
والألمانية والروسية حتى تعرف الأمم كلها هذا الدين معرفة حقة خالية من الخرافات التي ألصقها به المبتدعون، ويعود سيرته الأولى، وما ذلك على الله بعزيز.
ثم وبخ مشركى قريش بأن ما هم عليه من عبادة الأصنام لم يأت فى شريعة من الشرائع فقال:
(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) أي واسأل أمم من أرسلنا من قبلك من الرسل: هل حكمنا بعبادة غير الله؟ وهل جاء ذلك فى ملة من الملل؟ والمراد بهذا الاستشهاد بيان إجماع المرسلين على التوحيد والتنبيه إلى أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس ببدع من بين الرسل فى الأمر به، حتى يكذّب ويعادى له.
وقصارى ذلك- إن الرسل جميعا دعوا إلى ما دعا إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام.
ونحو الآية قوله: «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ».
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤٦ الى ٥٦]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠)
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥)
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦)

تفسير المفردات
الآيات: هى المعجزات، وملئه: أي أشراف قومه، أخذناهم: أي أخذ قهر بالعذاب فأرسلنا عليهم الجراد والقمّل والضفادع، الساحر: أي العالم الماهر، بما عهد عندك: أي بما أخبرتنا من عهده إليك أنا إذا آمنا كشف عنا العذاب الذي نزل بنا، ينكثون: أي ينقضون العهد، من تحتى: أي من تحت قصرى وبين يدىّ فى جناتى، مهين: أي ضعيف حقير، يبين: أي يفصح عن كلامه. قال ابن عباس كانت بموسى لثغة فى لسانه (واللثغة بالضم: أن تصير الراء غينا أو لاما والسين ثاء وقد لثغ من باب طرب فهو ألثغ)، والأسورة: واحدها سوار كأخمرة وخمار، قال مجاهد: كانوا إذا سودوا رجلا سوّروه بسوارين وطوقوه بطوق من ذهب علامة سيادته، مقترنين: أي مقرونين به يعينونه على من خالفه، فاستخف قومه: أي استخف عقولهم فدعاهم إلى الضلال فاستجابوا له، آسفونا: أي أغضبونا وأسخطونا. قال الراغب: الأسف الحزن والغضب معا، وقد يقال لكل منهما على الانفراد. وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام، فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا، ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا وسلفا: أي قدرة لمن بعدهم من الكفار، مثلا: أي حديثا عجيب الشأن يسير سير المثل فيقول الناس مثلكم مثل قوم فرعون.

المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن كفار قريش طعنوا فى نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لكونه فقيرا عديم المال ولجاه- بين هنا أن موسى بعد أن أورد المعجزات الباهرة أورد فرعون هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش فقال: إنى غنى كثير المال عظيم الجاه، فلى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى، وموسى فقير مهين وليس له بيان ولا لسان، وهذا شبيه بما قاله كفار قريش وأيضا فإنه لما قال: واسأل من قد أرسلنا من قبلك من رسلنا- ذكر هنا قصة موسى وعيسى عليهما السّلام وهما أكثر الأنبياء أتباعا وقد جاءا بالتوحيد ولم يكن فيما جاءا به إباحة اتخاذ آلهة من دون الله.
ثم ذكر سبحانه أن فرعون قال: هلا ألقى ألى موسى مقاليد الملك فطوق بسوار من ذهب إن كان صادقا، زعما منه أن الرياسة من لوازم الرسالة، أو جاء معه جمع من الملائكة يعينونه على من خالفه، وأعقب هذا بأن ذكر أنه حين دعا قومه إلى تكذيب موسى فى دعواه الرسالة أطاعوه لضلالهم وغوايتهم، ولما لم نجد فيهم المواعظ غضبنا وانتقمنا منهم، وجعلناهم قدوة للكافرين، وضربنا بهم الأمثال للناس ليكونوا عبرة لهم.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي ولقد بعثنا موسى ومعه حججه الدالة على صدقه إلى فرعون وأشراف قومه، كما أرسلناك إلى هؤلاء المشركين من قومك، فقال لهم: إنى رسول من قبل الله إليكم، كما قلت أنت لقومك: إنى رسول الله إليكم.

فطالبوه بإحضار البينة على صدق دعواه كما يدل على ذلك قوله:
(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) أي فلما جاءهم بالأدلة على صدق قوله فيما يدعوهم إليه من توحيد الله وترك عبادة الآلهة- إذا فرعون وقومه يضحكون من تلك المعجزات، كما أن قومك يسخرون مما جئتهم به.
وفى هذا تسلية لرسوله على ما كان يلقاه من قومه المشركين، وإعلام له بأن قومه لن يعدوا أن يكونوا كسائر الأمم الذين كانوا على منهاجهم فى الكفر بالله وتكذيب رسله، وندب له أن يستن بسنة أولى العزم من الرسل فى الصبر على أذى أقوامهم وتكذيبهم لهم، وإخبار بأن عقبى أمرهم الهلاك كسنته فى الكافرين قبلهم، وظفره بهم، وعلوّ أمره كما فعل بموسى عليه السّلام وقومه الذين آمنوا به من إظهارهم على فرعون وملئه.
(وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) أي وما أرينا فرعون وملأه حجة من حججنا الدالة على صدق رسولنا فى دعواه الرسالة إلا كانت أعظم من سابقتها فى الحجية عليهم، وآكد فى الدلالة على صحة ما يأمر به من توحيد الله، ومعنى الأخوّة بين الآيات تشا كلها وتناسبها فى الدلالة على صحة نبوة موسى كما يقال هذه صاحبة هذه أي هما قرينتان فى المعنى.
ثم بين ما جوزوا به على تكذيبهم فقال:
(وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) أي وأنزلنا عليهم ألوانا من العذاب كنقص الثمرات والجراد والقمل والضفادع.
ثم بين العلة فى أخذه لهم بذلك وهو رجاء رجوعهم فقال:
(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي لكى يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان بالله وطاعته، والتوبة مما هم عليه مقيمون من المعاصي.
ولما عاينوا ما جاءهم به من الآيات البينات، والدلالات الواضحات- ظنوا أن ذلك من قبيل السحر.

(وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) أي وقالوا يا أيها العالم الماهر، وكانوا يسمون العلماء سحرة، ويوقرونهم ويعظمونهم ولم يكن السحر صفة ذم عندهم.
وقد يكونون نادوه بذلك فى تلك الحال، لشدة شكيمتهم، وفرط حماقتهم.
(ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي ادع لنا ربك ليكشف عنا العذاب بما أخبرتنا من عهده إليك، أنا إن آمنا به كشفه عنا.
(إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) أي إنا لمؤمنون بما جئت به إن حدث ذلك.
ونحو ذلك ما جاء فى سورة الأعراف من قولهم: «لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ».
ثم بين ما حدث منهم بعد دعوة موسى وكشف العذاب فقال:
(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أي فدعانا فكشفنا عنهم العذاب فلم يؤمنوا ونقضوا العهد، وقد كان هذا ديدنهم مع موسى، يعدونه فى كل مرة أن يؤمنوا به إذا كشف عنهم الرجز، ثم ينقضون ما عاهدوا الله عليه.
ونحو الآية ما جاء فى سورة الأعراف من قوله: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ».
ثم أخبر سبحانه عن تمرد فرعون وعتوّه وعناده فقال:
(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ: يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أي إنه جمع قومه ونادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها وجرى الأنهار المنبثقة من نهر النيل تحت قصوره وتحت جنانه وضياعه.

ثم أكد هذا بقوله:
(أَفَلا تُبْصِرُونَ؟) ذلك وتستدلون به على قوة ملكى وعظم قدرى وضعف موسى عن مقاومتى لما فيه من فقر وعىّ وحصر.
(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) أي بل أنا ولا شك خير بما لى من السعة فى المال والجاه والملك العريض- من هذا المهين الحقير الذي لا يكاد يفصح عما يريد، إذ كان فى لسانه حبسة فى صغره فعابه بها، وهو لا يعلم أن الله استجاب سؤله حين قال: «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي» فحل عقدة لسانه كما جاء فى قوله: «قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى».
قال الحسن البصري: إنه قد بقي منها شىء لم يسأل زواله، وإنما سأل زوال ما يمنع الإبلاغ والإفهام اه.
والأشياء الخلقية لا يعاب المرء بها ولا يذم، لكنه أراد الترويج على رعيته وصدهم عن الإيمان به.
ونحو الآية قوله: «فَحَشَرَ فَنادى. فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى».
ثم ذكر شبهة مانعة له من الرياسة، وهى أنه لا يلبس لبس الملوك، فلا يكون رئيسا ولا رسولا لتلازمهما فى زعمه فقال:
(فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) أي فهلا ألقى ربّ موسى عليه أساور من ذهب إن كان صادقا كما جرت عادتهم بذلك، وهذا شبيه بما قال كفار قريش فى عظيم القريتين.
ثم ذكر شبهة أخرى وهى أنه ليس له خدم من الملائكة تعينه فقال:
(أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) أي هلا جاء معه الملائكة متتابعين متقارنين إن كان صادقا، يعينونه على أمره، ويشهدون له بالنبوة، ويمشون معه، كما نفعل نحن

إذا أرسلنا رسولا فى أمر هامّ يحتاج إلى دفاع، وفيه خصام ونزاع- وهو بهذا أوهم قومه أن الرسل لا بد أن يكونوا على هيئة الجبابرة، أو يكونوا محفوفين بالملائكة.
ثم ذكر أن هذه الخدع قد انطلت عليهم، وسحرت ألبابهم، لغفلتهم وضعف عقولهم، فاعترفوا بربوبيته، وكذبوا بنبوة موسى فقال:
(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي فاستخف أحلامهم بقوله وكيده، وبما أبداه من عظمة الملك والرياسة، وجعلها مناطا للعلم والنبوة، وأنه لو كانت هناك نبوة لكان أولى بها، فأطاعوه فيما أمرهم، لأنهم كانوا قوما ذوى ضلال وغىّ ومن ثم أسرعوا إلى تلبية دعوة ذلك الفاسق الغوىّ.
ثم ذكر جزاءهم على ما اجترحوا من تكذيب رسوله على وضوح الدليل وظهور الحق فقال:
(فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) أي فلما أغضبونا بعنادهم وعظيم استكبارهم وبغيهم فى الأرض- انتقمنا منهم بعاجل عذابنا، فأغرقناهم جميعا.
وإنما أهلكوا بالغرق ليكون هلاكهم بما تعززوا به وهو الماء فى قوله: «وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي» :
وفى هذا إشارة إلى أن من تعزز بشىء دون الله أهلكه الله به.
أخرج أحمد والطبراني والبيهقي فى الشعب وابن أبى حاتم عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأيت الله يعطى العبد ما شاء وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك استدراج منه له، وقرأ: (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) ».
(فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) أي فجعلناهم قدوة لمن يعمل عملهم من أهل الضلال ككفار قومك.
(وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ) أي وعبرة وموعظة لمن يأتى بعدهم من الكافرين.