قال قتادة: إن الله عزّ وجلّ كره الضرار في الحياة وعند الموت ونهى عنه وقدر فيه، ولا يصلح مضارة في حياة ولا موت.
وفي الخبر من قطع ميراثه في الجنة
«١» تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إلى قوله:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥ الى ٢١]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ يعني الزنا، وفي مصحف عبد الله الفاحشة مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ يعني من المسلمين فَإِنْ شَهِدُوا عليها بالزنا فَأَمْسِكُوهُنَّ فأحبسوهن فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وإنما كان هذا قبل نزول الحدود، كانت المرأة في أول الإسلام لو أذنبت حبست في البيت حتى تموت وإن كان لها زوج كان مهرها له، حتى نزلت قوله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما «٢».
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» «٣» [٢٥٥].
فنسخت تلك الآية بعض هذه الآية، وهو الإمساك في البيوت وبقي بعضها محكما وهو الاستشهاد وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ يعني الرجل والمرأة، المذكر والمؤنث إذا اجتمعا قلب المذكر على المؤنث، والهاء راجعة إلى الفاحشة.
قال المفسرون: فهما البكران يزنيان فَآذُوهُما قال عطاء وقتادة والسدي: يعني عيّروهما
(٢) سورة النور: ٢.
(٣) مسند أحمد: ٣/ ٤٧٦ وصحيح مسلم: ٥/ ١١٥ مع تقديم وتأخير.
وعنفوهما باللسان: أما خفت الله أما استحيت الله حين أتيت الزنا، وأشباهه. مجاهد: سبّوهما واشتموهما. ابن عباس: هو باللسان واليد كأن [يوذي] بالتعيير والضرب بالنعال.
فَإِنْ تابا من الفاحشة وَأَصْلَحا العمل فيما بعد فَأَعْرِضُوا عَنْهُما ولا تؤذوهما، وإنما كان قبل نزول الحدود، فلما نزلت الحدود نسخت هذه الآية والإمساك من الآية الأولى بالرجم للبنت والجلد والنفي للبكر، والجلد في القرآن والنفي والرجم في السنة.
روى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني: إنما أخبراه أن رجلين اختصما إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله.
وقال الآخر وهو أفقههما: أجل يا رسول الله أقض بيننا بكتاب الله وائذن لي في أن أتكلم؟
فقال: «تكلم». فقال: إن ابني كان عسيفا على هذا- قال مالك: والعسيف الأجير- فزنا بامرأته، فأخبروني أن على ابني الرجم، فافتديت منه مائة شاة وبجارية، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فردّ عليك، وجلد ابنك مائة وتغريبه عاما» «١» [٢٥٦].
وأمر أنيس الأسلمي أن يأتي امرأة الرجل فان اعترفت رجمها، فاعترفت فرجمها.
روى الزهري عن أبي سلمة عن عروة بن الزبير: أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) غرّب في الزنا ولم تزل تلك السنّة حتى غرّب مروان في إمارته.
وروى الزهري عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله: أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فاعترف عنده بالزنا: فأعرض عنه ثم اعترف فاعترض حتى شهد على نفسه أربع مرات، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنك مجنون؟» قال: لا، قال: «أحصنت؟» قال: نعم، فأمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم فرجم بالمصلّي، فلما أذاقته الحجارة فرّ، وأدرك فرجمه حتى مات».
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه خيرا ولم يصل عليه.
سليمان بن بريدة عن أبيه قال: جاء ماعز بن مالك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله طهّرني، قال: «ويحك إرجع فاستغفر الله وتب إليه» قال: فرجع غير بعيد وقال مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ممّ أطهرك؟» قال: من الزنا، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنك مجنون؟» وأخبر أنه ليس به جنون، فقال: «أشرب خمرا»، فقام رجل فاستشمه فلم يجد منه ريح خمر.
(٢) السنن الكبرى: ١/ ٦٣٥.
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أزنيت أنت؟» قال: نعم فأمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم فرجم، وجاء النبي فقال:
«استغفروا لماعز بن مالك»، فقالوا: أيغفر الله لماعز بن مالك؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لقد تاب ماعز توبة لو قسّمت بين أمة لوسعتها» «١» [٢٥٧].
وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال: لقد خشيت أن يطول الناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق على من زنا، إذا أحصن وقامت البينة أو الحمل أو الاعتراف، وقد قرأتها: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، ألا وقد رجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده.
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ قال الحسن: يعني التوبة التي يقبلها الله، فتكون على بمعنى عند، أقامه مقام صفة.
قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: (على) هاهنا بمعنى (من) يقول: إنما التوبة من الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ، اختلفوا في معنى الجهالة:
فقال مجاهد والضحاك: هي العمد.
وقال الكلبي: لم يجهل أنه ذنب ولكنه جهل عقوبته.
وقال سائر المفسرين: يعني المعاصي كلها، فكل من عصى ربّه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته.
قتادة: اجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرأوا أنّ كل شيء عصي به ربّه فهو جهالة، عمدا كان أو غيره.
وقال الزجاج: معنى قوله: بِجَهالَةٍ اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية، نظيرها في الأنعام مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ «٢»، ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ معناه قبل أن يحبطون السوء بحسناته فيحبطها.
قال السدي والكلبي: القريب ما دام في صحته قبل المرض والموت.
عكرمة وابن زيد: ما قبل الموت فهو قريب.
أبو مجلن والضحاك: قبل معاينة ملك الموت.
أبو موسى الأشعري: هو أن يتوب قبل موته بفواق ناقة.
(٢) سورة الأنعام: ٥٤.
زيد بن أسلم عن عبد الرحمن [السلماني] قال: اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أحدهم: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم» [٢٥٨].
قال الثاني: وأنا سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم» [٢٥٩].
قال الثالث: وأنا سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة» [٢٦٠].
فقال الرابع: وأنا سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه» «١» [٢٦١].
خالد بن [سعدان] عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه» ثم قال: «إن السنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه» ثم قال:
«إن الشهر لكثير، من تاب قبل موته بجمعة تاب الله عليه» ثم قال: «إن الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه» ثم قال: «إن الساعة لكثير، من تاب قبل موته قبل أن يغرغر بها تاب الله عليه» «٢» [٢٦٢].
المسيب بن شريك عن عمرو بن عبيد عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما هبط إبليس قال وعزتك وعظمتك لا أفارق ابن آدم حتى يفارق روحه جسده فقال الله عزّ وجلّ:
وعزتي وعظمتي لا أحجب التوبة عن عبدي حتى يغرغر» «٣» [٢٦٣].
وعن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الشيطان قال وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، قال الربّ تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروا لي» «٤» [٢٦٤].
قال الثعلبي: وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول:
سمعت محمد بن عبد الجبار يقول: يقال للتائب المخلص في توبته ولو بمقدار ساعة من النهار أو بمقدار نفس واحد قبل موته: ما أسرع ما جئت.
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ يعني المعاصي حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ
(٢) كنز العمال: ٤/ ٢٢٣، ح ١٠٢٦٥.
(٣) تفسير القرطبي: ٥/ ٩٣، باختلاف يسير. [.....]
(٤) العهود المحمدية، الشعراني: ٢٧٤.
ووقع في النزع قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فحينئذ لا يقبل من كافر إيمانه ولا من عاص توبته وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ موضع (الَّذِينَ) خفض يعني ولا الذين يتوبون وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً
أي هيّئنا، والاسم منه العتاد.
قال عدي بن الرقاع:
تأتيه أسلاب الأعزة عنوة | قسرا ويجمع للحروب عتادها «١» |
وقال الشاعر الجعفي:
حملوا بصائرهم على أكتافهم | وبصيرتي يعدوا بها عتد وأي «٢» |
قال المفسرون: كان أهل المدينة في الجاهلية وفي أول الإسلام، إذا مات رجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من جنسه فيلقي ثوبه على تلك المرأة أو على خبائها، فصار أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء أن يتزوجها تزوجها بغير صداق، إلّا بالصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها، ولم يعطها منه شيئا، وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج فطوّل عليها وضارها، لتفتدي نفسها بما ورثت من الميت، أو تموت هي فيرثها، وإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ولي زوجها ثوبه فهي أحق بنفسها، فكانوا يفعلون ذلك حتى توفى أبو قيس بن صلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية، فقام ابن له من غيرها يقال له: (حصن).
وقال مقاتل بن حيان: اسمه قيس بن أبي قيس، فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها، ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارّها بذلك لتفتدي بمالها، وكذلك كانوا يفعلون إذا ورث أحدهم نكاحها، فإن كانت جميلة موسرة دخل بها، وإن لم تكن جميلة طوّل عليها لتفتدي منه، فأتت كبيشة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله إن أبا قيس توفى وورث نكاحي ابنه وقد أضرّني حصن وطوّل عليّ فلا هو ينفق علي ولا يدخل بي ولا يخلي سبيلي، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«اقعدي في بيتك حتى يأتي فيك أمر الله» [٢٦٥] قالت: فانصرفت وسمعت بذلك النساء في المدينة، فأتين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في مسجد الفضيح فقلن: يا رسول الله ما نحن إلّا كهيئة كبشة غير أننا لم ينكحنا الأبناء وينكحنا بنو العم فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ الآية «٣».
(٢) تفسير الطبري: ٧/ ٣٩٦، تفسير القرطبي: ٧/ ٥٧.
(٣) أسباب النزول: ٩٨.
وقرأ الكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب: بضم الكاف هاهنا وفي التوبة.
والباقون: بالفتح.
قال الكسائي: هما لغتان. وقال الفراء: الكره والإكراه، والكره المشقة، فما أكره عليه فهو كره بالفتح، وما كان من قبل نفسه وهو كره بضم الكاف.
وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ كفعل أهل الجاهلية «١».
وعن الضحاك: نزلت هذه الآية في الرجل تكون في حجره اليتيمة، فيكره أن يزوجها لأجل مالها، فتكون تحته العجوز ونفسه تشوق إلى الشابة، فيكره فراق العجوز بتوقع وفاتها ليرثها مالها وهو معتزل لفراشها.
وقال ابن عباس: هذا في الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر فيطوّل عليها ويضارّها لتفتدي بالمهر أو يردّ إليه ما ساق إليها من المهر، فنهى الله عزّ وجلّ عن ذلك، ثم قال:
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فحينئذ يحل لكم إضرارهن ليفتدين منكم وعضلهن، لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ، واختلفوا في الفاحشة:
فقال بعضهم: هي الزنا. قال الحسن: إن زنت حلّ لزوجها أن يسألها الخلع. قال عطاء:
كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها، فنسخ ذلك بالحدود.
وقال ابن مسعود والضحاك وقتادة: هي النشوز «٢».
جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس فقال: «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» «٣» [٢٦٦].
وقوله مُبَيِّنَةٍ بفتح الياء قاله ابن عباس وعاصم وابن كثير، الباقون: بالكسر.
وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.
قال الحسن: رجع إلى أول الكلام يعني وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً وعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.
(٢) تفسير القرطبي: ٩٤- ٩٥.
(٣) تفسير الطبري: ٤/ ٤١٢، تفسير القرطبي: ٥/ ١٧٢.
وقال بعضهم: هو أن يصنع بها كما يصنع له.
فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً وهو ولد صالح أو يعطفه الله عليها بعد ذلك، كذا قاله المفسرون.
مكحول الأزدي قال: سمعت ابن عمر يقول: إن الرجل يستخير الله فيختار له، فيسخط على ربّه عزّ وجلّ، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له.
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ ما لم يكن من قبلها نشوز ولا إتيان فاحشة وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً وهو المال الكثير، وقد مرّ تفسيره فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أي من القنطار شيئا أَتَأْخُذُونَهُ استفهام نهي وتوبيخ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً انتصابها من وجهين: أحدهما بنزع الخافض، والثاني بالإضمار، تقديره: تصيبون في أخذه بهتانا وإثما مبينا، ثم قال: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ على معنى الاستعظام، كقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ «١» وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ.
قال المفسرون: أراد المجامعة، ولكن الله كريم يكني بما شاء عمّا شاء، وأصل الإفضاء الوصول إلى شيء من غير واسطة.
وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً.
قال الحسن وابن سيرين والضحاك وقتادة والسدي: هو قولهم عند العقد: زوجتكها على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
مجاهد: هو كلمة النكاح التي يستحل بها الفروج وهي كقوله: نكحته.
الشعبي وعكرمة والربيع: هو قوله: أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
فصل فيما ورد من الأخبار في الرخص في مغالاة المهر
لقوله: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً
عن عطاء الخراساني: قال خطب عمر إلى علي ابنته أم كلثوم وهي من فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنها صغيرة، فقال عمر: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلّا نسبي وصهري» «٢» فلذلك رغبت فيها [٢٦٧].
فقال علي (رضي الله عنه) : إني مرسلها إليك حتى تنظر إلى صغرها فأرسلها إليه، فجاءته
(٢) فتح القدير: ٢/ ٥٠٢.
فقالت: إن أبي يقول لك هل رضيت النحلة. فقال: رضيتها. قال: فأنكحه ابنته وصدقها عمر أربعين ألف درهم «١».
وعن ابن سيرين: إن الحسن (رضي الله عنه) تزوج بامرأة، فبعث إليها بمائة جارية مع كل جارية ألف درهم.
وروى مرشد بن عبد الله البرني عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير النكاح أيسره»
وقال صلّى الله عليه وسلّم لرجل: «أترضى أن أزوجك فلانة؟» [٢٦٨] قال: نعم، قال للمرأة:
«أترضين أن أزوجك فلانا؟» [٢٦٩] قالت: نعم، فزوج أحدهما بصاحبه، فدخل عليها الرجل ولم يفرض لها صداقا ولم يعطها شيئا، وكان ممّن شهد الحديبية وله سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد زوّجني بفلانة ولم أفرض لها صداقا ولم أعطها شيئا، وأني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، فأخذت سهمها ذلك فباعته بمائة ألف «٢».
وعن ضمرة بن حبيب أن أم حبيبة كانت بأرض الحبشة مع جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) وأن رسول الله زوّجها فأصدق عنه النجاشي أربعمائة دينار.
وبه عن ابن سيرين عن ابن عباس أنه تزوج سليمة السلمية على عشرة آلاف درهم.
حماد بن سلمة عن ابن بشر أن عروة البارقي تزوج بنت هاني بن قبيصة على ألف درهم.
وعن غيلان بن جرير أن مطرفا تزوج امرأة على عشرة ألف أواق.
فصل فيمن كره ذلك، والكلام في أقل المهر
عن ابن سيرين قال: حدثنا أبو العجفا السلمي، قال: سمعت عمر وهو يخطب الناس فحمد الله واثنى عليه وقال: ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم به النبي صلّى الله عليه وسلّم ما أصدق امرأة من نسائه ولا امرأة من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية، ألا وإن أحدكم ليغلي بصدقة امرأة حتى يبقي لها عداوة في نفسه، فيقول: كانت لك حلق القربة أو عرق القربة.
عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من يمن المرأة تيسير صداقها وتيسر رحمها» «٣» [٢٧٠].
(٢) سنن أبي داود: ١/ ٤٧٠، وصحيح ابن حبان: ٩/ ٢٨١.
(٣) المستدرك: ٢/ ١٨١، ارواء الغليل: ٦/ ٣٥٠.
قال عروة: وأنا أقول من عندي من أول شؤمها أن يكثر صداقها.
سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال: كان صداقنا مذ كان فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشرة أواق وهو أربعة دراهم.
ثابت البناني عن أنس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى على عبد الرحمن أثر صفرة وقال: «ما هذا؟» فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بارك الله لك أولم ولو بشاة» «١» [٢٧١].
يقال: هي خمسة دراهم.
وعن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك فقامت قياما طويلا، فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل عندك من شيء تصدقها إياه؟» قال: ما عندي إلّا إزاري هذا.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك فالتمس شيئا» فقال: ما أجد شيئا.
فقال: «التمس ولو خاتما من حديد»، فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل معك من القرآن شيء؟» قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا، لسور سمّاها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«زوجتك بما معك من القرآن» «٢» [٢٧٢].
وعن عبد الله بن عامر عن أبيه: أن رجلا تزوج امرأة على نعلين فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أرضيت مالك بهاتين النعلين؟» [٢٧٣] قال: نعم فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلّم «٣».
وعن أبي حدرد الأسلمي قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم أستعينه في مهر امرأة فقال: «كم تصدقها؟» قلت: مائتي درهم. فقال: «لو كنتم تغرفون من بطحان ما زدتم» «٤» [٢٧٤].
مسلم بن رومان عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أعطى في صداق ملء كفيه سويقا أو تمرا فقد استحل» «٥» [٢٧٥].
وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوج بامرأة على عشرة دراهم.
أحمد بن حنبل عن الحسن بن عبد العزيز قال: كتب إلينا ضمره عن إبراهيم بن عبد الله الكناني أن سعيد بن المسيب زوج ابنته على درهمين.
(٢) مسند أحمد: ٥/ ٣٣٦، أحكام القرآن: ٣/ ٤٨٠. [.....]
(٣) مسند أحمد: ٣/ ٤٤٥، سنن الترمذي: ٢/ ٢٩٠ ح ١١٢٠.
(٤) المعجم الكبير: ٢٢/ ٣٥٢.
(٥) سنن أبي داود: ١/ ٤٦٨، فتح الباري: ٩/ ١٧٣.