
إشاعة الأخبار الكاذبة
إن الأمة المتماسكة في جبهتها الداخلية أمة قوية واعية منصورة، وأما الأمة المفككة التي لا رابطة تربط بين أفرادها أمة ضعيفة مهزومة. وقد حذر القرآن الكريم من تمزق الأمة وإشاعة الأخبار الكاذبة والدعايات المغرضة التي تفرق ولا تجمع، وتسيء ولا تحسن، وتخدم العدو وتحقق أهدافه الخبيثة، ولا بد حينئذ من وعي شامل، وقيادة حازمة، وتجاوز لمرحلة الضعف والانهزام الداخلي، وذلك بالإقدام على الجهاد، وتحريض المؤمنين على القتال، لاستئصال أنشطة المتخاذلين الجبناء الذين ينافقون ويكيدون لأمتهم في السر والخفاء.
قال الله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤)
«١» «٢» «٣» «٤» [النساء: ٤/ ٨٣- ٨٤].
إن الآية الأولى في المنافقين، ونازلة في سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعوثه إلى الأعداء، فقد كان جماعة من المنافقين أو ضعفاء المؤمنين يشيعون الأخبار الكاذبة حول بعوث النبي، فإذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أمن وسلامة، أو خوف وخلل، أذاعوا به، وكانت إذاعتهم مفسدة للرأي العام. وهذا النوع من النشاط فيما يتعلق بالحروب تخريب وتهديم داخلي، سواء بقصد سيء كما يفعل المنافقون، أو بقصد حسن كما يفعل عامة الناس، لذا أرشدنا القرآن الكريم إلى أن الأمور التي تتعلق بالأمن أو الخوف يجب أن يترك الحديث فيها إلى قائد الأمة أو رئيس
(٢) يستخرجونه من النصوص. [.....]
(٣) نكاية وبطش.
(٤) أشد تعذيبا.

الدولة، أو لأهل الحل والعقد والخبرة والرأي في الأمة، فهم أدرى الناس بها وبالكلام فيها.
ذلك أن الأخبار الشائعة إما أن تكون صحيحة أو كاذبة، وترويج الكذب حرام مثل اختلاق الكذب تماما،
روى مسلم في صحيحة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكل ما سمع»
وفي الصحيح: «من حدّث بحديث، وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين».
ونهى الرسول صلّى الله عليه وسلّم أيضا في حديث متفق عليه عن قيل وقال، أي الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس، من غير تثبت ولا تدبر ولا تبين أو تحقق.
وفي سنن أبي داود: «بئس مطية الرجل: زعموا».
إن التحدث بكل ما يسمع الإنسان، ونقل الأخبار من غير تثبت أمر ضار بالدولة والأمة، لذا أوجب القرآن ترك التحدث عن أحوال السلم والحرب إلى المسؤولين والمستشارين والخبراء، وعقبت الآية على ذلك بأنه لولا فضل الله عليكم ورحمته بكم أيها المؤمنون إذ هداكم لطاعة الله والرسول، ووفقكم للرجوع إلى المصدر العلمي الصحيح، لولا ذلك لاتبعتم ووساوس الشيطان، وتورطتم في إشاعة ما يضر بالمصلحة العامة.
ثم حسم الله تعالى في الآية الثانية: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أمر الله باتخاذ القرار في الجهاد، وأمر نبيه بأن يقاتل في سبيل الله وامتثال أوامره، ولو بنفسه أو وحده إذا أراد الظفر بالأعداء، فلا تكلف أيها الرسول إلا بفعل نفسك فقط، وتطالب بتحريض المؤمنين على القتال، دون تعنيفهم ولا توبيخهم، وليس المقصود من الآية أن يفرض القتال على النبي صلّى الله عليه وسلّم وحده دون الأمة، وإنما المراد أن يستشعر كل مجاهد أنه يجاهد ولو وحده كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي».
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقت الردة: «ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي».

وهذا التصميم من قائد الأمة ينعكس أثره الحماسي الطيب على الجيش، فيقدم ولا يحجم، ويتفانى ويضحي ويسجل أرفع البطولات، ولا ينهزم أو يتردد. وحينئذ يكون النصر الإلهي، كما جاء في الآية: عسى الله أن يرد عنك أيها النبي بأس (أي شدة وقوة) الذين كفروا وهم قريش، والله أشد بأسا أي قوة، وأشد تنكيلا أي تعذيبا ومعاقبة، وهو قادر عليهم في الدنيا والآخرة، لكفرهم وجرأتهم على الحق، وقد تحقق ذلك فعلا فقد كان النصر لنبي الله وصحبه حينما خرج في بدر الصغرى في السنة الثالثة بعد غزوة أحد، ومعه سبعون فقط، فلما سمع أبو سفيان قائد قريش بخروج النبي، رجع من الطريق، وعاد إلى مكة، وتحقق النصر للمؤمنين، وصرفه الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
الشفاعة والتحية
يتكل الناس عادة بعضهم على بعض في كثير من الأمور، لا سيما في طلب الحوائج والوظائف أو في القيام بعمل من الأعمال أو التفكير في تحقيق مشروع من المشروعات، ويهملون في أغلب الأحوال طلب النصرة والعون من الله تعالى، والله سبحانه هو الذي ينبغي الاعتماد عليه في كل شيء، وتفويض جميع الأمور إليه بعد اتخاذ الأسباب العادية من جدّ واجتهاد، وأداء عمل، وقيام بفعل، أما إنجاز النتائج وتحقيق الغايات فمتروك للفاعل المؤثر في الحياة وهو الله عز وجل.
وفي الاتكال على البشر ونسيان جانب الله: صنوف من المذلة والهوان أحيانا، والتماس الحلول بالوساطة أو الشفاعة غير المشروعة أحيانا أخرى، ذلك أن الشفاعة أو التوسط في أمر ما نوعان: شفاعة حسنة وشفاعة سيئة، والشفاعة الحسنة: ما كانت فيما استحسنه الشرع ورضيه، ولا ضرر فيه لآخرين، والشفاعة السيئة: ما كرهه الشرع أو حرمه ونهى عنه، وكان فيه ضرر للناس.