وقال ابن عباس في رواية الكلبي عنه في هذه الآية: أفلا يتفكرون في القرآن فيرون بعضه يُشبه بعضًا، ويصدق بعضه بعضًا، وأن أحدًا من الخلائق لم يكن يقدر عليه، فيسلمون بذلك أنه من عند الله، إذ لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا أي تفاوتًا وتناقضًا كثيراً (١).
فجعل الاختلاف في هذا القول اختلاف التناقض.
٨٣ - وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ الآية (٢) المفسرون وأرباب المعاني فوضى مختلفون في هذه الآية، ولا تكاد ترى لأحدهم متفق الصدر والعجز في معناها، وسأبين ما هو الأوفق والأليق إن شاء الله.
قال أبو بكر محمد بن القاسم (٣): نزلت هذه الآية في قوم كانوا يُرجفون بسرايا رسول الله - ﷺ - وُيخبرون بما وقع بها وبما أدركت ولحقت، قبل أن يُخبر به النبي - ﷺ - فيضعفون قلوب المؤمنين ويؤذون النبي - ﷺ - سبقهم إياه بالأخبار، فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ أي أبدوه وأظهروه قبل إبداء الرسول إياه إلا قليلًا منهم ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ أي أولي أمر السرايا، حتى يكون النبي - ﷺ - والأمراء هم الذين يُخبرون به ﴿لَعَلِمَهُ﴾ كل طالب علمه، واستغنوا بذلك عن الإخبار بما يغم رسول الله - ﷺ - ويؤذي المسلمين (٤).
(٢) جعلت هنا تفسير الآية (٨٣) الذي كان مقدمًا في المخطوط على تفسير الآية (٨٢).
(٣) ابن الأنباري.
(٤) لم أقف عليه عن ابن الأنباري.
وهذا الذي قاله أبو بكر معنى صحيح عليه كثير من المفسرين (١)، وأذكر من أقوالهم ما وافق هذا المعنى.
قال ابن عباس: هذا في الأخبار، إذا غزت السرية من المسلمين أخبروا الناس عنها، فقالوا: أصاب المسلمين من عدوهم كذا وكذا، فأفشوه بينهم (٢).
وقال (السدي) (٣): نزل هذا في أصحاب الأخبار والأراجيف كانوا إذا سمعوا من النبي خبرًا أفشوه حتى يبلغ العدو فيأخذ حذره، وكذلك كانوا يصنعون إذا كانوا غزاةً في السرايا (٤).
وقال الكلبي: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ﴾ يعني المناِفقين ﴿أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ﴾ حديث فيه أمن ﴿أَوِ الْخَوْفِ﴾ يعني الهزيمة ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾ أفشوه، ولو سكتوا عنه حتى يكون الرسول هو الذي يُفشيه، أو أولو الأمر مثل أبي بكر وعمر وعلي، ويقال أمراء السرايا ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ يتبعونه، ويقال: يطلبون علم ذلك (٥).
قال: وكان رسول الله - ﷺ - إذا بعث سرية فغلبت أو غُلبت تحدثوا بذلك وأفشوه، ولم يقفوا في ذلك حتى يكون رسول الله يخبرهم، فأنزل
(٢) أخرجه بمعناه من طريق العوفي ومن طريق ابن جريج الطبري ٥/ ١٨٢ - ١٨٣، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ١٤٥، "الدر المنثور" ٢/ ٣٣٣ - ٣٣٤.
(٣) الكلمة بين القوسين غير واضحة تمامًا في المخطوط، وما أثبته محتمل.
(٤) أخرجه بمعناه الطبري ٥/ ١٨٢ - ١٨٣، وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" ٢/ ٣٣٣ - ٣٣٤.
(٥) بنحوه في "بحر العلوم" ١/ ٣٧١، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ٩١.
الله: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ﴾. ونحو هذا قال مقاتل (١).
فهذه الأقوال التي ذكرنا توافق المعنى الذي ذكره أبو بكر وتقاربه.
فأما سوق الألفاظ على هذا التفسير، فقوله: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ﴾ يعني المنافقين في قول أكثرهم (٢).
قال الزجاج: وكان ضعفة من المسلمين يُشيعون ذلك معهم من غير علم منهم بالضرر في ذلك (٣). وهذا قول الحسن أيضًا (٤).
والسدي أبهم الأمر فقال: نزل في أصحاب الأخبار (٥).
فاحتمل أن يكونوا من المنافقين وأن يكونوا من المسلمين.
ومعنى ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ﴾ إذا وقع إليهم وانتهى إليهم هذا الخبر الذي هو أمر ﴿مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾ من جهة استخبار وتجسس في معنى قول المفسرين إلا في قول السدي، فإنه قال: كانوا إذا سمعوا من النبي - ﷺ - خبرًا (٦). فعلى قوله يجيئهم الخبر بالسماع عن النبي - ﷺ -، وعلى قوله لا يجوز أن يكونوا كاذبين بأن كان ما وقع إليهم من الخبر كذبًا، فقد قال ابن عباس: أفشوه بينهم من غير أن يكون شيء من ذلك (٧).
(٢) هذا قول ابن زيد والضحاك وغيرهما. انظر: الطبري ٥/ ١٨٢ - ١٨٣، "بحر العلوم" ١/ ٣٧١، "الكشف والبيان" ٤/ ٩٢ أ، و"النكت والعيون" ١/ ٥١١.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٨٣.
(٤) "النكت والعيون" ١/ ٥١١.
(٥) انظر: "الدر المنثور" ٢/ ٣٣٣ - ٣٣٤.
(٦) انظر: "الدر المنثور" ٢/ ٣٣٣ - ٣٣٤.
(٧) أخرجه الطبري ٥/ ١٨٢ - ١٨٣ من طريق ابن جريج، وانظر: "الدر المنثور" ٢/ ٣٣٣ - ٣٣٤.
وقوله: ﴿أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾. مضى فيه كلام المفسرين.
وقال الحسن: من السلم أو الحرب (١).
وقوله تعالى: ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾. الذيع أن يشيع الأمر (٢). قال الفراء: يقال: ذاع الشيء يذيع ذيعانًا وذيعًا وذيوعًا (٣).
وقال أبو زيد: أذعتُ الأمر وأذعت به (٤). ونحو ذلك قال الكسائي وأبو عبيدة (٥) وأنشد.
أذاع به في الناس حتى كأنه | بعلياء نار أوقدت بثقوب (٦) |
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ﴾.
أي ردوا الأمر من الأمن أو الخوف (٨). وتأويله: فوضوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر (٩).
(٢) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٦٢ (ذاع)، وانظر: "الصحاح" ٣/ ١٢١١ (ذيع).
(٣) ليس في "معاني القرآن"، ويحتمل وجوده في كتابه "المصادر"، وهو مفقود.
(٤) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٦٢ (ذاع).
(٥) "مجاز القرآن" ١/ ١٣٣، وانظر: الطبري ٥/ ١٨٢ - ١٨٣.
(٦) البيت لأبي الأسود الدؤلي كما في "المجاز" ١/ ١٣٣، والطبري ٥/ ١٨٢ - ١٨٣، وفي "معاني الزجاج" ٢/ ٨٣ دون نسبة.
قال أبو عبيدة عقبه: "يقال: أثقب نارك، أي أوقدها حتى تضيء" ويقصد أبو الأسود بهذا البيت صديقًا له أفشى له سرًا، والمعنى: أشاع هذا السر وأظهره حتى صار كالنار الموقدة في مكان عال يراها كل مار.
(٧) أخرجه الطبري ٥/ ١٨٢ - ١٨٣، لكن بلفظ: "سارعوا به وأفشوه".
(٨) انظر: الطبري ٥/ ١٨٢ - ١٨٣، و"زاد المسير" ٢/ ١٤٦.
(٩) انظر: الطبري ٥/ ١٨٢ - ١٨٣، و"معاني الزجاج" ٢/ ٨٣، و"الكشف والبيان" ٤/ ٩٢ أ.
وفي أولي الأمر قولان ذكرتهما (١) في حكايته قول الكلبي، أحدهما اختيار الزجاج؛ لأنه قال: إلى ذوي العلم والرأي منهم (٢).
والثاني اختيار الفراء؛ لأنه قال: لو ردوه إلى أمراء السرايا (٣).
وقوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ﴾ يعني من هؤلاء المرجفين. وجعل أمراء السرايا وذوي العلم منهم من حيث الظاهر. وقد مضى مثل هذا في آيتين، وذكرنا الكلام هناك، إحدى الآيتين قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ﴾ [النساء: ٧٢] والثانية قوله معنى (٤) ﴿مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ [النساء: ٦٦].
وقوله تعالى: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾.
معنى الاستنباط في اللغة الاستخراج، يقال: استنبط الفقيه، إذا استخرج الفقه الباطن باجتهاده وفهمه. وأصله من النبط وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما يُحفر. يقال من ذلك: أنبط في غضراء (٥) أي استنبط الماء في طين حر.
قال: والنبط (٦) إنما سموا نبطًا لاستنباطهم ما يخرج من الأرضين. هذا كلام الزجاج (٧).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٨٣.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٢٧٩.
(٤) لعل الصواب: "تعالى".
(٥) الغضراء: "طينة خضراء علكة" "الصحاح" ٢/ ٧٧٠ (غضر).
(٦) "النبط والنبيط: قوم ينزلون بالبطائح بين العراقين، والجمع أنباط". "الصحاح" ٣/ ١١٦٢ (نبط).
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٨٣، وانظر: الطبري ٥/ ١٨٢ - ١٨٣، و"إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٤٣٨، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٩٧، و"الصحاح" ٣/ ١١٦٢ (نبط) و"زاد المسير" ٢/ ١٤٧، و"اللسان" ٧/ ٤٣٢٥ (نبط).
وقال الفراء: ينبطونه مثل يستنبطونه، ونبط الماء ينبط وينبط نبوطًا والأنباط الذين استنبطوا الماء من الأرض (١).
وقال ابن الأعرابي: يقال للرجل إذا كان يعدُ ولا يُنجز: فلان قريب الثرى بعيد النبط (٢).
وقال غيره: يقال ذلك إذا وصف بالعز والمنعة، حتى لا يجد عدوه سبيلًا إلى أن يهضمه (٣). قال كعب بن سعد الغنوي (٤):
قريب ثراه ما ينال عدوُّه | له نبطًا أبي الهوان قطوبُ (٥) |
فأما قول أهل التأويل، فقال الضحاك: ﴿يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ يتبعونه (٦).
وقال عكرمة: الذين يحرصون عليه ويسألون عنه (٧).
(٢) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٩٧ (نبط).
(٣) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٩٧ (نبط).
(٤) هو كعب بن سعد بن عمرو بن عقبة الغنوي، شاعر جاهلي مجيد، وقيل: أدرك الإسلام، وهو من أصحاب المراثي. انظر: "طبقات الشعراء" ص ٤٨، و"الأعلام" ٥/ ٢٢٧.
(٥) البيت في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٩٧، و"الصحاح" ٣/ ١١٦٢ (نبط) دون نسبة. ونسب لكعب في "أساس البلاغة" ٢/ ٤١٦، و"اللسان" ٧/ ٤٣٢٥ (نبط)، و"الصحاح" و"اللسان": "عند" بدل قوله: "أبي".
ومعنى: قريب ثراه: أي قريب خبره، انظر: "اللسان" ١/ ٤٨٠ (ثرا).
وقطوب: من القطوب وهو كناية عن الغضب والعبوس. انظر: "اللسان" ٦/ ٣٦٦٧ (قطب).
(٦) أخرجه الطبري ٥/ ١٨٢ بلفظ: "يتتبعونه" وذكره في "الكشف والبيان" ٤/ ١٢ و"معالم التنزيل" ٢/ ٢٥٥.
(٧) "الكشف والبيان" ٤/ ٩٢ أ، و"معالم التنزيل" ٢/ ٢٥٥.
وقال مجاهد: هو قولهم: ماذا كان؟، وماذا سمعتم (١)؟.
وقال أبو العالية: يتحسسونه (٢).
وكل هذه أقوال في معاني الاستنباط.
وقال عطاء: يريد يستيقنونه ويعلمونه (٣).
وهذا مرتب على الاستنباط، أي يعلمونه بعد الاستنباط الذي هو السبب المؤدي إلى العلم.
وقوله: ﴿مِنْهُمْ﴾ من صلة الاستنباط، يقال: استنبطت من فلان أمرًا. والكناية تعود على المرجفين، وهي كقوله: ﴿وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ (٤).
والمعنى: لو سكتوا وفوضوا ذلك إلى (نبي، ذكرهم الله تعالى) (٥) لعلم ذلك الخبر كل طالب من المسلمين من غير إذاعة المنافقين، ولم يكونوا قد آذوا رسول الله بإذاعة ما يكره إذاعته.
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾.
قال ابن عباس: فضل الله الإسلام ورحمته القرآن (٦).
وقال أبو روق: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ بالإسلام ﴿وَرَحْمَتُهُ﴾
(٢) أخرجه الطبري ٥/ ١٨٢ - ١٨٣، وابن المنذر وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" ٢/ ٣٣٤.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٨٣، و"إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٤٣٨.
(٥) هكذا في المخطوط وهو غير واضح.
(٦) "الكشف والبيان" ٤/ ٩٢ ب، وانظر: "معالم التنزيل" ٢/ ٢٥٥، و"زاد المسير" ٢/ ١٤٨.
بالقرآن ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (١)
واختلفوا في وجه هذا الاستنباط:
فقال ابن عباس في رواية الوالبي عنه: تَمَّ الكلام عند قوله ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ﴾ ثم استثنى القليل. قوله: ﴿أَذَاعُوا﴾ أي أذاعوا به إلا قليلًا، يعني بالقليل المؤمنين (٢). وهذا قول ابن زيد (٣) والكسائي (٤) والفراء (٥).
وقال الحسن وقتادة: الاستثناء من قوله ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ أجود (٦)؛ لأن ما علم بالاستنباط فليس الأكثر يعرفه، وإنما يستنبط القليل؛ لأن الفضائل والاستخراج في القليل من الناس (٧).
قال الزجاج: وهذا في هذا الموضع غلط من النحويين؛ لأن هذا الاستنباط ليس من شيء (٨) يُستخرج بنظر وتفكر، وإنما هو استنباط خبر، فالأكثر يعرف الخبر إذا أخبر به، وإنما القليل ههنا المبالغ في البلادة، الذي لا يعلم ما يُخبر به. فاستثناء القليل من قوله: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾
(٢) بنحوه في تفسير ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة وهو المراد بقول المؤلف: الوالبي. وأخرجه الطبري ٥/ ١٨٣، وابن المنذر وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" ٢/ ٣٣٤.
(٣) أخرجه الطبري ٥/ ١٨٣، وانظر: "الدر المنثور" ٢/ ٣٣٤.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للنحاس ٢/ ١٤٢.
(٥) في "معاني القرآن" ١/ ٢٧٩. وهذا القول اختيار الطبري، انظر: "تفسير الطبري" ٥/ ١٨٣، و"زاد المسير" ٢/ ١٤٨.
(٦) أخرجه بمعناه عن قتادة الطبري ٥/ ١٨٣، وابن المنذر وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" ٢/ ٣٣٤.
وذكره عنهما الماوردي ١/ ٥١١، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٢/ ١٤٨.
(٧) هذا التعليل للنحويين، انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٨٤.
(٨) في "معاني الزجاج" ٢/ ٨٤: "ليس بشيء" والصواب ما في المعاني، ويحتمل حصول تصحف هنا.
صحيح (١).
وقال الفراء: استثناء (قليل) مما في ﴿أَذَاعُوا﴾ أوضح وأبين معنى؛ لأنهم لا يجتمعون في الإذاعة كما يجتمعون في الاستنباط ومعرفة الخبر المظهر لهم. هذا معنى قوله. ولفظه أنه يقول: الاستثناء من ﴿أَذَاعُوا﴾ أجود لوجهين: لأن علم السرايا إذا ظهر علمه المستنبط وغيره، والإذاعة قد تكون في بعض دون بعض، فلذلك استحببت (٢) الاستثناء من الإذاعة (٣)؛ لأنه جعل القليل المستثنى البليد الذي لا يعلم ما يخبر به.
وقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا ممن (عصم) (٤) الله (٥).
قال ابن الأنباري: قال أصحاب هذا القول: الذين وقع عليهم الاستثناء هم الذين اهتدوا بعقولهم لترك عبادة الأوثان والإشراك بالله عز وجل وأقاموا على التوحيد بغير رسول ولا كتاب، نحو زيد بن عمرو بن نفيل ورقة بن نوفل (٦)، وطلاب الدين (٧). قال: والقولان الأولان
(٢) عند الفراء: "استحسنت".
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٢٧٩، ٢٨٠، وانظر: "الكشف والبيان" ٤/ ٩٢ ب.
(٤) هذِه الكلمة في المخطوط: "عظم" بالظاء، والتصويب من "الوسيط" ٢/ ٦٣٧.
(٥) أورده المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٦٣٧، ولم أقف عليه.
(٦) هو ورقة بن نوفل بن عبد العزى القرشي، من الحكماء، اعتزل عبادة الأصنام، ولم يأكل مما ذبح عليها، واعتنق النصرانية، وقد أدرك أوائل عصر النبوة وقصته في بدء الوحي مشهورة في البخاري وغيره، وقد آمن وعد من الصحابة.
انظر: "أسد الغابة" ٥/ ٤٤٧، و"الإصابة" ٣/ ٦٣٣، و"الأعلام" ٨/ ١١٤.
(٧) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٨٤، و"النكت والعيون" ١/ ٥١١، ٥١٢، و"الوسيط" ٢/ ٦٣٧، و"زاد المسير" ٢/ ١٤٨.
(أثبت) (١) من هذا القول؛ لأن ورقة وزيدًا وغيرهما ممن ثبته (٢) بفضل الله ورحمته أدرك الدين (أدرك) (٣) فنعمة الله لازمة له.
ونصر الزجاج هذا القول الثالث، وأجاب عن ترجيح ابن الأنباري القولين الأولين، فقال: قبل أن ينزل القرآن على النبي - ﷺ - وقبل أن يُبعث قد كان في الناس القليل ممن لم يشاهد القرآن ولا النبي - ﷺ - مؤمنًا، فإن قال قائل: إن من كان قبل ذلك مؤمنًا فبفضل الله ورحمته آمن، قيل: إن المقصود بالفضل والرحمة في هذا الموضع النبي - ﷺ - والقرآن، وإيمان هؤلاء القليل كان قبلهما (٤).
فيصح الاستثناء إذا خصصت الفضل والرحمة بالنبي - ﷺ - والقرآن.
هذا الذي ذكرنا في هذا الآية قول أكثر المفسرين (٥).
وفي الآية قول آخر، وهو ما قال ابن عباس في رواية الضحاك في قوله: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾ يعني المنافقين، كانوا إذا أمروا بالقتال لم يطيعوا الله فيما أمرهم به، وإن نهاهم عن محارمه لم ينتهوا، وإن أفضى الرسول إليهم سرًا أذاعوا عند العدو، فأنزل الله عز وجل
(٢) هكذا في المخطوط، ولعل الصواب: "ثبت".
(٣) هكذا هذِه الكلمة في المخطوط، ولعل الصواب: "أم لم يدركه".
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٨٤.
(٥) إلى هنا في المخطوط انتهى الكلام عن تفسير الآية ٨٣، وأتى الناسخ بتفسير للآية ٨٦ قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ﴾ الآية، وكان قد قدم في المخطوط تفسير للآية ٨٣ من أثنائها، ويحتمل أنه بعد هذا الكلام مباشرة فجعلته بعده في الصفحة التالية.
﴿وَلَوْ رَدُّوهُ﴾ يعني أمورهم في الحلال والحرام، ﴿إِلَى الرَّسُولِ﴾ في التصديق به، ﴿وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ يعني حملة الفقه والحكمة، ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ يعني الذين يفحصون عن العلم (١).
فعلى هذا القول قوله: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ معناه كما ذكرنا في القول الأول.
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ﴾. الكناية لا تعود إلى الأمر كما عادت إليه في القول الأول، لكنها عائدة إلى غير مذكور، وهو ما يعرض لهم من أمر يحتاجون فيه إلى بيان الرسول وأولي العلم من الصحابة، كأنه قيل: ولو ردوا ذلك الذي عرض لهم إلى الرسول وإلى حملة الفقه لعلموه وأخبروا بما فيه من الصواب (٢).
والكناية عن غير مذكور كثيرة إذا كان في الكلام دليل على ما لم يذكر.
ونحو هذا قال الحسن وقتادة وابن جريج وابن أبي نجيح في ﴿أُولِي الْأَمْرِ﴾ أنهم أهل العلم والفقه (٣). وهذا اختيار ابن كيسان، فإنه يقول في قوله: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾: أي لو طلبوا علمه من الرسول وعلمائهم الراسخين في العلم، لعلموا صواب ذلك وخطأه (٤).
(٢) انظر: الطبري ٥/ ١٨١ - ١٨٢.
(٣) أخرج الأثر عن ابن جريج وعن قتادة بمعناه الطبري ٥/ ١٨٢، وذكره عن الحسن الهواري في "تفسيره" ١/ ٤٠٣، وقد ذكره عن جميعهم الماوردي في "النكت والعيون" ١/ ٥١١، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ١٤٧، و"الدر المنثور" ٢/ ٣٣٣.
(٤) لم أقف عليه.
وقوله تعالى: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ الاستنباط على هذا القول هو استخراج ما خفي من العلم، كما ذكره ابن عباس (١).
وقال قتادة في قوله: ﴿يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ "أي يفصحون (٢) عنه ويهمهم ذلك" (٣).
وقوله: ﴿مِنْهُمْ﴾ على هذا القول للتبعيض، وليس صلة للاستنباط خاصٍ لبعضهم.
واستثناء قوله: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ من قوله: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ صحيح سائغ حسن، ولا يرد عليه ما ورد من الاعتراض في القول الأول، ويكون أحسن من الاستثناء من ﴿أَذَاعُوا﴾ على هذا القول (٤).
والذي ذهب إليه الحسن وقتادة من استثناء القليل من قوله: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ (٥) إنما قالا ذلك لأنهما ذهبا إلى هذا القول الثاني.
وهذا التفسير يدل على وجوب القول بالاجتهاد عند عدم النص؛ لأن
(٢) هكذا في المخطوط الصاد قبل الحاء، وقد أثبتها محمود شاكر عند الطبري: "يفحصون" بتقديم الحاء على الصاد، واعتبر ما في المخطوط تصحيفًا، وهذا وجيه. وهكذا في "الدر المنثور". انظر: الطبري ٥/ ١٨٠، و"الدر المنثور" ٢/ ٣٣٣ - ٣٣٤.
(٣) أخرجه الطبري ٥/ ١٨٠، وعبد بن حميد وابن المنذر. انظر: "الدر المنثور" ٢/ ٣٣٣ - ٣٣٤.
(٤) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٨٤، و"معاني القرآن" للنحاس ٢/ ١٤٢.
(٥) قول الحسن ذكره الهواري في "تفسيره" ١/ ٤٠٤.
أما قول قتادة فأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ١٦٦، والطبري ٥/ ١٨٠، وابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" ٢/ ٣٣٣ - ٣٣٤، ونسبه لهما ابن الجوزي في "زاد المسير" ٢/ ١٤٨.
الاستنباط ليس بتلاوة، بل هو اعتبار وقياس وحكم بالمعاني المودعة في النصوص (١).
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ إلى آخرها. فيه تذكير للمؤمنين بنعمة الله عز وجل في لطفه لهم، حتى سَلِموا من النفاق وما ذُم به المنافقون.
وذكر صاحب النظم وجهًا آخر في الاستثناء، فزعم أن الاستثناء متصل بقوله: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ دون قوله: ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ﴾ على تأويل: ولولا فضل الله عليكم ورحمته إلا قليلًا ممن لم يُدخله في رحمته وفضله، فاتبعوا الشيطان، لاتبعتم أنتم الشيطان، فيكون الممتنع من اتباع الشيطان بفضله ورحمته، وغير الممتنع منه من لم يصبه فضل الله ورحمته، وهذا هو الصواب إن شاء الله انتهى كلامه.
فإن قيل على هذا: الذين اتبعوا الشيطان كانوا أكثر من الذين امتنعوا من اتباعه فكيف يجعلهم قليلًا؟ قيل: هذا خطاب للذين أظهروا الإيمان من المخلص والمنافق، والذين نافقوا واتبعوا الشيطان كانوا أقل من المخلصين، فلذلك جعلهم قليلًا.
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم العالي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
عماد البحث العلمي
سلسلة الرسائل الجامعية
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
سورة النساء من آية (٨٤) إلى آخر السورة
وسورة المائدة
تحقيق
د. محمد بن حمد بن عبد الله المحيميد
أشرف على طباعته وإخراجه
د. عبد العزيز بن سطام آل سعود | أ. د. تركى بن سهو العتيبي |
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم العالي
جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلامية
عماد البحث العلمي
سلسلة الرسائل الجامعية
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
سورة النساء من آية (٨٤) إلى آخر السورة
وسورة المائدة
تحقيق
د. محمد بن حمد بن عبد الله المحيميد
أشرف على طباعته وإخراجه
د. عبد العزيز بن سطام آل سعود | أ. د. تركى بن سهو العتيبي |
جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلامية ١٤٣٠هـ
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر
الواحدي، علي بن أحمد
التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت٤٦٨هـ)./ علي بن أحمد الواحدي، محمد بن صالح بن عبد الله
الفوزان، الرياض١٤٣٠هـ.
٢٥مج. (سلسلة الرسائل الجامعية)
ردمك: ٤ - ٨٥٧ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (مجموعة)
٢ - ٨٦٤ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (ج٧)
١ - القرآن تفسير... ٢ - الواحدي، علي بن أحمد
أ- العنوان... ب- السلسة
ديوي ٢٢٧. ٣... ٨٦٨/ ١٤٣٠
رقم الإيداع: ٨٦٨/ ١٤٣٠هـ
ردمك ٤ - ٨٥٧ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (مجموعة)
٢ - ٨٦٤ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (ج٧)
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
[٧]
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
صفحة رقم 5
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
سورة النساء من آية (٨٤) إلى آخر السورة
وسورة المائدة
تحقيق
د. محمد بن حمد بن عبد الله المحيميد