آيات من القرآن الكريم

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ ۖ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَىٰ بِالْقِسْطِ ۚ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا
ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﱿ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ

وحفظك في قلاع استعدادك عن أن ينالك شيء من ذلك وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ
الجامع لتفاصيل العلم وَالْحِكْمَةَ
التي هي أحكام تلك التفاصيل مع العمل وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
من علم عواقب الخلق وعلم ما كان وما سيكون وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
حيث جعلك أهلا لمقام قاب قوسين أو أدنى ومنّ عليك بما لا يحيط به سوى نطاق الوجود لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ وهو ما كان من جنس الفضول، والأمر الذي لا يعني إِلَّا نجوى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ وأرشد إلى فضيلة السخاء الناشئ من العفة، أَوْ مَعْرُوفٍ قولي كتعلم علم، أو فعلي كإغاثة ملهوف أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ الذي هو من باب العدل وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ويجمع بين تلك الكمالات ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ لا للرياء والسمعة من كل ما يعود به الفضيلة رذيلة فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ الله تعالى أَجْراً عَظِيماً ويدخله جنات الصفات وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يخالف ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو العقل المسمى عندهم بالرسول النفسي وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أي غير ما عليه أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن اقتفى أثرهم من الأخيار أو القوى الروحانية نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ الحرمان وَساءَتْ مَصِيراً لمن يصلاها إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وهي الأصنام المسماة بالنفوس إذ كل من يعبد غير الله تعالى فهو عابد لنفسه مطيع لهواها، أو المراد بالإناث الممكنات لأن كل ممكن محتاج ناقص من جهة إمكانه منفعل متأثر عند تعينه فهو أشبه كل شيء بالأنثى وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً وهو شيطان الوهم حيث قبلوا إغواءه وأطاعوه لَعَنَهُ اللَّهُ أي أبعده عن رياض قربه وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وهم غير المخلصين الذين استثنوا في آية أخرى وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عن الطريق الحق وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ الأماني الفاسدة من كسب اللذات الفانية وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ أي فليقطعن آذان نفوسهم عن سماع ما ينفعهم وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وهي الفطرة التي فطر الناس عليها من التوحيد وَالَّذِينَ آمَنُوا ووحدوا وعملوا الصالحات واستقاموا سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ جنة الأفعال وجنة الصفات وجنة الذات لَيْسَ أي حصول الموعود بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ بل لا بد من السعي فيما يقتضيه، وفي المثل إن التمني رأس مال المفلس، وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً أي حالا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وسلم نفسه إليه وفني فيه وَهُوَ مُحْسِنٌ مشاهد للجمع في عين التفصيل سالك طريق الإحسان بالاستقامة في الأعمال وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ في التوحيد حَنِيفاً مائلا عن السوي وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا حيث تخللت المعرفة جميع أجزائه من حيث ما هو مركب فلم يبق جوهر فرد إلا وقد حلت فيه
معرفة ربه عزّ وجلّ فهو عارف به بكل جزء منه، ومن هنا قيل: إن دم الحلاج لما وقع على الأرض انكتب بكل قطرة منه الله وأنشد:
ما قدّ لي عضو ولا مفصل... إلا وفيه لكم ذكر

صفحة رقم 152

وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لأن كل ما برز في الوجود فهو شأن من شؤونه سبحانه وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً من حيث إنه الذي أفاض عليه الجود، وهو رب الكرم والجود، لا رب غيره، ولا يرجى إلا خيره وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ أي يطلبون منك تبيين المشكل من الأحكام في النساء مما يجب لهن وعليهن مطلقا فإنه عليه الصلاة والسلام قد سئل عن أحكام كثيرة مما يتعلق بهن فما بين فيما سلف أحيل بيانه على ما ورد في ذلك من الكتاب وما لم يبين بعد بين هنا، وقال غير واحد: إن المراد يَسْتَفْتُونَكَ في ميراثهن، والقرينة الدالة على ذلك سبب النزول،
فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جبير قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئا، فلما نزلت المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس، وقالوا: أيرث الصغير الذي لا يقوم في المال والمرأة التي هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل؟! فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بدّ، ثم قالوا: سلوا فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: كان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء ولا الصبيان شيئا كانوا يقولون لا يغزون ولا يغنمون خيرا فنزلت، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه، وإلى الأول مال شيخ الإسلام: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ أي يبين لكم حكمه فيهن، والإفتاء إظهار المشكل على السائل، وفي البحر يقال: أفتاه إفتاء، وفتيا وفتوى، وأفتيت فلانا رؤياه عبرتها له.
وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ في ما ثلاثة احتمالات: الرفع والنصب والجر، وعلى الأول: إما أن تكون مبتدأ والخبر محذوف أي- وما يتلى عليكم في القرآن يفتيكم ويبين لكم- وإيثار صيغة المضارع للإيذان بدوام التلاوة واستمرارها، وفي الكتاب متعلق- بيتلى- أو بمحذوف وقع حالا من المستكن فيه أي يتلى كائنا في الكتاب، وإما أن تكون مبتدأ، وفِي الْكِتابِ خبره، والمراد بالكتاب حينئذ اللوح المحفوظ إذ لو أريد به معناه المتبادر لم يكن فيه فائدة إلا أن يتكلف له، والجملة معترضة مسوقة لبيان عظم شأن المتلو، وما يتلى متناول لما تلي وما سيتلى، وإما أن تكون معطوفة على الضمير المستتر في يُفْتِيكُمْ وصح ذلك للفصل، والجمع بين الحقيقة والمجاز في المجاز العقلي سائغ شائع، فلا يرد أن الله تعالى فاعل حقيقي للفعل، والمتلو فاعل مجازي له، والإسناد إليه من قبيل الإسناد إلى السبب فلا يصح العطف، ونظير ذلك أغناني زيد وعطاؤه، وإما أن تكون معطوفة على الاسم الجليل، والإيراد أيضا غير وارد، نعم المتبادر أن هذا العطف من عطف المفرد على المفرد، ويبعده إفراد الضمير كما لا يخفى، وعلى الثاني تكون مفعولا لفعل محذوف أي ويبين لكم ما يتلى، والجملة إما معطوفة على جملة يُفْتِيكُمْ وإما معترضة، وعلى الثالث إما أن تكون في محل الجر على القسم المنبئ عن تعظيم المقسم به وتفخيمه كأنه قيل:
قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وأقسم- بما يتلى عليكم في الكتاب- وإما أن تكون معطوفة على الضمير المجرور كما نقل عن محمد بن أبي موسى، وما عند البصريين ليس بوحي فيجب اتباعه، نعم فيه اختلال معنوي لا يكان ينفعه، وإما أن تكون معطوفة على النساء كما نقله الطبرسي عن بعضهم، ولا يخفى ما فيه، وقوله سبحانه: فِي يَتامَى النِّساءِ متعلق- بيتلى- في غالب الاحتمالات أي ما يتلى عليكم في شأنهن ومنعوا ذلك على تقدير كون ما مبتدأ، وفِي الْكِتابِ خبره لما يلزم عليه من الفصل بالخبر بين أجزاء الصلة، وكذا على تقدير القسم إذ لا معنى لتقييده بالمتلو بذلك ظاهرا، وجوزوا أن يكون بدلا من فِيهِنَّ وأن يكون صلة أخرى- ليفتيكم- ومتى لزم تعلق حرفي جر بشيء واحد بدون اتباع يدفع بالتزام كونهما ليسا بمعنى، والممنوع تعلقهما كذلك إذا كانا بمعنى واحد، وفي الثاني

صفحة رقم 154

هنا سببية كما
في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن امرأة دخلت النار في هرة»
فالكلام إذا مثل جئتك في يوم الجمعة في أمر زيد أي بسببه، وإضافة اليتامى إلى النساء بمعنى من لأنها إضافة الشيء إلى جنسه، وجعلها أبو حيان بمعنى اللام ومعناها الاختصاص، وادعي أنه الأظهر وليس بشيء- كما قال الحلبي وغيره- وقرىء- ييامى- بياءين على أنه جمع أيم والعرب تبدل الهمزة ياء كثيرا اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ أي ما فرض لهن من الميراث وغيره على ما اختاره شيخ الإسلام، أو ما فرض لهن من الميراث فقط على ما روي عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد رضي الله تعالى عنه، واختاره الطبري، أو ما وجب لهن من الصداق على ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، واختاره الجبائي، وقيل:
ما كُتِبَ لَهُنَّ من النكاح فإن الأولياء كانوا يمنعوهن من التزوج.
وروي ذلك عن الحسن وقتادة والسدي وإبراهيم وَتَرْغَبُونَ عطف على صلة اللَّاتِي أو على المنفي وحده، وجوز أن يكون حالا من فاعل تُؤْتُونَهُنَّ فإن قلنا بجواز اقتران الجملة المضارعية الحالية بالواو: فظاهر، وإذا قلنا بعدم الجواز: التزم تقدير مبتدأ أي وأنتم ترغبون أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ أي في أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ أو عن أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ فإن أولياء اليتامى- كما ورد في غير ما خبر- كانوا يرغبون فيهن إن كن جميلات ويأكلون ما لهن، وإلا كانوا يعضلوهن طمعا في ميراثهن، وحذف الجار هنا لا يعد لبسا، بل إجمال، فكل من الحرفين مراد على سبيل البدل، واستدل بعض أصحابنا بالآية على جواز تزويج اليتيمة لأنه ذكر الرغبة في نكاحها فاقتضى جوازه، والشافعية يقولون: إنه إنما ذكر ما كانت تفعله الجاهلية على طريق الذم فلا دلالة فيها على ذلك مع أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحها فعله في حال الصغر، وهذا الخلاف في غير الأب والجدّ، وأما هما فيجوز لهما تزويج الصغير بلا خلاف وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ عطف على يتامى النساء، وكانوا لا يورثونهم كما لا يورثون النساء كما تقدّم آنفا.
وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ عطف على ما قبله، وإن جعل في يتامى بدلا، فالوجه النصب في هذا، والْمُسْتَضْعَفِينَ عطفا على محل فيهن ومنعوا العطف على البدل، بناء على أن المراد بالمستضعفين الصغار مطلقا الذين منعوهم عن الميراث ولو ذكورا، ولو عطف على البدل لكان بدلا، ولا يصح فيه غير بدل الغلط وهو لا يقع في فصيح الكلام، وجوز في أَنْ تَقُومُوا الرفع على أنه مبتدأ، والخبر محذوف أي خير ونحوه، والنصب بإضمار فعل أي ويأمركم- أن تقوموا، وهو خطاب للأئمة أن ينظروا لهم ويستوفوا حقوقهم، أو للأولياء والأوصياء بالنصفة في حقهم وَما تَفْعَلُوا في حقوق المذكورين مِنْ خَيْرٍ حسبما أمرتم به أو ما تفعلوه من خير على الإطلاق ويندرج فيه ما يتعلق بهؤلاء اندراجا أوليا.
فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً فيجازيكم عليه، واقتصر على ذكر الخير لأنه الذي رغب فيه، وفي ذلك إشارة إلى أن الشر مما لا ينبغي أن يقع منهم أو يخطر ببال وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ شروع في بيان أحكام لم تبين قبل،
وأخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال: «خشيت سودة رضي الله تعالى عنها أن يطلقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله لا تطلقني واجعل يومي لعائشة ففعل» ونزلت هذه الآية،
وأخرج الشافعي رضي الله تعالى عنه عن ابن المسيب أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا إما كبرا أو غيره، فأراد طلاقها فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك فاصطلحا على صلح فجرت السنة بذلك ونزل القرآن، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنها نزلت في أبي السائب أي وإن خافت امرأة خافت، فهو من باب الاشتغال، وزعم الكوفيون أن امْرَأَةٌ مبتدأ وما بعده الخبر وليس بالمرضي، وقدر بعضهم هنا- كانت- لاطراد حذف كان بعد إن، ولم يجعله من الاشتغال وهو مخالف للمشهور بين الجمهور، والخوف إما على حقيقته، أو بمعنى التوقع أي وإن امرأة توقعت لما ظهر لها من المخايل

صفحة رقم 155

مِنْ بَعْلِها أي زوجها، وهو متعلق- بخافت- أو بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى: نُشُوزاً أي استعلاء وارتفاعا بنفسه عنها إلى غيرها لسبب من الأسباب، ويطلق على كل من صفة أحد الزوجين أَوْ إِعْراضاً أي انصرافا بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه، وفي البحر: النشوز أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته والمودة التي بينهما، وأن يؤذيها بسب أو ضرب مثلا، والإعراض أن يقلل محادثتها ومؤانستها لطعن في سن، أو دمامة، أو شين في خلق، أو خلق، أو ملال، أو طموح عين إلى أخرى، أو غير ذلك وهو أخف من النشوز فَلا جُناحَ أي فلا حرج ولا إثم «عليهما» أي الامرأة وبعلها حينئذ.
أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً أي في أن يصلحا بينهما بأن تترك المرأة له يومها كما فعلت سودة رضي الله تعالى عنها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة، أو كسوة، أو تهبه المهر، أو شيئا منه، أو تعطيه مالا لتستعطفه بذلك وتستديم المقام في حباله، وصدر ذلك بنفي الجناح لنفي ما يتوهم من أن ما يؤخذ كالرشوة فلا يحل، وقرأ غير أهل الكوفة- يصالحا- بفتح الياء وتشديد الصاد وألف بعدها، وأصله يتصالحا فأبدلت التاء صادا وأدغمت، وقرأ الجحدري- يصلحا- بالفتح والتشديد من غير ألف وأصله يصطلحا فخفف بإبدال الطاء المبدلة من تاء الافتعال صادا وأدغمت الأولى فيها لا أنه أبدلت التاء ابتداء صادا وأدغم- كما قال أبو البقاء- لأن تاء الافتعال يجب قلبها طاء بعد الأحرف الأربعة.
وقرىء يصطلحا- وهو ظاهر، وصُلْحاً على قراءة أهل الكوفة إما مفعول به على معنى يوقعا الصلح، أو بواسطة حرف أي يصلح، والمراد به ما يصلح به، وبَيْنَهُما ظرف ذكر تنبيها على أنه ينبغي أن لا يطلع الناس على ما بينهما بل يسترانه عنهم أو حال من صُلْحاً أي كائنا بينهما، وإما مصدر محذوف الزوائد، أو من قبيل أَنْبَتَها الله نَباتاً [آل عمران: ٣٧] وبَيْنَهُما هو المفعول على أنه اسم بمعنى التباين والتخالف، أو على التوسع في الظرف لا على تقدير ما بينهما كما قيل، ويجوز أن يكون بَيْنَهُما ظرفا، والمفعول محذوف أي حالهما ونحوه، وعلى قراءة غيرهم يجوز أن يكون واقعا موقع تصالحا واصطلاحا، وأن يكون منصوبا بفعل مترتب على المذكور أي فيصلح حالهما صُلْحاً واحتمال هذا في القراءة الأولى بعيد وجوز أن يكون منصوبا على إسقاط حرف الجر أي يصالحا أو يصلحا بصلح أي بشيء تقع بسببه المصالحة وَالصُّلْحُ خَيْرٌ أي من الفرقة وسوء العشرة أو من الخصومة، فاللام للعهد، وإثبات الخيرية للمفضل عليه على سبيل الفرض والتقدير أي إن يكن فيه خير فهذا أخير منه وإلا فلا خيرية فيما ذكر، ويجوز أن لا يراد بخير التفضيل بل يراد به المصدر أو الصفة أي إنه خير من الخيور فاللام للجنس وقيل: إن اللام على التقديرين تحتمل العهدية والجنسية، والجملة اعتراضية، وكذا قوله تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ولذلك اغتفر عدم تجانسهما إذ الأولى اسمية، والثانية فعلية ولا مناسبة معنى بينهما، وفائدة الأولى الترغيب في المصالحة، والثانية تمهيد العذر في المماكسة والمشاقة كما قيل، وحضر متعد لواحد وأحضر لاثنين، والأول هو الْأَنْفُسُ القائم مقام الفاعل والثاني الشُّحَّ، والمراد أحضر الله تعالى الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وهو البخل مع الحرص، ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل هو الثاني أي إن الشح جعل حاضرا لها لا يغيب عنها أبدا، أو أنها جعلت حاضرة له مطبوعة عليه فلا تكاد المرأة تسمح بحقوقها من الرجل ولا الرجل يكاد يجود بالإنفاق وحسن المعاشرة مثلا على التي لا يريدها، وذكر شيخ الإسلام أن في ذلك تحقيقا للصلح وتقريرا له بحث كل من الزوجين عليه لكن لا بالنظر إلى حال نفسه فإن ذلك يستدعي التمادي في الشقاق بل بالنظر إلى حال صاحبه، فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبلية بغير استمالة مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته، وكذا شح

صفحة رقم 156

نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقنع من قبلها بشيء يسير ولا يكلفها بذل الكثير فيتحقق بذلك الصلح الذي هو خير وَإِنْ تُحْسِنُوا في العشرة مع النساء وَتَتَّقُوا النشوز والإعراض وإن تظافرت الأسباب الداعية إليهما وتصبروا على ذلك ولم تضطروهن على فوت شيء من حقوقهن، أو بذل ما يعز عليهن. فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الإحسان والتقوى، أو بجميع ما تعملون، ويدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا خَبِيراً فيجازيكم ويثيبكم على ذلك، وقد أقام سبحانه كونه عالما مطلعا أكمل اطلاع على أعمالهم مقام مجازاتهم وإثابتهم عليها الذي هو في الحقيقة جواب الشرط إقامة السبب مقام المسبب، ولا يخفى ما في خطاب الأزواج بطريق الالتفات، والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان، ولفظ التقوى المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه، وترتيب الوعد الكريم على ذلك من لطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ أي لا تقدروا البتة على العدل بينهن بحيث لا يقع ميل ما إلى جانب في شأن من الشؤون كالقسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة والمؤانسة وغيرها مما لا يكاد الحصر يأتي من ورائه.
وأخرج البيهقي عن عبيدة أنه قال: لن تستطيعوا ذلك في الحب والجماع، وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قال: في الجماع، وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن وابن جرير عن مجاهد أنهما قالا: في المحبة، وأخرجا عن أبي مليكة أن الآية نزلت في عائشة رضي الله تعالى عنها وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبها أكثر من غيرها،
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم عنها أنها قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك»
وعنى صلّى الله عليه وسلّم «بما تملك» المحبة وميل القلب الغير الاختياري وَلَوْ حَرَصْتُمْ على إقامة ذلك وبالغتم فيه فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ أي فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها حقها من غير رضا منها واعدلوا ما استطعتم فإن عجزكم عن حقيقة العدل لا يمنع عن تكليفكم بما دونها من المراتب التي تستطيعونها، وانتصاب «كل» على المصدرية فقد تقرر أنها بحسب ما تضاف إليه من مصدر أو ظرف أو غيره فَتَذَرُوها أي فتدعوا التي ملتم عنها كَالْمُعَلَّقَةِ وهي كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: التي ليست مطلقة ولا ذات بعل، وقرأ أبي- كالمسجونة- وبذلك فسر قتادة المعلقة، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المنصوب في فَتَذَرُوها وجوز السمين كونه في موضع المفعول الثاني لتذر على أنه بمعنى تصير، وحذف نون فَتَذَرُوها إما للناصب وهو أن المضمرة في جواب النهي، إما للجازم بناء على أنه معطوف على الفعل قبله، وفي الآية ضرب من التوبيخ،
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط»،
وأخرج غير واحد عن جابر بن زيد أنه قال:- كانت لي امرأتان فلقد كنت أعدل بينهما حتى أعدّ القبل، وعن مجاهد قال: كانوا يستحبون أن يسووا بين الضرائر حتى في الطيب يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه، وعن ابن سيرين في الذي له امرأتان يكره أن يتوضأ في بيت إحداهما دون الأخرى. وَإِنْ تُصْلِحُوا ما كنتم تفسدون من أمورهن وَتَتَّقُوا الميل الذي نهاكم الله تعالى عنه فيما يستقبل فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً فيغفر لكم ما مضى من الحيف رَحِيماً فيتفضل عليكم برحمته وَإِنْ يَتَفَرَّقا أي المرأة وبعلها، وقرىء- يتفارقا- أي وإن لم يصطلحا ولم يقع بينهما وفاق بوجه ما من الصلح وغيره ووقعت بينهما الفرقة بطلاق يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا منهما أي يجعله مستغنيا عن الآخر ويكفه ما أهمه، وقيل: يغني الزوج بامرأة أخرى والمرأة بزوج آخر مِنْ سَعَتِهِ أي من غناه وقدرته، وفي ذلك تسلية لكل من الزوجين بعد الطلاق، وقيل: زجر لهما عن المفارقة، وكيفما كان فهو مقيد بمشيئة الله تعالى وَكانَ اللَّهُ واسِعاً أي غنيا

صفحة رقم 157

وكافيا للخلق، أو مقتدرا أو عالما حَكِيماً متقنا في أفعاله وأحكامه.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فلا يتعذر عليه الإغناء بعد الفرقة، ولا الإيناس بعد الوحشة- ولا ولا- وفيه من التنبيه على كمال سعته وعظم قدرته ما لا يخفى، والجملة مستأنفة جيء بها- على ما قيل- لذلك وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي أمرناهم بأبلغ وجه، والمراد بهم اليهود والنصارى ومن قبلهم من الأمم، والكتاب عام للكتب الإلهية، ولا ضرورة تدعو إلى تخصيص الموصول باليهود والكتاب بالتوراة، بل قد يدعى أن التعميم أولى بالغرض المسوق له الكلام وهو تأكيد الأمر بالإخلاص، ومِنْ متعلقة- بوصينا- أو- بأوتوا- وَإِيَّاكُمْ عطف على الموصول وحكم الضمير المعطوف أن يكون منفصلا ولم يقدم ليتصل لمراعاة الترتيب الوجودي أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ أي وصينا كلا منهم ومنكم بأن اتقوا الله تعالى على أن أَنِ مصدرية بتقدير الجار ومحلها نصب أو جر على المذهبين، ووصلها بالأمر- كالنهي وشبهه- جائز كما نص عليه سيبويه، ويجوز أن تكون مفسرة للوصية لأن فيها معنى القول، وقوله تعالى:
وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ عطف على وَصَّيْنَا بتقدير قلنا- أي وصينا وقلنا لكم ولهم إن تكفروا فاعلموا أنه سبحانه مالك الملك والملكوت لا يضره كفركم ومعاصيكم، كما أنه لا ينفعه شكركم وتقواكم وإنما وصاكم وإياهم لرحمته لا لحاجته- وفي الكلام تغليب للمخاطبين على الغائبين، ويشعر ظاهر كلام البعض أن العطف على اتَّقُوا اللَّهَ وتعقب بأن الشرطية لا تقع بعد أن المصدرية، أو المفسرة فلا يصح عطفها على الواقع بعدها سواء كان إنشاء أم إخبارا، والفعل وَصَّيْنَا أو أمرنا أو غيره، وقيل: إن العطف المذكور من باب:
علفتها تبنا وماء باردا.
وجوز أبو حيان أن تكون جملة مستأنفة خوطب بها هذه الأمة وحدها، أو مع الذين أوتوا الكتاب وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا بالغنى الذاتي عن الخلق وعبادتهم حَمِيداً أي محمودا في ذاته حمدوه أم لم يحمدوه، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وقيل: إن قوله سبحانه: ولِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ إلخ تهديد على الكفر أي إنه تعالى قادر على عقوبتكم بما يشاء، ولا منجى عن عقوبته فإن جميع ما في السّماوات والأرض له، وقوله عز وجل: وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً للإشارة إلى أنه جل وعلا لا يتضرر بكفرهم، وقوله سبحانه: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يحتمل أن يكون كلاما مبتدأ مسوقا للمخاطبين توطئة لما بعده من الشرطية أي له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقا وملكا يتصرف في ذلك كيفما يشاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة، ويحتمل أن يكون كالتكميل للتذييل ببيان الدليل فإن جميع المخلوقات تدل لحاجتها وفقرها الذاتي على غناه وبما أفاض سبحانه عليها من الوجود والخصائص والكمالات على كونه حميدا وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا تذييل لما قبله، والوكيل هو القيم، والكفيل بالأمر الذي يوكل إليه، وهذا على الإطلاق هو الله تعالى، وفي النهاية يقال: وكل فلان فلانا إذا استكفاه أمره ثقة أو عجزا عن القيام بأمر نفسه، والوكيل في أسماء الله تعالى هو القيم بأرزاق العباد، وحقيقته أنه يستقل بالأمر الموكول إليه، ولا يخفى أن الاقتصار على الأرزاق قصور فعمم، وتوكل على الله تعالى، وادعى البيضاوي- بيض الله تعالى غرة أحواله- أن هذه الجملة راجعة إلى قوله سبحانه: يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ فإنه إذا توكلت وفوضت فهو الغنى لأن من توكل على الله عز وجل كفاه، ولما كان ما بينهما تقريرا له لم يعد فاصلا، ولا يخفى أنه على بعده لا حاجة إليه إِنْ يَشَأْ إن يرد إذهابكم وإيجاد آخرين يُذْهِبْكُمْ يفنكم ويهلككم.
أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ أي يوجد مكانكم دفعة قوما آخرين من البشر، فالخطاب لنوع من الناس،
وقد

صفحة رقم 158

أخرج سعيد بن منصور وابن جرير من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أنه لما نزل قوله تعالى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد: ٣٨] ضرب النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده على ظهر سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وقال:
إنهم قوم هذا»

وفيه نوع تأييد لما ذكر في هذه الآية، وما نقل عن العراقي أن الضرب كان عند نزولها وحينئذ يتعين ما ذكر سهو على ما نص عليه الجلال السيوطي وجوز الزمخشري وابن عطية ومقلدوهما أن يكون المراد خلقا آخرين أي جنسا غير جنس الناس، وتعقبه أبو حيان بأنه خطأ وكونه من قبيل المجاز- كما قيل- لا يتم به المراد لمخالفته لاستعمال العرب فإن- غيرا- تقع على المغاير في جنس أو وصف،- وآخر- لا يقع إلا على المغايرة بين أبعاض جنس واحد.
وفي درّة الغواص في أوهام الخواص أنهم يقولون: ابتعت عبدا وجارية أخرى فيوهمون فيه لأن العرب لم تصف بلفظي آخر، وأخرى وجمعهما إلا ما يجانس المذكور قبله كما قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: ١٩، ٢٠] وقوله سبحانه: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: ١٨٥] فوصف جل اسمه- مناة- بالأخرى لما جانست- العزى، واللات- ووصف الأيام بالأخر لكونها من جنس الشهر، والأمة ليست من جنس العبد لكونها مؤنثة وهو مذكر فلم يجز لذلك أن يتصف بلفظ أخرى كما لا يقال: جاءت هند ورجل آخر، والأصل في ذلك أن آخر من قبيل أفعل الذي يصحبه من، ويجانس المذكور بعده كما يدل على ذلك أنك إذا قلت: قال: الفند الزماني، وقال آخر: كان تقدير الكلام، وقال آخر: من الشعراء وإنما حذفت لفظة من لدلالة الكلام عليها، وكثرة استعمال آخر في النطق، وفي الدر المصون: إن هذا غير متفق عليه، وإنما ذهب إليه كثير من النحاة وأهل اللغة وارتضاه نجم الأئمة الرضي إلا أنه يردّ على الزمخشري ومن معه أن آخرين صفة موصوف محذوف، والصفة لا تقوم مقام موصوفها إلا إذا كانت خاصة نحو مررت بكاتب، أو إذا دل الدليل على تعيين الموصوف- وهنا ليست بخاصة- فلا بد أن يكون من جنس الأول لتدل على المحذوف وقال ابن يسعون والصقلي وجماعة: إن العرب لا تقول: مررت برجلين وآخر لأنه إنما يقابل آخر ما كان من جنسه تثنية وجمعا، وإفرادا، وقال ابن هشام هذا غير صحيح لقول ربيعة بن يكدم:

ولقد شفعتهما بآخر ثالث وأبى الفرار إلى الغداة تكرمي
وقال أبو حية النميري:
وكنت أمشي على ثنتين معتدلا فصرت أمشي على أخرى من الشجر
وإنما يعنون بكونه من جنس ما قبله أن يكون اسم الموصوف بآخر في اللفظ، أو التقدير يصح وقوعه على المتقدم الذي قوبل بآخر على جهة التواطؤ ولذلك لو قلت: جاءني زيد وآخر كان سائغا لأن التقدير ورجل آخر، وكذا جاءني زيد وأخرى تريد نسمة أخرى وكذا اشتريت فرسا ومركوبا آخر سائغ، وإن كان المركوب الآخر جملا لوقوع المركوب عليهما بالتواطؤ فإن كان وقوع الاسم عليهما على جهة الاشتراك المحض فإن كانت حقيقتهما واحدة جازت المسألة نحو قام أحد الزيدين وقعد الآخر، وإن لم تكن حقيقتهما واحدة لم تجز لأنه لم يقابل به ما هو من جنسه نحو رأيت المشتري والمشتري الآخر تريد بأحدهما الكوكب، وبالآخر مقابل البائع، وهل يشترط مع التواطؤ اتفاقهما في التذكير؟ فيه خلاف، فذهب المبرد إلى عدم اشتراطه فيجوز جاءتني جاريتك وإنسان آخر، واشترطه ابن جني، والصحيح ما ذهب إليه المبرد بدليل قول عنترة:

صفحة رقم 159

وما ذكر من أن آخر يقابل به ما تقدمه من جنسه هو المختار، وإلا فقد يستعملونه من غير أن يتقدمه شيء من جنسه، وزعم أبو الحسن أن ذلك لا يجوز إلا في الشعر، فلو قلت: جاءني آخر من غير أن تتكلم قبله بشيء من صنفه لم يجز، ولو قلت: أكلت رغيفا، وهذا قميص آخر لم يحسن، وأما قول الشاعر:
صلى على عزة الرحمن وابنتها... ليلى وصلى على جاراتها الأخر
فمحمول على أنه جعل ابنتها جارة لها لتكون الأخرى من جنسها، ولولا هذا التقدير لما جاز أن يعقب ذكر البنت بالجارات، بل كان يقول وصلى على بناتها الأخر، وقد قوبل في البيت أيضا- أخر- وهو جمع بابنتها وهو مفرد، وزعم السهيلي أن- أخرى- في قوله تعالى: وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: ٢٠] استعملت من غير أن يتقدمها شيء من صنفها لأنه غير مَناةَ الطاغية التي كانوا يهلون إليها بقديد فجعلها ثالثة اللات والعزى، وأخرى لمناة التي كان يعبدها عمرو بن الجموح وغيره من قومه مع أنه لم يتقدم لها ذكر، والصواب أنه جعلها أخرى بالنظر إلى اللات والعزى، وساغ ذلك لأن الموصوف بالأخرى، وهو الثالثة يصح وقوعه على اللات والعزى، ألا ترى أن كل واحدة منهنّ ثالثة بالنظر إلى صاحبتها؟ وإنما اتجه ذلك لما ذكره أبو الحسن من أن استعمال آخر وأخرى من غير أن يتقدمهما صنفهما لا يجوز إلا في الشعر انتهى.
وهو تحقيق نفيس إلا أنه سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الكلام في الآية الآتي ذكرها، وفي المسائل الصغرى للأخفش في باب عقده لتحقيق هذه المسألة أن العرب لا تستعمل آخر إلا فيما هو من صنف ما قبله، فلو قلت: أتاني صديق لك وعدو لك آخر لم يحسن لأنه لغو من الكلام، وهو يشبه- سائر وبقية وبعض- في أنه لا يستعمل إلا في جنسه، فلو قلت: ضربت رجلا وتركت سائر النساء لم يكن كلاما، وقد يجوز ما امتنع بتأويل كرأيت فرسا وحمارا آخر نظرا إلى أنه دابة قال امرؤ القيس:
إذا قلت: هذا صاحبي ورضيته... وقرت به العينان بدلت آخرا
وفي الحديث «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجد خفة في مرضه فقال: انظروا من أتكىء عليه فجاءت بريرة ورجل آخر فاتكأ عليهما».
وحاصل هذا أنه لا يوصف بآخر إلا ما كان من جنس ما قبله لتتبين مغايرته في محل يتوهم فيه اتحاده ولو تأويلا، وحينئذ لا يكون ما ذكره الزمخشري نصا في الخطأ ومخالفة استعمال العرب المعول عليه عند الجمهور وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ أي إفنائكم بالمرة وإيجاد آخرين قَدِيراً بليغ القدرة لكنه سبحانه لم يفعل وأبقاكم على ما أنتم عليه من العصيان لعدم تعلق مشيئته لحكمة اقتضت ذلك لا لعجزه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة والمنافع الدنيوية.
فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ جزاء الشرط بتقدير الإعلام والإخبار أي مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فأعلمه وأخبره أن عند الله تعالى ثواب الدارين فما له لا يطلب ذلك كمن يقول: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [البقرة: ٢٠١]، أو يطلب الأشرف وهو ثواب الآخرة فإن من جاهد مثلا خالصا لوجه الله تعالى لم تخطه المنافع الدنيوية وله في الآخرة ما هي في جنبه كلا شيء،
وفي مسند أحمد عن زيد بن ثابت «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من كان همه الآخرة جمع الله تعالى شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله تعالى عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له»
وجوز أن يقدر الجزاء من جنس الخسران، فيقال: من كان يريد ثواب الدنيا فقط فقد خسر وهلك، فعند الله تعالى ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده،

صفحة رقم 160

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل: ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما فعلت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله تعالى عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار»،
وقيل: إنه الجزاء إلا أنه مؤول بما يجعله مرتبا على الشرط لأن مآله أنه ملوم موبخ لتركه الأهم الأعلى الجامع لما أراده مع زيادة لكن من يشترط العائد في الجزاء يقدره كما أشرنا إليه، وقيل:
المراد أنه تعالى عنده ثواب الدارين فيعطي كلا ما يريده كقوله تعالى. مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى: ٢٠] الآية وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً تذييل لمعنى التوبيخ أي كيف يرائي المرائي وأن الله تعالى سميع بما يهجس في خاطره وما تأمر به دواعيه بصير بأحواله كلها ظاهرها وباطنها فيجازيه على ذلك، وقد يقال: ذيل بذلك لأن إرادة الثواب إما بالدعاء وإما بالسعي، والأول مسموع، والثاني مبصر، وقيل: السمع والبصر عبارتان عن اطلاعه تعالى على غرض المريد للدنيا أو الآخرة وهو عبارة عن الجزاء، ولا يخفى أنه وإن كان لا يخلو عن حسن إلا أنه يوهم إرجاع صفة السمع والبصر إلى العلم وهو خلاف المقرر في الكلام يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
أي مواظبين على العدل في جميع الأمور مجتهدين في ذلك كل الاجتهاد لا يصرفكم عنه صارف.
وعن الراغب أنه سبحانه نبه بلفظ القوّامين على أن مراعاة العدالة مرة أو مرتين لا تكفي بل يجب أن تكون على الدوام، فالأمور الدينية لا اعتبار بها ما لم تكن مستمرة دائمة، ومن عدل مرة أو مرتين لا يكون في الحقيقة عادلا أي لا ينبغي أن يطلق فيه ذلك شُهَداءَ بالحق لِلَّهِ بأن تقيموا شهاداتكم لوجه الله تعالى لا لغرض دنيوي، وانتصاب شُهَداءَ على أنه خبر ثان لكونوا ولا يخفى ما في تقديم الخبر الأول من الحسن.
وجوز أن يكون على أنه حال من الضمير المستكن فيه، وأيد بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في معنى الآية: أي كونوا قوّالين بالحق في الشهادة على من كانت ولمن كانت من قريب وبعيد، وقيل: إنه صفة قَوَّامِينَ، وقيل: إنه خبر كُونُوا وقوّامين حال وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي ولو كانت الشهادة على أنفسكم، وفسرت الشهادة ببيان الحق مجازا فتشمل الإقرار المراد هاهنا، والشهادة بالمعنى الحقيقي المراد فيما بعد فلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، وقيل: الكلام خارج مخرج المبالغة وليس المقصود حقيقته فلا حاجة إلى القول بعموم المجاز ليشمل الإقرار حيث إن شهادة المرء على نفسه لم تعهد، والجار- على ما أشير إليه- ظرف مستقر وقع خبرا لكان المحذوفة وإن كان في الأصل صلة الشهادة لأن متعلق المصدر قد يجعل خبرا عنه فيصير مستقرا مثل الحمد لله ولا يجوز ذلك في اسم الفاعل ونحوه، ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا بخبر محذوف أي ولو كانت الشهادة وبالا على أنفسكم، وعلقه أبو البقاء بفعل دل عليه شُهَداءَ أي لو شهدتم على أنفسكم وجوز تعلقه- بقوّامين- وفيه بعد، وَلَوْ إما على أصلها أو بمعنى إن وهي وصلية، وقيل: جوابها مقدر أي لوجب أن تشهدوا عليها أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ أي ولو كانت على والديكم وأقرب الناس إليكم أو ذوي قرابتكم، وعطف الأول- بأو- لأنه مقابل للأنفس وعطف الثاني عليه بالواو لعدم المقابلة إِنْ يَكُنْ أي المشهود عليه غَنِيًّا يرجى في العادة ويخشى أَوْ

صفحة رقم 161

فَقِيراً
يترحم عليه في الغالب ويحنى، وقرأ عبد الله- إن يكن غني أو فقير- بالرفع على أن كان تامة، وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله تعالى: فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما أي فلا تمتنعوا عن الشهادة على الغني طلبا لرضاه أو على الفقير شفقة عليه لأن الله تعالى أولى بالجنسين وأنظر لهما من سائر الناس، ولولا أن حق الشهادة مصلحة لهما لما شرعها فراعوا أمر الله تعالى فإنه أعلم بمصالح العباد منكم، وقرأ أبيّ «فالله أولى بهم» بضمير الجمع وهو شاهد على أن المراد جنسا الغني والفقير وأن ضمير التثنية ليس عائدا على الغني والفقير المذكورين لأن الحكم في الضمير العائد على المعطوف- بأو- الإفراد كما قيل: لأنها لأحد الشيئين أو الأشياء، وقيل: إن أَوِ بمعنى الواو، والضمير عائد إلى المذكورين، وحكي ذلك عن الأخفش، وقيل: إنها على بابها وهي هنا لتفصيل ما أبهم في الكلام، وذلك مبني على أن المراد بالشهادة ما يعم الشهادة للرجل والشهادة عليه، فكل من المشهود له والمشهود عليه يجوز أن يكون غنيا وأن يكون فقيرا فقد يكونان غنيين، وقد يكونان فقيرين، وقد يكون أحدهما فقيرا والآخر غنيا، فحيث لم تذكر الأقسام أتي- بأو- لتدل على ذلك، فضمير التثنية على المشهود له والمشهود عليه على أي وصف كانا عليه، وقيل: غير ذلك، وقال الرضي: الضمير الراجع إلى المذكور المتعدد الذي عطف بعضه على بعض- بأو- يجوز أن يوحد وأن يطابق المتعدد، وذلك يدور على القصد، فيجوز: جاءني زيد أو عمرو وذهب، أو وهما ذاهبان إلى المسجد، وعلى هذا لا حاجة إلى التوجيه لعدم صحة التثنية ووجوب الإفراد في مثل هذا الضمير، نعم قيل: إن الظاهر الإفراد دون التثنية، وإن جاز كل منهما فيحتاج العدول عن الظاهر إلى نكتة.
وادعى بعضهم أنها تعميم الأولوية ودفع توهم اختصاصها بواحد، فتأمل فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أي هوى أنفسكم أَنْ تَعْدِلُوا من العدول والميل عن الحق، أو من العدل مقابل الجور وهو في موضع المفعول له، إما للاتباع المنهي عنه أو للنهي، فالاحتمالات أربعة: الأول أن يكون بمعنى العدول وهو علة للمنهي عنه، فلا حاجة إلى تقدير، والثاني أن يكون بمعنى العدل وهو علة للمنهي عنه فيقدر مضاف أي كراهة أن تعدلوا، والثالث أن يكون بمعنى العدول وهو علة للنهي فيحتاج إلى التقدير كما في الاحتمال الثاني أي أنهاكم عن اتباع الهوى كراهة العدول عن الحق، والرابع أن يكون بمعنى العدل وهو علة للنهي فلا يحتاج إلى التقدير كما في الاحتمال الأول، أي أنهاكم عن اتباع الهوى للعدل وعدم الجور وَإِنْ تَلْوُوا ألسنتكم عن الشهادة بأن تأتوا بها على غير وجهها الذي تستحقه كما روي ذلك عن ابن زيد والضحاك، وحكي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه وهو الظاهر، وقيل: اللي المطل في أدائها، ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
أَوْ تُعْرِضُوا أي تتركوا إقامتها رأسا وهو خطاب للشهود، وقيل: إن الخطاب للحكام، واللي الحكم بالباطل، والإعراض عدم الالتفات إلى أحد الخصمين، ونسب هذا إلى السدي، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا، وقرأ حمزة وَإِنْ تَلْوُوا بضم اللام وواو ساكنة وهو من الولاية بمعنى مباشرة الشهادة، وقيل: إن أصله تلووا بواوين أيضا نقلت ضمة الواو بعد قلبها همزة، أو ابتداء إلى ما قبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وعلى هذا فالقراءتان بمعنى فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من اللي والإعراض، أو من جميع الأعمال التي من جملتها ما ذكر خَبِيراً عالما مطلعا فيجازيكم على ذلك، وهو وعيد محض على القراءة الأولى، وعلى القراءة الأخيرة يحتمل أن يكون كذلك وأن يكون متضمنا للوعد، والآية كما أخرج ابن جرير عن السدي نزلت في النبي صلّى الله عليه وسلّم اختصم إليه رجلان غني وفقير فكان خلقه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فأبى الله تعالى إلا أن يقول بالقسط في الغني والفقير، وهي متضمنة للشهادة على من ذكره الله تعالى، ولا تعرض فيها للشهادة لهم على ما هو الظاهر، وحملها

صفحة رقم 162

بعضهم على ما يشمل القسمين، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أشرنا إليه فيجوز عنده شهادة الولد لوالده والوالد لولده.
وحكي عن ابن شهاب الزهري أنه قال: كان سلف المسلمين على ذلك حتى ظهر من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم فتركت شهادة من يتهم، ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك بعيد جدا، وأبعد منه بمراحل- بل ينبغي أن يكون من باب الإشارة- كون المراد منها كونوا شُهَداءَ لِلَّهِ تعالى بوحدانيته وكمال صفاته وحقيقة أحكامه ولو كان ذلك مضرا لأنفسكم أو لوالديكم وأقربيكم بأن توجب الشهادة ذهاب حياة هؤلاء أو أموالهم أو غير ذلك إِنْ يَكُنْ أي الشاهد غَنِيًّا تضر شهادته بغناه أَوْ فَقِيراً تسد شهادته باب دفع الحاجة عليه فَاللَّهُ تعالى أَوْلى بِهِما من أنفسهما، فينبغي أن يرجحا الله تعالى على أنفسهما، واستدل بالآية على أن العبد لا مدخل له في الشهادة إذ ليس قوّاما بذلك لكونه ممنوعا من الخروج إلى القاضي وعلى وجوب التسوية بين الخصمين على الحاكم، وهو ظاهر على رأي، ووجه مناسبتها لما تقدم على ما في البحر أنه تعالى لما ذكر النساء والنشوز والمصالحة عقبه بالقيام لأداء الحقوق، وفي الشهادة حقوق، أو لأنه سبحانه لما بين أن طالب الدنيا ملوم وأشار إلى أن طالب الأمرين أو أشرفهما هو الممدوح بين أن كمال ذلك أن يكون قول الإنسان وفعله لله تعالى، أو لأنه تعالى شأنه لما ذكر في هذه السورة وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى [النساء: ٣] والإشهاد عند دفع أموالهم إليهم وأمر ببذل النفس والمال في سبيل الله تعالى وذكر قصة الخائن واجتماع قومه على الكذب والشهادة بالباطل وندب للمصالحة عقب ذلك بأن أمر عباده المؤمنين بالقيام بالعدل والشهادة لوجه الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب للمسلمين كافة فمعنى قوله تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ أثبتوا على الإيمان بذلك وداوموا عليه، وروي هذا عن الحسن، واختاره الجبائي، وقيل: الخطاب لهم، والمراد ازدادوا في الإيمان طمأنينة ويقينا، أو آمَنُوا بما ذكر مفصلا بناء على أن إيمان بعضهم إجمالي، وأيا ما كان فلا يلزم تحصيل الحاصل، وقيل: الخطاب للمنافقين المؤمنين ظاهرا فمعنى آمَنُوا أخلصوا الإيمان، واختاره الزجاج وغيره.
وقيل: لمؤمني اليهود خاصة، ويؤيده ما
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن عبد الله بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس وابن أخت عبد الله بن سلام ويامين بن يامين أتوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: نؤمن بك وبكتابك وبموسى وبالتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل آمنوا بالله تعالى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله فقالوا: لا نفعل» فنزلت فآمنوا كلهم،
وقيل: لمؤمني أهل الكتابين، وروي ذلك عن الضحاك، وقيل: للمشركين المؤمنين باللات والعزى، وقيل: لجميع الخلق لإيمانهم يوم أخذ الميثاق حين قال لهم سبحانه: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: ١٧٢] والكتاب الأول القرآن، والمراد من الكتاب الثاني الجنس المنتظم لجميع الكتب السماوية، ويدل عليه قوله تعالى فيما بعد: وَكُتُبِهِ والمراد بالإيمان بها الإيمان بها في ضمن الإيمان بالكتاب المنزل على الرسول صلّى الله عليه وسلّم على معنى أن الإيمان بكل واحد منها مندرج تحت الإيمان بذلك الكتاب، وأن أحكام كل منها كانت حقة ثابتة يجب الأخذ بها إلى ورود ما نسخها، وأن ما لم ينسخ منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتة من حيث إنها من أحكام ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه ولا تغيير يعتريه.
ومن هنا يعلم أن أمر مؤمني أهل الكتاب بالإيمان بكتابهم بناء على أن الخطاب لهم ليس على معنى الثبات لأن هذا النحو من الإيمان غير حاصل لهم وهو المقصود، ولا حاجة إلى القول بأن متعلق الأمر حقيقة هو الإيمان بما عداه كأنه قيل: آمنوا بالكل ولا تخصوه بالبعض، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو- نزل، وأنزل- على البناء

صفحة رقم 163

للمفعول، واستعمال- نزل- أولا وأَنْزَلَ ثانيا لأن القرآن نزل مفرقا بالإجماع، وكان تمامه في ثلاث وعشرين سنة على الصحيح ولا كذلك غيره من الكتب فتذكر.
وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي بشيء من ذلك فإن الحكم المتعلق بالأمور المتعاطفة بالواو- كما قال العلامة الثاني- قد يرجع إلى كل واحد، وقد يرجع إلى المجموع، والتعويل على القرائن، وهاهنا قد دلت القرينة على الأول لأن الإيمان بالكل واجب والكل ينتفي بانتفاء البعض ومثل هذا ليس من جعل الواو بمعنى أو في شيء، وجوز بعضهم رجوعه إلى المجموع لوصف الضلال بغاية البعد في قوله تعالى: فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً ويستفاد منه أن الكفر بأي بعض كان ضلال متصف- ببعد- والمشهور أن المراد- بالضلال البعيد- الضلال البعيد عن المقصد بحيث لا يكاد يعود المتصف به إلى طريقه، ويجوز أن يراد ضَلالًا بَعِيداً عن الوقوع، والجملة الشرطية تذييل للكلام السابق وتأكيد له، وزيادة- الملائكة واليوم الآخر- في جانب الكفر على ما ذكره شيخ الإسلام لما أن بالكفر بأحدهما لا يتحقق الإيمان أصلا، وجمع الكتب والرسل لما أن الكفر بكتاب أو رسول كفر بالكل، وتقديم الرسول فيما سبق لذكر الكتاب بعنوان كونه منزلا عليه، وتقديم الملائكة والكتب على الرسل لأنهم وسائط بين الله عز وجل وبين الرسل في إنزال الكتب، وقيل: اختلاف الترتيب في الموضعين من باب التفنن في الأساليب والزيادة في الثاني لمجرد المبالغة، وقرىء بكتابه على إرادة الجنس إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً هم قوم تكرر منهم الارتداد وأصروا على الكفر وازدادوا تماديا في الغي، وعن مجاهد وابن زيد أنهم أناس منافقون أظهروا الإيمان، ثم ارتدوا، ثم أظهروا، ثم ارتدوا، ثم ماتوا على كفرهم، وجعلها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عامة لكل منافق في عهده صلّى الله عليه وسلّم في البر والبحر، وعن الحسن أنهم طائفة من أهل الكتاب أرادوا تشكيك أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكانوا يظهرون الإيمان بحضرتهم، ثم يقولون قد عرضت لنا شبهة أخرى فيكفرون، ثم يظهرون، ثم يقولون: قد عرضت لنا شبهة أخرى فيكفرون، ويستمرون على الكفر إلى الموت، وذلك معنى قوله تعالى: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران: ٧٢]، وقيل: هم اليهود آمنوا بموسى عليه السلام، ثم كفروا بعبادتهم العجل حين غاب عنهم، ثم آمنوا عند عوده إليهم، ثم كفروا بعيسى عليه السلام، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وروي ذلك عن قتادة، وقال الزجاج والفراء: إنهم آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا بعده، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعيسى عليه السلام، ثم ازدادوا كفرا بنبينا عليه الصلاة والسلام، وأورد على ذلك بأن الذين ازدادوا كفرا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ليسوا بمؤمنين بموسى عليه السلام، ثم كافرين بعبادة العجل أو بشيء آخر، ثم مؤمنين بعوده إليهم أو بعزير، ثم كافرين بعيسى عليه السلام بل هم إما مؤمنون بموسى عليه السلام وغيره، أو كفار لكفرهم بعيسى عليه السلام والإنجيل.
وأجيب بأنه لم يرد على هذا قوم بأعيانهم بل الجنس، ويحصل التبكيت على اليهود الموجودين باعتبار عد ما صدر من بعضهم كأنه صدر من كلهم، والذي يميل القلب إليه أن المراد قوم تكرر منهم الارتداد أعم من أن يكونوا منافقين أو غيرهم، ويؤيده ما
أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في المرتد: إن كنت لمستتيبه ثلاثا، ثم قرأ هذه الآية
وإلى رأي الإمام كرم الله تعالى وجهه ذهب بعض الأئمة فقال: يقتل المرتد في الرابعة ولا يستتاب، وكأنه أراد أنه لا فائدة في الاستتابة إذ لا منفعة، وعليه فالمراد من قوله سبحانه: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا أنه سبحانه لا يفعل ذلك أصلا وإن تابوا، وعلى القول المشهور الذي عليه الجمهور:
المراد من نفي المغفرة والهداية نفي ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت ومعنى نفيه استبعاد وقوعه فإن من تكرر

صفحة رقم 164

منهم الارتداد وازدياد الكفر والإصرار عليه صاروا بحيث قد ضربت قلوبهم بالكفر وتمرنت على الردة وكان الإيمان عندهم أدون شيء وأهونه فلا يكادون يقربون منه قيد شبر ليتأهلوا للمغفرة وهداية سبيل الجنة لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم يقبل منهم ولم يغفر لهم.
وخص بعضهم عدم الاستتابة بالمتلاعب المستخف إذا قامت قرينة على ذلك، وخبر كان في أمثال هذا الموضع محذوف وبه تتعلق اللام كما ذهب إليه البصريون أي ما كان الله تعالى مريدا للغفران لهم، ونفي إرادة الفعل أبلغ من نفيه.
وذهب الكوفيون إلى أن اللام زائدة والخير هو الفعل وضعف بأن ما بعدها قد انتصب فإن كان النصب باللام نفسها فليست بزائدة، وإن كان- بأن- ففاسد لما فيه من الإخبار بالمصدر عن الذات وأجيب باختيار الشق الأول، وأنه لا مانع من العمل مع الزيادة كما في حروف الجر الزائدة، وباختيار الشق الثاني وامتناع الإخبار بالمصدر عن الذات لعدم كونه دالا بصيغته على فاعل وعلى زمان دون زمان، والفعل المصدر- بأن- يدل عليهما فيجوز الإخبار به- وإن لم يجز بالمصدر- ولا يخفى ما فيه، فإن الإخبار على هذا بالفعل لا بالمصدر وإن أول المصدر باسم الفاعل كان الإخبار باسم الفاعل لا به أيضا فافهم واختار قوم في القوم ما ذهب إليه مجاهد. وأيد ذلك بقوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ووضع فيه بَشِّرِ موضع أنذر تهكما بهم، ففي الكلام استعارة تهكمية وقيل:
موضع أخبر فهناك مجاز مرسل تهكمي.
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ في موضع النصب، أو الرفع على الذم على معنى أريد بهم الذين أو هم الذين، ويجوز أن يكون منصوبا على اتباع المنافقين ولا يمنع منه وجود الفاصل فقد جوزه العرب، والمراد بالكافرين قيل: اليهود، وقيل: مشركو العرب، وقيل: ما يعم ذلك والنصارى، وأيد الأول بما روي أنه كان يقول بعضهم لبعض:
إن أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم لا يتم فتولوا اليهود.
مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي متجاوزين ولاية المؤمنين، وهو حال من فاعل يَتَّخِذُونَ أَيَبْتَغُونَ أي المنافقون عِنْدَهُمُ أي الكافرين الْعِزَّةَ أي القوة والمنعة وأصلها الشدة، ومنه قيل: للأرض الصلبة: عزاز، والاستفهام للإنكار، والجملة معترضة مقررة لما قبلها، وقيل: للتهكم، وقيل: للتعجب. فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أي إنها مختصة به تعالى يعطيها من يشاء وقد كتبها سبحانه لأوليائه فقال عز شأنه: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والجملة تعليل لما يفيده الاستفهام الإنكاري من بطلان رأيهم وخيبة رجائهم.
وقيل: بيان لوجه التهكم، أو التعجب، وقيل: إنها جواب شرط محذوف أي إن يبتغوا العزة من هؤلاء فَإِنَّ الْعِزَّةَ إلخ، وهي على هذا التقدير قائمة مقام الجواب لا أنها الجواب حقيقة، وجَمِيعاً قيل: حال من الضمير في الجار والمجرور لاعتماده على المبتدأ، وليس في الكلام مضاف أي لأولياء كما زعمه البعض، وقوله سبحانه: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ خطاب للمنافقين بطريق الالتفات مفيد لتشديد التوبيخ الذي يستدعيه تعديد جناياتهم.
وقرأ- ما عدا عاصما- ويعقوب نَزَّلَ بالبناء لما لم يسم فاعله، والجملة حال من ضمير يَتَّخِذُونَ مفيدة أيضا لكمال قباحة حالهم ببيان أنهم فعلوا ما فعلوا من موالاة أعداء الله تعالى مع تحقق ما يمنعهم عن ذلك، وهو ورود النهي عن المجالسة المستلزم للنهي عن الموالاة على آكد وجه وأبلغه إثر بيان انتفاء ما يدعوهم إليه بالجملة المعترضة كأنه قيل: تتخذونهم أولياء والحال أنه تعالى نَزَّلَ عَلَيْكُمْ قبل هذا بمكة فِي الْكِتابِ أي القرآن العظيم الشأن.

صفحة رقم 165

أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وذلك قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الأنعام: ٦٨] الآية، وهذا يقتضي الانزجار عن مجالستهم في تلك الحالة القبيحة، فكيف بموالاتهم والاعتزاز بهم؟! وأَنْ هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر أي إنه إذا سمعتم، وقدره بعضهم ضمير المخاطبين أي إنكم، وكون المخففة لا تعمل في غير ضمير الشأن إلا لضرورة- كما قال أبو حيان- في حيز المنع، وقد صحح غير واحد جواز ذلك من غير ضرورة، والجملة الشرطية خبر وهي تقع خبرا في كلام العرب، وأَنْ وما بعدها في موضع النصب على أنه مفعول به- لنزل- وهو القائم مقام الفاعل على القراءة الثانية، واحتمال أنه قد يجعل القائم مقامه عليكم، وتكون أَنْ مفسرة لأن التنزيل في معنى القول لا يلتفت إليه، ويُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ في موضع الحال من الآيات جيء بهما لتقييد النهي عن المجالسة، فإن قيد القيد قيد، والمعنى لا تقعدوا معهم وقت كفرهم واستهزائهم بالآيات، وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتشريفها وإبانة خطرها وتهويل أمر الكفر بها، والضمير في مَعَهُمْ للكفرة المدلول عليهم ب يُكْفَرُ وَيُسْتَهْزَأُ والضمير في غيره راجع إلى تحديثهم بالكفر والاستهزاء، وقيل: الكفر والاستهزاء لأنهما في حكم شيء واحد، وقوله تعالى:
إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ تعليل للنهي غير داخل تحت التنزيل وإِذا ملغاة لأن شرط علمها النصب في الفعل أن تكون في صدر الكلام فلذا لم يجيء بعدها فعل، ومثل- خبر عن ضمير الجمع وصح مع إفراده لأنه في الأصل مصدر، فيستوي فيه الواحد المذكر وغيره، وقيل: لأنه كالمصدر في الوقوع على القليل والكثير أو لأنه مضاف لجمع فيعم، وقد يطابق ما قبله كقوله تعالى: ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: ٣٨]، والجمهور على رفعه، وقرىء شاذا بالنصب، فقيل: إنه منصوب على الظرفية لأن معنى قولك: زيد مثل عمرو في أنه حال مثله، وقيل: إنه إذا أضيف إلى مبني اكتسب البناء ولا يختص ذلك بما المصدرية كما توهم بل يكون فيها مثل مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الصافات: ٩٢]، وفي غيرها كقوله:

والخيل تقتحم الغبار عوابسا من بين منظمة وآخر ينظم
فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر
وابن مالك يشترط لاكتساب البناء أن لا يقبل المضاف التثنية والجمع- كدون وغير وبين- ولم يصحح ذلك في- مثل- وأعربه حالا من الضمير المستتر في- حق- في قوله تعالى: إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ- ما- أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً تعليل لكونهم مثلهم في الكفر ببيان ما يستلزمه من شركتهم لهم في العذاب، والمراد من المنافقين إما المخاطبون، وأقيم المظهر مقام المضمر تسجيلا لنفاقهم وتعليلا للحكم بمأخذ الاشتقاق، وإما للجنس وهم داخلون دخولا أوليا وتقديمهم لتشديد الوعيد على المخاطبين وانتصابه على الحال طرز ما مر، واستشكل كون الخطاب للمنافقين بأنهم مثل الكافرين في الكفر من غير سببية القعود معهم فلا وجه لترتب الجزاء على الشرط، والعدول عن كون المماثلة في الكفر إلى المماثلة في المجاهرة به لا يحسن معه كون جملة إِنَّ اللَّهَ إلخ تعليلا لكونهم مثلهم بتلك المماثلة بالطريق الذي ذكر، وأيضا الذين نهوا عن مجالسة الكافرين والمستهزئين بمكة هم المؤمنون المخلصون لا المنافقون لأن نجم النفاق إنما ظهر بالمدينة، فكيف يذكر المنافقون فيها بنهي نزل في مكة قبل أن يكونوا؟.
وأجيب عن هذا بأنه إن سلم أن المنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم وإن خوطب به خاصة منزل على الأمة مخلصهم ومنافقهم إلى قيام الساعة، صح دخول المنافقين وإن لم يكونوا وقت النزول وإن لم يسلم ذلك فإن ادعي الاقتصار على النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يدخل المؤمنون المخلصون أيضا، وإن ادّعي دخولهم فقط دون المنافقين الذين هم مؤمنون ظاهرا

صفحة رقم 166

فلا دليل عليه، كيف وجميع الأحكام متعلقة بالمؤمنين كيف كانوا ولسنا مكلفين بأن نشق على قلوب العباد، بل لنا الظاهر والله تعالى يتولى السرائر، على أنه قد قام الدليل على أن الأحكام الشرعية التي كانت صدر الإسلام ولم تنسخ مخاطب بها من نطق بالكلمة الطيبة وبلغته قبل يوم الساعة، فقد قال الله تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: ١٩] ولهذه الدغدغة قال بعض المحققين: إن المقصود من الخطاب هنا المؤمنون الصادقون، والمراد بمن يكفر ويستهزىء أعم من المنافقين والكافرين، وضمير مَعَهُمْ للمفهوم من الفعلين، ويؤيد ذلك ما نقل عن الواحدي أنه قال: كان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن فنهى الله تعالى المسلمين عن مجالستهم، والمراد من المماثلة في الجزاء المماثلة في الإثم لأنهم قادرون على الإعراض والإنكار لا عاجزون كما في مكة، أو في الكفر على معنى إن رضيتم بذلك وهو مبني على أن الرضا بكفر الغير كفر من غير تفصيل، وهي رواية عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه عثر عليها صاحب الذخيرة.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده: الرضا بكفر الغير إنما يكون كفرا إذا كان يستجيز الكفر أو يستحسنه أما إذا لم يكن كذلك ولكن أحب الموت، أو القتل على الكفر لمن كان مؤذيا حتى ينتقم الله تعالى منه فهذا لا يكون كفرا، ومن تأمل قوله تعالى: رَبَّنَا اطْمِسْ [يونس: ٨٨] الآية يظهر له صحة هذه الدعوى وهو المنقول عن الماتريدي، وقول بعضهم: إن من جاءه كافر ليسلم فقال: اصبر حتى أتوضأ أو أخره يكفر لرضاه بكفره في زمان موافق لما روي عن الإمام لكن يدل على خلافه ما
روي في الحديث الصحيح في فتح مكة أن ابن أبي سرح أتى به عثمان رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله بايعه فكف صلّى الله عليه وسلّم يده ونظر إليه ثلاث مرات
وهو معروف في السير، وهو يدل بظاهره على أن التوقف مطلقا ليس كما قالوه كفرا.
واستدل بعضهم بالآية على تحريم مجالسة الفساق والمبتدعين من أي جنس كانوا، وإليه ذهب ابن مسعود وإبراهيم وأبو وائل، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وروى عنه هشام بن عروة أنه ضرب رجلا صائما كان قاعدا مع قوم يشربون الخمر، فقيل له في ذلك: فتلا الآية، وهي أصل لما يفعله المصنفون من الإحالة على ما ذكر في مكان آخر، والتنبيه عليه والاعتماد على المعنى، ومن هنا قيل: إن مدار الإعراض عن الخائضين فيما يرضي الله تعالى هو العلم بخوضهم، ولذلك عبر عن ذلك تارة بالرؤية وأخرى بالسماع، وأن المراد بالإعراض إظهار المخالفة بالقيام عن مجالستهم لا الإعراض بالقلب أو بالوجه فقط، وعن الجبائي أن المحذور مجالستهم من غير إظهار كراهة لما يسمعه أو يراه، وعلى هذا- الذي ذهب إليه بعض المحققين- يحتمل أن يراد بالمنافقين والكافرين في جملة التعليل ما أريد بضمير معهم، وصرح بهذا العنوان لما أشرنا إليه قبل، ويحتمل أن يراد الجنس ويدخل أولئك فيه دخولا أوليا، والخطاب في قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ للمؤمنين الصادقين بلا خلاف، والموصول إما بدل من- الذين يتخذون- أو صفة للمنافقين فقط إذ هم المتربصون دون الكافرين.
وجوز أبو البقاء وغيره كونه صفة لهما أو مرفوع أو منصوب على الذم، وجعله مبتدأ خبره الجملة شرطية لا يخلو من تكلف، والتربص الانتظار، والظاهر من كلام البعض أن مفعوله مقدر والجار والمجرور متعلق به أي ينتظرون وقوع أمر بكم وكلام الراغب يقتضي أنه يتعدى بالباء لأنه من انتظر بالسلعة غلاء السعر، والفاء في قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ لترتيب مضمونه على ما قبلها فإن حكاية تربصهم مستتبعة لحكاية ما يقع بعد ذلك أي فإن اتفق لكم فتح وظفر على الأعداء قالُوا أي لكم أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ نجاهد عدوكم فأعطونا نصيبا من الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ أي حظ من الحرب، فإنها سجال قالُوا أي المنافقون للكفار أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ أي ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم، أو ألم نغلبكم بالتفضل ونطلعكم على أسرار محمد صلّى الله عليه وسلّم

صفحة رقم 167

وأصحابه ونكتب إليكم بأخبارهم حتى غلبتم عليهم وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلنا إياهم وتثبيطنا لهم وتوانينا في مظاهرتهم وإلقائنا عليهم ما ضعفت به قلوبهم عن قتالكم فاعرفوا لنا هذا الحق عليكم وهاتوا نصيبنا مما أصبتم: وقيل: المعنى ألم نغلبكم على رأيكم بالموالاة لكم وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الدخول في جملة الْمُؤْمِنِينَ وهو خلاف الظاهر، وأصل الاستحواذ الاستيلاء، وكان القياس فيه استحاذ يستحيذ استحاذة بالقلب لكن صحت فيه الواو وكثر ذلك فيه. وفي نظائر له حتى ألحق بالمقيس وعدّ فصيحا، وقال أبو زيد: إنه قياسي، وعلى كل حال لا يرد على فصاحة القرآن كما حقق في موضعه. وقرىء وَنَمْنَعْكُمْ بالنصب بإضمار أن، والتقدير لم يكن منا الاستحواذ والمنع كقولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، سمي ظفر المسلمين فتحا وما للكافرين نصيبا لتعظيم شأن المسلمين وتخسيس حظ الكافرين، وقيل: سمي الأول فتحا إشارة إلى أنه من مداخل فتح دار الإسلام بخلاف ما للكافرين فإنه لا فتح لهم في استيلائهم بل سينطفئ ضياء ما نالوا فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فيثيب أحباءه ويعاقب أعداءه، وأما في الدنيا فأنتم وهم سواء في العصمة بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم» وفي الكلام قيل: تغليب، وقيل: حذف أي بينكم وبينهم وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا أي
يوم القيامة وحين الحكم كما قد يجعل ذلك في الدنيا ابتلاء واستدراجا، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه
وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو في الدنيا أي لم يجعل لهم على المؤمنين سلطانا تاما بالاستئصال، أو حجة قائمة عليهم مفحمة لهم، وحكي ذلك عن السدي، ويجوز إبقاء الكلام على إطلاقه ليشمل الدنيا والآخرة ولعله الأولى، واحتج الشافعية بالآية على فساد شراء الكافر العبد المسلم لأنه لو صح لكان له عليه يد وسبيل بتملكه، ونحن نقول: يصح ولكن يمنع من استخدامه والتصرف فيه إلا بالبيع والإخراج عن ملكه فلم يحصل له سبيل عليه، واحتج بظاهرها بعض الأصحاب على وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج لأن عقد النكاح يثبت للزوج سبيلا في إمساكها في بيته وتأديبها ومنعها من الخروج وعليها طاعته فيما يقتضيه عقد النكاح، والمؤمنين والكافرين شامل للإناث وكذا الكافر إذا أسلمت زوجته، وضعف بأن الارتداد لا ينفي أن يكون النكاح إذا عاد إلى الإيمان قبل مضي العدة، واعترض بأنه حين الكفر لا سبيل له ونفي السبيل بوقوع الفرقة وبعد وقوع الفرقة لا بد لحدوث العلقة من موجب- وهو ظاهر- فإن كان العود يكون الارتداد كالطلاق الرجعي، والعود كالرجعة فلا ضعف فيه.
وأنت تعلم أنه إذا كان نفي السبيل في الآخرة أو في الدنيا بالاستئصال، أو السبيل بمعنى الحجة لا متمسك في الآية لأصحابنا ولا الشافعية فلا تغفل إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ
أي يفعلون ما يفعل المخادع فيظهرون الإيمان ويضمرون نقيضه، وعن الحسن- واختاره الزجاج- أن المراد يخادعون النبي صلّى الله عليه وسلّم على حد إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: ١٠] وَهُوَ خادِعُهُمْ
أي فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع حيث تركهم في الدنيا معصومي الدماء والأموال وأعد لهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار، وقيل: خداعه تعالى لهم أن يعطيهم سبحانه نورا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين ثم يسلبهم ذلك النور ويضرب بينهم بسور. وروي ذلك عن الحسن، أيضا- والسدي- واختاره جماعة من المفسرين- وقد مر تحقيق ذلك، ولله تعالى الحمد.
والجملة في محل نصب على الحال أو معطوفة على خبر إِنَ
أو مستأنفة كالأولى.
وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
أي متثاقلين متباطئين لا نشاط لهم ولا رغبة كالمكره على الفعل لأنهم لا يعتقدون ثوابا في فعلها ولا عقابا على تركها، وقرىء بفتح الكاف وهما جمعا كسلان.
يُراؤُنَ النَّاسَ
ليحسبوهم مؤمنين، والمراءاة مفاعلة من الرؤية إما بمعنى التفعيل لأن فاعل بمعنى فعل وارد

صفحة رقم 168

في كلامهم- كنعم وناعم- وقراءة عبد الله وإسحاق- يروون- تدل على ذلك، أو للمقابلة لأنهم لفعلهم في مشاهد الناس يرون الناس والناس يرونهم وهم يقصدون أن ترى أعمالهم والناس يستحسنونها، فالمفاعلة في الرؤية متحدة وإنما الاختلاف في متعلق الإراءة، فلا يرد على هذا الشق أن المفاعلة لا بد في حقيقتها من اتحاد الفعل ومتعلقه، والجملة إما استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل: فماذا يريدون بقيامهم هذا؟ فقيل: يُراؤُنَ
إلخ، أو حال من ضمير قامُوا
أو من الضمير في كسالى.
وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
عطف على يُراؤُنَ
، وقيل: حال من فاعله أي ولا يذكرونه سبحانه مطلقا إلا زمانا قليلا، أو إلا ذكرا قليلا إذ المرائي لا يفعل إلا بحضرة من يرائيه وهو أقل أحواله، أو لأن ذكرهم باللساني قليل بالنسبة إلى الذكر بالقلب، وقيل: إنما وصف بالقلة لأنه لم يقبل وكل ما لم يقبله الله تعالى قليل وإن كان كثيرا، وروي ذلك عن قتادة، وأخرج البيهقي وغيره عن الحسن ما بمعناه.
وأخرج ابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال:- لا يقل عمل مع تقوى وكيف يقل ما يتقبل-
وقيل:
المراد بالذكر الذكر الواقع في الصلاة نحو التكبير والتسبيح، وإليه ذهب الجبائي، وأيد بما
أخرجه مسلم وأبو داود عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله تعالى فيها إلا قليلا»،
وقيل: الذكر بمعنى الصلاة لأن الكلام فيها لا بمعناه المتبادر منه، وجوز أن يراد بالقلة العدم، واستشكل توجيه الاستثناء حينئذ.
وأجيب بأن المعنى لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
تعالى إِلَّا
ذكرا ملحقا بالعدم لأنه لا ينفعهم فلا إشكال، ولا يخفى ما فيه فإن القلة بمعنى العدم مجاز، وجعل العدم بمعنى ما لا نفع فيه مجاز آخر، ومع ذلك ليس في الكلام ما يدل عليه، وقال بعض المحققين: في توجيه الكلام على ذلك التقدير إن المعنى حينئذ لو صح أن يعد عدم الذكر ذكرا فذلك ذكرهم على طريقة قوله:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وفيه- وإن كان أهون من الأول- ما فيه، واستدل بالآية على استحباب دخول الصلاة بنشاط، وعلى كراهة قول الإنسان كسلت، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يكره أن يقول الرجل إني كسلان ويتأول هذه الآية مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ حال من فاعل يُراؤُنَ
أو من فاعل يَذْكُرُونَ
وجوز أن يكون حالا من فاعل قامُوا
أو منصوب على الذم بفعل مقدر، وذلك إشارة إلى الإيمان والكفر المدلول عليه بذكر المؤمنين والكافرين، ولذا أضيف بَيْنَ إليه، وروي هذا عن ابن زيد ويصح أن يكون إشارة إلى المؤمنين والكافرين فيكون ما بعده تفسيرا له على حد قوله:
الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا
والمعنى مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطان، وأصل الذبذبة كما قال الراغب: صوت الحركة للشيء المعلق، ثم استعير لكل اضطراب وحركة، أو تردد بين شيئين، والذال الثانية أصلية عند البصريين، ومبدلة من باء عند الكوفيين، وهو خلاف معروف بينهم، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مُذَبْذَبِينَ بكسر الذال الثانية ومفعوله على هذا محذوف أي- مذبذبين قلوبهم، أو دينهم، أو رأيهم- ويحتمل أن يجعل لازما على أن فعلل بمعنى تفعلل كما جاء صلصل بمعنى تصلصل أي متذبذبين، ويؤيده ما في مصحف ابن مسعود متذبذبين.
وقرىء بالدال غير المعجمة وهو مأخوذ من- الدبة- بضم الدال وتشديد الباء بمعنى الطريقة والمذهب كما

صفحة رقم 169

في النهاية، ويقال: هو على دبتي أي طريقتي وسمتي، وفي حديث ابن عباس «اتبعوا دبة قريش ولا تفارقوا الجماعة» والمعنى حينئذ أنهم أخذ بهم تارة طريقا وأخرى أخرى لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ أي لا منسوبين إلى المؤمنين حقيقة لإضمارهم الكفر، ولا إلى الكافرين لإظهارهم الإيمان، أو لا صائرين إلى الأولين ولا إلى الآخرين، ومحله النصب على أنه حال من ضمير مُذَبْذَبِينَ أو على أنه بدل منه، ويحتمل أن يكون بيانا وتفسيرا له وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ لعدم استعداده للهداية والتوفيق فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا موصلا إلى الحق والصواب فضلا عن أن تهديه إليه، والخطاب لكل من يصلح له وهو أبلغ في التفظيع.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ نهي المؤمنين الصادقين عن موالاة الكفار اليهود فقط- كما قيل- أو ما يعمهم وغيرهم كما هو الظاهر بعد بيان حال المنافقين، أي لا تتخذوهم أولياء فإن ذلك ديدن المنافقين ودينهم فلا تتشبهوا بهم، وقيل: المراد بالذين آمنوا المنافقون وبالمؤمنين المخلصون، فالآية نهي للمنافقين عن موالاة الكافرين دون المخلصين وقيل: المراد بالموصول المخلصون، وبالكافرين المنافقون فكأنه قيل: قد بينت لكم أخلاق هؤلاء المنافقين فلا تتخذوا منهم أولياء، وإلى ذلك ذهب القفال، وفي كلا القولين بعد أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي حجة ظاهرة في العذاب، وفيه دلالة على أن الله تعالى لا يعذب أحدا بمقتضى حكمته إلا بعد قيام الحجة عليه، ويشعر بذلك كثير من الآيات، وقيل: أتريدون بذلك أن تجعلوا له تعالى حجة بينة على أنكم موافقون (١) فإن موالاة الكافرين أوضح أدلة النفاق.
ومن الناس من أبقى السلطان على معناه المعروف، لكن أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة، وهو مما يجوز فيه التذكير والتأنيث إجماعا، فتذكيره باعتبار البرهان أو باعتبار معناه المعروف، والتأنيث باعتبار الحجة والتأنيث أكثر عند الفصحاء على ما قاله الفراء إلا أنه لم يعتبر هنا، واعتبر التذكير لتحسن الفاصلة، وادعى ابن عطية أن التذكير أشهر وهي لغة القرآن حيث وقع، وعَلَيْكُمْ يجوز تعلقه بالجعل وبمحذوف وقع حالا من سُلْطاناً، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال: أتجعلون إلخ للمبالغة في إنكاره وتهويل أمره ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل إرادته فضلا عن صدور نفسه إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أي في الطبقة السفلى منها وهو قعرها، ولها طبقات سبع تسمى الأولى كما قيل: جهنم، والثانية لظى، والثالثة الحطمة والرابعة السعير، والخامسة سقر، والسادسة الجحيم، والسابعة الهاوية. وقد تسمى النار جميعا باسم الطبقة الأولى، وبعض الطبقات باسم بعض لأن لفظ النار يجمعها وتسمية تلك الطبقات دركات لكونها متداركة متتابعة بعضها تحت بعض، والدَّرْكِ كالدرج إلا أنه يقال باعتبار الهبوط، والدرج باعتبار الصعود، وفي كون المنافق فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ إشارة إلى شدة عذابه.
وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن الأحوص عن ابن مسعود- أن المنافق يجعل في تابوت من حديد يصمد عليه ثم يجعل في الدرك الأسفل- وإنما كان أشدّ عذابا من غيره من الكفار لكونه ضم إلى الكفر المشترك استهزاء بالإسلام وخداعا لأهله، وأما ما
روي في الصحيحين من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد غدر، وإذا خاصم فجر»
فقد قال المحدثون فيه: إنه مخصوص بزمانه صلّى الله عليه وسلّم لاطلاعه بنور الوحي على بواطن المتصفين بهذه الخصال فأعلم عليه

(١) قوله: «موافقون» وقوله بعده في الحديث: «وإذا وعد غدر» كذا بخطه.

صفحة رقم 170

الصلاة والسلام أصحابه رضي الله تعالى عنهم بأماراتهم ليحترزوا عنهم، ولم يعينهم حذرا عن الفتنة وارتدادهم ولحوقهم بالمحاربين، وقيل: ليس بمخصوص ولكنه مؤول بمن استحل ذلك، أو المراد من اتصف بهذه فهو شبيه بالمنافقين الخلص، وأطلق صلّى الله عليه وسلّم ذلك عليه تغليظا وتهديدا له، وهذا في حق من اعتاد ذلك لا من ندر منه، أو هو منافق في أمور الدين عرفا والمنافق في العرف يطلق على كل من أبطن خلاف ما يظهر مما يتضرر به وإن لم يكن إيمانا وكفرا، وكأنه مأخوذ من النافقاء، وليس المراد الحصر وهذا صدر منه صلّى الله عليه وسلّم باقتضاء المقام، ولذا ورد في بعض الروايات «ثلاث» وفي بعضها «أربع».
وقرأ الكوفيون الدَّرْكِ بسكون الراء وهو لغة كالسطر والسطر، والفتح أكثر وأفصح لأنه ورد جمعه على أفعال، وأفعال في فعل المحرك كثير مقيس، ووروده في الساكن نادر كفرخ وأفراخ، وزند وأزناد.- وكونه استغني بجمع أحدهما عن الآخر جائز لكنه خلاف الظاهر، فلا يندفع به الترجيح، والكلام مخرّج مخرج الحقيقة، وزعم أبو القاسم البلخي أن لا طبقات في النار، وأن هذا إخبار عن بلوغ الغاية في العقاب كما يقال: إن السلطان بلغ فلانا الحضيض وفلانا العرش، يريدون بذلك انحطاط المنزلة وعلوها لا المسافة، ولا يخفى أنه خلاف ما جاءت به الآثار، ومِنَ النَّارِ في محل النصب على الحال وفي صاحبها وجهان: أحدهما أنه الدَّرْكِ والعامل الاستقرار، والثاني أنه الضمير المستتر في الْأَسْفَلِ لأنه صفة، فيتحمل الضمير أي حال كون ذلك من النار وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً يخرجهم منه أو يخفف عنهم ما هم فيه يوم القيامة حين يكونون في الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ وكون المراد وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً في الدنيا لتكون الآية وصفا لهم بأنهم خسروا الدنيا والآخرة ليس بشيء كما لا يخفى، والخطاب لكل من يصلح له إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عن النفاق وهو استثناء من المنافقين، أو من ضميرهم في الخبر، أو من الضمير المجرور في لهم، وقيل: هو في موضع رفع بالابتداء والخبر ما بعد الفاء ودخلت- لما- في الكلام من معنى الشرط وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا من نياتهم وأحوالهم في حال النفاق، وقيل: ثبتوا على التوبة في المستقبل، والأول أولى وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ أي تمسكوا بكتابه، أو وثقوا به وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ لا يريدون بطاعتهم إلا وجهه ورضاه سبحانه لا رياء الناس، ودفع الضرر كما في النفاق،
وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي ثمامة قال: قال الحواريون لعيسى عليه السلام: يا روح الله من المخلص لله؟ قال: الذي يعمل لله تعالى لا يحب أن يحمده الناس عليه
فَأُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصفة وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أي المعهودين من الذين لم يصدر منهم نفاق أصلا منذ آمنوا، والمراد أنهم معهم في الدرجات العالية من الجنة، أو معدودون من جملتهم في الدنيا والآخرة وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً لا يقادر قدره فيساهمونهم فيه ويقاسمونهم.
وفسر أبو حيان الأجر العظيم بالخلود، والتعميم أولى، والمراد بالمؤمنين هاهنا ما أريد به فيما قبله. واعتبار المساهمة جرى عليه غير واحد، ولولا تفسير الآية بذلك لم يكن لها في ذكر أحوال من تاب من النفاق معنى ظاهر.
وذهب بعضهم إلى عدم اعتبارها، والمراد الإخبار بزيادة ثواب من لم يسبق منه نفاق أصلا، وعمم بعض المؤمنين ليشمل من لم يتقدم منه نفاق ومن تقدم منه وتاب عنه، والظاهر ما ذكرناه، ورسم يُؤْتِ بغير ياء، وهو مضارع مرفوع فحق يائه أن تثبت لفظا وخطا إلا أنها حذفت في اللفظ لالتقاء الساكنين، وجاء الرسم تبعا للفظ والقراء يقفون عليه دونها اتباعا للرسم إلا يعقوب فإنه يقف بالياء نظرا إلى الأصل.
وروي ذلك أيضا عن الكسائي وحمزة ونافع وادعى السمين أن الأولى اتباع الرسم لأن الأطراف قد كثر حذفها

صفحة رقم 171

ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ خطاب للمنافقين- وقيل: للمؤمنين، وضعف- مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم وجودا وعدما إنما هو كفرهم لا شيء آخر، فتكون الجملة مقررة لما قبلها من ثباتهم عند توبتهم، وما استفهامية مفيدة للنفي على أبلغ وجه وآكده، وقيل: نافية والباء سببية، وقيل: زائدة أي أيّ شيء يفعل الله سبحانه بسبب تعذيبكم أيتشفى به من الغيظ؟ أم يدرك به الثأر؟ أم يستجلب نفعا؟ أو يستدفع به ضررا كما هو شأن الملوك، وهو الغني المطلق المتعالي عن أمثال ذلك؟ وإنما هو أمر يقتضيه مرض كفركم ونفاقكم فإذا احتميتم عن النفاق ونقيتم نفوسكم بشربة الإيمان والشكر في الدنيا برئتم وسلمتم وإلا هلكتم هلاكا لا محيص عنه بالخلود في النار، وإنما قدم الشكر مع أن الظاهر تأخيره لأنه لا يعتد به إلا بعد الإيمان لما أنه طريق موصل إليه في أول درجاته، فقد ذكر العارف أبو إسماعيل الأنصاري أن الشكر في الأصل اسم لمعرفة النعمة لأنها السبيل إلى معرفة المنعم وله ثلاث درجات لأنه إذا نظر إلى النعمة كالرزق والخلق ينبغث منه شوق إلى معرفة المنعم وهذه الحركة تسمى باليقظة والشكر القلبي والشكر المبهم لأن منعمه لم يتضح له تعيينه، وإنما عرف منعما ما فهو منعم عليه فإذا تيقظ لهذا وفق لنعمة أكبر منها، وهي المعرفة بأن المنعم عليه هو الصمد الواسع الرحمة المثيب المعاقب فتتحرك جوارحه لتعظيمه ويضيف إلى شكر الجنان شكر الأركان، ثم ينادي على ذلك الجميل باللسان، ويقول:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
فالمذكور في الآية هو الشكر المبهم وهو مقدم على الإيمان، فلا حاجة إلى ما زعمه الإمام من أن الكلام على التقديم والتأخير أي آمنتم وشكرتم، وأما القول: بأن هذا السؤال إنما هو على تقدير أن تكون الواو للترتيب، وأما إذا لم تكن للترتيب فلا سؤال فمما لا ينبغي أن يتفوه به من له أدنى ذوق في علم الفصاحة والبلاغة لأن الواو وإن لم تفد الترتيب لكن تقديم ما ليس مقدما لا يليق بالكلام الفصيح فضلا عن المعجز، ولذا تراهم يذكرون لما يخالفه وجها ونكتة، وذكر النيسابوري وجها آخر في التقديم لكنه بناه على إفادة الواو للترتيب فقال: لعل الوجه في ذلك أن الآية مسوقة في شأن المنافقين ولا نزاع في إيمانهم ظاهرا وإنما النزاع في بواطنهم وأفعالهم التي تصدر عنهم غير مطابقة للقول اللساني، فكان تقديم الشكر هاهنا أهم لأنه عبارة عن صرف جميع ما أعطاه الله تعالى فيما خلق لأجله حتى تكون أفعاله وأقواله على نهج السداد وسنن الاستقامة انتهى، ولا يخفى أنه لم يحمل الشكر في الآية على الشكر المبهم، ولا يخلو عن حسن.
وأوضح منه وأطيب ما حاك في صدري، ثم رأيت العلامة الطيبي عليه الرحمة صرح به إن الذي يقتضيه النظم الفائق أن هذا الخطاب مع المنافقين، وأن قوله سبحانه ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ متصل بقوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إلخ، وتنبيه لهم على أن الذي ورطهم في تلك الورطة كفرانهم نعم الله تعالى وتهاونهم في شكر ما أوتوا وتفويتهم على أنفسهم بنفاقهم البغية العظمى، وهو الإسعاد بصحبة أفضل الخلق صلّى الله عليه وسلّم والانخراط في زمرة الذين مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ [الفتح: ٢٩] فإذا تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله تعالى وأخلصوا دينهم له فأولئك حكمهم أن ينتظموا في سلك أولئك السعداء من المؤمنين بعد ما كانوا مستأهلين الدرجات السفلى من النيران، ثم التفت تعريضا لهم أن ذلك العذاب كان منهم وبسبب تقاعدهم وكفرانهم تلك النعمة الرفيعة وتفويتهم على أنفسهم تلك الفرصة السنية وإلا فإن الله تعالى غني مطلق عن عذابهم فضلا على أن يوقعهم في تلك الورطات، فقوله عز وجل: إِنْ شَكَرْتُمْ فذلكة لمعنى الرجوع عن الفساد في الأرض إلى الإصلاح فيها، ومن اللجأ إلى الخلق إلى الاعتصام بالله تعالى، ومن الرياء في الدين إلى الإخلاص فيه، فقوله عز

صفحة رقم 172

من قائل: وَآمَنْتُمْ تفسير له وتقرير لمعناه أي وَآمَنْتُمْ الإيمان الذي هو حائز لتلك الخلال الفواضل جامع لتلك الخصال الكوامل، فتقديم الشكر على الإيمان وحقه التأخير في الأصل إعلام بأن الكلام فيه، وأن الآية السابقة مسوقة لبيان كفران نعمة الله تعالى العظمى والكفر تابع فإذا أخر الشكر أخل بهذه الأسرار واللطائف، ومن ثم ذيل سبحانه الآية على سبيل التعليل بقوله جل وعلا:
وَكانَ اللَّهُ شاكِراً أي مثيبا على الشكر عَلِيماً بجميع الجزئيات والكليات فلا يعزب عن علمه شيء فيوصل الثواب كاملا إلى الشاكر، وإلى هذا ذهب الإمام، وقال غير واحد: الشاكر وكذا الشكور من أسمائه تعالى هو الذي يجزي بيسير الطاعات كثير الدرجات، ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعما في الآخرة غير محدودة، وعلى التقديرين يرجع إلى صفة فعلية، وقيل: معناه المثنى على من تمسك بطاعته فيرجع إلى صفة كلامية.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : أما في قوله سبحانه: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ إلى قوله عز وجل:
وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً فقد قال النيسابوري فيه: إن النفس للروح كالمرأة للزوج، فِي يَتامَى النِّساءِ صفات النفوس، وما كُتِبَ لَهُنَّ ما أوجب الله تعالى من الحقوق.
وحاصل المعنى إن نفسك مطيتك فارفق بها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ فالروح تشح بترك حقوق الله تعالى، والنفس تشح بترك حظوظها فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ في رفض حظوظ النفس، فقد جاء في الخبر «إن لنفسك عليك حقا» فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ بين العالم العلوي والعالم السفلي وَإِنْ يَتَفَرَّقا أي الروح والنفس يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ فالروح يجتذب بجذبة- خل نفسك وائتني إلى سعة غنى الله تعالى في عالم هويته- فيستغنى عن مركب النفس بالوصول إلى المقصود، والنفس تجتذب بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: ٢٨] إلى سعة غنى الله تعالى في عالم فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:
٢٩، ٣٠] انتهى، ولا يخفى أن باب التأويل واسع، وما ذكره ليس بمتعين فيمكن أن تجعل الآية في شأن الشيخ والمريد وأما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا إلخ فنقول: إنه سبحانه أمر المؤمنين بالتوحيد العلمي المريدين لثواب الدارين أن يكونا ثابتين في مقام العدالة التي في أشرف الفضائل قَوَّامِينَ بحقوقها بحيث تكون ملكة راسخة فيهم لا يمكن معها جور في شيء ولا ظهور صفة نفس لاتباع هوى في جلب نفع دنيوي أو رفع مضرة كذلك، ثم قال جل وعلا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا من حيث البرهان آمَنُوا من حيث البيان إلى أن تؤمنوا من حيث العيان أو يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالإيمان التقليدي آمَنُوا بالإيمان العيني، أو المراد يا أَيُّهَا المدعون تجريد الإيمان لي من غير وساطة لا سبيل لكم إلى الوصول إلى عين التجريد إلا بقبول الوسائط، فالآية إشارة إلى الفرق بعد الجمع إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالتقليد ثُمَّ كَفَرُوا إذ لم يكن للتقليد أصل ثُمَّ آمَنُوا بالاستدلال العقلي ثُمَّ كَفَرُوا إذ لم تكن عقولهم مشرقة بالنور الإلهي ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بالشبهات والاعتراضات، وقد يكون ذلك إشارة إلى وصف أهل التردد في سلوك سبيل أولياء الله تعالى، والإيمان بأحوالهم حين هاجت رغبتهم إلى رئاسة القوم. فلما جن عليهم ليل المجاهدات لم يتحملوا وأنكروا ورجعوا إلى حظوظ أنفسهم، ولما رأوا نهاية الأكابر وظنوا اللحوق بهم لو استقاموا آمنوا فلما لم يصلوا إلى شيء من مقامات القوم وكراماتهم لعدم إخلاصهم وسوء استعدادهم ارتدوا وصاروا منكرين عليهم وعلى مقاماتهم وازدادوا إنكارا على إنكار حين رجعوا إلى اللذات والشهوات واختاروا الدنيا على الآخرة وجعلوا يقولون للخلق: إن هؤلاء ليسوا على الحق فقد سلكنا ما سلكوا وخضنا ما خاضوا فلم نر إلا سرابا بقيعة، وهذا حال كثير من علماء السوء المنكرين على القوم قدس الله تعالى أسرارهم ما كان الله ليغفر لهم

صفحة رقم 173

لمكان الريب الحاجب وفساد جوهر القلب وزوال الاستعداد وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا إلى الحق ولا إلى الكمال لعدم قبولهم ذلك الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ لمناسبتهم إياهم وشبيه الشيء منجذب إليه مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لعدم الجنسية أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ أي أيطلبون التعزز بهم في الدنيا والتقوى بمالهم وجاههم فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً فلا سبيل لهم إليها إلا منه سبحانه عز وجل، ثم ذكر سبحانه من وصف المنافقين أنهم- إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى- لعدم شوقهم إلى الحضور ونفورهم عنه لعدم استعدادهم واستيلاء الهوى عليهم يُراؤُنَ النَّاسَ
لاحتجابهم بهم عن رؤية الله تعالى وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
لأنهم لا يذكرونه إلا باللسان وعند حضورهم بين الناس بخلاف المؤمنين الصادقين فإنهم إذا قاموا إلى الصلاة يطيرون إليها بجناحي الرغبة والرهبة بل يحنون إلى أوقاتها.

حنين أعرابية حنت إلى أطلال نجد فارقته ومرخه
ومن هنا
كان صلّى الله عليه وسلّم يقول لبلال: «أرحنا يا بلال»
يريد عليه الصلاة والسلام أقم لنا الصلاة لنصلي فنستريح بها لا منها، وظن الأخير برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كفر والعياذ بالله تعالى وإذا عبدوا لا يرون إلا الله تعالى، وما قدر السوي عندهم ليراؤوه؟ وإن كل جزء منهم يذكر الله تعالى، نعم إنهم قد يشتغلون به عنه فهناك لا يتأتى لهم الذكر، وقد عد العارفون الذكر لأهل الشهود ذنبا، ولهذا قال قائلهم:
بذكر الله تزداد الذنوب وتنكشف الرذائل والعيوب
وترك الذكر أفضل كل شيء وشمس الذات ليس لها مغيب
لكن ذكر بعضهم أنه لا يصل العبد إلى ذلك المقام إلا بكثرة الذكر، وأشار إلى مقام عال من قال:
لا يترك الذكر إلا من يشاهده وليس يشهده من ليس يذكره
والذكر ستر على مذكوره ستر فحين أذكره في الحال يستره
فلا أزال على الأحوال أشهده ولا أزال على الأنفاس أذكره
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لئلا تتعدى إليكم ظلمة كفرهم أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً حجة ظاهرة في عقابكم برسوخ الهيئة التي بها تميلون إلى ولايتهم إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ لتحيرهم بضعف استعدادهم وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ينصرهم من عذاب الله تعالى لانقطاع وصلتهم وارتفاع محبتهم مع أهل الله تعالى إِلَّا الَّذِينَ تابُوا رجعوا إلى الله تعالى ببقية نور الاستعداد وقبول مدد التوفيق وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا من استعدادهم بقمع الهوى وكسر صفات النفس ورفع حجاب القوى وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ بالتمسك بأوامره والتوجه إليه سبحانه وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ بإزالة خفايا الشرك وقطع النظر عن السوي فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الصادقين وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً من مشاهدة تجليات الصفات وجنات الأفعال ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ بالتوبة وإصلاح ما فسد والاعتصام بحبل الأوامر والتوجه إلى الله عز وجل وإخلاص الدين له سبحانه وَآمَنْتُمْ الإيمان الحائز لذلك وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً فيثبت ويوصل الثواب كاملا، والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.
«تم والحمد لله الجزء الخامس من تفسير روح المعاني، ويتلوه الجزء السادس إن شاء الله تعالى» أوله «لا يحب الله الجهر بالسوء من القول».

صفحة رقم 174

روح المعاني الجزء السادس

صفحة رقم 175
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية