وحفظك في قلاع استعدادك عن أن ينالك شيء من ذلك وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ
الجامع لتفاصيل العلم وَالْحِكْمَةَ
التي هي أحكام تلك التفاصيل مع العمل وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
من علم عواقب الخلق وعلم ما كان وما سيكون وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
حيث جعلك أهلا لمقام قاب قوسين أو أدنى ومنّ عليك بما لا يحيط به سوى نطاق الوجود لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ وهو ما كان من جنس الفضول، والأمر الذي لا يعني إِلَّا نجوى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ وأرشد إلى فضيلة السخاء الناشئ من العفة، أَوْ مَعْرُوفٍ قولي كتعلم علم، أو فعلي كإغاثة ملهوف أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ الذي هو من باب العدل وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ويجمع بين تلك الكمالات ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ لا للرياء والسمعة من كل ما يعود به الفضيلة رذيلة فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ الله تعالى أَجْراً عَظِيماً ويدخله جنات الصفات وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يخالف ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو العقل المسمى عندهم بالرسول النفسي وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أي غير ما عليه أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن اقتفى أثرهم من الأخيار أو القوى الروحانية نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ الحرمان وَساءَتْ مَصِيراً لمن يصلاها إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وهي الأصنام المسماة بالنفوس إذ كل من يعبد غير الله تعالى فهو عابد لنفسه مطيع لهواها، أو المراد بالإناث الممكنات لأن كل ممكن محتاج ناقص من جهة إمكانه منفعل متأثر عند تعينه فهو أشبه كل شيء بالأنثى وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً وهو شيطان الوهم حيث قبلوا إغواءه وأطاعوه لَعَنَهُ اللَّهُ أي أبعده عن رياض قربه وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وهم غير المخلصين الذين استثنوا في آية أخرى وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عن الطريق الحق وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ الأماني الفاسدة من كسب اللذات الفانية وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ أي فليقطعن آذان نفوسهم عن سماع ما ينفعهم وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وهي الفطرة التي فطر الناس عليها من التوحيد وَالَّذِينَ آمَنُوا ووحدوا وعملوا الصالحات واستقاموا سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ جنة الأفعال وجنة الصفات وجنة الذات لَيْسَ أي حصول الموعود بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ بل لا بد من السعي فيما يقتضيه، وفي المثل إن التمني رأس مال المفلس، وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً أي حالا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وسلم نفسه إليه وفني فيه وَهُوَ مُحْسِنٌ مشاهد للجمع في عين التفصيل سالك طريق الإحسان بالاستقامة في الأعمال وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ في التوحيد حَنِيفاً مائلا عن السوي وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا حيث تخللت المعرفة جميع أجزائه من حيث ما هو مركب فلم يبق جوهر فرد إلا وقد حلت فيه
معرفة ربه عزّ وجلّ فهو عارف به بكل جزء منه، ومن هنا قيل: إن دم الحلاج لما وقع على الأرض انكتب بكل قطرة منه الله وأنشد:
ما قدّ لي عضو ولا مفصل... إلا وفيه لكم ذكر
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لأن كل ما برز في الوجود فهو شأن من شؤونه سبحانه وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً من حيث إنه الذي أفاض عليه الجود، وهو رب الكرم والجود، لا رب غيره، ولا يرجى إلا خيره وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ أي يطلبون منك تبيين المشكل من الأحكام في النساء مما يجب لهن وعليهن مطلقا فإنه عليه الصلاة والسلام قد سئل عن أحكام كثيرة مما يتعلق بهن فما بين فيما سلف أحيل بيانه على ما ورد في ذلك من الكتاب وما لم يبين بعد بين هنا، وقال غير واحد: إن المراد يَسْتَفْتُونَكَ في ميراثهن، والقرينة الدالة على ذلك سبب النزول،
فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جبير قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئا، فلما نزلت المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس، وقالوا: أيرث الصغير الذي لا يقوم في المال والمرأة التي هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل؟! فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بدّ، ثم قالوا: سلوا فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: كان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء ولا الصبيان شيئا كانوا يقولون لا يغزون ولا يغنمون خيرا فنزلت، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه، وإلى الأول مال شيخ الإسلام: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ أي يبين لكم حكمه فيهن، والإفتاء إظهار المشكل على السائل، وفي البحر يقال: أفتاه إفتاء، وفتيا وفتوى، وأفتيت فلانا رؤياه عبرتها له.
وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ في ما ثلاثة احتمالات: الرفع والنصب والجر، وعلى الأول: إما أن تكون مبتدأ والخبر محذوف أي- وما يتلى عليكم في القرآن يفتيكم ويبين لكم- وإيثار صيغة المضارع للإيذان بدوام التلاوة واستمرارها، وفي الكتاب متعلق- بيتلى- أو بمحذوف وقع حالا من المستكن فيه أي يتلى كائنا في الكتاب، وإما أن تكون مبتدأ، وفِي الْكِتابِ خبره، والمراد بالكتاب حينئذ اللوح المحفوظ إذ لو أريد به معناه المتبادر لم يكن فيه فائدة إلا أن يتكلف له، والجملة معترضة مسوقة لبيان عظم شأن المتلو، وما يتلى متناول لما تلي وما سيتلى، وإما أن تكون معطوفة على الضمير المستتر في يُفْتِيكُمْ وصح ذلك للفصل، والجمع بين الحقيقة والمجاز في المجاز العقلي سائغ شائع، فلا يرد أن الله تعالى فاعل حقيقي للفعل، والمتلو فاعل مجازي له، والإسناد إليه من قبيل الإسناد إلى السبب فلا يصح العطف، ونظير ذلك أغناني زيد وعطاؤه، وإما أن تكون معطوفة على الاسم الجليل، والإيراد أيضا غير وارد، نعم المتبادر أن هذا العطف من عطف المفرد على المفرد، ويبعده إفراد الضمير كما لا يخفى، وعلى الثاني تكون مفعولا لفعل محذوف أي ويبين لكم ما يتلى، والجملة إما معطوفة على جملة يُفْتِيكُمْ وإما معترضة، وعلى الثالث إما أن تكون في محل الجر على القسم المنبئ عن تعظيم المقسم به وتفخيمه كأنه قيل:
قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وأقسم- بما يتلى عليكم في الكتاب- وإما أن تكون معطوفة على الضمير المجرور كما نقل عن محمد بن أبي موسى، وما عند البصريين ليس بوحي فيجب اتباعه، نعم فيه اختلال معنوي لا يكان ينفعه، وإما أن تكون معطوفة على النساء كما نقله الطبرسي عن بعضهم، ولا يخفى ما فيه، وقوله سبحانه: فِي يَتامَى النِّساءِ متعلق- بيتلى- في غالب الاحتمالات أي ما يتلى عليكم في شأنهن ومنعوا ذلك على تقدير كون ما مبتدأ، وفِي الْكِتابِ خبره لما يلزم عليه من الفصل بالخبر بين أجزاء الصلة، وكذا على تقدير القسم إذ لا معنى لتقييده بالمتلو بذلك ظاهرا، وجوزوا أن يكون بدلا من فِيهِنَّ وأن يكون صلة أخرى- ليفتيكم- ومتى لزم تعلق حرفي جر بشيء واحد بدون اتباع يدفع بالتزام كونهما ليسا بمعنى، والممنوع تعلقهما كذلك إذا كانا بمعنى واحد، وفي الثاني
هنا سببية كما
في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن امرأة دخلت النار في هرة»
فالكلام إذا مثل جئتك في يوم الجمعة في أمر زيد أي بسببه، وإضافة اليتامى إلى النساء بمعنى من لأنها إضافة الشيء إلى جنسه، وجعلها أبو حيان بمعنى اللام ومعناها الاختصاص، وادعي أنه الأظهر وليس بشيء- كما قال الحلبي وغيره- وقرىء- ييامى- بياءين على أنه جمع أيم والعرب تبدل الهمزة ياء كثيرا اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ أي ما فرض لهن من الميراث وغيره على ما اختاره شيخ الإسلام، أو ما فرض لهن من الميراث فقط على ما روي عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد رضي الله تعالى عنه، واختاره الطبري، أو ما وجب لهن من الصداق على ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، واختاره الجبائي، وقيل:
ما كُتِبَ لَهُنَّ من النكاح فإن الأولياء كانوا يمنعوهن من التزوج.
وروي ذلك عن الحسن وقتادة والسدي وإبراهيم وَتَرْغَبُونَ عطف على صلة اللَّاتِي أو على المنفي وحده، وجوز أن يكون حالا من فاعل تُؤْتُونَهُنَّ فإن قلنا بجواز اقتران الجملة المضارعية الحالية بالواو: فظاهر، وإذا قلنا بعدم الجواز: التزم تقدير مبتدأ أي وأنتم ترغبون أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ أي في أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ أو عن أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ فإن أولياء اليتامى- كما ورد في غير ما خبر- كانوا يرغبون فيهن إن كن جميلات ويأكلون ما لهن، وإلا كانوا يعضلوهن طمعا في ميراثهن، وحذف الجار هنا لا يعد لبسا، بل إجمال، فكل من الحرفين مراد على سبيل البدل، واستدل بعض أصحابنا بالآية على جواز تزويج اليتيمة لأنه ذكر الرغبة في نكاحها فاقتضى جوازه، والشافعية يقولون: إنه إنما ذكر ما كانت تفعله الجاهلية على طريق الذم فلا دلالة فيها على ذلك مع أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحها فعله في حال الصغر، وهذا الخلاف في غير الأب والجدّ، وأما هما فيجوز لهما تزويج الصغير بلا خلاف وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ عطف على يتامى النساء، وكانوا لا يورثونهم كما لا يورثون النساء كما تقدّم آنفا.
وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ عطف على ما قبله، وإن جعل في يتامى بدلا، فالوجه النصب في هذا، والْمُسْتَضْعَفِينَ عطفا على محل فيهن ومنعوا العطف على البدل، بناء على أن المراد بالمستضعفين الصغار مطلقا الذين منعوهم عن الميراث ولو ذكورا، ولو عطف على البدل لكان بدلا، ولا يصح فيه غير بدل الغلط وهو لا يقع في فصيح الكلام، وجوز في أَنْ تَقُومُوا الرفع على أنه مبتدأ، والخبر محذوف أي خير ونحوه، والنصب بإضمار فعل أي ويأمركم- أن تقوموا، وهو خطاب للأئمة أن ينظروا لهم ويستوفوا حقوقهم، أو للأولياء والأوصياء بالنصفة في حقهم وَما تَفْعَلُوا في حقوق المذكورين مِنْ خَيْرٍ حسبما أمرتم به أو ما تفعلوه من خير على الإطلاق ويندرج فيه ما يتعلق بهؤلاء اندراجا أوليا.
فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً فيجازيكم عليه، واقتصر على ذكر الخير لأنه الذي رغب فيه، وفي ذلك إشارة إلى أن الشر مما لا ينبغي أن يقع منهم أو يخطر ببال وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ شروع في بيان أحكام لم تبين قبل،
وأخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال: «خشيت سودة رضي الله تعالى عنها أن يطلقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله لا تطلقني واجعل يومي لعائشة ففعل» ونزلت هذه الآية،
وأخرج الشافعي رضي الله تعالى عنه عن ابن المسيب أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا إما كبرا أو غيره، فأراد طلاقها فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك فاصطلحا على صلح فجرت السنة بذلك ونزل القرآن، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنها نزلت في أبي السائب أي وإن خافت امرأة خافت، فهو من باب الاشتغال، وزعم الكوفيون أن امْرَأَةٌ مبتدأ وما بعده الخبر وليس بالمرضي، وقدر بعضهم هنا- كانت- لاطراد حذف كان بعد إن، ولم يجعله من الاشتغال وهو مخالف للمشهور بين الجمهور، والخوف إما على حقيقته، أو بمعنى التوقع أي وإن امرأة توقعت لما ظهر لها من المخايل
مِنْ بَعْلِها أي زوجها، وهو متعلق- بخافت- أو بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى: نُشُوزاً أي استعلاء وارتفاعا بنفسه عنها إلى غيرها لسبب من الأسباب، ويطلق على كل من صفة أحد الزوجين أَوْ إِعْراضاً أي انصرافا بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه، وفي البحر: النشوز أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته والمودة التي بينهما، وأن يؤذيها بسب أو ضرب مثلا، والإعراض أن يقلل محادثتها ومؤانستها لطعن في سن، أو دمامة، أو شين في خلق، أو خلق، أو ملال، أو طموح عين إلى أخرى، أو غير ذلك وهو أخف من النشوز فَلا جُناحَ أي فلا حرج ولا إثم «عليهما» أي الامرأة وبعلها حينئذ.
أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً أي في أن يصلحا بينهما بأن تترك المرأة له يومها كما فعلت سودة رضي الله تعالى عنها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة، أو كسوة، أو تهبه المهر، أو شيئا منه، أو تعطيه مالا لتستعطفه بذلك وتستديم المقام في حباله، وصدر ذلك بنفي الجناح لنفي ما يتوهم من أن ما يؤخذ كالرشوة فلا يحل، وقرأ غير أهل الكوفة- يصالحا- بفتح الياء وتشديد الصاد وألف بعدها، وأصله يتصالحا فأبدلت التاء صادا وأدغمت، وقرأ الجحدري- يصلحا- بالفتح والتشديد من غير ألف وأصله يصطلحا فخفف بإبدال الطاء المبدلة من تاء الافتعال صادا وأدغمت الأولى فيها لا أنه أبدلت التاء ابتداء صادا وأدغم- كما قال أبو البقاء- لأن تاء الافتعال يجب قلبها طاء بعد الأحرف الأربعة.
وقرىء يصطلحا- وهو ظاهر، وصُلْحاً على قراءة أهل الكوفة إما مفعول به على معنى يوقعا الصلح، أو بواسطة حرف أي يصلح، والمراد به ما يصلح به، وبَيْنَهُما ظرف ذكر تنبيها على أنه ينبغي أن لا يطلع الناس على ما بينهما بل يسترانه عنهم أو حال من صُلْحاً أي كائنا بينهما، وإما مصدر محذوف الزوائد، أو من قبيل أَنْبَتَها الله نَباتاً [آل عمران: ٣٧] وبَيْنَهُما هو المفعول على أنه اسم بمعنى التباين والتخالف، أو على التوسع في الظرف لا على تقدير ما بينهما كما قيل، ويجوز أن يكون بَيْنَهُما ظرفا، والمفعول محذوف أي حالهما ونحوه، وعلى قراءة غيرهم يجوز أن يكون واقعا موقع تصالحا واصطلاحا، وأن يكون منصوبا بفعل مترتب على المذكور أي فيصلح حالهما صُلْحاً واحتمال هذا في القراءة الأولى بعيد وجوز أن يكون منصوبا على إسقاط حرف الجر أي يصالحا أو يصلحا بصلح أي بشيء تقع بسببه المصالحة وَالصُّلْحُ خَيْرٌ أي من الفرقة وسوء العشرة أو من الخصومة، فاللام للعهد، وإثبات الخيرية للمفضل عليه على سبيل الفرض والتقدير أي إن يكن فيه خير فهذا أخير منه وإلا فلا خيرية فيما ذكر، ويجوز أن لا يراد بخير التفضيل بل يراد به المصدر أو الصفة أي إنه خير من الخيور فاللام للجنس وقيل: إن اللام على التقديرين تحتمل العهدية والجنسية، والجملة اعتراضية، وكذا قوله تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ولذلك اغتفر عدم تجانسهما إذ الأولى اسمية، والثانية فعلية ولا مناسبة معنى بينهما، وفائدة الأولى الترغيب في المصالحة، والثانية تمهيد العذر في المماكسة والمشاقة كما قيل، وحضر متعد لواحد وأحضر لاثنين، والأول هو الْأَنْفُسُ القائم مقام الفاعل والثاني الشُّحَّ، والمراد أحضر الله تعالى الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وهو البخل مع الحرص، ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل هو الثاني أي إن الشح جعل حاضرا لها لا يغيب عنها أبدا، أو أنها جعلت حاضرة له مطبوعة عليه فلا تكاد المرأة تسمح بحقوقها من الرجل ولا الرجل يكاد يجود بالإنفاق وحسن المعاشرة مثلا على التي لا يريدها، وذكر شيخ الإسلام أن في ذلك تحقيقا للصلح وتقريرا له بحث كل من الزوجين عليه لكن لا بالنظر إلى حال نفسه فإن ذلك يستدعي التمادي في الشقاق بل بالنظر إلى حال صاحبه، فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبلية بغير استمالة مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته، وكذا شح
نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقنع من قبلها بشيء يسير ولا يكلفها بذل الكثير فيتحقق بذلك الصلح الذي هو خير وَإِنْ تُحْسِنُوا في العشرة مع النساء وَتَتَّقُوا النشوز والإعراض وإن تظافرت الأسباب الداعية إليهما وتصبروا على ذلك ولم تضطروهن على فوت شيء من حقوقهن، أو بذل ما يعز عليهن. فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الإحسان والتقوى، أو بجميع ما تعملون، ويدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا خَبِيراً فيجازيكم ويثيبكم على ذلك، وقد أقام سبحانه كونه عالما مطلعا أكمل اطلاع على أعمالهم مقام مجازاتهم وإثابتهم عليها الذي هو في الحقيقة جواب الشرط إقامة السبب مقام المسبب، ولا يخفى ما في خطاب الأزواج بطريق الالتفات، والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان، ولفظ التقوى المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه، وترتيب الوعد الكريم على ذلك من لطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ أي لا تقدروا البتة على العدل بينهن بحيث لا يقع ميل ما إلى جانب في شأن من الشؤون كالقسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة والمؤانسة وغيرها مما لا يكاد الحصر يأتي من ورائه.
وأخرج البيهقي عن عبيدة أنه قال: لن تستطيعوا ذلك في الحب والجماع، وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قال: في الجماع، وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن وابن جرير عن مجاهد أنهما قالا: في المحبة، وأخرجا عن أبي مليكة أن الآية نزلت في عائشة رضي الله تعالى عنها وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبها أكثر من غيرها،
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم عنها أنها قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك»
وعنى صلّى الله عليه وسلّم «بما تملك» المحبة وميل القلب الغير الاختياري وَلَوْ حَرَصْتُمْ على إقامة ذلك وبالغتم فيه فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ أي فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها حقها من غير رضا منها واعدلوا ما استطعتم فإن عجزكم عن حقيقة العدل لا يمنع عن تكليفكم بما دونها من المراتب التي تستطيعونها، وانتصاب «كل» على المصدرية فقد تقرر أنها بحسب ما تضاف إليه من مصدر أو ظرف أو غيره فَتَذَرُوها أي فتدعوا التي ملتم عنها كَالْمُعَلَّقَةِ وهي كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: التي ليست مطلقة ولا ذات بعل، وقرأ أبي- كالمسجونة- وبذلك فسر قتادة المعلقة، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المنصوب في فَتَذَرُوها وجوز السمين كونه في موضع المفعول الثاني لتذر على أنه بمعنى تصير، وحذف نون فَتَذَرُوها إما للناصب وهو أن المضمرة في جواب النهي، إما للجازم بناء على أنه معطوف على الفعل قبله، وفي الآية ضرب من التوبيخ،
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط»،
وأخرج غير واحد عن جابر بن زيد أنه قال:- كانت لي امرأتان فلقد كنت أعدل بينهما حتى أعدّ القبل، وعن مجاهد قال: كانوا يستحبون أن يسووا بين الضرائر حتى في الطيب يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه، وعن ابن سيرين في الذي له امرأتان يكره أن يتوضأ في بيت إحداهما دون الأخرى. وَإِنْ تُصْلِحُوا ما كنتم تفسدون من أمورهن وَتَتَّقُوا الميل الذي نهاكم الله تعالى عنه فيما يستقبل فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً فيغفر لكم ما مضى من الحيف رَحِيماً فيتفضل عليكم برحمته وَإِنْ يَتَفَرَّقا أي المرأة وبعلها، وقرىء- يتفارقا- أي وإن لم يصطلحا ولم يقع بينهما وفاق بوجه ما من الصلح وغيره ووقعت بينهما الفرقة بطلاق يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا منهما أي يجعله مستغنيا عن الآخر ويكفه ما أهمه، وقيل: يغني الزوج بامرأة أخرى والمرأة بزوج آخر مِنْ سَعَتِهِ أي من غناه وقدرته، وفي ذلك تسلية لكل من الزوجين بعد الطلاق، وقيل: زجر لهما عن المفارقة، وكيفما كان فهو مقيد بمشيئة الله تعالى وَكانَ اللَّهُ واسِعاً أي غنيا
وكافيا للخلق، أو مقتدرا أو عالما حَكِيماً متقنا في أفعاله وأحكامه.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فلا يتعذر عليه الإغناء بعد الفرقة، ولا الإيناس بعد الوحشة- ولا ولا- وفيه من التنبيه على كمال سعته وعظم قدرته ما لا يخفى، والجملة مستأنفة جيء بها- على ما قيل- لذلك وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي أمرناهم بأبلغ وجه، والمراد بهم اليهود والنصارى ومن قبلهم من الأمم، والكتاب عام للكتب الإلهية، ولا ضرورة تدعو إلى تخصيص الموصول باليهود والكتاب بالتوراة، بل قد يدعى أن التعميم أولى بالغرض المسوق له الكلام وهو تأكيد الأمر بالإخلاص، ومِنْ متعلقة- بوصينا- أو- بأوتوا- وَإِيَّاكُمْ عطف على الموصول وحكم الضمير المعطوف أن يكون منفصلا ولم يقدم ليتصل لمراعاة الترتيب الوجودي أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ أي وصينا كلا منهم ومنكم بأن اتقوا الله تعالى على أن أَنِ مصدرية بتقدير الجار ومحلها نصب أو جر على المذهبين، ووصلها بالأمر- كالنهي وشبهه- جائز كما نص عليه سيبويه، ويجوز أن تكون مفسرة للوصية لأن فيها معنى القول، وقوله تعالى:
وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ عطف على وَصَّيْنَا بتقدير قلنا- أي وصينا وقلنا لكم ولهم إن تكفروا فاعلموا أنه سبحانه مالك الملك والملكوت لا يضره كفركم ومعاصيكم، كما أنه لا ينفعه شكركم وتقواكم وإنما وصاكم وإياهم لرحمته لا لحاجته- وفي الكلام تغليب للمخاطبين على الغائبين، ويشعر ظاهر كلام البعض أن العطف على اتَّقُوا اللَّهَ وتعقب بأن الشرطية لا تقع بعد أن المصدرية، أو المفسرة فلا يصح عطفها على الواقع بعدها سواء كان إنشاء أم إخبارا، والفعل وَصَّيْنَا أو أمرنا أو غيره، وقيل: إن العطف المذكور من باب:
علفتها تبنا وماء باردا.
وجوز أبو حيان أن تكون جملة مستأنفة خوطب بها هذه الأمة وحدها، أو مع الذين أوتوا الكتاب وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا بالغنى الذاتي عن الخلق وعبادتهم حَمِيداً أي محمودا في ذاته حمدوه أم لم يحمدوه، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وقيل: إن قوله سبحانه: ولِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ إلخ تهديد على الكفر أي إنه تعالى قادر على عقوبتكم بما يشاء، ولا منجى عن عقوبته فإن جميع ما في السّماوات والأرض له، وقوله عز وجل: وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً للإشارة إلى أنه جل وعلا لا يتضرر بكفرهم، وقوله سبحانه: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يحتمل أن يكون كلاما مبتدأ مسوقا للمخاطبين توطئة لما بعده من الشرطية أي له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقا وملكا يتصرف في ذلك كيفما يشاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة، ويحتمل أن يكون كالتكميل للتذييل ببيان الدليل فإن جميع المخلوقات تدل لحاجتها وفقرها الذاتي على غناه وبما أفاض سبحانه عليها من الوجود والخصائص والكمالات على كونه حميدا وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا تذييل لما قبله، والوكيل هو القيم، والكفيل بالأمر الذي يوكل إليه، وهذا على الإطلاق هو الله تعالى، وفي النهاية يقال: وكل فلان فلانا إذا استكفاه أمره ثقة أو عجزا عن القيام بأمر نفسه، والوكيل في أسماء الله تعالى هو القيم بأرزاق العباد، وحقيقته أنه يستقل بالأمر الموكول إليه، ولا يخفى أن الاقتصار على الأرزاق قصور فعمم، وتوكل على الله تعالى، وادعى البيضاوي- بيض الله تعالى غرة أحواله- أن هذه الجملة راجعة إلى قوله سبحانه: يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ فإنه إذا توكلت وفوضت فهو الغنى لأن من توكل على الله عز وجل كفاه، ولما كان ما بينهما تقريرا له لم يعد فاصلا، ولا يخفى أنه على بعده لا حاجة إليه إِنْ يَشَأْ إن يرد إذهابكم وإيجاد آخرين يُذْهِبْكُمْ يفنكم ويهلككم.
أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ أي يوجد مكانكم دفعة قوما آخرين من البشر، فالخطاب لنوع من الناس،
وقد
أخرج سعيد بن منصور وابن جرير من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أنه لما نزل قوله تعالى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد: ٣٨] ضرب النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده على ظهر سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وقال:
إنهم قوم هذا»
وفيه نوع تأييد لما ذكر في هذه الآية، وما نقل عن العراقي أن الضرب كان عند نزولها وحينئذ يتعين ما ذكر سهو على ما نص عليه الجلال السيوطي وجوز الزمخشري وابن عطية ومقلدوهما أن يكون المراد خلقا آخرين أي جنسا غير جنس الناس، وتعقبه أبو حيان بأنه خطأ وكونه من قبيل المجاز- كما قيل- لا يتم به المراد لمخالفته لاستعمال العرب فإن- غيرا- تقع على المغاير في جنس أو وصف،- وآخر- لا يقع إلا على المغايرة بين أبعاض جنس واحد.
وفي درّة الغواص في أوهام الخواص أنهم يقولون: ابتعت عبدا وجارية أخرى فيوهمون فيه لأن العرب لم تصف بلفظي آخر، وأخرى وجمعهما إلا ما يجانس المذكور قبله كما قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: ١٩، ٢٠] وقوله سبحانه: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: ١٨٥] فوصف جل اسمه- مناة- بالأخرى لما جانست- العزى، واللات- ووصف الأيام بالأخر لكونها من جنس الشهر، والأمة ليست من جنس العبد لكونها مؤنثة وهو مذكر فلم يجز لذلك أن يتصف بلفظ أخرى كما لا يقال: جاءت هند ورجل آخر، والأصل في ذلك أن آخر من قبيل أفعل الذي يصحبه من، ويجانس المذكور بعده كما يدل على ذلك أنك إذا قلت: قال: الفند الزماني، وقال آخر: كان تقدير الكلام، وقال آخر: من الشعراء وإنما حذفت لفظة من لدلالة الكلام عليها، وكثرة استعمال آخر في النطق، وفي الدر المصون: إن هذا غير متفق عليه، وإنما ذهب إليه كثير من النحاة وأهل اللغة وارتضاه نجم الأئمة الرضي إلا أنه يردّ على الزمخشري ومن معه أن آخرين صفة موصوف محذوف، والصفة لا تقوم مقام موصوفها إلا إذا كانت خاصة نحو مررت بكاتب، أو إذا دل الدليل على تعيين الموصوف- وهنا ليست بخاصة- فلا بد أن يكون من جنس الأول لتدل على المحذوف وقال ابن يسعون والصقلي وجماعة: إن العرب لا تقول: مررت برجلين وآخر لأنه إنما يقابل آخر ما كان من جنسه تثنية وجمعا، وإفرادا، وقال ابن هشام هذا غير صحيح لقول ربيعة بن يكدم:
ولقد شفعتهما بآخر ثالث | وأبى الفرار إلى الغداة تكرمي |
وكنت أمشي على ثنتين معتدلا | فصرت أمشي على أخرى من الشجر |
والخيل تقتحم الغبار عوابسا | من بين منظمة وآخر ينظم |
فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم | إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر |
وأجيب عن هذا بأنه إن سلم أن المنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم وإن خوطب به خاصة منزل على الأمة مخلصهم ومنافقهم إلى قيام الساعة، صح دخول المنافقين وإن لم يكونوا وقت النزول وإن لم يسلم ذلك فإن ادعي الاقتصار على النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يدخل المؤمنون المخلصون أيضا، وإن ادّعي دخولهم فقط دون المنافقين الذين هم مؤمنون ظاهرا صفحة رقم 166
فلا دليل عليه، كيف وجميع الأحكام متعلقة بالمؤمنين كيف كانوا ولسنا مكلفين بأن نشق على قلوب العباد، بل لنا الظاهر والله تعالى يتولى السرائر، على أنه قد قام الدليل على أن الأحكام الشرعية التي كانت صدر الإسلام ولم تنسخ مخاطب بها من نطق بالكلمة الطيبة وبلغته قبل يوم الساعة، فقد قال الله تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: ١٩] ولهذه الدغدغة قال بعض المحققين: إن المقصود من الخطاب هنا المؤمنون الصادقون، والمراد بمن يكفر ويستهزىء أعم من المنافقين والكافرين، وضمير مَعَهُمْ للمفهوم من الفعلين، ويؤيد ذلك ما نقل عن الواحدي أنه قال: كان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن فنهى الله تعالى المسلمين عن مجالستهم، والمراد من المماثلة في الجزاء المماثلة في الإثم لأنهم قادرون على الإعراض والإنكار لا عاجزون كما في مكة، أو في الكفر على معنى إن رضيتم بذلك وهو مبني على أن الرضا بكفر الغير كفر من غير تفصيل، وهي رواية عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه عثر عليها صاحب الذخيرة.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده: الرضا بكفر الغير إنما يكون كفرا إذا كان يستجيز الكفر أو يستحسنه أما إذا لم يكن كذلك ولكن أحب الموت، أو القتل على الكفر لمن كان مؤذيا حتى ينتقم الله تعالى منه فهذا لا يكون كفرا، ومن تأمل قوله تعالى: رَبَّنَا اطْمِسْ [يونس: ٨٨] الآية يظهر له صحة هذه الدعوى وهو المنقول عن الماتريدي، وقول بعضهم: إن من جاءه كافر ليسلم فقال: اصبر حتى أتوضأ أو أخره يكفر لرضاه بكفره في زمان موافق لما روي عن الإمام لكن يدل على خلافه ما
روي في الحديث الصحيح في فتح مكة أن ابن أبي سرح أتى به عثمان رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله بايعه فكف صلّى الله عليه وسلّم يده ونظر إليه ثلاث مرات
وهو معروف في السير، وهو يدل بظاهره على أن التوقف مطلقا ليس كما قالوه كفرا.
واستدل بعضهم بالآية على تحريم مجالسة الفساق والمبتدعين من أي جنس كانوا، وإليه ذهب ابن مسعود وإبراهيم وأبو وائل، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وروى عنه هشام بن عروة أنه ضرب رجلا صائما كان قاعدا مع قوم يشربون الخمر، فقيل له في ذلك: فتلا الآية، وهي أصل لما يفعله المصنفون من الإحالة على ما ذكر في مكان آخر، والتنبيه عليه والاعتماد على المعنى، ومن هنا قيل: إن مدار الإعراض عن الخائضين فيما يرضي الله تعالى هو العلم بخوضهم، ولذلك عبر عن ذلك تارة بالرؤية وأخرى بالسماع، وأن المراد بالإعراض إظهار المخالفة بالقيام عن مجالستهم لا الإعراض بالقلب أو بالوجه فقط، وعن الجبائي أن المحذور مجالستهم من غير إظهار كراهة لما يسمعه أو يراه، وعلى هذا- الذي ذهب إليه بعض المحققين- يحتمل أن يراد بالمنافقين والكافرين في جملة التعليل ما أريد بضمير معهم، وصرح بهذا العنوان لما أشرنا إليه قبل، ويحتمل أن يراد الجنس ويدخل أولئك فيه دخولا أوليا، والخطاب في قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ للمؤمنين الصادقين بلا خلاف، والموصول إما بدل من- الذين يتخذون- أو صفة للمنافقين فقط إذ هم المتربصون دون الكافرين.
وجوز أبو البقاء وغيره كونه صفة لهما أو مرفوع أو منصوب على الذم، وجعله مبتدأ خبره الجملة شرطية لا يخلو من تكلف، والتربص الانتظار، والظاهر من كلام البعض أن مفعوله مقدر والجار والمجرور متعلق به أي ينتظرون وقوع أمر بكم وكلام الراغب يقتضي أنه يتعدى بالباء لأنه من انتظر بالسلعة غلاء السعر، والفاء في قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ لترتيب مضمونه على ما قبلها فإن حكاية تربصهم مستتبعة لحكاية ما يقع بعد ذلك أي فإن اتفق لكم فتح وظفر على الأعداء قالُوا أي لكم أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ نجاهد عدوكم فأعطونا نصيبا من الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ أي حظ من الحرب، فإنها سجال قالُوا أي المنافقون للكفار أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ أي ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم، أو ألم نغلبكم بالتفضل ونطلعكم على أسرار محمد صلّى الله عليه وسلّم
وأصحابه ونكتب إليكم بأخبارهم حتى غلبتم عليهم وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلنا إياهم وتثبيطنا لهم وتوانينا في مظاهرتهم وإلقائنا عليهم ما ضعفت به قلوبهم عن قتالكم فاعرفوا لنا هذا الحق عليكم وهاتوا نصيبنا مما أصبتم: وقيل: المعنى ألم نغلبكم على رأيكم بالموالاة لكم وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الدخول في جملة الْمُؤْمِنِينَ وهو خلاف الظاهر، وأصل الاستحواذ الاستيلاء، وكان القياس فيه استحاذ يستحيذ استحاذة بالقلب لكن صحت فيه الواو وكثر ذلك فيه. وفي نظائر له حتى ألحق بالمقيس وعدّ فصيحا، وقال أبو زيد: إنه قياسي، وعلى كل حال لا يرد على فصاحة القرآن كما حقق في موضعه. وقرىء وَنَمْنَعْكُمْ بالنصب بإضمار أن، والتقدير لم يكن منا الاستحواذ والمنع كقولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، سمي ظفر المسلمين فتحا وما للكافرين نصيبا لتعظيم شأن المسلمين وتخسيس حظ الكافرين، وقيل: سمي الأول فتحا إشارة إلى أنه من مداخل فتح دار الإسلام بخلاف ما للكافرين فإنه لا فتح لهم في استيلائهم بل سينطفئ ضياء ما نالوا فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فيثيب أحباءه ويعاقب أعداءه، وأما في الدنيا فأنتم وهم سواء في العصمة بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم» وفي الكلام قيل: تغليب، وقيل: حذف أي بينكم وبينهم وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا أي
يوم القيامة وحين الحكم كما قد يجعل ذلك في الدنيا ابتلاء واستدراجا، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه
وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو في الدنيا أي لم يجعل لهم على المؤمنين سلطانا تاما بالاستئصال، أو حجة قائمة عليهم مفحمة لهم، وحكي ذلك عن السدي، ويجوز إبقاء الكلام على إطلاقه ليشمل الدنيا والآخرة ولعله الأولى، واحتج الشافعية بالآية على فساد شراء الكافر العبد المسلم لأنه لو صح لكان له عليه يد وسبيل بتملكه، ونحن نقول: يصح ولكن يمنع من استخدامه والتصرف فيه إلا بالبيع والإخراج عن ملكه فلم يحصل له سبيل عليه، واحتج بظاهرها بعض الأصحاب على وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج لأن عقد النكاح يثبت للزوج سبيلا في إمساكها في بيته وتأديبها ومنعها من الخروج وعليها طاعته فيما يقتضيه عقد النكاح، والمؤمنين والكافرين شامل للإناث وكذا الكافر إذا أسلمت زوجته، وضعف بأن الارتداد لا ينفي أن يكون النكاح إذا عاد إلى الإيمان قبل مضي العدة، واعترض بأنه حين الكفر لا سبيل له ونفي السبيل بوقوع الفرقة وبعد وقوع الفرقة لا بد لحدوث العلقة من موجب- وهو ظاهر- فإن كان العود يكون الارتداد كالطلاق الرجعي، والعود كالرجعة فلا ضعف فيه.
وأنت تعلم أنه إذا كان نفي السبيل في الآخرة أو في الدنيا بالاستئصال، أو السبيل بمعنى الحجة لا متمسك في الآية لأصحابنا ولا الشافعية فلا تغفل إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ
أي يفعلون ما يفعل المخادع فيظهرون الإيمان ويضمرون نقيضه، وعن الحسن- واختاره الزجاج- أن المراد يخادعون النبي صلّى الله عليه وسلّم على حد إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: ١٠] وَهُوَ خادِعُهُمْ
أي فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع حيث تركهم في الدنيا معصومي الدماء والأموال وأعد لهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار، وقيل: خداعه تعالى لهم أن يعطيهم سبحانه نورا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين ثم يسلبهم ذلك النور ويضرب بينهم بسور. وروي ذلك عن الحسن، أيضا- والسدي- واختاره جماعة من المفسرين- وقد مر تحقيق ذلك، ولله تعالى الحمد.
والجملة في محل نصب على الحال أو معطوفة على خبر إِنَ
أو مستأنفة كالأولى.
وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
أي متثاقلين متباطئين لا نشاط لهم ولا رغبة كالمكره على الفعل لأنهم لا يعتقدون ثوابا في فعلها ولا عقابا على تركها، وقرىء بفتح الكاف وهما جمعا كسلان.
يُراؤُنَ النَّاسَ
ليحسبوهم مؤمنين، والمراءاة مفاعلة من الرؤية إما بمعنى التفعيل لأن فاعل بمعنى فعل وارد
في كلامهم- كنعم وناعم- وقراءة عبد الله وإسحاق- يروون- تدل على ذلك، أو للمقابلة لأنهم لفعلهم في مشاهد الناس يرون الناس والناس يرونهم وهم يقصدون أن ترى أعمالهم والناس يستحسنونها، فالمفاعلة في الرؤية متحدة وإنما الاختلاف في متعلق الإراءة، فلا يرد على هذا الشق أن المفاعلة لا بد في حقيقتها من اتحاد الفعل ومتعلقه، والجملة إما استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل: فماذا يريدون بقيامهم هذا؟ فقيل: يُراؤُنَ
إلخ، أو حال من ضمير قامُوا
أو من الضمير في كسالى.
وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
عطف على يُراؤُنَ
، وقيل: حال من فاعله أي ولا يذكرونه سبحانه مطلقا إلا زمانا قليلا، أو إلا ذكرا قليلا إذ المرائي لا يفعل إلا بحضرة من يرائيه وهو أقل أحواله، أو لأن ذكرهم باللساني قليل بالنسبة إلى الذكر بالقلب، وقيل: إنما وصف بالقلة لأنه لم يقبل وكل ما لم يقبله الله تعالى قليل وإن كان كثيرا، وروي ذلك عن قتادة، وأخرج البيهقي وغيره عن الحسن ما بمعناه.
وأخرج ابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال:- لا يقل عمل مع تقوى وكيف يقل ما يتقبل-
وقيل:
المراد بالذكر الذكر الواقع في الصلاة نحو التكبير والتسبيح، وإليه ذهب الجبائي، وأيد بما
أخرجه مسلم وأبو داود عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله تعالى فيها إلا قليلا»،
وقيل: الذكر بمعنى الصلاة لأن الكلام فيها لا بمعناه المتبادر منه، وجوز أن يراد بالقلة العدم، واستشكل توجيه الاستثناء حينئذ.
وأجيب بأن المعنى لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
تعالى إِلَّا
ذكرا ملحقا بالعدم لأنه لا ينفعهم فلا إشكال، ولا يخفى ما فيه فإن القلة بمعنى العدم مجاز، وجعل العدم بمعنى ما لا نفع فيه مجاز آخر، ومع ذلك ليس في الكلام ما يدل عليه، وقال بعض المحققين: في توجيه الكلام على ذلك التقدير إن المعنى حينئذ لو صح أن يعد عدم الذكر ذكرا فذلك ذكرهم على طريقة قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهن فلول من قراع الكتائب |
أو من فاعل يَذْكُرُونَ
وجوز أن يكون حالا من فاعل قامُوا
أو منصوب على الذم بفعل مقدر، وذلك إشارة إلى الإيمان والكفر المدلول عليه بذكر المؤمنين والكافرين، ولذا أضيف بَيْنَ إليه، وروي هذا عن ابن زيد ويصح أن يكون إشارة إلى المؤمنين والكافرين فيكون ما بعده تفسيرا له على حد قوله:
الألمعي الذي يظن بك الظن | كأن قد رأى وقد سمعا |
وقرىء بالدال غير المعجمة وهو مأخوذ من- الدبة- بضم الدال وتشديد الباء بمعنى الطريقة والمذهب كما صفحة رقم 169
في النهاية، ويقال: هو على دبتي أي طريقتي وسمتي، وفي حديث ابن عباس «اتبعوا دبة قريش ولا تفارقوا الجماعة» والمعنى حينئذ أنهم أخذ بهم تارة طريقا وأخرى أخرى لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ أي لا منسوبين إلى المؤمنين حقيقة لإضمارهم الكفر، ولا إلى الكافرين لإظهارهم الإيمان، أو لا صائرين إلى الأولين ولا إلى الآخرين، ومحله النصب على أنه حال من ضمير مُذَبْذَبِينَ أو على أنه بدل منه، ويحتمل أن يكون بيانا وتفسيرا له وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ لعدم استعداده للهداية والتوفيق فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا موصلا إلى الحق والصواب فضلا عن أن تهديه إليه، والخطاب لكل من يصلح له وهو أبلغ في التفظيع.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ نهي المؤمنين الصادقين عن موالاة الكفار اليهود فقط- كما قيل- أو ما يعمهم وغيرهم كما هو الظاهر بعد بيان حال المنافقين، أي لا تتخذوهم أولياء فإن ذلك ديدن المنافقين ودينهم فلا تتشبهوا بهم، وقيل: المراد بالذين آمنوا المنافقون وبالمؤمنين المخلصون، فالآية نهي للمنافقين عن موالاة الكافرين دون المخلصين وقيل: المراد بالموصول المخلصون، وبالكافرين المنافقون فكأنه قيل: قد بينت لكم أخلاق هؤلاء المنافقين فلا تتخذوا منهم أولياء، وإلى ذلك ذهب القفال، وفي كلا القولين بعد أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي حجة ظاهرة في العذاب، وفيه دلالة على أن الله تعالى لا يعذب أحدا بمقتضى حكمته إلا بعد قيام الحجة عليه، ويشعر بذلك كثير من الآيات، وقيل: أتريدون بذلك أن تجعلوا له تعالى حجة بينة على أنكم موافقون (١) فإن موالاة الكافرين أوضح أدلة النفاق.
ومن الناس من أبقى السلطان على معناه المعروف، لكن أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة، وهو مما يجوز فيه التذكير والتأنيث إجماعا، فتذكيره باعتبار البرهان أو باعتبار معناه المعروف، والتأنيث باعتبار الحجة والتأنيث أكثر عند الفصحاء على ما قاله الفراء إلا أنه لم يعتبر هنا، واعتبر التذكير لتحسن الفاصلة، وادعى ابن عطية أن التذكير أشهر وهي لغة القرآن حيث وقع، وعَلَيْكُمْ يجوز تعلقه بالجعل وبمحذوف وقع حالا من سُلْطاناً، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال: أتجعلون إلخ للمبالغة في إنكاره وتهويل أمره ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل إرادته فضلا عن صدور نفسه إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أي في الطبقة السفلى منها وهو قعرها، ولها طبقات سبع تسمى الأولى كما قيل: جهنم، والثانية لظى، والثالثة الحطمة والرابعة السعير، والخامسة سقر، والسادسة الجحيم، والسابعة الهاوية. وقد تسمى النار جميعا باسم الطبقة الأولى، وبعض الطبقات باسم بعض لأن لفظ النار يجمعها وتسمية تلك الطبقات دركات لكونها متداركة متتابعة بعضها تحت بعض، والدَّرْكِ كالدرج إلا أنه يقال باعتبار الهبوط، والدرج باعتبار الصعود، وفي كون المنافق فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ إشارة إلى شدة عذابه.
وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن الأحوص عن ابن مسعود- أن المنافق يجعل في تابوت من حديد يصمد عليه ثم يجعل في الدرك الأسفل- وإنما كان أشدّ عذابا من غيره من الكفار لكونه ضم إلى الكفر المشترك استهزاء بالإسلام وخداعا لأهله، وأما ما
روي في الصحيحين من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد غدر، وإذا خاصم فجر»
فقد قال المحدثون فيه: إنه مخصوص بزمانه صلّى الله عليه وسلّم لاطلاعه بنور الوحي على بواطن المتصفين بهذه الخصال فأعلم عليه
الصلاة والسلام أصحابه رضي الله تعالى عنهم بأماراتهم ليحترزوا عنهم، ولم يعينهم حذرا عن الفتنة وارتدادهم ولحوقهم بالمحاربين، وقيل: ليس بمخصوص ولكنه مؤول بمن استحل ذلك، أو المراد من اتصف بهذه فهو شبيه بالمنافقين الخلص، وأطلق صلّى الله عليه وسلّم ذلك عليه تغليظا وتهديدا له، وهذا في حق من اعتاد ذلك لا من ندر منه، أو هو منافق في أمور الدين عرفا والمنافق في العرف يطلق على كل من أبطن خلاف ما يظهر مما يتضرر به وإن لم يكن إيمانا وكفرا، وكأنه مأخوذ من النافقاء، وليس المراد الحصر وهذا صدر منه صلّى الله عليه وسلّم باقتضاء المقام، ولذا ورد في بعض الروايات «ثلاث» وفي بعضها «أربع».
وقرأ الكوفيون الدَّرْكِ بسكون الراء وهو لغة كالسطر والسطر، والفتح أكثر وأفصح لأنه ورد جمعه على أفعال، وأفعال في فعل المحرك كثير مقيس، ووروده في الساكن نادر كفرخ وأفراخ، وزند وأزناد.- وكونه استغني بجمع أحدهما عن الآخر جائز لكنه خلاف الظاهر، فلا يندفع به الترجيح، والكلام مخرّج مخرج الحقيقة، وزعم أبو القاسم البلخي أن لا طبقات في النار، وأن هذا إخبار عن بلوغ الغاية في العقاب كما يقال: إن السلطان بلغ فلانا الحضيض وفلانا العرش، يريدون بذلك انحطاط المنزلة وعلوها لا المسافة، ولا يخفى أنه خلاف ما جاءت به الآثار، ومِنَ النَّارِ في محل النصب على الحال وفي صاحبها وجهان: أحدهما أنه الدَّرْكِ والعامل الاستقرار، والثاني أنه الضمير المستتر في الْأَسْفَلِ لأنه صفة، فيتحمل الضمير أي حال كون ذلك من النار وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً يخرجهم منه أو يخفف عنهم ما هم فيه يوم القيامة حين يكونون في الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ وكون المراد وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً في الدنيا لتكون الآية وصفا لهم بأنهم خسروا الدنيا والآخرة ليس بشيء كما لا يخفى، والخطاب لكل من يصلح له إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عن النفاق وهو استثناء من المنافقين، أو من ضميرهم في الخبر، أو من الضمير المجرور في لهم، وقيل: هو في موضع رفع بالابتداء والخبر ما بعد الفاء ودخلت- لما- في الكلام من معنى الشرط وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا من نياتهم وأحوالهم في حال النفاق، وقيل: ثبتوا على التوبة في المستقبل، والأول أولى وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ أي تمسكوا بكتابه، أو وثقوا به وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ لا يريدون بطاعتهم إلا وجهه ورضاه سبحانه لا رياء الناس، ودفع الضرر كما في النفاق،
وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي ثمامة قال: قال الحواريون لعيسى عليه السلام: يا روح الله من المخلص لله؟ قال: الذي يعمل لله تعالى لا يحب أن يحمده الناس عليه
فَأُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصفة وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أي المعهودين من الذين لم يصدر منهم نفاق أصلا منذ آمنوا، والمراد أنهم معهم في الدرجات العالية من الجنة، أو معدودون من جملتهم في الدنيا والآخرة وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً لا يقادر قدره فيساهمونهم فيه ويقاسمونهم.
وفسر أبو حيان الأجر العظيم بالخلود، والتعميم أولى، والمراد بالمؤمنين هاهنا ما أريد به فيما قبله. واعتبار المساهمة جرى عليه غير واحد، ولولا تفسير الآية بذلك لم يكن لها في ذكر أحوال من تاب من النفاق معنى ظاهر.
وذهب بعضهم إلى عدم اعتبارها، والمراد الإخبار بزيادة ثواب من لم يسبق منه نفاق أصلا، وعمم بعض المؤمنين ليشمل من لم يتقدم منه نفاق ومن تقدم منه وتاب عنه، والظاهر ما ذكرناه، ورسم يُؤْتِ بغير ياء، وهو مضارع مرفوع فحق يائه أن تثبت لفظا وخطا إلا أنها حذفت في اللفظ لالتقاء الساكنين، وجاء الرسم تبعا للفظ والقراء يقفون عليه دونها اتباعا للرسم إلا يعقوب فإنه يقف بالياء نظرا إلى الأصل.
وروي ذلك أيضا عن الكسائي وحمزة ونافع وادعى السمين أن الأولى اتباع الرسم لأن الأطراف قد كثر حذفها
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ خطاب للمنافقين- وقيل: للمؤمنين، وضعف- مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم وجودا وعدما إنما هو كفرهم لا شيء آخر، فتكون الجملة مقررة لما قبلها من ثباتهم عند توبتهم، وما استفهامية مفيدة للنفي على أبلغ وجه وآكده، وقيل: نافية والباء سببية، وقيل: زائدة أي أيّ شيء يفعل الله سبحانه بسبب تعذيبكم أيتشفى به من الغيظ؟ أم يدرك به الثأر؟ أم يستجلب نفعا؟ أو يستدفع به ضررا كما هو شأن الملوك، وهو الغني المطلق المتعالي عن أمثال ذلك؟ وإنما هو أمر يقتضيه مرض كفركم ونفاقكم فإذا احتميتم عن النفاق ونقيتم نفوسكم بشربة الإيمان والشكر في الدنيا برئتم وسلمتم وإلا هلكتم هلاكا لا محيص عنه بالخلود في النار، وإنما قدم الشكر مع أن الظاهر تأخيره لأنه لا يعتد به إلا بعد الإيمان لما أنه طريق موصل إليه في أول درجاته، فقد ذكر العارف أبو إسماعيل الأنصاري أن الشكر في الأصل اسم لمعرفة النعمة لأنها السبيل إلى معرفة المنعم وله ثلاث درجات لأنه إذا نظر إلى النعمة كالرزق والخلق ينبغث منه شوق إلى معرفة المنعم وهذه الحركة تسمى باليقظة والشكر القلبي والشكر المبهم لأن منعمه لم يتضح له تعيينه، وإنما عرف منعما ما فهو منعم عليه فإذا تيقظ لهذا وفق لنعمة أكبر منها، وهي المعرفة بأن المنعم عليه هو الصمد الواسع الرحمة المثيب المعاقب فتتحرك جوارحه لتعظيمه ويضيف إلى شكر الجنان شكر الأركان، ثم ينادي على ذلك الجميل باللسان، ويقول:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة | يدي ولساني والضمير المحجبا |
وأوضح منه وأطيب ما حاك في صدري، ثم رأيت العلامة الطيبي عليه الرحمة صرح به إن الذي يقتضيه النظم الفائق أن هذا الخطاب مع المنافقين، وأن قوله سبحانه ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ متصل بقوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إلخ، وتنبيه لهم على أن الذي ورطهم في تلك الورطة كفرانهم نعم الله تعالى وتهاونهم في شكر ما أوتوا وتفويتهم على أنفسهم بنفاقهم البغية العظمى، وهو الإسعاد بصحبة أفضل الخلق صلّى الله عليه وسلّم والانخراط في زمرة الذين مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ [الفتح: ٢٩] فإذا تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله تعالى وأخلصوا دينهم له فأولئك حكمهم أن ينتظموا في سلك أولئك السعداء من المؤمنين بعد ما كانوا مستأهلين الدرجات السفلى من النيران، ثم التفت تعريضا لهم أن ذلك العذاب كان منهم وبسبب تقاعدهم وكفرانهم تلك النعمة الرفيعة وتفويتهم على أنفسهم تلك الفرصة السنية وإلا فإن الله تعالى غني مطلق عن عذابهم فضلا على أن يوقعهم في تلك الورطات، فقوله عز وجل: إِنْ شَكَرْتُمْ فذلكة لمعنى الرجوع عن الفساد في الأرض إلى الإصلاح فيها، ومن اللجأ إلى الخلق إلى الاعتصام بالله تعالى، ومن الرياء في الدين إلى الإخلاص فيه، فقوله عز صفحة رقم 172
من قائل: وَآمَنْتُمْ تفسير له وتقرير لمعناه أي وَآمَنْتُمْ الإيمان الذي هو حائز لتلك الخلال الفواضل جامع لتلك الخصال الكوامل، فتقديم الشكر على الإيمان وحقه التأخير في الأصل إعلام بأن الكلام فيه، وأن الآية السابقة مسوقة لبيان كفران نعمة الله تعالى العظمى والكفر تابع فإذا أخر الشكر أخل بهذه الأسرار واللطائف، ومن ثم ذيل سبحانه الآية على سبيل التعليل بقوله جل وعلا:
وَكانَ اللَّهُ شاكِراً أي مثيبا على الشكر عَلِيماً بجميع الجزئيات والكليات فلا يعزب عن علمه شيء فيوصل الثواب كاملا إلى الشاكر، وإلى هذا ذهب الإمام، وقال غير واحد: الشاكر وكذا الشكور من أسمائه تعالى هو الذي يجزي بيسير الطاعات كثير الدرجات، ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعما في الآخرة غير محدودة، وعلى التقديرين يرجع إلى صفة فعلية، وقيل: معناه المثنى على من تمسك بطاعته فيرجع إلى صفة كلامية.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : أما في قوله سبحانه: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ إلى قوله عز وجل:
وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً فقد قال النيسابوري فيه: إن النفس للروح كالمرأة للزوج، فِي يَتامَى النِّساءِ صفات النفوس، وما كُتِبَ لَهُنَّ ما أوجب الله تعالى من الحقوق.
وحاصل المعنى إن نفسك مطيتك فارفق بها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ فالروح تشح بترك حقوق الله تعالى، والنفس تشح بترك حظوظها فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ في رفض حظوظ النفس، فقد جاء في الخبر «إن لنفسك عليك حقا» فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ بين العالم العلوي والعالم السفلي وَإِنْ يَتَفَرَّقا أي الروح والنفس يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ فالروح يجتذب بجذبة- خل نفسك وائتني إلى سعة غنى الله تعالى في عالم هويته- فيستغنى عن مركب النفس بالوصول إلى المقصود، والنفس تجتذب بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: ٢٨] إلى سعة غنى الله تعالى في عالم فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:
٢٩، ٣٠] انتهى، ولا يخفى أن باب التأويل واسع، وما ذكره ليس بمتعين فيمكن أن تجعل الآية في شأن الشيخ والمريد وأما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا إلخ فنقول: إنه سبحانه أمر المؤمنين بالتوحيد العلمي المريدين لثواب الدارين أن يكونا ثابتين في مقام العدالة التي في أشرف الفضائل قَوَّامِينَ بحقوقها بحيث تكون ملكة راسخة فيهم لا يمكن معها جور في شيء ولا ظهور صفة نفس لاتباع هوى في جلب نفع دنيوي أو رفع مضرة كذلك، ثم قال جل وعلا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا من حيث البرهان آمَنُوا من حيث البيان إلى أن تؤمنوا من حيث العيان أو يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالإيمان التقليدي آمَنُوا بالإيمان العيني، أو المراد يا أَيُّهَا المدعون تجريد الإيمان لي من غير وساطة لا سبيل لكم إلى الوصول إلى عين التجريد إلا بقبول الوسائط، فالآية إشارة إلى الفرق بعد الجمع إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالتقليد ثُمَّ كَفَرُوا إذ لم يكن للتقليد أصل ثُمَّ آمَنُوا بالاستدلال العقلي ثُمَّ كَفَرُوا إذ لم تكن عقولهم مشرقة بالنور الإلهي ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بالشبهات والاعتراضات، وقد يكون ذلك إشارة إلى وصف أهل التردد في سلوك سبيل أولياء الله تعالى، والإيمان بأحوالهم حين هاجت رغبتهم إلى رئاسة القوم. فلما جن عليهم ليل المجاهدات لم يتحملوا وأنكروا ورجعوا إلى حظوظ أنفسهم، ولما رأوا نهاية الأكابر وظنوا اللحوق بهم لو استقاموا آمنوا فلما لم يصلوا إلى شيء من مقامات القوم وكراماتهم لعدم إخلاصهم وسوء استعدادهم ارتدوا وصاروا منكرين عليهم وعلى مقاماتهم وازدادوا إنكارا على إنكار حين رجعوا إلى اللذات والشهوات واختاروا الدنيا على الآخرة وجعلوا يقولون للخلق: إن هؤلاء ليسوا على الحق فقد سلكنا ما سلكوا وخضنا ما خاضوا فلم نر إلا سرابا بقيعة، وهذا حال كثير من علماء السوء المنكرين على القوم قدس الله تعالى أسرارهم ما كان الله ليغفر لهم
لمكان الريب الحاجب وفساد جوهر القلب وزوال الاستعداد وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا إلى الحق ولا إلى الكمال لعدم قبولهم ذلك الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ لمناسبتهم إياهم وشبيه الشيء منجذب إليه مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لعدم الجنسية أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ أي أيطلبون التعزز بهم في الدنيا والتقوى بمالهم وجاههم فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً فلا سبيل لهم إليها إلا منه سبحانه عز وجل، ثم ذكر سبحانه من وصف المنافقين أنهم- إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى- لعدم شوقهم إلى الحضور ونفورهم عنه لعدم استعدادهم واستيلاء الهوى عليهم يُراؤُنَ النَّاسَ
لاحتجابهم بهم عن رؤية الله تعالى وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
لأنهم لا يذكرونه إلا باللسان وعند حضورهم بين الناس بخلاف المؤمنين الصادقين فإنهم إذا قاموا إلى الصلاة يطيرون إليها بجناحي الرغبة والرهبة بل يحنون إلى أوقاتها.
حنين أعرابية حنت إلى | أطلال نجد فارقته ومرخه |
كان صلّى الله عليه وسلّم يقول لبلال: «أرحنا يا بلال»
يريد عليه الصلاة والسلام أقم لنا الصلاة لنصلي فنستريح بها لا منها، وظن الأخير برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كفر والعياذ بالله تعالى وإذا عبدوا لا يرون إلا الله تعالى، وما قدر السوي عندهم ليراؤوه؟ وإن كل جزء منهم يذكر الله تعالى، نعم إنهم قد يشتغلون به عنه فهناك لا يتأتى لهم الذكر، وقد عد العارفون الذكر لأهل الشهود ذنبا، ولهذا قال قائلهم:
بذكر الله تزداد الذنوب | وتنكشف الرذائل والعيوب |
وترك الذكر أفضل كل شيء | وشمس الذات ليس لها مغيب |
لا يترك الذكر إلا من يشاهده | وليس يشهده من ليس يذكره |
والذكر ستر على مذكوره ستر | فحين أذكره في الحال يستره |
فلا أزال على الأحوال أشهده | ولا أزال على الأنفاس أذكره |
«تم والحمد لله الجزء الخامس من تفسير روح المعاني، ويتلوه الجزء السادس إن شاء الله تعالى» أوله «لا يحب الله الجهر بالسوء من القول». صفحة رقم 174