
الحارث بْنُ رِبْعِيٍّ، وَمُحَلَّمُ بْنُ جَثَّامَةَ بْنِ قَيْسٍ اللَّيْثِيُّ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَطْنِ إِضَمَ، مَرَّ بِنَا عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيُّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ، مَعَهُ مُتَيْعٌ وَوَطْبٌ مِنْ لَبَنٍ «١»، فَلَمَّا مَرَّ بِنَا سَلَّمَ عَلَيْنَا بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، فَأَمْسَكْنَا عَنْهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلَّمُ بْنُ جَثَّامَةَ لِشَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ بَعِيرَهُ وَمُتَيْعَهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا الْآيَةَ. وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَدْرَدٍ هَذَا:
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لمحلم: أقتلته بعد ما قَالَ آمَنْتُ بِاللَّهِ؟ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ:
أَنَّ مُحَلَّمًا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَقَالَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، فَقَامَ وَهُوَ يَتَلَقَّى دُمُوعَهُ بِبُرْدَيْهِ، فَمَا مَضَتْ بِهِ سَاعَةٌ حَتَّى مَاتَ وَدَفَنُوهُ فَلَفَظَتْهُ الأرض، فجاؤوا إلى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّ الْأَرْضَ تَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ صَاحِبِكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يَعِظَكُمْ، ثُمَّ طَرَحُوهُ فِي جبل وألقوا عليه الحجارة، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ: أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ قَتَلَ رَجُلًا بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَفِي سَبَبِ النُّزُولِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَحْسَنُهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ قَالَ: تَسْتَخْفُونَ بِإِيمَانِكُمْ كَمَا اسْتَخْفَى هَذَا الرَّاعِي بِإِيمَانِهِ، يعني: الذي قَتَلُوهُ بَعْدَ أَنْ أَلْقَى إِلَيْهِمُ السَّلَامَ. وَفِي لَفْظٍ: تَكْتُمُونَ إِيمَانَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فَأَعْلَنْتُمْ إِيمَانَكُمْ فَتَبَيَّنُوا قَالَ: وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ ثَانٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ قَالَ: كُنْتُمْ كُفَّارًا حَتَّى مَنَّ الله عليكم بالإسلام وهداكم له.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٩٥ الى ٩٦]
لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦)
التَّفَاوُتُ بَيْنَ دَرَجَاتِ مَنْ قَعَدَ عَنِ الْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَدَرَجَاتِ مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا، لَكِنْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ بِهَذَا الْإِخْبَارِ: تَنْشِيطَ الْمُجَاهِدِينَ لِيَرْغَبُوا، وَتَبْكِيتَ الْقَاعِدِينَ لِيَأْنَفُوا.
قَوْلُهُ: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِلْقَاعِدِينَ كَمَا قَالَ الْأَخْفَشُ، لِأَنَّهُمْ لَا يُقْصَدُ بِهِمْ قَوْمٌ بِأَعْيَانِهِمْ، فَصَارُوا كَالنَّكِرَةِ، فَجَازَ وَصْفُهُمْ بِغَيْرٍ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: بِكَسْرِ الرَّاءِ، عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ: بِفَتْحِ الرَّاءِ، عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْقَاعِدِينَ، أو من المؤمنين،
سقاء اللبن.

أَيْ: إِلَّا أُولِي الضَّرَرِ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَوُونَ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: مُنْتَصِبًا، عَلَى الْحَالِ مِنَ الْقَاعِدِينَ، أَيْ: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ الْأَصِحَّاءُ فِي حَالِ صِحَّتِهِمْ، وَجَازَتِ الْحَالُ مِنْهُمْ: لَأَنَّ لَفْظَهُمْ لَفْظُ الْمَعْرِفَةِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَهْلُ الضَّرَرِ: هُمْ أَهْلُ الْأَعْذَارِ، لِأَنَّهَا أَضَرَّتْ بِهِمْ حَتَّى مَنَعَتْهُمْ عَنِ الْجِهَادِ، وَظَاهِرُ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ:
أَنَّ صَاحِبَ الْعُذْرِ يُعْطَى مِثْلَ أَجْرِ الْمُجَاهِدِ- وَقِيلَ: يُعْطَى أَجْرَهُ مِنْ غَيْرِ تَضْعِيفٍ، فَيَفْضُلُهُ الْمُجَاهِدُ بِالتَّضْعِيفِ لِأَجْلِ الْمُبَاشَرَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا مَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا وَلَا سِرْتُمْ مَسِيرًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ أُولَئِكَ قَوْمٌ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ». قَالَ: وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ: «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى اكْتُبُوا لِعَبْدِي مَا كَانَ يَعْمَلُهُ فِي الصِّحَّةِ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ أَوْ أَقْبِضَهُ إِلَيَّ».
قَوْلُهُ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً هَذَا بَيَانٌ لِمَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ التَّفَاضُلِ الْمَفْهُومِ مِنْ ذِكْرِ عَدَمِ الِاسْتِوَاءِ إِجْمَالًا، وَالْمُرَادُ هُنَا: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَقَالَ هُنَا:
دَرَجَةً، وَقَالَ فِيمَا بَعْدُ: دَرَجاتٍ فَقَالَ قَوْمٌ: التَّفْضِيلُ بِالدَّرَجَةِ ثُمَّ بِالدَّرَجَاتِ إِنَّمَا هُوَ مُبَالَغَةٌ وَبَيَانٌ وَتَأْكِيدٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ مِنْ أُولِي الضَّرَرِ بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ مِنْ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ بِدَرَجَاتٍ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمَا وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى دَرَجَةً:
عُلُوًّا، أَيْ: أَعْلَى ذكرهم، ورفعهم بالثناء والمدح. ودرجة: مُنْتَصِبَةٌ عَلَى التَّمْيِيزِ أَوِ الْمَصْدَرِيَّةِ، لِوُقُوعِهَا مَوْقِعَ الْمَرَّةِ مِنَ التَّفْضِيلِ، أَيْ: فَضَّلَ اللَّهُ تَفْضِيلَهُ، أَوْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَوْ عَلَى الْحَالِيَّةِ من المجاهدين، أي: ذوي درجة. قوله: وَكُلًّا مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِقَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ قُدِّمَ عَلَيْهِ لِإِفَادَتِهِ الْقَصْرَ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ وَعَدَهُ اللَّهُ الْحُسْنَى، أَيْ: الْمَثُوبَةَ، وَهِيَ الْجَنَّةُ. قَوْلُهُ: أَجْراً هُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ وَقِيلَ: عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، لِأَنَّ فَضَّلَ، بِمَعْنَى: آجَرَ، فالتقدير: آجرهم أجرا وقيل: مفعول ثان لفضل، لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْإِعْطَاءِ وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَقِيلَ: عَلَى الْحَالِ مِنْ دَرَجَاتٍ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا، وَأَمَّا انْتِصَابُ دَرَجَاتٍ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً: فَهِيَ بَدَلٌ مِنْ أَجْرًا وَقِيلَ: إِنَّ مَغْفِرَةً وَرَحْمَةً نَاصِبُهُمَا أَفْعَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ: غَفَرَ لَهُمْ مَغْفِرَةً، وَرَحِمَهُمْ رَحْمَةً.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْلَى عَلَيْهِ لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَجَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ يُمْلِيهَا عَلَيَّ فَقَالَ: يَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ، وَكَانَ أَعْمَى، فَأَنْزَلَ الله على رسوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ هَذَا الْمَعْنَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ عَنْ بَدْرٍ وَالْخَارِجُونَ إِلَى بَدْرٍ. وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ أَيْضًا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانَتْ تشغلهم