاستفهام، فلم يلمهم على ذلك رجاء أن يؤمنوا، وطلبوا منه كشف العذاب عنهم بما أخبرهم عن عهد الله إليه أنهم إن آمنوا كشف عنهم، فقالوا: إنا لمهتدون فيما يستقبل.
فلما دعا فكشف الله عنهم الكرب والغم، عادوا إلى كفرهم، ونقضوا العهد والميثاق الذي جعلوه على أنفسهم، فلم يؤمنوا.
٣- وبعد أن حكى الله معاملة فرعون مع موسى، حكى أيضا معاملة فرعون مع ربه، فلما رأى آيات موسى خاف ميل القوم إليه، فجمع قومه، فقال،

صفحة رقم 169

ونادى بمعنى قال، فرفع صوته بينهم: يا قوم، أليس لي ملك مصر، لا ينازعني فيه أحد، وأنهار النيل تجري من تحت قصري، أفلا تبصرون عظمتي وقوتي وضعف موسى؟.
ثم صرح بحاله فقال: بل أنا خير من موسى المهين الحقير الضعيف، والذي لا يكاد يفصح كلامه بسبب العقدة التي كانت في لسانه بحسب علمهم السابق عنه، ومن لا بيان له ولا لسان كيف يكون نبيا؟! والرجل الفقير كيف يكون رسولا من عند الله إلى الملك الكبير الغني؟! ثم تعاظم فرعون وتغطرس واعتز بالثروة والملك والمال، فقال: هلا ألقي عليه أساور من ذهب، جريا على عادة الوقت وزيّ أهل الشرف، أو تأيد بجماعة من الملائكة يمشون معا متتابعين مقترنين إن كان صادقا يعاونونه على من خالفه؟ والمعنى: هلا ضم إليه الملائكة التي يزعم أنها عند ربه، حتى يتعزّز بهم ويستعملهم في أمره ونهيه، فيكون ذلك أهيب في القلوب.
فأوهم قومه أن رسل الله ينبغي أن يكونوا كرسل الملوك في المظاهر، ولم يعلم أن رسول الله إنما أيّدوا بالجنود السماوية، وكل إنسان عاقل يعلم أن حفظ الله موسى مع تفرده من فرعون مع كثرة أتباعه، وإمداد موسى بالعصا واليد البيضاء، كان أبلغ في التأييد من أن يكون له أسورة ذهب أو ملائكة أعوان وأدلة على صدقه.
٤- ثم حكى الله علاقة فرعون بقومه، فإنه استخف عقولهم واستجهلهم فأطاعوه لخفة أحلامهم وقلة عقولهم، إنهم كانوا فسقة خارجين عن طاعة الله تعالى.
٥- لما تجاوز فرعون وقومه الحدود القصوى، وأسخطوا الله وأغضبوه، عاجلهم بالانتقام الشديد، وأغرقهم الله في أليم.

صفحة رقم 170
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية