آيات من القرآن الكريم

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا ۚ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ
ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ

رَحِيمٌ
[هود ١١/ ٤١] فكم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحّمت «١» أو طاح من ظهرها فهلك، وكم من راكبين في سفينة انكسرت بهم فغرقوا «٢»..
والخلاصة: هناك أذكار ثلاثة ما ينبغي لعبد أن يدع قولها، وليس بواجب ذكرها في اللسان، وهي دعاء السفر في البحر: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها، إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ودعاء السفر في البر: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا..
ودعاء دخول المنازل: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ «٣».
عبادة المشركين الملائكة
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١٥ الى ٢٥]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)

(١) تقحم الفرس براكبه: ألقاه على وجهه.
(٢) تفسير القرطبي: ١٦/ ٦٧. [.....]
(٣) تفسير الرازي: ٢٧/ ١٩٨ وما بعدها.

صفحة رقم 127

الإعراب:
مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً أي من رجال عباده، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ وَجْهُهُ: إما اسم ظَلَّ أو بدل من ضمير مقدر فيها مرفوع، لأنه اسمها. ومُسْوَدًّا: خبرها، وَهُوَ كَظِيمٌ: جملة اسمية في موضع نصب على الحال.
أَمِ اتَّخَذَ.. أَمِ: بمعنى بل والهمزة، وتقديره: بل أأتخذ مما يخلق بنات، ولا يجوز أن يكون بمعنى «بل» بغير همزة، لأنه يؤدي التقدير إلى الكفر، وهو: بل اتخذ بنات.
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ مَنْ: إما في موضع نصب بتقدير فعل، أي أجعلتم من ينشأ، أو في موضع رفع، لأنه مبتدأ، وخبره محذوف أي كائن، وهو قول الفراء.
البلاغة:
إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ تأكيد بإن واللام وصيغة المبالغة على وزن فعول وفعيل.
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ أسلوب تهكمي يراد به التوبيخ، والتقريع، وبين لفظ «البنات» و «البنين» طباق.
المفردات اللغوية:
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً أي جعل المشركون بعد ذلك الاعتراف بأن الله هو الخالق، من عباده ولدا، حيث قالوا: الملائكة بنات الله، باعتبار أن الولد جزء من أبيه، والملائكة من عباد الله تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ قائل ما تقدم لَكَفُورٌ مُبِينٌ بالغ الكفر وظاهر الكفر.

صفحة رقم 128

أَمِ اتَّخَذَ بل أأتخذ، والهمزة، في أَمِ همزة الإنكار والتعجب، أو القول مقدر أي أتقولون: اتخذ وَأَصْفاكُمْ خصكم واختاركم، وهذا لازم من قولكم السابق ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أي جعل له شبها بنسبة البنات إليه، لأن الولد يشبه الوالد ظَلَّ صار مُسْوَدًّا متغيرا لما يعتريه من الكآبة، وقرئ: مسود ومسواد، على أن في ظَلَّ ضمير المبشر، ووَجْهُهُ مُسْوَدًّا: جملة واقعة موقع الخبر كَظِيمٌ ممتلئ غما وغيظا.
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ أي أو يجعلون لله من يتربى في الزينة؟ والهمزة همزة الإنكار، وواو العطف يعطف جملة: يجعلون لله.. إلخ الْخِصامِ الجدل والنقاش غَيْرُ مُبِينٍ غير مظهر الحجة لضعفه عنها وعجزه عن الجدل بالأنوثة. وفيه دلالة على فساد ما قالوه.
أَشَهِدُوا أحضروا خلق الله إياهم، فشاهدوهم إناثا؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ بأنهم إناث وَيُسْئَلُونَ عنها في الآخرة، فيعاقبون على شهادة الزور، وهو وعيد وَقالُوا: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما عبدنا الملائكة، فعبادتنا إياهم بمشيئته، فهو راض بها، أي إنهم استدلوا بنفي مشيئته عدم العبادة على امتناع النهي عنها أو على حسنها، وذلك باطل، لأن المشيئة ترجح بعض الممكنات على بعض، مأمورا كان أو منهيا، حسنا كان أو غيره، ولذلك حكم عليهم بالجهل بقوله تعالى: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي ليس لمقولهم من الرضا بعبادتهم أدنى علم بمراد الله إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أي ما هم إلا يكذبون فيه ويحدسون، فيعاقبون عليه.
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ أي هل أعطيناهم كتابا من قبل القرآن ينطق بصحة ما قالوه، ويقرر عبادة غير الله؟ مُسْتَمْسِكُونَ متمسكون بذلك الكتاب، والمعنى: لم يقع ذلك.
مُتْرَفُوها منعموها وأهل الترف فيها عَلى أُمَّةٍ ملة أو طريقة ومذهب مُقْتَدُونَ متبعون، قال البيضاوي: هذه الآية تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى.. ؟ أي قال لهم النذير نبيهم: أتتبعون ذلك ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟ وهذا حكاية أمر ماض أوحي إلى النذير قالُوا: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي قال الأقوام للنذير: إنا كافرون بما أرسلت به أنت ومن قبلك. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ قال الله: فانتقمنا من المكذبين للرسل قبلك عاقِبَةُ مصير ونهاية، فلا تكترث بتكذيبهم.
بسبب النزول:
نزول الآية (١٩) :
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ..: أخرج ابن المنذر عن قتادة قال: قال ناس من

صفحة رقم 129

المنافقين: إن الله صاهر الجن، فخرجت من بينهم الملائكة، فنزل فيهم:
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً...
نزول الآية (٢٢) :
بَلْ قالُوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا... حكى مقاتل أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأبي سفيان وأبي جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة من قريش، أي وكما قال هؤلاء فقد قال من قبلهم أيضا، يعزّي نبيه صلّى الله عليه وسلّم.
المناسبة:
بعد بيان اعتراف المشركين بأن الله خالق السموات والأرض، ذكر الله تعالى ما يناقض ذلك وهو ادعاؤهم أن الملائكة بنات الله، فلم يقتصروا أن جعلوا لله ولدا، وإنما جعلوه من الإناث ومن الملائكة، فرد تعالى عليهم بأجوبة ثلاثة:
نفرتهم من الإناث، وضعف الإناث، وجهلهم بحقيقة الملائكة.
ثم ذكر تعالى شبهة أخرى للمشركين: وهي أن عبادة الملائكة بمشيئة الله، ورد عليهم بأن المشيئة ترجيح بعض الأشياء على بعض، ولا دلالة فيها على الرضا والغضب أو الحسن والقبح، فهم جهلة كاذبون، وليس لهم دليل نقلي صحيح يعتمدون عليه إلا محض التقليد للآباء والأجداد، دون برهان معقول، وشأنهم في الكفر شأن من سبقهم من الأمم التي كذبت الرسل. فانتقم الله منهم وأهلكهم.
التفسير والبيان:
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً، إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أي إن المشركين بالرغم من اعترافهم بألوهية الله وكونه خالق السموات والأرض، أثبتوا له ولدا، إذ قالوا: الملائكة بنات الله، باعتبار أن الولد جزء من أبيه،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والحاكم عن المسور: «فاطمة بضعة مني»
إن الإنسان جحود نعم ربه جحودا

صفحة رقم 130

بيّنا، يقابل وضوح النعمة، فيكون الجحود من أبين الكذب. والآية متصلة بقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ...
وهذا من جهلهم بالله وصفاته، واستخفافهم بالملائكة حيث نسبوا إليهم الأنوثة، ونسبوهم إلى الله نسبة تقتضي نسبة الأضعف من نوعي الإنسان، فالله ليس كمثله شيء، فلا يشبهه أحد من خلقه، ونسبة الولد له تقتضي جعله مشابها للحوادث، فلا يصلح إلها، ولأن هذا الادعاء للجزء يجعل الله مركبا من أجزاء فهو حادث.
ثم أنكر تعالى عليهم أشد الإنكار، فقال:
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ؟ أي وإذا نسبتم الولد إلى الله،: لزم منه أن الله اتخذ ولدا له من أضعف الجنسين، واختار لكم الأفضل، وهذا يعني أنه جعل لنفسه المفضول من الصنفين، ولكن الفاضل منهما، فكيف يصح هذا مع أنه تعالى هو الخالق؟ وهذا كقوله تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم ٥٣/ ٢١- ٢٢] أي جائرة.
ومعنى قوله: أَمِ اتَّخَذَ... بل أأتخذ؟ الهمزة للإنكار تجهيلا لهم وتعجيبا من شأنهم حيث جعلوا ذلك الجزء أضعف الجزأين، وهو الإناث دون الذكور.
ثم ذكر الله تعالى تتمة الإنكار والتوبيخ والتعجيب، فقال:
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ أي وإذا بشر أحد هؤلاء المشركين بما جعل لله مشابها، وهو الأنثى، أنف من ذلك واغتم، وعلته الكآبة من سوء ما بشّر به، فصار وجهه متغيرا، وأضحى ممتلئا غيظا، شديد الحزن، كثير الكرب، فكيف تأنفون أنتم من البنت، وتنسبونها إلى الله عز وجل؟!.

صفحة رقم 131

وللآية شبيه تام هي قوله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى، ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ... الآية [النحل ١٦/ ٥٨- ٥٩].
ثم أكد الله تعالى الإنكار، فقال:
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ، وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ أي أو يجعل للرحمن من الولد من صفته أنه يتربى في الزينة والنعمة، وإذا احتاج إلى مخاصمة غيره لا يقدر على الجدال وإقامة الحجة؟ فلا بيان عنده، ولا يأتي ببرهان يدفع ما يجادل به خصمه، لنقصان عقله وضعف رأيه.
والآية دليل على رقة المرأة وغلبة عاطفتها عليها، وميلها إلى التزين والنعومة، وعلى أن التحلي بالذهب والحرير مباح للنساء، وأنه حرام على الرجال، لأنه تعالى جعل ذلك عنوانا على الضعف والنقصان، وإنما زينة الرجل: الصبر على طاعة الله، والتزين بزينة التقوى، كما قال الرازي.
ومن مفتريات المشركين عدا ما ذكر من نسبة الإناث إلى الله: زعمهم أن الملائكة إناث، كما قال تعالى:
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أي حكموا بأن الملائكة إناث، وهذا مترتب على قولهم السابق: الملائكة بنات الله.
فأنكر الله عليهم ورد مقالهم بقوله:
أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ، وَيُسْئَلُونَ أي هل حضروا وشاهدوا خلق الله إياهم حتى يشهدوا بأنهم إناث، كما قال تعالى: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً، وَهُمْ شاهِدُونَ؟ [الصافات ٣٧/ ١٥٠] ستكتب شهادتهم بذلك في ديوان أعمالهم، لنجازيهم على ذلك، ويسألون عنها يوم القيامة، فهي شهادة

صفحة رقم 132

زور. وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد بالعذاب، ودليل على أن الادعاء من غير برهان وإثبات جريمة.
واستدلّ بهذه الآية: هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ من قال بتفضيل الملائكة على البشر.
ثم أورد الله تعالى شبهة أخرى للمشركين، ولونا آخر من ألوان افتراءاتهم، فقال:
وَقالُوا: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ أي قال الكفار: لو أراد الله ما عبدنا هذه الملائكة، فإنه قادر على أن يحول بيننا وبين عبادة هذه الأصنام التي هي على صور الملائكة التي هي بنات الله، ويريدون بذلك القول أن الله راض عن عبادتهم للأصنام. وهو احتجاج بالقدر، وكلمة حق يراد بها باطل، لأن المشيئة لا تستلزم الأمر، إذ هي ترجيح بعض الممكنات على بعض بحسب علمه، والله يأمر بالخير والإيمان، ونحن لا نعلم مشيئته أو إرادته إلا بعد وقوع الفعل منا.
وقد جمعوا في هذا القول بين أنواع كثيرة من الخطأ والكفر كما ذكر ابن كثير:
١- جعلهم لله تعالى ولدا، تقدّس وتنزّه عن ذلك.
٢- دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين، إذ زعموا أن الملائكة بنات الله تعالى.
٣- عبادتهم لهم بلا دليل ولا برهان ولا إذن من الله عزّ وجلّ، بل بمجرد الأهواء وتقليد الأسلاف، وتخبّط الجاهلية.
٤- احتجاجهم بتقدير الله ذلك، وتقديرهم على طريقتهم قدرا، وهذا جهل شديد، فإن الله منذ أن بعث الرّسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته وحده

صفحة رقم 133

لا شريك له، وينهى عن عبادة سواه «١»، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [النّحل ١٦/ ٣٦]، وقال عزّ وجلّ: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزّخرف ٤٣/ ٤٥].
ونحو الآية: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا.
[الأنعام ٦/ ١٤٨]، أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس ٣٦/ ٤٧].
فردّ الله تعالى عليهم بقوله:
ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أي ليس لهم أي علم أو دليل بصحة ما قالوه واحتجّوا به، وما هم إلّا يكذبون فيما قالوا، ويتقولون، فإن الله يأمر بالحق والإيمان والخير، ولا يرضى لعباده الكفر والفحشاء. والآية دليل على جهلهم الفاضح، وكذبهم وافترائهم الباطل.
ثم أبطل الله تعالى قولهم بالدليل النقلي قائلا:
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ أي أأعطيناهم كتابا من قبل هذا القرآن ينطق بما يدّعون، مكتوبا فيه: اعبدوا غير الله؟ فهم يتمسكون بذلك الكتاب، ويحتجون به، أي ليس الأمر كذلك، كقوله تعالى: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم ٣٠/ ٣٥] أي لم يكن ذلك أصلا.
ثم ذكر الله تعالى: أنه لا حجّة لهم إلا التّقليد، فقال:
بَلْ قالُوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ بل إنهم

(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ١٢٥.

صفحة رقم 134

قالوا: لقد وجدنا آباءنا على طريقة ساروا عليها في عبادتهم الأصنام، وإنا سائرون على منهجهم مهتدون بهديهم. وهذا اعتراف صريح منهم بأنه ليس لهم مستند ولا حجّة عقلية ولا نقلية على الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد واتّباعهم في الضّلالة. وقولهم: وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ- أي وراءهم- مُهْتَدُونَ مجرد دعوى منهم بلا دليل.
ثم أبان الله تعالى تشابه الأمم في الكفر والتّقليد والمقالة، فقال:
وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ أي إن مقال هؤلاء قد سبقهم إليه أشباههم من الأمم السالفة المكذّبة للرّسل، فمثل تلك المقالة قال المترفون المنعّمون- وهم الرؤساء والزّعماء والجبابرة- من كل أمّة لرسولهم المرسل إليهم للإنذار من عذاب الله: إنّا وجدنا آباءنا على ملّة ودين، وإنّا على طريقتهم سائرون متبعون.
وخصص المترفين تنبيها على أن التّنعم هو سبب المعارضة وإهمال النّظر وترك التفكّر في مضمون الرّسالة الإلهية.
ونحو الآية قوله تعالى: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، أَتَواصَوْا بِهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذّاريات ٥١/ ٥٢- ٥٣].
وإنما قال أولا: مُهْتَدُونَ لادعاء الهداية كآبائهم، ثم قال ثانيا:
مُقْتَدُونَ حكاية عن قوم تابعوا آباءهم في فعلهم، دون ادّعاء الهداية، والمعنى تقريبا واحدا.
وهذا تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتنبيه على أنّ التّقليد في الاعتقاد والعبادة ضلال قديم.

صفحة رقم 135

ثم ذكر تعالى جواب الرّسل لأقوامهم عن التّقليد، قائلا:
قالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ أي قال لهم رسولهم:
أتتبعون آباءكم، ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟! فأجابوه معلنين كفرهم صراحة، في قوله تعالى:
قالُوا: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي قالوا: لا نعمل برسالتك، ولا سمع لك ولا طاعة، وإنا كافرون جاحدون بما أرسلتم به، ومستمرون ثابتون على دين الآباء والأسلاف. والمراد أنهم لو علموا وتيقّنوا صحة ما جئتهم به أيها الرّسول، لما انقادوا لذلك، لسوء قصدهم، ومكابرتهم للحقّ وأهله. وقوله: بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ يعني بكل ما أرسل به الرّسل، فالخطاب للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، ولفظه لفظ الجمع، لأن تكذيبه تكذيب لمن سواه.
وما بعد الإصرار على الكسر إلا النّقمة والإهلاك، فقال تعالى:
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي فانتقمنا من الأمم المكذّبة للرّسل بأنواع من العذاب، كعذاب قوم نوح وعاد وثمود، فانظر أيها المخاطب كيف كان مصير أمر المكذبين من تلك الأمم كيف بادوا وهلكوا، وإن آثارهم موجودة، وعبرة للنّاظر المعتبر. وهذا وعيد وتهديد لأهل مكة، وسلوة للرّسول، وإرشاد له إلى عدم الاكتراث بشأن قومه من رسالته.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي:
١- للمشركين افتراءات كثيرة، منها هنا: نسبة البنات إلى الله تعالى، فقالوا: الملائكة بنات الله، فجعلوهم جزءا له وبعضا، كما يكون الولد بضعة من والده وجزء له. وقد عجّب الله المؤمنين من جهلهم، إذ أقرّوا بأن خالق السموات

صفحة رقم 136

والأرض هو الله، ثم جعلوا له شريكا أو ولدا، ولم يعلموا أن من قدر على خلق السموات والأرض لا يحتاج إلى شيء يعتضد به أو يستأنس به، لأن هذا من صفات النّقص، كما أبان القرطبي.
ومن افتراءاتهم المذكورة في سورة أخرى: جعلهم بعض الأنعام لطواغيتهم (الأوثان) وبعضها لله تعالى، كما حكى تعالى عنهم قائلا: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً، فَقالُوا: هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ، وَهذا لِشُرَكائِنا، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ، فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ [الأنعام ٦/ ١٣٦].
٢- ومن افتراءاتهم أنهم جعلوا له من الأولاد الأقل والأضعف وهو البنات.
٣- وبّخهم الله تعالى على افتراءهم ذاكرا أنه كيف يتّخذ البنات- كما زعموا أن الملائكة بنات الله- واختصّهم وأخلصهم بالبنين؟! ٤- لم يعقل المشركون ما افتروه على الله في نسبتهم البنات له، فإنهم لا يرضونه لأنفسهم، فإنه إذا بشّر الواحد منهم بولادة بنت له، اسودّ وجهه غمّا وكدرا، وأنف من نسبة البنت له، وأضحى حزينا مكروبا، فكيف ينسب إلى الله ما هو نافر منه؟! ومن أجاز أن تكون الملائكة بنات الله، فقد جعل الملائكة شبها لله، لأن الولد من جنس الوالد وشبهه، ومن اسودّ وجهه مما ينسب إليه مما لا يرضى، أولى من أن يسودّ وجهه بنسبة ذلك إلى من هو أجلّ منه، فكيف إلى الله عزّ وجلّ؟! ٥- وكيف يصح أن يجعل الله له من لا همّ له إلا الحلي والزّينة، وإذا خوصم لا يقدر على الدّفاع عن نفسه؟

صفحة رقم 137

وفي هذه الآية دلالة- كما تقدّم- على إباحة الحلي للنّساء، وتحريمه على الرجال، وهو حكم مجمع عليه ثابت بأخبار كثيرة.
٦- أوضح الله تعالى كذب المشركين وجهلهم في نسبة الأولاد إلى الله سبحانه، ثم في تحكمهم بأن الملائكة إناث، وهم بنات الله، وحكمهم من غير دليل بأنهم إناث، فكيف تجرؤوا حتى حكموا بأنهم إناث، ولم يحضروا حالة خلقهم؟! إن شهادتهم الباطلة هذه مكتوبة عليهم في ديوان أعمالهم، ويسألون عنها في الآخرة.
٧- ومن شبه المشركين المفتراة احتجاجهم بالقدر الإلهي، فقالوا على سبيل الاستهزاء والسخرية: لو شاء الرّحمن على زعمكم أيها المؤمنون ما عبدنا هذه الملائكة، والله أمرنا بهذا أو رضي لنا ذلك، ولهذا لم يعاجلنا بالعقوبة. وهذه كلمة حقّ أريد بها باطل، فإن كل شيء بإرادة الله، وعلمه نافذ لا محالة، لكن الإرادة أو المشيئة لا تقتضي الأمر والرّضا وليس الأمر والإرادة متطابقين، ولا نعلم مراد الله، فكان علينا العمل بأمره ونهيه، وليس لقولهم: الملائكة بنات الله أي دليل علمي، وما هم إلّا يحدسون ويكذبون، فلا عذر لهم في عبادة غير الله عزّ وجلّ. وقوله: هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ يفيد حصر العبودية في الملائكة، وذلك يدلّ على الفضل والشّرف، مما يوجب كونهم أفضل من غيرهم.
٨- كذلك ليس لهم دليل نقلي على زعمهم، ولا كتاب لديهم بما ادّعوه قبل هذا القرآن.
٩- لا دليل للمشركين على شركهم إلا التّقليد الأعمى لآبائهم وأسلافهم، وهم لما عجزوا عن الدّليل لم يجدوا بدّا من الاعتماد على تقليد الآباء، قائلين بأنهم وحدوهم على تلك الملّة أو الطّريقة والمذهب، فقلّدوهم واهتدوا بهديهم.

صفحة رقم 138
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية