
القول في تأويل قوله: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١١٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"لا خير في كثير من نجواهم"، لا خير في كثير من نجوى الناس جميعًا="إلا من أمر بصدقة أو معروف"، و"المعروف"، هو كل ما أمر الله به أو ندب إليه من أعمال البر والخير، (١) ="أو إصلاح بين الناس"، وهو الإصلاح بين المتباينين أو المختصمين، بما أباح الله الإصلاح بينهما،

ليتراجعا إلى ما فيه الألفة واجتماع الكلمة، على ما أذن الله وأمر به.
= ثم أخبر جل ثناؤه بما وعد من فعل ذلك فقال:"ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاةِ الله فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا"، يقول: ومن يأمر بصدقة أو معروف من الأمر، أو يصلح بين الناس="ابتغاء مرضاة الله"، يعني: طلب رضى الله بفعله ذلك (١) ="فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا"، يقول: فسوف نعطيه جزاءً لما فعل من ذلك عظيمًا، (٢) ولا حدَّ لمبلغ ما سمى الله"عظيمًا" يعلمه سواه. (٣)
* * *
واختلف أهل العربية في معنى قوله:"لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة".
فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: لا خير في كثير من نجواهم، إلا في نجوى من أمر بصدقة= كأنه عطف بـ "مَنْ" على"الهاء والميم" التي في"نجواهم". (٤) وذلك خطأ عند أهل العربية، لأن"إلا" لا تعطف على"الهاء والميم" في مثل هذا الموضع، من أجل أنه لم ينله الجحد.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: قد تكون"مَنْ" في موضع خفض ونصب. أما الخفض، فعلى قولك: لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة. فتكون"النجوى" على هذا التأويل، هم الرجال المناجون، كما قال جل ثناؤه: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ) [سورة المجادلة: ٧]، وكما قال (وَإِذْ هُمْ نَجْوَى) [سورة الإسراء: ٤٧].
(٢) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف ص: ١١٣، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير"عظيم" فيما سلف ٦: ٥١٨.
(٤) في المطبوعة: "كأنه عطف من" بحذف الباء، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.

وأما النصب، فعلى أن تجعل"النجوى" فعلا (١) فيكون نصبًا، لأنه حينئذ يكون استثناء منقطعًا، لأن"مَنْ" خلاف"النجوى"، (٢) فيكون ذلك نظير قول الشاعر. (٣)
...... وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ... إِلا أَوَارِيَّ لأيًا مَا أُبَيِّنُها...... (٤)
وقد يحتمل"مَنْ" على هذا التأويل أن يكون رفعًا، كما قال الشاعر:
(٥) وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أنِيسُ | إلا اليَعَافِيرُ وَإلا العِيسُ (٦) |
(٢) في المطبوعة: "لأنه من خلاف النجوى"، والصواب المحض من المخطوطة.
(٣) هو النابغة الذبياني.
(٤) مضى الشعر وتخريجه وتمامه فيما سلف ١: ١٨٣، ٥٢٣، وهو في معاني القرآن للفراء ١: ٢٨٨.
(٥) هو جران العود النميري.
(٦) ديوانه: ٥٢، سيبويه ١: ١٣٣، ٣٦٥، معاني القرآن للفراء ١: ٢٨٨، ومجالس ثعلب: ٣١٦، ٤٥٢، الخزانة ٤: ١٩٧، والعيني (هامش الخزانة) ٣: ١٠٧، وسيأتي في التفسير: ١٢: ٢٨ / ٢٧: ٣٩ (بولاق)، ثم في مئات من كتب النحو والعربية. ورواية هذا الشعر في ديوانه:
قَدْ نَدَعُ المَنْزِلَ يا لَمِيسُ | يَعْتَسُّ فيه السَّبُعُ الجَرُوسُ |
الذِّئْبُ، أو ذُو لِبَدٍ هَمُوسُ | بَسَابِسًا، لَيْسَ بِهِ أَنِيسُ |
إلا اليَعَافِيرُ وَإلا العِيسُ | وَبَقَرٌ مُلَمَّعٌ كُنُوسُ |
"يعتس": يطلب ما يأكل، "الجروس" هنا الشديد الأكل، وأخطأ صاحب الخزانة فقال: "من الجرس، وهو الصوت الخفي"، وليس ذلك من صفات الذئب، وحسبه عواؤه إذا جاع، نفيًا لوصفه بخفاء الصوت!، وقد بين في البيت الثالث أنه يعني"الذئب". و"ذو لبد" هو الأسد و"اللبدة" ما بين كتفيه من الوبر."هموس" من صفة الأسد، يقال تارة: هو الذي يمشي مشيًا يخفيه، فلا يسمع صوت وطئه. ويقال تارة أخرى: شديد الغمز بضرسه في أكله. وهذا هو المراد هنا، فإنه أراد ذكر خلاء هذه الديار، وما فيها من المخاوف."بسابس" قفار خلاء. وأما رواية: "وبلدة" فإن"البلدة" هنا: هي الأرض القفر التي يأوى إليها الحيوان. و"اليعافير" جمع"يعفور"، وهو الظبي في لون التراب. و"العيس" جمع"أعيس" وهو الظبي الأبيض فيه أدمة."كنوس" جمع"كانس"، وهو الظبي أو البقر إذا دخل كناسه، وهو بيته في الشجر يستتر فيه. و"الميس" جمع"ميساء"، وهي التي تتبختر وتختال كالعروس في مشيتها.
ثم انظر الخزانة، ومجالس ثعلب. وانظر ما سلف كله في معاني القرآن للفراء ١: ٢٨٧، ٢٨٨.