
مِنْهَا رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَنَفَعَنَا بِهِ، وَكَتَبْتُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي مَدِينَةٍ بُمْبَى أَوْ (بُومْبَايْ) مِنْ ثُغُورِ الْهِنْدِ فِي غُرَّةِ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ ١٣٣٠ هـ وَاللهُ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَنِي لِإِتْمَامِ هَذَا التَّفْسِيرِ، إِنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ.
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا.
تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى مَا قَبْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (٤: ٣٦)، فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّسَاءِ وَالْيَتَامَى وَالْقَرَابَةِ، وَمِنْ آيَةِ وَاعْبُدُوا اللهَ إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي أَحْكَامٍ عَامَّةٍ أَكْثَرُهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْقِتَالِ، وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْأَحْكَامِ الَّتِي فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي وَضْعِهَا هَا هُنَا تَأَخُّرُ نُزُولِهَا إِلَى أَنْ شَعَرَ النَّاسُ بَعْدَ الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْآيَاتِ بِالْحَاجَةِ إِلَى زِيَادَةِ الْبَيَانِ فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَهْضِمُونَ حُقُوقَ الضَّعِيفَيْنِ الْمَرْأَةِ وَالْيَتِيمِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَأَوْجَبَتْ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْآيَاتُ

مُرَاعَاتَهَا وَحِفْظَهَا وَبَيَّنَتْهَا لَهُمْ، وَجَعَلَتْ لِلنِّسَاءِ حُقُوقًا ثَابِتَةً مُؤَكَّدَةً فِي الْمَهْرِ وَالْإِرْثِ كَالرِّجَالِ وَحَرَّمَتْ ظُلْمَهُنَّ، وَتَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ مِنْهُنَّ، مَعَ الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، وَحَدَّدَتِ الْعَدَدَ الَّذِي يَحِلُّ مِنْهُنَّ فِي حَالِ عَدَمِ الْخَوْفِ مِنَ الظُّلْمِ، فَبَعْدَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عَرَفَ النِّسَاءُ حُقُوقَهُنَّ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ مَنَعَ الرِّجَالَ الْأَقْوِيَاءَ أَنْ يَظْلِمُوهُنَّ، فَكَانَ مِنَ الْمُتَوَقَّعِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ أَنْ يَعْرِفَ الرِّجَالُ شِدَّةَ التَّبِعَةِ الَّتِي عَلَيْهِمْ فِي مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ، وَأَنْ يَقَعَ لَهُمُ الِاشْتِبَاهُ فِي بَعْضِ الْوَقَائِعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، كَأَنْ تُحَدِّثُ بَعْضُهُمْ نَفْسُهُ بِأَنْ يَحِلَّ لَهُ أَوْ لَا يَحِلَّ أَنْ يَمْنَعَ الْيَتِيمَةَ مَا كَتَبَ اللهُ لَهَا مِنَ الْإِرْثِ وَهُوَ يَرْغَبُ أَنْ يَنْكِحَهَا، وَيَشْتَبِهُ بَعْضُهُمْ فِيمَا يُصَالِحُ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْهُ، وَيَضْطَرِبُ بَعْضُهُمْ فِي حَقِيقَةِ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ بَيْنَ النِّسَاءِ، هَلْ يَدْخُلُ فِيهِ الْعَدْلُ فِي الْحُبِّ أَوْ فِي لَوَازِمِهِ الْعَمَلِيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِقْبَالِ عَلَى الْمَحْبُوبَةِ وَالتَّبَسُّطِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا أَمْ لَا؟ كُلُّ هَذَا مِمَّا تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بَعْدَ الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ، فَهُوَ مِمَّا كَانَ يَكُونُ مَوْضِعَ السُّؤَالِ وَالِاسْتِفْتَاءِ ; فَلِهَذَا جَاءَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ بَعْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْآيَاتِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ عَدَمَ جَمْعِ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَوْضُوعٍ وَاحِدٍ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَوَّلَ مِنَ
الْقُرْآنِ هُوَ الْهِدَايَةُ بِأَنْ تَكُونَ تِلَاوَتُهُ عِظَةً وَذِكْرَى وَعِبْرَةً يُنَمَّى بِهَا الْإِيمَانُ وَالْمَعْرِفَةُ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِسُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَحِكْمَتِهِ فِي عِبَادَتِهِ، وَيُقَوَّي بِهَا شُعُورُ التَّعْظِيمِ وَالْحُبِّ لَهُ، وَتَزِيدُ الرَّغْبَةُ فِي الْخَيْرِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْتِزَامِ الْحَقِّ، وَلَوْ طَالَ سَرْدُ الْآيَاتِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَلَا سِيَّمَا مَوْضُوعُ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، لَمَلَّ الْقَارِئُ لَهَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ، أَوْ غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ التَّفَكُّرُ فِي جُزْئِيَّاتِهَا وَوَقَائِعِهَا، فَيَفُوتُ بِذَلِكَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ، وَالْمَطْلُوبُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ، وَحَسْبُ طُلَّابِ الْأَحْكَامِ الْمُفَصَّلَةِ فِيهِ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَيْهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَالسُّوَرِ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَلَا يَجْعَلُوهَا هِيَ الْأَصْلَ الْمَقْصُودَ مِنَ التِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ وَلِلتَّعَبُّدِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ هُوَ مَا عَلِمْتَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ، فَمَعْنَاهُ يَطْلُبُونَ مِنْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْفُتْيَا فِي شَأْنِهِنَّ، وَبَيَانِ الْمُشْكَلِ وَالْغَامِضِ عَلَيْهِمْ فِي أَحْكَامِهِنَّ، مِنْ حَيْثُ الْحُقُولُ الْمَالِيَّةُ وَالزَّوَاجُ لِأَجْلِهَا وَالنُّشُوزُ وَالْخِصَامُ وَالصُّلْحُ وَالْعَدْلُ وَالْعِشْرَةُ وَالْفِرَاقُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ الْجَوَابُ فِي الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ، وَهُوَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْبَدِيعِ، وَغَفَلَ عَنْ هَذَا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ " يَسْتَفْتُونَكَ فِي مِيرَاثِهِنَّ "، لِمَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ أَنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَلَغَنَا أَنَّكَ تُعْطِي الْبِنْتَ وَالْأُخْتَ النِّصْفَ وَإِنَّمَا كُنَّا نُوَرِّثُ مَنْ يَشْهَدُ الْقِتَالَ وَيَحُوزُ الْغَنِيمَةَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِذَلِكَ أُمِرْتُ، فَيَا لَلَّهِ لِلْعَجَبِ! كَيْفَ يَغْفُلُ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الْأَذْكِيَاءِ بِمِثْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَمَّا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ هُوَ اسْتِفْتَاءٌ وَفَتْوَى فَيُقَطِّعُونَهَا إِرْبًا إِرْبًا، وَيَجْعَلُونَهَا جِذَاذًا وَأَفْلَاذًا لَا صِلَةَ بَيْنَهَا، وَلَا جَامِعَةَ تَضُمُّهَا؟
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَنَاتٍ أُمِّ

كُحَّةَ وَمِيرَاثِهِنَّ عَنْ أَبِيهِنَّ، وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَتِيمَةِ تَكُونُ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ، وَهُوَ وَلِيُّهَا فَيَرْغَبُ فِي نِكَاحِهَا إِذَا كَانَتْ ذَاتَ جِمَالٍ وَمَالٍ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَإِذَا كَانَ مَرْغُوبًا عَنْهَا لِقِلَّةِ مَالِهَا وَجِمَالِهَا تَرَكَهَا، وَفِي رِوَايَةٍ هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ وَقَدْ شَرِكَتْهُ فِي مَالِهِ فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِدَمَامَتِهَا،
وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ حَتَّى لَا يَذْهَبَ بِمَالِهَا، فَيَحْبِسُهَا حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثَهَا، فَنَهَاهُمُ اللهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.
قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ، بِمَا يُنَزِّلُهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَحْكَامِهِنَّ بَعْدَ هَذَا الِاسْتِفْتَاءِ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ، أَيْ: وَيُفْتِيكُمْ فِي شَأْنِهِنَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ مِمَّا نَزَلَ قَبْلَ هَذَا الِاسْتِفْتَاءِ فِي أَحْكَامِ مُعَامَلَةِ يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي جَرَتْ عَادَتُكُمْ أَلَّا تُعْطُوهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ مِنَ الْإِرْثِ إِذَا كَانَ فِي أَيْدِيكُمْ لِوِلَايَتِكُمْ عَلَيْهِنَّ، وَتَرْغَبُونَ فِي أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لِجَمَالِهِنَّ وَالتَّمَتُّعِ بِأَمْوَالِهِنَّ، أَوْ عَنْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لِدَمَامَتِهِنَّ، فَلَا تَنْكِحُونَهُنَّ، وَلَا تُنْكِحُونَهُنَّ لِغَيْرِكُمْ لِيَبْقَى مَالُهُنَّ فِي أَيْدِيكُمْ، وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ أَيْضًا فِي شَأْنِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ الَّذِينَ لَا تُعْطُونَهُمْ حَقَّهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الَّذِي يُتْلَى عَلَيْهِمْ فِي الضَّعِيفَيْنِ الْمَرْأَةِ وَالْيَتِيمِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى وَمَا بَعْدَهَا فِي آخِرِ آيَاتِ الْفَرَائِضِ يُذَكِّرُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِتِلْكَ الْآيَاتِ الْمُفَصَّلَةِ أَنْ يَتَدَبَّرُوهَا وَيَتَأَمَّلُوا مَعَانِيَهَا وَيَعْمَلُوا بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ أَنْ يَغْفُلُوا أَوْ يَتَغَافَلُوا عَنْ دَقَائِقِ الْأَحْكَامِ وَالْعِظَاتِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا إِرْجَاعُهُمْ عَنْ أَهْوَائِهِمْ، وَإِذَا تَوَهَّمُوا أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا غَيْرَ قَطْعِيٍّ، وَأَنَّهُمْ بِالِاسْتِفْتَاءِ عَنْهُ رُبَّمَا يُفْتُونَ بِمَا فِيهِ التَّخْفِيفُ عَنْهُمْ، وَمُوَافَقَةُ رَغْبَتِهِمْ، لَجَئُوا إِلَى ذَلِكَ وَاسْتَفْتَوْا، وَقَدْ أَشَرْنَا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِفْتَاءِ بَيَانُ دَقَائِقِ الْأُمُورِ وَمَا يَخْفَى مِنْهَا، وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى ضَمِيرِ فِيهِنَّ، الْمَجْرُورِ أَيْ: وَيُفْتِيكُمْ أَيْضًا فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَسْتَفْتُونَ عَنْهَا الْآنَ، فَيُبَيِّنُ لَكُمْ أَنَّهَا أَحْكَامٌ مُحْكَمَةٌ لَا هَوَادَةَ فِيهَا، فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ تَظْلِمُوا النِّسَاءَ وَأَمْثَالَهُنَّ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ لِصِغَرِهِمْ.
وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ، أَيْ: وَيُفْتِيكُمْ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى مِنْ هَؤُلَاءِ النَّاسِ وَالْوِلْدَانِ الْمُسْتَضْعَفِينَ بِالْقِسْطِ، أَيْ: أَنْ تَعْنُوا عِنَايَةً خَاصَّةً بِتَحَرِّي الْعَدْلِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ وَالْإِقْسَاطِ إِلَيْهِمْ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا، فَإِنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى الْقِيَامِ بِالشَّيْءِ،
وَمِثْلُهُ إِقَامَةُ الشَّيْءِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا هُوَ الْوَاجِبَ الَّذِي لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَكَانَ مِنَ الْكَمَالِ أَنْ يُعَامَلَ الْيَتِيمُ بِالْفَضْلِ لَا بِمُجَرَّدِ الْعَدْلِ قَالَ تَعَالَى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا، أَيْ: وَمَا تَفْعَلُوهُ مِنَ الْخَيْرِ لِلْيَتَامَى بِتَرْجِيحِ مَنْفَعَتِهِمْ، وَالزِّيَادَةِ فِي قِسْطِهِمْ، فَهُوَ مِمَّا لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ تَعَالَى وَلَا يَنْسَى الْإِثَابَةَ عَلَيْهِ، كَسَائِرِ أَفْعَالِ الْخَيْرِ، وَهَذَا تَرْغِيبٌ