حفيظا- كما قال الحسن- أو عالما لا يعزب عنه شيء ولا يفوت- كما قال غيره- وعلى القولين الإحاطة هنا مجاز ونظمها البعض في سلك المتشابه.
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
خطاب للذابين مؤذن بأن تعديد جناياتهم يوجب مشافهتهم بالتوبيخ والتقريع، والجملة مبتدأ وخبر، وقوله سبحانه: جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
جملة مبينة لوقوع أولاء خبرا فهو بمعنى المجادلين وبه تتم الفائدة، ويجوز أن يكون أولاء اسما موصولا كما هو مذهب بعض النحاة في كل اسم إشارة، وجادَلْتُمْ
صلته، فالحمل حينئذ ظاهر، والمجادلة أشد المخاصمة وأصلها من الجدل وهو شدة الفتل، ومنه قيل للصقر: أجدل والمعنى هبوا أنكم بذلتم الجهد في المخاصمة عمن أشارت إليه الأخبار في الدنيا.
فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
أي فمن يخاصمه سبحانه عنهم يوم لا يكتمون حديثا ولا يغني عنهم من عذاب الله تعالى شيء أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ
يومئذ وَكِيلًا
أي حافظا ومحاميا من بأس الله تعالى وعقابه، وأصل معنى الوكيل الشخص الذي توكل الأمور له وتسند إليه، وتفسيره بالحافظ المحامي مجاز من باب استعمال الشيء في لازم معناه، وأَمْ
هذه منقطعة كما قال السمين، وقيل: عاطفة كما نقله في الدر المصون، والاستفهام كما قال الكرخي: في الموضعين للنفي أي لا أحد يجادل عنهم ولا أحد يكون عليهم وكيلا.
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
أي شيئا يسوء به غيره كما فعل بشير برفاعة أو طعمة باليهودي أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
بما يختص به كالإنكار، وقيل: السوء ما دون الشرك، والظلم الشرك، وقيل: السوء الصغيرة، والظلم الكبيرة. ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
بالتوبة الصادقة ولو قبل الموت بيسير يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً
لما استغفره منه كائنا ما كان رَحِيماً
متفضلا عليه، وفيه حث لمن فيهم نزلت الآية من المذنبين على التوبة والاستغفار، قيل: وتخويف لمن لم يستغفر ولم يتب بحسب المفهوم فإنه يفيد أن من لم يستغفر حرم من رحمته تعالى وابتلي بغضبه وَمَنْ يَكْسِبْ
أي يفعل إِثْماً
ذنبا من الذنوب فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
بحيث لا يتعدى ضرره إلى غيرها فليحترز عن تعريضها للعقاب والوبال وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً
بكل شيء ومنه الكسب حَكِيماً
في كل ما قدر وقضى، ومن ذلك لا تحمل وازرة وزر أخرى، وقيل: عَلِيماً
بالسارق حَكِيماً
في إيجاب القطع عليه، والأول أولى وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً
أي صغيرة، أو ما لا عمد فيه من الذنوب.
وقرأ معاذ بن جبل يَكْسِبْ
بكسر الكاف والسين المشددة وأصله يكتسب أَوْ إِثْماً
أي كبيرة، أو ما كان عن عمد، وقيل: الخطيئة الشرك والإثم ما دونه، وفي الكشاف: الإثم الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب، والهمزة فيه بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه، وفي الكشف كأن هذا أصله، ثم استعمل في مطلق الذنب في نحو قوله تعالى: كَبائِرَ الْإِثْمِ [الشورى: ٣٧، النجم: ٣٢]، ومن هذا يعلم ضعف ما ذكره صاحب القيل ثُمَّ يَرْمِ بِهِ
أي يقذف به ويسنده، وتوحيد الضمير لأنه عائد على أحد الأمرين لا على التعيين كأنه قيل: ثُمَّ يَرْمِ
بأحد الأمرين، وقيل: إنه عائد على إِثْماً
فإن المتعاطفين- بأو- يجوز عود الضمير فيما بعدهما على المعطوف عليه نحو إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة: ١١] وعلى المعطوف نحو وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها [التوبة: ٣٤]، وقيل: إنه عائد على الكسب على حد اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: ٨]، وقيل: في الكلام حذف أي- يرم بها وبه- وثُمَ
للتراخي في الرتبة، وقرىء بهما بَرِيئاً
مما رماه به ليحمله عقوبة العاجلة كما فعل من عنده الدرع بلبيد بن سهل، أو بأبي مليك فَقَدِ احْتَمَلَ
بما فعل من رمي البريء، وقصده تحميل جريرته عليه وهو أبلغ من حمل، وقيل: افتعل بمعنى فاقتدر وقدر بُهْتاناً
وهو الكذب على الغير بما يبهت منه ويتحير عند سماعه لفظاعته، وقيل: هو الكذب الذي يتحير في عظمه، والماضي- بهت- كمنع، ويقال في المصدر:
بهتا وبهتا وبهتا وَإِثْماً مُبِيناً
أي بينا لا مرية فيه ولا خفاء وهو صفة- لإثما- وقد اكتفي في بيان عظم البهتان بالتنكير التفخيمي على أن وصف الإثم بما ذكر بمنزلة وصف البهتان به لأنهما عبارة عن أمر واحد هو رمي البريء بجناية نفسه.
وعبر عنه بهما تهويلا لأمره وتفظيعا لحاله فمدار العظم والفخامة كون المرمي به للرامي فإن رمي البريء بجناية
ما خطيئة كانت أو إثما بهتان وإثم في نفسه، أما كونه بهتانا فظاهر، وأما كونه إثما فلأن كون الذنب بالنسبة إلى من فعله خطيئة لا يلزم منه كونه بالنسبة إلى من نسبه إلى البريء منه أيضا كذلك، بل لا يجوز ذلك قطعا كيف لا وهو كذب محرم في سائر الأديان فهو في نفسه بهتان وإثم لا محالة، وبكون تلك الجناية للرامي يتضاعف ذلك شدة ويزداد قبحا لكن لا لانضمام جنايته المكسوبة إلى رمي البريء وإلا لكان الرمي بغير جنايته مثله في العظم، ولا لمجرد اشتماله على تبرئة نفسه الخاطئة وإلا لكان الرمي بغير جنايته مع تبرئة نفسه مثله في العظم بل لاشتماله على قصد تحميل جنايته على البريء وإجراء عقوبتها عليه كما ينبىء عنه إيثار الاحتمال على الاكتساب ونحوه لما فيه من الإيذان بانعكاس تقديره مع ما فيه من الإشعار بثقل الوزر وصعوبة الأمر على ما يقتضيه ظاهر صيغة الافتعال، نعم بما ذكر من انضمام كسبه وتبرئة نفسه إلى رمي البريء تزداد الجناية قبحا لكن تلك الزيادة وصف للمجموع لا للإثم فقط- كذا قاله شيخ الإسلام- ولا يخفى أنه أولى مما يفهم من ظاهر كلام الكشاف من أن في التنزيل لفا ونشرا غير مرتب حيث قال إثر قوله تعالى: فَقَدِ احْتَمَلَ
إلخ: لأنه بكسبه الإثم آثم، وبرميه البريء باهت فهو جامع بين الأمرين لخلوه عما يلزمه، وإن أجيب عنه فافهم.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
بإعلامك بما هم عليه بالوحي وتنبيهك على الحق، وقيل: لولا فضله بالنبوة ورحمته بالعصمة، وقيل: لولا فضله بالنبوة ورحمته بالوحي وقيل: المراد لولا حفظه لك وحراسته إياك.
لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ
أي من الذين يختانون، والمراد بهم أسير بن عروة وأصحابه أو الذابون عن طعمة المطلعون على كنه القصة العالمون بحقيقتها، ويجوز أن يكون الضمير راجعا إلى الناس، والمراد بالطائفة الذين انتصروا للسارق أو المودع الخائن، وقيل: المراد بهم وفد ثقيف،
فقد روي عن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أنهم قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: يا محمد جئناك نبايعك على أن لا نكسر أصنامنا بأيدينا وعلى أن نتمتع بالعزى سنة، فلم يجبهم صلّى الله عليه وسلّم وعصمه الله تعالى من ذلك فنزلت».
وعن أبي مسلم أنهم المنافقون هموا بما لم ينالوا من إهلاك النبي صلّى الله عليه وسلّم فحفظه الله تعالى منهم وحرسه بعين عنايته أَنْ يُضِلُّوكَ
أي بأن يضلوك عن القضاء بالحق، أو عن اتباع ما جاءك في أمر الأصنام، أو بأن يهلكوك، وقد جاء الإضلال بهذا المعنى، ومنه على ما قيل: قوله تعالى: وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السجدة: ١٠] والجملة جواب لَوْلا
وإنما نفى همهم مع أن المنفي إنما هو تأثيره فقط إيذانا بانتفاء تأثيره بالكلية، وقيل: المراد هو الهم المؤثر ولا ريب في انتفائه حقيقة.
وقال الراغب: إن القوم كانوا مسلمين ولم يهموا بإضلاله صلّى الله عليه وسلّم أصلا وإنما كان ذلك صوابا عندهم وفي ظنهم وجوز أبو البقاء أن يكون الجواب محذوفا والتقدير- ولولا فضل الله عليك ورحمته لأضلوك- ثم استأنف بقوله سبحانه: لَهَمَّتْ
أي لقد همت بذلك وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
أي ما يزيلون عن الحق إلا أنفسهم، أو ما يهلكون إلا إياها لعود وبال ذلك وضرره عليهم، والجملة اعتراضية، وقوله تعالى: وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
عطف عليه وعطفه على أَنْ يُضِلُّوكَ
وهم محض ومِنْ
صلة، والمجرور في محل النصب على المصدرية أي وما يضرونك شيئا من الضرر لما أنه تعالى عاصمك عن الزيغ في الحكم، وأما ما خطر ببالك فكان عملا منك بظاهر الحال ثقة بأقوال القائلين من غير أن يخطر لك أن الحقيقة على خلاف ذلك، أو لما أنه سبحانه عاصمك عن المداهنة والميل إلى آراء الملحدين والأمر بخلاف ما أنزل الله تعالى عليك، أو لما أنه جل شأنه وعدك العصمة من الناس وحجبهم عن التمكن منك وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
أي القرآن الجامع بين العنوانين، وقيل: المراد
بالحكمة السنة، وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك، والجملة على ما قال الأجهوري: في موضع التعليل لما قبلها، وإلى ذلك أشار الطبرسي وهو غير مسلم على ما ذهب إليه أبو مسلم. وَعَلَّمَكَ
بأنواع الوحي ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
أي الذي لم تكن تعلمه من خفيات الأمور وضمائر الصدور، ومن جملتها وجوه إبطال كيد الكائدين، أو من أمور الدين وأحكام الشرع- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أو من الخير والشر- كما قال الضحاك- أو من أخبار الأولين والآخرين- كما قيل- أو من جميع ما ذكر- كما يقال..
ومن الناس من فسر الموصول بأسرار الكتاب والحكمة أي إنه سبحانه أنزل عليك ذلك وأطلعك على أسراره وأوقفك على حقائقه فتكون الجملة الثانية كالتتمة للجملة الأولى، واستظهر في البحر العموم.
وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
لا تحويه عبارة ولا تحيط به إشارة، ومن ذلك النبوة العامة والرئاسة التامة والشفاعة العظمى يوم القيامة لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ أي الذين يختانون، واختار جمع أن الضمير للناس، وإليه يشير كلام مجاهد، والنجوى- في الكلام كما قال الزجاج: ما يتفرد به الجماعة، أو الاثنان، وهل يشترط فيه أن يكون سرا أم لا؟ قولان: وتكون بمعنى التناجي، وتطلق على القوم المتناجين- كإذ هم نجوى- وهو إما من باب رجل عدل، أو على أنه جمع نجي- كما نقله الكرماني- والظرف الأول خبر لا والثاني في موضع الصفة للنكرة أي كائن مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ أي إلا في نجوى من أمر بِصَدَقَةٍ فالكلام على حذف مضاف، وبه يتصل الاستثناء، وكذا إن أريد بالنجوى المتناجون على أحد الاعتبارين، ولا يحتاج إلى ذلك التقدير حينئذ، ويكفي في صحة الاتصال صحة الدخول وإن لم يجزم به فلا يرد ما توهمه عصام الدين من أن مثل جاءني كثير من الرجال إلا زيدا لا يصح فيه الاتصال لعدم الجزم بدخول زيد في الكثير، ولا الانقطاع لعدم الجزم بخروجه، ولا حاجة إلى ما تكلف في دفعه- بأن المراد لا خير في كثير من نجوى واحد منهم إلا نجوى من أمر إلخ، فإنه في كثير من نجواه خير- فإنه على ما فيه لا يتأتى مثله على احتمال الجمع، وجوز رحمه الله تعالى، بل زعم أنه الأولى أن يجعل إِلَّا مَنْ أَمَرَ متعلقا بما أضيف إليه النجوى بالاستثناء أو البدل، ولا يخفى أنه إن سلم أن له معنى خلاف الظاهر، وجوز غير واحد أن يكون الاستثناء منقطعا على معنى لكن من أمر بصدقة وإن قلّت ففي نجواه الخير أَوْ مَعْرُوفٍ وهو كل ما عرفه الشرع واستحسنه، فيشمل جميع أصناف البر كقرض وإغاثة ملهوف، وإرشاد ضال إلى غير ذلك، ويراد به هنا ما عدا الصدقة وما عدا ما أشير إليه بقوله تعالى: أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وتخصيصه بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع، وتخصيص الصدقة فيما تقدم بالصدقة الواجبة مما لا داعي إليه وليس له سند يعول عليه، وخص الصدقة والإصلاح بين الناس بالذكر من بين ما شمله هذا العام إيذانا بالاعتناء بهما لما في الأول من بذل المال الذي هو شقيق الروح، وما في الثاني من إزالة فساد ذات البين- وهي الحالقة للدين- كما في الخبر، وقدم الصدقة على الإصلاح لما أن الأمر بها أشق لما فيه من تكليف بذل المحبوب، والنفس تنفر عمن يكلفها ذلك، ولا كذلك الأمر بالإصلاح، وذكر الإمام الرازي أن السر في إفراد هذه الأقسام الثلاثة بالذكر أن عمل الخير المتعدي إلى الناس، إما لإيصال المنفعة أو لدفع المضرة، والمنفعة إما جسمانية كإعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله تعالى: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ وإما روحانية وإليه الإشارة بالأمر بالمعروف، وإما رفع الضرر فقد أشير إليه بقوله تعالى: أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ولا يخفى ما فيه، والمراد من الإصلاح بين الناس التأليف بينهم بالمودة إذا تفاسدوا من غير أن يجاوز في ذلك حدود الشرع الشريف، نعم أبيح الكذب لذلك،
فقد أخرج الشيخان وأبو داود عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا، وقالت: لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في
ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها».
وعد غير واحد الإصلاح من الصدقة، وأيد بما
أخرجه البيهقي عن أبي أيوب «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له: يا أبا أيوب ألا أدلك على صدقة يرضى الله تعالى ورسوله موضعها؟ قال: بلى قال: تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا»،
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين»
وهذا الخبر ظاهر في أن الإصلاح أفضل من الصدقة بالمال.
ومثله ما
أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن أبي الدرداء قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى قال: إصلاح ذات البين»
ولا يخفى أن هذا ونحوه مخرّج مخرج الترغيب، وليس المراد ظاهره إذ لا شك أن الصيام المفروض والصلاة المفروضة والصدقة كذلك أفضل من الإصلاح اللهم إلا أن يكون إصلاح يترتب على عدمه شر عظيم وفساد بين الناس كبير. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي المذكور من الصدقة وأخويها والكلام تذييل للاستثناء، وكان الظاهر ومن يأمر بذلك ليكون مطابقا للمذيل إلا أنه رتب الوعد على الفعل إثر بيان خيرية الآمر لما أن المقصود الترغيب في الفعل وبيان خيرية الآمر به للدلالة على خيريته بالطريق الأولى، وجوز أن يكون عبر عن الأمر بالفعل إذ هو يكنى به عن جميع الأشياء كما إذا قيل: حلفت على زيد وأكرمته وكذا وكذا فتقول: نعم ما فعلت، ولعل نكتة العدول عن يأمر إلى يَفْعَلْ حينئذ الإشارة إلى أن التسبب لفعل الغير الصدقة والإصلاح والمعروف بأي وجه كان كاف في ترتب الثواب، ولا يتوقف ذلك على اللفظ، ويجوز جعل ذلك إشارة إلى الأمر فيكون معنى من أمر وَمَنْ يَفْعَلْ الأمر واحدا، وقيل: لا حاجة إلى جعله تذييلا ليحتاج إلى التأويل تحصيلا للمطابقة، بل لما ذكر لآمر استطراد ذكر ممتثل أمره كأنه قيل: ومن يمتثل ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي لأجل طلب رضاء الله تعالى فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ بنون العظمة على الالتفات، وقرأ أبو عمرو وحمزة وقتيبة عن الكسائي وسهل وخلف بالياء أَجْراً عَظِيماً لا يحيط به نطاق الوصف، قيل: وإنما قيد الفعل بالابتغاء المذكور لأن الأعمال بالنيات، وإن من فعل خيرا لغير ذلك لم يستحق به غير الحرمان، ولا يخفى أن هذا ظاهر في أن الرياء محبط لثواب الأعمال بالكلية وهو ما صرح به ابن عبد السلام والنووي وقال الغزالي: إذا غلب الإخلاص فهو مثاب وإلا فلا، وقيل:
هو مثاب غلب الإخلاص أم لا لكن على قدر الإخلاص، وفي دلالة الآية- على أن غير المخلص لا يستحق غير الحرمان- نظر لأنه سبحانه أثبت فيها للمخلص أجرا عظيما وهو لا ينافي أن يكون لغيره ما دونه، وكون العظمة بالنسبة إلى أمور الدنيا خلاف الظاهر وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يخالفه- من الشق فإن كلّا من المتخالفين في شق غير شق الآخر، ولظهور الانفكاك بين الرسول- ومخالفة فك الإدغام هنا، وفي قوله سبحانه في [الأنفال: ١٣] مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
- رعاية لجانب المعطوف، ولم يفك في قوله تعالى في [الحشر: ٤] وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ.
وقال الخطيب: في حكمة الفك والإدغام أن أل في الاسم الكريم لازمة بخلافها في الرسول، واللزوم يقتضي الثقل فخفف بالإدغام فيما صحبته الجلالة بخلاف ما صحبه لفظ الرسول، وفي آية الأنفال صار المعطوف والمعطوف عليه كالشيء الواحد، وما ذكرناه أولى، والتعرض لعنوان الرسالة لإظهار كمال شناعة ما اجترءوا إليه من المشاقة والمخالفة، وتعليل الحكم الآتي بذلك، والآية نزلت كما قدمناه في سارق الدرع أو مودعها، وقيل: في قوم طعمة لما ارتدوا بعد أن أسلموا، وأيا ما كان فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيندرج فيه ذلك وغيره من المشاقين مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أي ظهر له الحق فيما حكم به النبي صلّى الله عليه وسلّم أو فيما يدعيه عليه الصلاة والسلام بالوقوف على المعجزات الدالة على نبوته وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أي غير ما هم مستمرون عليه من عقد
وعمل فيعم الأصول والفروع والكل والبعض نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى أي نجعله واليا لما تولاه من الضلال ويؤول إلى أنا نضله، وقيل: معناه نخل بينه وبين ما اختاره لنفسه، وقيل: نكله في الآخرة إلى ما اتكل عليه وانتصر به في الدنيا من الأوثان وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ أي ندخله إياها، وقد تقدم.
وقرىء بفتح النون من صلاه وَساءَتْ مَصِيراً أي جهنم أو التولية، واستدل الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه على حجية الإجماع بهذه الآية، فعن المزني أنه قال: كنت عند الشافعي يوما فجاءه شيخ عليه لباس صوف وبيده عصا فلما رآه ذا مهابة استوى جالسا وكان مستندا لإسطوانة وسوى ثيابه فقال له: ما الحجة في دين الله تعالى؟ قال:
كتابه، قال: وماذا؟ قال: سنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة، قال: من أين هذا الأخير أهو في كتاب الله تعالى؟
فتدبر ساعة ساكتا، فقال له الشيخ: أجلتك ثلاثة أيام بلياليهنّ فإن جئت بآية، وإلا فاعتزل الناس فمكث ثلاثة أيام لا يخرج وخرج في اليوم الثالث بين الظهر والعصر وقد تغير لونه فجاءه الشيخ وسلم عليه وجلس، وقال: حاجتي، فقال:
نعم أعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم قال الله عز وجل: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ إلخ لم يصله جهنم على خلاف المؤمنين إلا واتباعهم فرض، قال: صدقت، وقام وذهب، وروي عنه أنه قال: قرأت القرآن في كل يوم وفي كل ليلة ثلاث مرات حتى ظفرت بها ونقل الإمام عنه أنه سئل عن آية من كتاب الله تعالى تدل على أن الإجماع حجة فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى وجد هذه الآية.
واعترض ذلك الراغب بأن سبيل المؤمنين الإيمان كما إذا قال اسلك سبيل الصائمين والمصلين أي في الصوم والصلاة، فلا دلالة في الآية على حجية الإجماع، ووجوب اتباع المؤمنين في غير الإيمان، ورده في الكشف بأنه تخصيص بما يأباه الشرط الأول، ثم إنه إذا كان مألوف الصائمين الاعتكاف مثلا تناول الأمر باتباعهم ذلك أيضا فكذلك يتناول ما هو مقتضى الإيمان فيما نحن فيه، فسبيل المؤمنين هنا عام على ما أشرنا إليه.
واعترض بأن المعطوف عليه مقيد بتبين الهدى فيلزم في المعطوف ذلك فإذا لم يكن في الإجماع فائدة لأن الهدى عام لجميع الهداية، ومنها دليل الإجماع وإذا حصل الدليل لم يكن للمدلول فائدة، وأجيب بمنع لزوم القيد في المعطوف، وعلى تقدير التسليم فالمراد بالهداية الدليل على التوحيد والنبوة، فتفيد الآية أن مخالفة المؤمنين بعد دليل التوحيد والنبوة حرام، فيكون الإجماع مفيدا في الفروع بعد تبين الأصول، وأوضح القاضي وجه الاستدلال بها على حجية الإجماع وحرمة مخالفته بأنه تعالى رتب فيها الوعيد الشديد على المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين، وذلك إما لحرمة كل واحد منهما، أو أحدهما، أو الجمع بينهما، والثاني باطل إذ يقبح أن يقال: من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحدّ، وكذا الثالث لأن المشاقة محرمة ضم إليها غيرها أو لم يضم، وإذا كان اتباع غير سبيلهم محرما كان اتباع سبيلهم واجبا لأن ترك اتباع سبيلهم ممن عرف سبيلهم اتباع غير سبيلهم.
«فإن قيل» : لا نسلم أن ترك اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين لأنه لا يمتنع أن لا يتبع سبيل المؤمنين ولا غير سبيل المؤمنين «أجيب» بأن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير فإذا كان من شأن غير المؤمنين أن لا يقتدوا في أفعالهم بالمؤمنين فكل من لم يتبع من المؤمنين سبيل المؤمنين فقد أتى بفعل غير المؤمنين واقتفى أثرهم فوجب أن يكون متبعا لهم، وبعبارة أخرى إن ترك اتباع سبيل المؤمنين اتباع لغير سبيل المؤمنين لأن المكلف لا يخلو من اتباع سبيل البتة، واعترض أيضا بأن هذا الدليل غير قاطع لأن «غير سبيل المؤمنين» يحتمل وجوها من التخصيص لجواز أن يراد سبيلهم في متابعة الرسول أو في مناصرته أو في الاقتداء به عليه الصلاة والسلام أو فيما صاروا به مؤمنين، وإذا قام الاحتمال كان غايته الظهور، والتمسك بالظاهر إنما يثبت بالإجماع ولولاه
لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتباع الظن فيكون إثباتا للإجماع بما لا يثبت حجيته إلا به فيصير دورا، واستصعب التفصي عنه، وقد ذكره ابن الحاجب في المختصر، وقريب منه قول الأصفهاني، في اتباع سبيلهم لما احتمل ما ذكر وغيره صار عاما، ودلالته على فرد من أفراده غير قطعية لاحتمال تخصيصه بما يخرجه مع ما فيه من الدور، وأجاب عن الدور بأنه إنما يلزم لو لم يقم عليه دليل آخر، وعليه دليل آخر، وهو أنه مظنون يلزم العمل به لأنا إن لم نعمل به وحده فإما أن نعمل به وبمقابله أو لا نعمل بهما، أو نعمل بمقابله، وعلى الأول يلزم الجمع بين النقيضين، وعلى الثاني ارتفاعهما، وعلى الثالث العمل بالمرجوح مع وجود الراجح والكل باطل، فيلزم العمل به قطعا، واعترض أيضا بمنع حرمة اتباع غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مطلقا بل بشرط المشاقة، وأجاب عنه القوم بما لا يخلو عن ضعف وبأن الاستدلال يتوقف على تخصيص المؤمنين بأهل الحل والعقد في كل عصر، والقرينة عليه غير ظاهرة، وبأمور أخر ذكرها الآمدي والتلمساني وغيرهما، وأجابوا عما أجابوا عنه منها، وبالجملة لا يكاد يسلم هذا الاستدلال من قيل وقال، وليست حجية الإجماع موقوفة على ذلك كما لا يخفى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ قد مر تفسيره فيما سبق وكرر للتأكيد، وخص هذا الموضع به ليكون كالتكميل لقصة من سبق بذكر الوعد بعد ذكر الوعيد في ضمن الآيات السابقة فلا يضر بعد العهد، أو لأن للآية سببا آخر في النزول،
فقد أخرج الثعلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن شيخا من العرب جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله تعالى منذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ولم أوقع المعاصي جراءة وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله تعالى هربا وإني لنادم تائب، فما ترى حالي عند الله تعالى؟» فنزلت.
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شيئا من الشرك، أو أحدا من الخلق، وفي معنى الشرك به تعالى نفي الصانع، ولا يبعد أن يكون من أفراده فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً عن الحق، أو عن الوقوع ممن له أدنى عقل، وإنما جعل الجزاء على ما قيل هنا فَقَدْ ضَلَّ إلخ، وفيما تقدم فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً [النساء: ٤٨] لما أن تلك كانت في أهل الكتاب وهم مطلعون من كتبهم على ما لا يشكون في صحته من أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم ووجوب اتباع شريعته وما يدعو إليه من الإيمان بالله تعالى ومع ذلك أشركوا وكفروا فصار ذلك افتراء واختلافا وجراءة عظيمة على الله تعالى، وهذه الآية كانت في أناس لم يعلموا كتابا ولا عرفوا من قبل وحيا ولم يأتهم سوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالهدى ودين الحق فأشركوا بالله عز وجل وكفروا وضلوا مع وضوح الحجة وسطوع البرهان فكان ضلالهم بعيدا، ولذلك جاء بعد تلك أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ [النساء: ٤٩] وقوله سبحانه: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النساء: ٥٠] وجاء بعد هذه قوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً أي ما يعبدون، أو ما ينادون لحوائجهم من دون الله تعالى إلا أصناما، والجملة مبينة لوجه ما قبلها ولذا لم تعطف عليه، وعبر عن الأصنام بالإناث لما روي عن الحسن أنه كان لكل حي من أحياء العرب صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان لأنهم يجعلون عليه الحلي وأنواع الزينة كما يفعلون بالنسوان، أو لما أن أسماءها مؤنثة- كما قيل- وهم يسمون ما اسمه مؤنث أنثى كما في قوله:
وما ذكر فإن يكبر فأنثى | شديد اللزم ليس له ضروس |
ميت ليس فيه روح مثل الخشبة اليابسة والحجر اليابس، ففي التعبير بذلك دون أصناما التنبيه السابق أيضا إلا أن الظاهر أن وصف الأصنام بكونهم أمواتا مجاز، وقيل: سماها الله تعالى إناثا لضعفها وقلة خيرها وعدم نصرها، وقيل:
لاتضاع منزلتها وانحطاط قدرها بناء على أن العرب تطلق الأنثى على كل ما اتضعت منزلته من أي جنس كان، وقيل:
كان في كل صنم شيطانة تتراءى للسدنة وتكلمهم أحيانا فلذلك أخبر سبحانه أنهم ما يعبدون من دون إلا إناثا وروي ذلك عن أبيّ بن كعب، وقيل: المراد الملائكة لقولهم: الملائكة بنات الله عز اسمه، وروي ذلك عن الضحاك، وهو جمع أنثى- كرباب وربي- في لغة من كسر الراء.
وقرىء- إلا أنثى- على التوحيد- وإلا أنثى- بضمتين كرسل، وهو إما صفة مفردة مثل امرأة جنب، وإما جمع أنيث كقليب وقلب، وقد جاء حديد أنيث، وإما جمع إناث كثمار وثمر، وقرىء- وثنا وأثنا- بالتخفيف والتثقيل، وتقديم الثاء على النون- جمع وثن- كقولك: أسد وأسد، وأسد ووسد، وقلبت الواو ألفا كأجوه في وجوه.
وأخرج ابن جرير أنه كان في مصحف عائشة رضي الله تعالى عنها- إلا أوثانا- وَإِنْ يَدْعُونَ أي وما يعبدون بعبادة تلك الأوثان إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً إذ هو الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم فكانت طاعتهم له عبادة. فالكلام محمول على المجاز فلا ينافي الحصر السابق، وقيل: المراد من يدعون يطيعون فلا منافاة أيضا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أنه قال: «ليس من صنم إلا فيه شيطان» والظاهر أن المراد من الشيطان هنا إبليس، وهو المروي عن مقاتل وغيره، والمريد والمارد والمتمرد: العاتي الخارج عن الطاعة، وأصل مادة- م ر د- للملامسة والتجرد، ومنه رْحٌ مُمَرَّدٌ
[النمل: ٤٤] وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها، ووصف الشيطان بذلك إما لتجرده للشر أو لتشبيهه بالأملس الذي لا يعلق به شيء، وقيل: لظهور شره كظهور ذقن الأمرد وظهور عيدان الشجرة المرداء لَعَنَهُ اللَّهُ أي طرده وأبعده عن رحمته، وقيل: المراد باللعنة فعل ما يستحقها به من الاستكبار عن السجود كقولهم: أبيت اللعن أي ما فعلت ما تستحقه به، والجملة في موضع نصب صفة ثانية لشيطان.
وجوز أبو البقاء أن تكون مستأنفة على الدعاء فلا موضع لها من الإعراب.
وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً عطف على الجملة المتقدمة، والمراد شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله تعالى وهذا القول الشنيع الصادر منه عند اللعن، وجوز أن تكون في موضع الحال بتقدير قد أي وقد قال، وأن تكون مستأنفة مستطردة كما أن ما قبلها اعتراضية في رأي، والجار والمجرور إما متعلق بالفعل، وإما حال مما بعده، واختاره البعض، والاتخاذ أخذ الشيء على وجه الاختصاص، وأصل معنى الفرض القطع. وأطلق هنا على المقدار المعين لاقتطاعه عما سواه، وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك، وابن المنذر عن الربيع من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، والظاهر أن هذا القول وقع نطقا من اللعين، وكأنه عليه اللعنة لما نال من آدم عليه السلام ما نال طمع في ولده، وقال ذلك ظنا، وأيد بقوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ [سبأ: ٢٠]، وقيل: إنه فهم طاعة الكثير له مما فهمت منه الملائكة حين قالوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: ٣٠] وادعى بعضهم أن هذا القول حالي كما في قوله:
امتلأ الحوض. وقال: قطني... مهلا رويدا قد ملأت بطني
وفي هذه الجمل ما ينادي على جهل المشركين وغاية انحطاط درجتهم عن الانخراط في سلك العقلاء على أتم وجه وأكمله، وفيها توبيخ لهم كما لا يخفى وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عن الحق وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ الأماني الباطلة، وأقول لهم:
ليس وراءكم بعث ولا نشر ولا جنة. ولا نار ولا ثواب ولا عقاب فافعلوا ما شئتم وقيل: أمنيهم بطول البقاء في الدنيا
فيسوفون العمل، وقيل: أمنيهم بالأهواء الباطلة الداعية إلى المعصية وأزين لهم شهوات الدنيا وزهراتها وأدعو كلّا منهم إلى ما يميل طبعه إليه فأصده بذلك عن الطاعة، وروى الأول عن الكلبي وَلَآمُرَنَّهُمْ بالتبتيك- كما قال أبو حيان- أو بالضلال كما قال غيره فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ أي
فليقطعنها من أصلها كما روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه،
أو ليشقنها- كما قال الزجاج- بموجب أمري من غير تلعثم في ذلك ولا تأخير كما يؤذن بذلك الفاء، وهذا إشارة إلى ما كانت الجاهلية تفعله من شق أو قطع أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا وتحريم ركوبها. والحمل عليها وسائر وجوه الانتفاع بها وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ ممتثلين به بلا ريث خَلْقَ اللَّهِ عن نهجه صورة أو صفة، ويندرج فيه ما فعل من فقء عين فحل الإبل إذا طال مكثه حتى بلغ نتاج نتاجه، ويقال له الحامي وخصاء العبيد والوشم والوشر واللواطة والسحاق ونحو ذلك وعبادة الشمس والقمر والنار والحجارة مثلا. وتغيير فطرة الله تعالى التي هي الإسلام واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا ولا يوجب لها من الله سبحانه زلفى.
وورد عن السلف الاقتصار على بعض المذكورات وعموم اللفظ بمنع الخصاء مطلقا، وروي النهي عنه عن جمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم،
وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن خصاء الخيل والبهائم»،
وادعى عكرمة أن الآية نزلت في ذلك، وأجاز بعضهم ذلك في الحيوان، وأخرج ابن المنذر عن عروة أنه خصى بغلا له، وعن طاوس أنه خصى جملا، وعن محمد بن سيرين أنه سئل عن خصاء الفحول، فقال: لا بأس به، وعن الحسن مثله، وعن عطاء أنه سئل عن خصاء الفحل فلم ير به عند عضاضه وسوء خلقه بأسا.
وقال النووي: لا يجوز خصاء حيوان لا يؤكل في صغره ولا في كبره ويجوز إخصاء المأكول في صغره لأن فيه غرضا وهو طيب لحمه، ولا يجوز في كبره، والخصاء في بني آدم محظور عند عامة السلف والخلف، وعند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه يكره شراء الخصيان واستخدامهم وإمساكهم لأن الرغبة فيهم تدعو إلى إخصائهم، وخص من تغيير خلق الله تعالى الختان والوشم لحاجة وخضب اللحية وقص ما زاد منها على السنة ونحو ذلك، وعن قتادة أنه قرأ الآية، ثم قال: ما بال أقوام جهلة يغيرون صبغة الله تعالى ولونه سبحانه، ولا يكاد يسلم له إن أراد ما يعم الخضاب المسنون كالخضاب بالحناء بل وبالكتم أيضا لإرهاب العدو، وقد صح عن جمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنهم فعلوا ذلك منهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وحديث النهي محمول على غير ذلك وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ بإيثار ما يدعو إليه على ما أمر الله تعالى به ومجاوزته عن طاعة الله تعالى إلى طاعته، وقيد مِنْ دُونِ اللَّهِ لبيان أن اتباعه ينافي متابعة أمر الله تعالى وليس احترازيا كما يتوهم، وأما ما قيل: من أنه ما من مخلوق لله تعالى إلا ولك فيه ولاية لو عرفتها، ولك في وجوده منفعة لو طلبتها، فلهذا قيدت الولاية بكونها من دون الله تعالى فناشىء من الغفلة عن تحقيق معنى الولاية فافهم فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً أي ظاهرا، وأيّ خسران أعظم من استبدال الجنة بالنار؟ وأي صفقة أخسر من فوات رضا الرحمن برضا الشيطان؟ يَعِدُهُمْ ما لا يكاد ينجزه، وقيل: النصر والسلامة، وقيل: الفقر والحاجة إن أنفقوا، وقرأ الأعمش يَعِدُهُمْ بسكون الدال وهو تخفيف لكثرة الحركات. وَيُمَنِّيهِمْ الأماني الفارغة، وقيل: طول البقاء في الدنيا ودوام النعيم فيها، وجوز أن يكون المعنى في الجملتين يفعل لهم الوعد ويفعل التمنية على طريقة: فلان يعطي ويمنع، وضمير الجمع المنصوب في يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ راجع إلى- من- باعتبار معناها كما أن ضمير الرفع المفرد في يَتَّخِذِ وخَسِرَ راجع إليها باعتبار لفظها، وأخبر سبحانه عن وقوع الوعد والتمنية مع وقوع غير ذلك مما أقسم عليه اللعين أيضا لأنهما من الأمور الباطنة
وأقوى أسباب الضلال وحبائل الاحتيال وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً وهو إيهام النفع فيما فيه الضرر، وهذا الوعد والأمر عندي مثله إما بالخواطر الفاسدة، وإما بلسان أوليائه، واحتمال أن يتصور بصورة إنسان فيفعل ما يفعل بعيد، وغُرُوراً إما مفعول ثان للوعد، أو مفعول لأجله، أو نعت لمصدر محذوف أي وعدا ذا غرور، أو غارا، أو مصدرا على غير لفظ المصدر لأن يَعِدُهُمْ في قوة يغرهم بوعده كما قال السمين، والجملة اعتراض وعدم التعرض للتمنية لأنها من باب الوعد، وفي البحر أنهما متقاربان فاكتفي بأولهما أُولئِكَ إشارة إلى من اتخذ الشيطان وليا باعتبار معناه، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الخسران مَأْواهُمْ ومستقرهم جميعا جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً أي معدلا ومهربا، وهو اسم مكان، أو مصدر ميمي من حاص يحيص إذا عدل وولى، ويقال:
محيص ومحاص، وأصل معناه كما قيل: الروغان، ومنه وقعوا في حيص بيص، وحاص باص أي في أمر يعسر التخلص منه، ويقال: حاص يحوص أيضا وحوصا وحياصا، وعَنْها متعلق بمحذوف وقع حالا من محيصا.
ولم يجوزوا تعلقه ب يَجِدُونَ لأنه لا يتعدى بعن، ولا بمحيصا لأنه إن كان اسم مكان فهو لا يعمل لأنه ملحق بالجوامد، وإن كان مصدرا فمعمول المصدر لا يتقدم عليه، ومن جوز تقدمه إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا جوزه هنا. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مبتدا خبره قوله تعالى:
سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وجوز أبو البقاء أن يكون الموصول في موضع نصب بفعل محذوف يفسره ما بعده ولا يخفى مرجوحيته، وهذا وعد للمؤمنين إثر وعيد الكافرين، وإنما قرنهما سبحانه وتعالى زيادة لمسرة أحبائه ومساءة أعدائه وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي وعدهم وعدا وأحقه حقا، فالأول مؤكد لنفسه كله على ألف عرفا فإن مضمون الجملة السابقة لا تحتمل غيره إذ ليس الوعد إلا الإخبار عن إيصال المنافع قبل وقوعه، والثاني مؤكد لغيره كزيد قائم حقا فإن الجملة الخبرية بالنظر إلى نفسها وقطع النظر عن قائلها تحتمل الصدق والكذب والحق والباطل، وجوز أن ينتصب وعد على أنه مصدر ل سَنُدْخِلُهُمْ على ما قال أبو البقاء من غير لفظه لأنه في معنى نعدهم إدخال جنات، ويكون حَقًّا حالا منه.
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا تذييل للكلام السابق مؤكد له، فالواو اعتراضية، والقيل- مصدر قال ومثله القال.
وعن ابن السكيت: أنهما اسمان لا مصدران، ونصبه على التمييز، ولا يخفى ما في الاستفهام وتخصيص اسم الذات الجليل الجامع، وبناء أفعل، وإيقاع القول تمييزا من المبالغة، والمقصود معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه التي غرتهم حتى استحقوا الوعيد بوعد الله تعالى الصادق لأوليائه الذي أوصلهم إلى السعادة العظمى، ولذا بالغ سبحانه فيه وأكده حثا على تحصيله وترغيبا فيه، وزعم بعضهم أن الواو عاطفة والجملة معطوفة على محذوف أي صدق الله وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا أي صدق ولا أصدق منه، ولا يخفى أنه تكلف مستغنى عنه، وكأن الداعي إليه الغفلة عن حكم الواو الداخلة على الجملة التذييلة، وتجويز أن تكون الجملة مقولا لقول محذوف أي وقائلين: من أصدق من الله قيلا، فيكون عطفا على خالِدِينَ أدهى وأمر.
وقرأ الكوفي غير عاصم وورش بإشمام الصاد الزاي لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ الخطاب للمؤمنين، والأماني بالتشديد والتخفيف- وبهما قرىء- جمع أمنية على وزن أفعولة، وهي كما قال الراغب: الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء أي تقديره في النفس وتصويره فيها، ويقال: منى له الماني أي قدر له المقدر، ومنه قيل: منية أي مقدرة، وكثيرا ما يطلق التمني على تصور ما لا حقيقة له، ومن هنا يعبر به عن الكذب لأنه تصور
ما ذكر، وإيراده باللفظ فكأن التمني مبدأ له فلهذا صح التعبير به عنه، ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه: ما تعنيت ولا تمنيت منذ أسلمت، والباء في بِأَمانِيِّكُمْ مثلها في- زيد بالباب- وليست زائدة والزيادة محتملة، ونفاها البعض واسم لَيْسَ مستتر فيها عائد على الوعد بالمعنى المصدري، أو بمعنى الموعود فهو استخدام كما قال السعد وقيل: عائد على الموعود الذي تضمنه عامل وعد الله، أو على إدخال الجنة أو العمل الصالح، وقيل: عائد على الإيمان المفهوم من الذين آمنوا وقيل على الأمر المتحاور فيه بقرينة سبب النزول.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى، فقال اليهود للمسلمين: نحن خير منكم، ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن على دين إبراهيم ولَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً [البقرة: ١١١]، وقالت النصارى مثل ذلك، فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم ونبينا صلّى الله عليه وسلّم بعد نبيكم، وديننا بعد دينكم وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم فنحن خير منكم نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا، فأنزل الله تعالى لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ، وقوله سبحانه وَمَنْ أَحْسَنُ إلخ أي ليس وعد الله تعالى، أو ما وعده سبحانه من الثواب أو إدخال الجنة، أو العمل الصالح، أو الإيمان، أو ما تحاورتم فيه حاصلا بمجرد أمانيكم أيها المسلمون ولا أماني اليهود والنصارى، وإنما يحصل بالسعي والتشمير عن ساق الجد لامتثال الأمر، ويؤيد عود الضمير على الإيمان المفهوم مما قبله، أنه
أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن موقوفا «ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظن بالله تعالى وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل»
وأخرج البخاري في تاريخه عن أنس مرفوعا «ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب فأما علم القلب فالعلم النافع وعلم اللسان حجة على بني آدم».
وروي عن مجاهد وابن زيد أن الخطاب لأهل الشرك فإنهم قالوا: لانبعث ولا نعذب كما قال أهل الكتاب لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى وأيد بأنه لم يجر للمسلمين ذكر في الأماني وجرى للمشركين ذكر في ذلك أي ليس الأمر بأماني المشركين وقولهم: لا بعث ولا عذاب، ولا بأماني أهل الكتاب وقولهم ما قالوا: وقرر سبحانه ذلك بقوله عز من قائل: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ عاجلا أو آجلا،
فقد أخرج الترمذي وغيره عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال: «كنت عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا بكر ألا أقرئك آية نزلت علي؟ فقلت: بلى يا رسول الله فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني وجدت انقصاما في ظهري حتى تمطأت لها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما لك يا أبا بكر؟ قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله وأينا لم يعمل السوء وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما أنت وأصحابك يا أبا بكر المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله تعالى ليس عليكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزون يوم القيامة».
وأخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: «لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله تعالى فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: سددوا وقاربوا فإن في كل ما أصاب المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها»
والأحاديث بهذا المعنى أكثر من أن تحصى، ولهذا أجمع عامة العلماء على أن الأمراض والأسقام ومصائب الدنيا وهمومها وإن قلّت مشقتها يكفر الله تعالى بها الخطيئات، والأكثرون على أنها أيضا يرفع بها الدرجات وتكتب الحسنات وهو الصحيح المعول عليه، فقد صح في غير ما طريق
«ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة».
وحكى القاضي عن بعضهم أنها تكفر الخطايا فقط ولا ترفع درجة، وروي عن ابن مسعود- الوجع لا يكتب به أجر لكن يكفر به الخطايا- واعتمد على الأحاديث التي فيها التكفير فقط ولم تبلغه الأحاديث الصحيحة المصرحة برفع الدرجات وكتب الحسنات، بقي الكلام في أنها هل تكفر الكبائر أم لا؟، وظاهر الأحاديث- ومنها خبر أبي بكر رضي الله تعالى عنه- أنها تكفرها، وقد جاء في خبر حسن عن عائشة أن العبد ليخرج بذلك من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير،
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن يزيد بن أبي حبيب قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا يزال الصداع والمليلة بالمرء المسلم حتى يدعه مثل الفضة البيضاء»
إلى غير ذلك.
ولا يخفى أن إبقاء ذلك على ظاهره مما يأباه كلامهم، وخص بعضهم الجزاء بالآجل، ومن بالمشركين وأهل الكتاب، وروي ذلك عن الحسن والضحاك وابن زيد قالوا: وهذا كقوله تعالى: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ:
١٧]، وقيل: المراد من السوء هنا الشرك، وأخرجه ابن جريج عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن جبير، وكلا القولين خلاف الظاهر، وفي الآية ردّ على المرجئة القائلين: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي مجاوزا لولاية الله تعالى ونصرته وَلِيًّا يلي أمره ويحامي عنه ويدفع ما ينزل به من عقوبة الله تعالى وَلا نَصِيراً ينصره وينجيه من عذاب الله تعالى إذا حل به، ولا مستند في الآية لمن منع العفو عن العاصي إذ العموم فيها مخصص بالتائب إجماعا، وبعد فتح باب التخصيص لا مانع من أن نخصصه أيضا بمن يتفضل الله تعالى بالعفو عنه على ما دلت عليه الأدلة الأخر وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الأعمال الصَّالِحاتِ أي بعضها وشيئا منها لأن أحدا لا يمكنه عمل كل الصالحات وكم من مكلف لا حج عليه ولا زكاة ولا جهاد، «فمن» تبعيضية، وقيل: هي زائدة.
واختاره الطبرسي وهو ضعيف، وتخصيص الصالحات بالفرائض كما روي عن ابن عباس خلاف الظاهر، وقوله سبحانه مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى في موضع الحال من ضمير يَعْمَلْ ومَنْ بيانية.
وجوز أن يكون حالا مِنَ الصَّالِحاتِ ومَنْ ابتدائية أي كائنة مِنْ ذَكَرٍ إلخ، واعترض بأنه ليس بسديد من جهة المعنى، ومع هذا الأظهر تقدير كائنا لا كائنة لأنه حال من شيئا منها. وكون المعنى- الصالحات الصادرة من الذكر والأنثى- لا يجدي نفعا لما في ذلك من الركاكة. ولعل تبيين العامل بالذكر والأنثى لتوبيخ المشركين في إهلاكهم إناثهم، وجعلهن محرومات من الميراث، وقوله تعالى: وَهُوَ مُؤْمِنٌ حال أيضا، وفي اشتراط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب الذي تضمنه ما يأتي تنبيه على أنه لا اعتداد به دونه، وفيه دفع توهم أن العمل الصالح ينفع الكافر حيث قرن بذكر العمل السوء المضر للمؤمن والكافر والتذكير لتغليب الذكر على الأنثى كما قيل، وقد مر لك قريبا ما ينفعك فتذكر فَأُولئِكَ إشارة إلى من بعنوان اتصافه بالعمل الصالح والإيمان، والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد السابق باعتبار لفظها، وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة.
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ جزاء عملهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر يَدْخُلُونَ مبنيا للمفعول من الإدخال وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً أي لا ينقصون شيئا حقيرا من ثواب أعمالهم، فإن النقير علم في القلة والحقارة، وأصله نقرة في ظهر النواة منها تنبت النخلة، ويعلم من نفي تنقيص ثواب المطيع نفي زيادة عقاب العاصي من باب الأولى لأن الأذى في زيادة العقاب أشد منه في تنقيص الثواب، فإذا لم يرض بالأول- وهو أرحم الراحمين- فكيف يرضى بالثاني- وهو السر في تخصيص عدم تنقيص الثواب بالذكر دون ذكر عدم زيادة العقاب- مع أن المقام مقام ترغيب في العمل الصالح فلا يناسبه إلا هذا، والجملة تذييل لما قبلها، أو عطف عليه.
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي أخلص نفسه له تعالى لا يعرف لها ربا سواه، وقيل: أخلص توجهه له سبحانه، وقيل: بذل وجهه له عزّ وجلّ في السجود، والاستفهام إنكاري وهو في معنى النفي، والمقصود مدح من فعل ذلك على أتم وجه، ودِيناً نصب على التمييز من أحسن منقول من المبتدأ والتقدير: ومن دينه أحسن من دين من أسلم إلخ، فيؤول الكلام إلى تفضيل دين على دين، وفيه تنبيه على أن صرف العبد نفسه بكليتها لله تعالى أعلى المراتب التي تبلغها القوة البشرية، ومِمَّنْ متعلق بأحسن وكذا الاسم الجليل، وجوز فيه أن يكون حالا من وَجْهَهُ وَهُوَ مُحْسِنٌ أي آت بالحسنات تارك للسيئات، أو آت بالأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي، وقد صح
أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الإحسان فقال عليه الصلاة والسلام: «أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»،
وقيل: الأظهر أن يقال: المراد وَهُوَ مُحْسِنٌ في عقيدته، وهو مراد من قال: أي وهو موحد، وعلى هذا فالأولى أن يفسر إسلام الوجه لله تعالى بالانقياد إليه سبحانه بالأعمال، والجملة في موضع الحال من فاعل أَسْلَمَ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ الموافقة لدين الإسلام المتفق على صحتها، وهذا عطف على أَسْلَمَ وقوله سبحانه: حَنِيفاً أي مائلا عن الأديان الزائفة حال من إِبْراهِيمَ.
وجوز أن يكون حالا من فاعل اتَّبَعَ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا تذييل جيء به للترغيب في اتباع ملته عليه السلام، والإيذان بأنه نهاية في الحسن، وإظهار اسمه عليه السلام تفخيما له وتنصيصا على أنه الممدوح، ولا يجوز العطف خلافا لمن زعمه على وَمَنْ أَحْسَنُ إلخ سواء كان استطرادا أو اعتراضا، وتوكيدا لمعنى قوله تعالى:
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وبيانا لأن الصالحات ما هي؟ وأن المؤمن من هو لفقد المناسبة، والجامع بين المعطوف والمعطوف عليه وأدائه ما يؤديه من التوكيد والبيان، ولا على صلة مَنْ لعدم صلوحه لها وعدم صحة عطفه على وَهُوَ مُحْسِنٌ أظهر من أن يخفى، وجعل الجملة حالية بتقدير قد خلاف الظاهر، والعطف على حَنِيفاً لا يصح إلا بتكلف، والخليل مشتق من الخلة بضم الخاء، وهي إما من الخلال بكسر الخاء فإنها مودة تتخلل النفس وتخالطها مخالطة معنوية، فالخليل من بلغت مودته هذه المرتبة كما قال:
قد تخللت مسلك الروح مني | ولذا سمي الخليل خليلا |
فإذا ما نطقت كنت حديثي | وإذا ما سكت كنت الغليلا |
إبراهيم عليه السلام إلى منزله ثم عمت بعد كرامته خلق الله تعالى من كل وارد ورد عليه. فقيل له في ذلك فقال:
تعلمت الكرم من ربي رأيته لا يضيع أعداءه فلا أضيعهم أنا فأوحى الله تعالى إليه أنت خليلي حقا،
وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا جبريل لم اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلا؟ قال: لإطعامه الطعام يا محمد»،
وقيل- واختاره البلخي والفراء- لإظهاره الفقر والحاجة إلى الله تعالى وانقطاعه إليه وعدم الالتفات إلى من سواه كما يدل على ذلك
قوله لجبريل عليه السلام حين قال له يوم ألقي في النار: ألك حاجة؟ أما إليك فلا، ثم قال:
حسبي الله تعالى ونعم الوكيل،
وقيل: في وجه تسميته عليه السلام خليل الله غير ذلك، والمشهور أن الخليل دون الحبيب.
وأيد بما
أخرجه الترمذي وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «جلس ناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم وإذا بعضهم يقول: إن الله تعالى اتخذ من خلقه خليلا فإبراهيم خليله وقال آخر: ماذا بأعجب من أن كلم الله تعالى موسى تكليما، وقال آخر: فعيسى روح الله تعالى وكلمته وقال آخر: آدم اصطفاه الله تعالى فخرج عليهم فسلم فقال: قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله تعالى وهو كذلك. وموسى كليمه وعيسى روحه وكلمته وآدم اصطفاه الله تعالى وهو كذلك ألا وإني حبيب الله تعالى ولا فخر، وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتحها الله تعالى فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر»،
وأخرج الترمذي في نوادر الأصول والبيهقي في الشعب وضعفه وابن عساكر والديلمي قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلا وموسى نجيا واتخذني حبيبا، ثم قال وعزتي لأوثرون حبيبي على خليلي ونجيي»،
والظاهر من كلام المحققين أن الخلة مرتبة من مراتب المحبة، وأن المحبة أوسع دائرة، وأن من مراتبها ما لا تبلغه أمنية الخليل عليه السلام، وهي المرتبة الثابتة له صلّى الله عليه وسلّم، وأنه قد حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام من مقام الخلة ما لم يحصل لأبيه إبراهيم عليه السلام، وفي الفرع ما في الأصل وزيادة، ويرشدك إلى ذلك أن التخلق بأخلاق الله تعالى الذي هو من آثار الخلة عند أهل الاختصاص أظهر وأتم في نبينا صلّى الله عليه وسلّم منه في إبراهيم عليه السلام، فقد صح أن خلقه القرآن،
وجاء عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»
وشهد الله تعالى له بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: ٤] ومنشأ إكرام الضيف الرحمة وعرشها المحيط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما يؤذن بذلك قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء:
١٠٧] ولهذا كان الخاتم عليه الصلاة والسلام.
وقد روى الحاكم وصححه عن جندب «أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول قبل أن يتوفى: إن الله تعالى اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا،
والتشبيه على حدّ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: ١٨٣] في رأي، وقيل: إن يتوفى لا دلالة فيه على أن مقام الخلة بعد مقام المحبة كما لا يخفى.
وفي لفظ الحب والخلة ما يكفي العارف في ظهور الفرق بينهما، ويرشده إلى معرفة أن أي الدائرتين أوسع، وذهب غير واحد من الفضلاء إلى أن الآية من باب الاستعارة التمثيلية لتنزهه تعالى عن صاحب وخليل، والمراد اصطفاه وخصصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله، وأما في الخليل وحده فاستعارة تصريحية على ما نص عليه الشهاب إلا أنه صار بعد علما على إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وادعى بعضهم أنه لا مانع من وصف إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالخليل حقيقة على معنى الصادق، أو من أصفى المودة وأصحها أو نحو ذلك، وعدم إطلاق الخليل على غيره عليه الصلاة والسلام مع أن مقام الخلة بالمعنى
المشهور عند العارفين غير مختص به بل كل نبي خليل الله تعالى، إما لأن ثبوت ذلك المقام له عليه الصلاة والسلام على وجه لم يثبت لغيره- كما قيل- وإما لزيادة التشريف والتعظيم كما نقول، واعترض بعض النصارى بأنه إذا جاز إطلاق الخليل على إنسان تشريفا فلم لم يجز إطلاق الابن على آخر لذلك؟ أجيب بأن الخلة لا تقتضي الجنسية بخلاف النبوة فإنها تقتضيها قطعا، والله تعالى هو المنزه عن مجانسة المحدثات.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يحتمل أن يكون متصلا بقوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ علبى أنه كالتعليل لوجوب العمل، وما بينهما من قوله سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً اعتراض أي إن جميع ما في العلو والسفل من الموجودات له تعالى خلقا وملكا لا يخرج من ملكوته شيء منها فيجازي كلّا بموجب أعماله إن خيرا فخير وإن شرا فشر وأن يكون متصلا بقوله جل شأنه: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إلخ بناء على أن معناه اختاره واصطفاه أي هو مالك لجميع خلقه فيختار من يريده منهم كإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهو لبيان أن اصطفاءه عليه الصلاة والسلام بمحض مشيئته تعالى.
وقيل: لبيان أن اتخاذه تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام خليلا ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك لشأن من شؤونه كما هو دأب المخلوقين، فإن مدار خلتهم افتقار بعضهم إلى بعض في مصالحهم، بل لمجرد تكرمته وتشريفه، وفيه أيضا إشارة إلى أن خلته عليه السلام لا تخرجه عن العبودية لله تعالى.
وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً إحاطة علم وقدرة بناء على أن حقيقة الإحاطة في الأجسام، فلا يوصف الله تعالى بذلك فلا بدّ من التأويل وارتكاب المجاز على ما ذهب إليه الخلف، والجملة تذييل مقرر لمضمونه ما قبله على سائر وجوهه.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم في أرض الاستعداد لمحاربة عدو النفس، أو لتحصيل أحوال الكمالات فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أي تنقصوا من الأعمال البدنية إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي حجبوا عن الحق من قوى الوهم والتخيل، وحاصله الترخيص لأرباب السلوك عند خوف فتنة القوى أن ينقصوا من الأعمال البدنية ويزيدوا في الأعمال القلبية كالفكر والذكر ليصفوا القلب ويشرق نوره على القوى فتقل غائلتها فتركوا عند ذلك الأعمال البدنية، ولا يجوز عند أهل الاختصاص ترك الفرائض لذلك كما زعمه بعض الجهلة وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ ولم تكن غائبا عنهم بسيرك في غيب الغيب وجلال المشاهدة وعائما في بحار
«لي مع الله تعالى وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل»
فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ أي الأعمال البدنية فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وليفعلوا كما تفعل وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ من قوى الروح ويجمعوا حواسهم ليتأتى لهم المشابهة، أو ليقفوا على ما في فعلك من الأسرار فلا تضلهم الوسائس فَإِذا سَجَدُوا وبلغوا الغاية في معرفة ما أقمته لهم وأتوا به على وجهه فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ ذابين عنكم اعتراض الجاهلين، أو قائمين بحوائجكم الضرورية وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى منهم لَمْ يُصَلُّوا بعد فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وليفعلوا فعلك وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ كما أخذا الأولون أسلحتهم، وإنما أمر هؤلاء بأخذ الحذر أيضا حثا لهم على مزيد الاحتياط لئلا يقصروا فيها يراد منهم اتكالا على الأخذ بعد ممن أخذ أولا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وحاصل هذا الإشارة إلى أن تعليم الشرائع والآداب للمريدين ينبغي أن يكون لطائفة طائفة منهم ليتمكن ذلك لديهم أتم تمكن، وقيل: الطائفة الأولى إشارة إلى الخواص، والثانية إلى العوام ولهذا اكتفي في الأول بالأمر بأخذ الأسلحة، وفي الثاني أمر الحذر أيضا وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم قوى النفس الأمارة لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وهي
قوى الروح وَأَمْتِعَتِكُمْ وهي المعارف الإلهية فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً ويرمونكم بنبال الآفات والشكوك ويهلكونكم وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً بأن أصابكم شؤبوب مِنْ مَطَرٍ يعني مطر سحائب التجليات أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى بحمى الوجد والغرام وعجزتم عن أعمال القوى الروحانية أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وتتركوا أعمال تلك القوى حتى يتجلى ذلك السحاب وينقطع المطر وتهتز أرض قلوبكم بأزهار رحمة الله تعالى وتطفأ حمى الوجد بمياه القرب وَخُذُوا حِذْرَكُمْ عند وضع أسلحتكم واحفظوا قلوبكم من الالتفات إلى غير الله تعالى إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ من القوى النفسانية عَذاباً مُهِيناً أي مذلا لهم وذلك عند حفظ القلب وتنور الروح فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ أي أديتموها فَاذْكُرُوا اللَّهَ في جميع الأحوال قِياماً في مقام الروح بالمشاهدة وَقُعُوداً في محل القلب بالمكاشفة وَعَلى جُنُوبِكُمْ أي تقلباتكم في مكان النفس بالمجاهدة فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ ووصلتم إلى محل البقاء فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فأدوها على الوجه الأتم لسلامة القلب حينئذ عن الوساوس النفسانية التي هي بمنزلة الحدث عند أهل الاختصاص إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً فلا تسقط عنهم ما دام العقل والحياة وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ الذين يحاربونكم وهم النفس وقواها فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ منكم لمنعكم لهم عن شهواتهم كَما تَأْلَمُونَ منهم لمعارضتهم لكم عن السير إلى الله تعالى وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ أي تأملون منه سبحانه ما لا يَرْجُونَ لأنكم ترجون التنعم بجنة القرب والمشاهدة، ولا يخطر ذلك لهم ببال، أو تخافون القطيعة وهم لا يخافونها وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً فيعلم أحوالكم وأحوالهم حَكِيماً فيفيض على القوابل حسب القابليات إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي علم تفاصيل الصفات وأحكام تجلياتها بِالْحَقِّ متلبسا ذلك الكتاب بالصدق أو قائما أنت بالحق لا بنفسك لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ خواصهم وعوامهم بِما أَراكَ اللَّهُ أي بما علمك الله سبحانه من الحكمة وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ الذين لم يؤدوا أمانة الله تعالى التي أودعت عندهم في الأزل مما ذكر في استعدادهم من إمكان طاعته وامتثال أمره خَصِيماً تدفع عنهم العقاب وتسلط الخلق عليهم بالذل والهوان، أو تقول لله تعالى: يا رب لم خذلتهم وقهرتهم فإنهم ظالمون، ولله تعالى الحجة البالغة عليهم.
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ من الميل الطبيعي الذي اقتضته الرحمة التي أحاطت بك إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فيفعل ما تطلبه منه وزيادة وَلا تُجادِلْ
أحدا عن الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
بتضييع حقوقها إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً
لنفسه أَثِيماً
مرتكبا الإثم ميالا مع الشهوات يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
بكتمان رذائلهم وصفات نفوسهم وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
بإزالتها وقلعها وَهُوَ مَعَهُمْ
محيط بظواهرهم وبواطنهم إِذْ يُبَيِّتُونَ
أي يدبرون في ظلمة عالم النفس والطبيعة ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ
من الوهميات والتخيلات الفاسدة وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
فيجازيهم حسب أعمالهم وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
بظهور صفة من صفات نفسه أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
بنقص شيء من كمالاتها ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
ويطلب منه ستر ذلك بالتوجه إليه والتذلل بين يديه يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
فيستر ويعطى ما يقتضيه الاستعداد وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً
بإظهار بعض الرذائل أَوْ إِثْماً
بمحو ما في الاستعداد ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
بأن يقول: حملني الله تعالى على ذلك، أو حملني فلان عليه فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً
حيث فعل ونسب فعله إلى الغير ولو لم تكن مستعدة لذلك طالبة له بلسان الاستعداد في الأزل لم يفض عليه ولم يبرز إلى ساحة الوجود، ولذا أفحم إبليس اللعين أتباعه بما قص الله تعالى لنا من قوله: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ إلى أن قال: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ
أي توفيقه وإمداده لسلوك طريقه وَرَحْمَتُهُ
حيث وهب لك الكمال المطلق لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
لعود ضرره عليهم،