
المنَاسَبَة: لما أمر تعالى بالإِحسان إلى النساء والعدل في معاملتهن، أمر هنا بالعدل العام في جميع الأحكام، ودعا إِلى أداء الشهادة على الوجه الأكمل سواء كان المشهود عليه غنياً أو فقيراً، وحذّر من اتباع الهوى، ثم دعا إِلى الإِيمان بجميع الملائكة، والكتب والرسل، ثم أعقب ذلك بذكر أوصاف المنافقين المخزية وما له ممن العذاب والنكال في دركات الجحيم.
اللغَة: ﴿تَلْوُواْ﴾ الليُّ: الدفع يقال لويت فلاناً حقه إِذا دفعته ومطلته ومنه الحديث «ليُّ الواجد ظلم» أي مطل الغني ظلم ﴿يَخُوضُواْ﴾ الخوض: الاقتحام في الشيء ومنه خوض الماء ﴿نَسْتَحْوِذْ﴾ الاستحواذ: الاستيلاء والتغلب يقال استحوذ على كذا إِذا غلب عليه ومنه قوله تعالى ﴿استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان﴾ [المجادلة: ١٩] ﴿مُّذَبْذَبِينَ﴾ الذبذبة: التحريك والاضطراب يقال ذبذبته فتذبذب والمذبذب المتردّد بين أمرين ﴿الدرك﴾ بسكون الراء وفتحها بمعنى الطبقة وهي لما تسافل قال ابن عباس: الدَّرْك لأهل النار كالدرج لأهل الجنة إِلا أن الدرجات بعضها فوق بعض، والدركات بعضها أسفل

من بعض.
التفِسير: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط﴾ أي ما من آمنتم بالله وصدقتم بكتابه كونوا مجتهدين في إِقامة العدل والاستقامة وأتى بصيغة المبالغة في ﴿قَوَّامِينَ﴾ حتى لا يكون منهم جورٌ أبداً ﴿شُهَدَآءَ للَّهِ﴾ أي تقيمون شهاداتكم لوجه الله دون تحيز ولا محاباة ﴿وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين﴾ أي ولو كانت تلك الشهادة على أنفسكم أو على آبائكم أو أقربائكم فلا تمنعنكم القرابة ولا المنفعة عن أداء الشهادة على الوجه الأكمل فإِن الحق حاكم على كل إِنسان ﴿إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً﴾ أي إِن يكن المشهود عليه غنياً فلا يراعى لغناه، أو فقيراً فلا يمتنع من الشهادة عليه ترحماً وإِشفاقاً ﴿فالله أولى بِهِمَا﴾ أي فالله أولى بالغني والفقير وأعلم بما فيه صلاحهما فراعوا أمر الله فيما أمركم به فإِنه أعلم بمصالح العباد منكم ﴿فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ﴾ أي فلا تتبعوا هوى النفس مخافة أن تعدلوا بين الناس قال ابن كثير: أي لا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إِليكم على ترك العدل في شئونكم بل الزموا العدل على كل حال ﴿وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ﴾ أي وإِن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق أو تُعرضوا عن إِقامتها رأساً ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ فيجازيكم عليه ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾ أي اثبتوا على الإِيمان ودوموا عليه ﴿والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ﴾ أي آمنوا بالقرآن الذي نزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ﴾ أي وبالكتب السماوية التي أنزلها من قبل القرآن قال أبو السعود: المراد بالكتاب الجنس المنتظم لجميع الكتب السماوية ﴿وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً﴾ أي ومن يكفر بشيء من ذلك فقد خرج عن طريق الهدى، وبَعُد عن القصد كل البعد ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً﴾ هذه الآية في المنافقين آمنوا ثم ارتدوا ثم آمنوا ثم ارتدوا ثم ماتوا على الكفر قال ابن عباس: دخل في هذه الآية كل منافق كان في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في البر والبحر وقال ابن كثير: يخبر تعالى عمن دخل في الإِيمان ثم رجع فيه ثم عاد إِلى الإِيمان ثم رجع واستمر على ضلاله وازداد حتى مات فإِنه لا توبة له بعد موته ولا يغفر الله له ولا يجعل له مما هو فيه فرجاً ولا مخرجاً ولا طريقاً إلى الهدى ولهذا قال تعالى ﴿لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً﴾ أي لم يكن الله ليسامحهم على ذلك ولا ليهديهم طريقاً إِلى الجنة قال الزمخشري: ليس المعنى انهم لو أخلصوا الإِيمان بعد تكرار الردة لم يُقبل منهم ولم يُغفر لهم ولكنه استبعاد له واستغراب كأنه أمر لا يكاد يكون، وهكذا ترى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع ثم يتوب ثم يرجع لا يكاد يرجى منه الثبات، والغالب أنه يموت على شر حال، ثم أخبر تعالى عن مآل المنافقين فقال ﴿بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ عبّر تعالى بلفظ ﴿بَشِّرِ﴾ تهكماً بهم أي أخبر يا محمد المنافقين بعذاب النار الأليم ﴿الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين﴾ أي أولئك هم الذين يوالون

الكافرين ويتخذونهم أعواناً وأنصاراً لما يتوهمونه فيهم من القوة ويتركون ولاية المؤمنين ﴿أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة﴾ أي أيطلبون بموالاة الكفار القوة والغلبة؟ والاستفهام إِنكاري أي إِنّ الكفار لا عزة لهم فكيف تُبْتغى منهم! ﴿فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً﴾ أي العزة لله ولأوليائه قال ابن كثير والمقصود من هذا التهييجُ على طلب العزة من جناب الله ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب﴾ أي نزّل عليكم في القرآن، والخطابُ لمن أظهر الإِيمان من مؤمن ومنافق ﴿أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا﴾ أي أنزل عليكم أنه إِذا سمعتم القرآن يَكْفر به الكافرون ويَسْتهزئ به المستهزئون ﴿فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ أي لا تجلسوا مع الكافرين الذين يستهزئون بآيات الله حتى يتحدثوا بحديث آخر ويتركوا الخوض في القرآن ﴿إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ﴾ أي إِنكم إِن قعدتم معهم كنتم مثلهم في الكفر ﴿إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً﴾ أي يجمع الفريقين الكافرين والمنافقين في الآخرة في نار جهنم لأن المرء مع من أحب، وهذا الوعيد منه تعالى للتحذير من مخالطتهم ومجالستهم.
. ثم ذكر تعالى تربصهم السوء بالمؤمنين فقال ﴿الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ أي ينتظرون بكم الدوائر ﴿فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله﴾ أي غلبةٌ على الأعداء وغنيمة ﴿قالوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ﴾ أي فأعطونا مما غنمتموه من الكافرين ﴿وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ أي ظفرٌ عليكم يا معشر المؤمنين ﴿قالوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين﴾ أي قالوا للمشركين ألم نغلبكم ونتمكنْ من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم وثبطنا عزائم المؤمنين حتى انتصرتم عليهم؟ فهاتوا نصيبنا مما أصبتم لأننا نواليكم ولا نترك أحداً يؤذيكم قال تعالى بياناً لمآل الفريقين ﴿فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة﴾ أي يحكم بين المؤمنين والكافرين ويفصل بينهم بالحق ﴿وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً﴾ أي لن يمكَنَ الكفرة من رقاب المؤمنين فيبيدوهم ويستأصلوهم قال ابن كثير: وذلك بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية وإِن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان، فإِن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة ﴿إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ أي يفعلون ما يفعل المخادع من إِظهار الإِيمان وإِبطال الكفر والله يجازيهم على خداعهم ويستدرجهم بأمر المؤمنين بحقن دمائهم، وقد أعدّ لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة، فسمّى تعالى جزاءهم خداعاً بطريق المشاكلة لأن وبال خداعهم راجع عليهم ﴿وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى﴾ أي يصلون وهم متثاقلون متكاسلون، لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً ﴿يُرَآءُونَ الناس﴾ أي يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة ولا يقصدون وجه الله ﴿وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي لا يذكرون الله سبحانه إِلا ذكراً قليلاً ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك﴾ أي مضطربين مترددين بين الكفر والإِيمان، وصفهم تعالى بالحيرة في دينهم ﴿لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء﴾ أي لا ينتسبون إِلى المؤمنين ولا إِلى الكافرين ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ أي ومن

يضلله الله فلن تجد له طريقاً إلى السعادة والهدى، ثم حذّر تعالى المؤمنين من موالاة أعداء الدين فقال ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين﴾ أي لا تتركوا موالاة المؤمنين وتوالوا الكفرة المجرمين بالمصاحبة والمصادقة ﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً﴾ أي أتريدون أن تجعلوا لله حجة بالغة عليكم أنكم منافقون؟ قال ابن عباس: كل سلطان في القرآن حجةٌ، ثم أخبر تعالى عن مآل المنافقين فقال ﴿إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار﴾ أي في الطبقة التي في قعر جهنم وهي سبع طبقات قال ابن عباس: أي في أسفل النار، وذلك لأنهم جمعوا مع الكفر الاستهزاء بالإِسلام وأهله، والنارُ دركات كما أن الجنة درجات ﴿وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً﴾ أي لن تجد لهؤلاء المنافقين ناصراً ينصرهم من عذاب الله ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ﴾ وهذا استثناء أي تابوا عن النفاق ﴿وَأَصْلَحُواْ﴾ أي أعمالهم ونياتهم ﴿واعتصموا بالله﴾ أي تمسكوا بكتاب الله ودينه ﴿وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ﴾ أي لم يبتغوا بعملهم إِلا وجه الله ﴿فأولئك مَعَ المؤمنين﴾ أي في زمرتهم يوم القيامة ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً﴾ أي يعطيهم الأجر الكبير في الآخرة وهو الجنة ﴿مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ أي أيُّ منفعةٍ له سبحانه في عذابكم؟ أيتشفى به من الغيظ، أم يدرك به الثأر، أم يدفع به الضر ويستجلب النفع وهو الغنى عنكم؟ ﴿وَكَانَ الله شَاكِراً عَلِيماً﴾ أي شاكراً لطاعة العباد مع غناه عنهم يعطي على العمل القليل الثواب الجزيل.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات أنواعاً من الفصاحة والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - المبالغة في الصيغة في ﴿قَوَّامِينَ بالقسط﴾ أي مبالغين في العدل.
٢ - الطباق بين ﴿غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً﴾ وبين ﴿آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ﴾.
٣ - الجناس الناقص في ﴿آمَنُواْ آمِنُواْ﴾ لتغير الشكل.
٤ - جناس الاشتقاق في ﴿يُخَادِعُونَ... خَادِعُهُمْ﴾ وفي ﴿جَامِعُ... جَمِيعاً﴾ وفي ﴿شَكَرْتُمْ... شَاكِراً﴾.
٥ - الأسلوب التهكمي في ﴿بَشِّرِ المنافقين﴾ حيث استعمل لفظ البشارة مكان الإِنذار تهكماً.
٦ - الاستعارة في ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ استعار اسم الخداع للمجازاة على العمل، واللهُ تعالى منزَّه عن الخداع.
٧ - الاستفهام الإِنكاري في ﴿أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة﴾ والغرضُ منه التقريع والتوبيخ.
الفوَائِد: الأولى: قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ﴾ ليس تكراراً وإِنما معناه اثبتوا على الإِيمان ودوموا عليه كقول المؤمن ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ [الفاتحة: ٦] أي ثبتنا على الصراط المستقيم.
الثانية: سمى تعالى ظفر المؤمنين فتحاً عظيماً ونسبه إِليه ﴿فَتْحٌ مِّنَ الله﴾ وظفر الكافرين نصيباً ﴿وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ ولم ينسبه إِليه وذلك لتعظيم شأن المسلمين، وتخسيس حظ الكافرين.
الثالثة: قال المفسرون: النار سبع دركات أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعيرة، ثم سقرن ثم الجحيم، ثم الهاوية وقد تسمى بعض الطبقات باسم بعض لأن لفظ النار يجمعها، كذا في البحر.

تنبيه: المنافق أخطر من الكافر ولهذا كان عذابه أشد ﴿إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً﴾ وقد شرط تعالى للتوبة على الكافر الانتهاء عن الكفر فقط ﴿قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ وأما المنافق فشرط عليه أربعاً: التوبة، والإِصلاح، والاعتصام، وإِخلاص الدين له فقال ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ واعتصموا بالله وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ﴾ فدل على أن المنافقين شرُّ من كفر به وأولاهم بمقته، وأبعدهم من الإِنابة إِليه ثم قال ﴿فأولئك مَعَ المؤمنين﴾ ولم يقل فأولئك هم المؤمنون ثم قال ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً﴾ ولم يقل «وسوف يؤتيهم» بغضاً لهم وإِعراضاً عنهم وتفظيعاً لما كانوا عليه من عظم كفر النفاق، زادنا الله فهماً لأسرار كتابه.
صفحة رقم 289