
قال ع «١» : ولفظةُ المُعَاقَدَةِ والأَيْمَانِ ترجِّح أنَّ المراد الأحلاف.
[سورة النساء (٤) : آية ٣٤]
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤)
وقوله: الرِّجالُ قَوَّامُونَ بناء مبالَغَةٍ، وهو من القِيَامِ على الشيْءِ والاِستبدادِ بالنَّظَر فيه، وحِفْظِهِ، فقيامُ الرِّجَال «٢» على النساء هو علَى هذا الحدِّ، وتعليلُ ذلك بالفضيلة والنَّفَقةِ يقتضي أنَّ للرجالِ علَيْهِنَّ استيلاءً، قال ابنُ عَبَّاس: الرِّجَالُ أمراء على النِّسَاءِ.
قال ابنُ العَرَبِّيِّ «٣» في «أحكامه» : وللرِّجَالِ عليهنَّ درجةٌ لفَضْلِ القَوَّامِيَّة، فعلَيْه أنْ يَبْذُلَ المَهْرَ والنَّفَقَةَ، وَحُسْنَ العِشْرة، وَيَحْجُبَهَا ويأمُرَهَا بطَاعَةِ اللَّه تعالَى، ويُنْهِيَ إِلَيْهَا شَعَائِرَ الإِسلامِ مِنْ صلاةٍ، وصيامٍ وما وَجَب عَلَى المُسْلمين، وعلَيْها الحِفْظُ لمالِهِ، والإِحسانُ إِلَى أهْلِهِ، والاِلتزامُ لأَمْرِهِ في الحجبة وغيرها إِلاَّ بإِذنه، وقَبُولُ قولِهِ في الطَّاعات. انتهى.
و «ما» مصدريةٌ في الموضِعَيْنِ، والصَّلاَحُ في قوله: فَالصَّالِحاتُ هو الصلاح في الدّين، وقانِتاتٌ: معناه: مطيعاتٌ لأزواجِهِنَّ، أو لِلَّهِ في أزواجِهِنَّ، حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ: معناه: لكلِّ ما غاب عَنْ عَلْم زَوْجِها ممَّا اسْتُرْعِيَتْهُ، وروى أبو هريرة، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «خَيْرُ النِّسَاءِ امْرَأَةٌ، إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي مَالِكَ وَنَفْسِهَا»، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية «٤».
وقوله: بِما حَفِظَ اللَّهُ: «ما» : مصدريةٌ، تقديره: بِحِفْظِ اللَّه، ويصحُّ أنْ تكون بمعنى «الَّذِي» ويكون العائدُ في «حَفِظَ» ضميرَ نَصْبِ، أي: بالذي حَفِظَهُ اللَّهُ، ويكون المعنَى: إِمَّا حِفْظُ اللَّهِ ورعايَتُه الَّتي لا يَتِمُّ أمْرٌ دونها، وإِما أوامره ونَوَاهيه للنساء، فكأنها حِفْظُهُ، بمعنى أنَّ النساء يَحْفَظْنَ بإِزاء ذلك وبقدره.
وقوله تعالى: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ... الآية: النُّشُوزُ: أنْ تتعوَّج المرأة، ويرتفع خلقها/، وتستعلي على زوجها «٥».
(٢) في أ: الرجل.
(٣) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٤١٦).
(٤) أخرجه أبو داود الطيالسي (٢٣٢٥) من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ.
(٥) أخرجه الطبري (٤/ ٦٠) برقم (٩٣٠١)، وذكره ابن عطية (٢/ ٤٧)، وابن كثير (١/ ٤٩١)، والسيوطي (٢/ ٢٧١)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. عن ابن عباس. [.....]

وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ: قال ابن عبَّاس: يضاجِعُها، ويولِّيها ظَهْرَهُ، ولا يجامِعُهَا «١»، وقال مجاهدٌ: جنبوا مُضاجَعَتَهُنَّ «٢»، وقال ابنُ جُبَيْر: هي هِجْرة الكلام، أيْ:
لا تكلِّموهُنَّ، وأعرضوا عَنْهُنَّ «٣»، فيقدَّر حذفٌ، تقديره: واهجروهُنَّ في سبب المَضَاجِعِ، حتَّى يُرَاجِعْنَهَا.
م: قوله: فِي الْمَضاجِعِ، ذكر «٤» أبو البقاءِ فيه وجْهَيْن «٥» :
الأول: أنَّ «في» علَى بابها مِنَ الظرفية، أي: اهجروهنَّ في مواضِعِ الاِضطجاعِ، أي:
اتركوا مضاجَعَتَهُنَّ دون تَرْك مكالمتهن.
الثاني: أنَّها بمعنى السَّبَب، أي: اهجروهنَّ بِسَبَبِ المَضَاجِعِ كما تقول: في هذه الجنايةِ عُقُوبَةٌ. انتهى، وكونُها للظرفيَّة أظهرُ، واللَّه أعلم.
والضَّربُ في هذه الآية: هو ضَرْبُ الأدب غَيْرُ المُبَرِّح، وهو الذي لا يَكْسِرُ عَظْماً، ولا يَشِينُ جارحة، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اضْرِبُوا النِّسَاءَ إِذا عَصَيْنَكُمْ فِي مَعْرُوفٍ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ» قال عطاء: قُلْتُ عَبَّاسٍ: مَا الضَّرْبُ غَيْرُ المُبَرِّحِ؟ قَالَ: بِالشِّرَاكِ وَنَحْوِه «٦».
قال ابن العربي «٧» في «أحكامه» : قوله عز وجل: وَاضْرِبُوهُنَّ ثبت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقّاً، لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلاَّ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَداً تَكْرَهُونَهُ، وَعَلَيْهِنَّ أَلاَّ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ أَنْ تَهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِع، وَتَضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِن انْتَهَيْنَ، فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ، وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ» «٨». وفي هذا دليلٌ علَى أنَّ الناشز لا نَفَقَةَ لها ولا كسوة، وأنّ الفاحشة هي
(٢) أخرجه الطبري (٤/ ٦٧) برقم (٩٣٥٩) بنحوه، وذكره ابن عطية (٢/ ٤٨)، وابن كثير (١/ ٤٩٢)، والسيوطي (٢/ ٢٧٧) بنحوه، وعزاه لابن أبي شيبة.
(٣) ذكره ابن عطية (٢/ ٤٨).
(٤) في أ: قال.
(٥) في أ: تقدير.
(٦) أخرجه الطبري (٤/ ٧١) رقم (٩٣٨٧- ٩٣٨٨)، وذكره ابن عطية (٢/ ٤٨)، والسيوطي (٢/ ٢٧٨)، وعزاه لابن جرير عن عطاء قال: قلت لابن عباس.
(٧) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٤٢٠).
(٨) أخرجه الترمذي (٣/ ٦٧) في الرضاع: باب ما جاء في حق المرأة على زوجها (١١٦٣)، وابن ماجة (١/ ٥٩٤) في النكاح، باب حق المرأة على الزوج (١٨٥١)، والنسائي في «الكبرى» (٥/ ٣٧٢) في عشرة-

البَذَاءُ ليس الزِّنَا كما قال العلماء، ففسَّر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الضرْبَ، وبَيَّن أنه لا يكونُ مُبَرِّحاً، أي: لا يَظْهَر له أثَرٌ على البدن. انتهى.
قال ع «١» : وهذه العظةُ والهَجْر والضَّرْب مراتبُ، إِنْ وقعتِ الطاعةُ عنْدَ إِحداها، لم يتعدَّ إلى سائرها، وتَبْغُوا: معناه: تطلبوا، وسَبِيلًا: أي: إِلى الأذَى، وهو التعنيتُ والتعسُّف بقَوْلٍ أو فعلٍ، وهذا نهْيٌ عن ظُلْمِهِنَّ، وحَسُنَ هنا الاِتصافُ بالعلوِّ والكِبْر، أي: قَدْرُهُ سبحانه فَوْقَ كُلِّ قدْرٍ، ويده بالقُدْرة فَوْق كلِّ يدٍ فلا يستعلي أحدٌ بالظُّلْم على امرأتِهِ، فاللَّه تعالَى بالمرصاد، وينظر إِلَى هذا حديثُ أبي مسعودٍ، قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلاَمِي، فَسَمِعْتُ قَائِلاً يَقُولُ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مسعود، فصرفت وجهي، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عليك منك على هذا العبد... »
الحديث «٢».
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ويشهد له حديث حكيم بن معاوية عن أبيه أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما حق المرأة على الزوج؟
قال: «يطعمها إذا طعم، ويكسوها إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه، ولا يقبح ولا يهجر إلا في البيت».
رواه أبو داود (٢/ ٢٤٤) في النكاح: باب في حق المرأة على زوجها (٢١٤٢)، وابن ماجة (١/ ٥٩٣- ٥٩٤) في النكاح: باب حق المرأة على الزوج (١٨٥٠)، والنسائي في التفسير (١/ ٣٨١) (١٢٤)، وأحمد (٤/ ٤٤٦، ٤٤٧)، (٥/ ٣، ٥)، والطبراني في «الكبير» (١٩/ ٩٩٩- ١٠٠٢، ١٠٣٤، ١٠٣٨، ١٠٣٩)، وابن حبان (١٢٨٦- موارد)، والحاكم (٢/ ١٨٧- ١٨٨)، والبيهقي (٧/ ٢٩٥، ٣٠٥، ٤٦٦- ٤٦٧) والبغوي في «شرح السنة» (٥/ ١١٩) برقم (٢٣٢٣).
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٤٨).
(٢) أخرجه مسلم (٣/ ١٢٨٠- ١٢٨١)، كتاب «الأيمان»، باب صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده، حديث (٣٤/ ١٦٥٩)، وأبو داود (٢/ ٧٦٢)، كتاب «الأدب»، باب في حق المملوك، حديث (٥١٥٩)، والترمذي (٤/ ٣٣٥) كتاب «البر والصلة»، باب النهي عن ضرب الخدم وشتمهم، حديث (١٩٤٨)، وأحمد (٤/ ١٢٠، ٥/ ٢٧٣، ٢٧٤)، وعبد الرزاق (١٧٩٥٩)، والبيهقي (٨/ ١٠)، والطبراني في «الكبير» (١٧/ ٢٤٥) رقم (٦٨٤).
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.