
اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ»
في سرهم وعلانيتهم بخلاف الناس «إِذْ يُبَيِّتُونَ»
فيما بينهم قبل نزول الآية في تخليص طعيمة «ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ»
الذي كانوا يدبّرونه لأجل خلاصه وإلصاق الجريمة باليهودي، ويقولون أن الرسول يسمع منا لأنه صاحبنا وذاك يهودي لا يأمن له «وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً»
(١٠٨) لا يخفى عليه شيء، وقد أطلع رسوله على حقيقة الأمر، وهو الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ»
يا قوم طعيمة «جادَلْتُمْ عَنْهُمْ»
عن طعيمة وذويه والخطاب لعشيرته «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا»
وهي فانية بما فيها فقولوا لي «فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ»
إذا أخذوا بذنوبهم من قبل ملائكة الله ونطقت عليهم جوارحهم بما فعلت وأخرست الألسن حينذاك «أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا»
(١٠٩) يحاجج ويناضل ويدافع عنهم أمام الله لأن محاماتكم له تنقطع في الدنيا، ثم رغب الله تعالى المسيئين بالتوبة والندم ليأملوا عفو الله عنهم، فقال جل قوله «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ»
بشيء من المعاصي ويوقعها فيها «ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ»
مما وقع منه «يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً»
(١١٠) لأن التوبة مقبولة لديه عن الذنوب كلها ما دامت الروح بالبدن فيما عدا حالتي اليأس والبأس
قال تعالى «وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ»
ويكون وبال إثمه عليها خاصة «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً»
بمن يكسب الإثم مهما أخفاه عن الناس أو ألحقه بغيره «حَكِيماً»
(١١١) بما يخبر به نبيه ليرتدع الناس وينزجروا عن الكذب والبهت وليعلموا أنه تعالى قادر على إخبار نبيّه بكل ما يقع في الكون «وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً»
مثل طعيمه المذكور «ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً»
كاليهودي الذي أئتمن المال المسروق من حيث لا يعلم أنه مسروق «فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً»
(١١٢) لا خفاء عليه، إذ لا يجوز تهمة الكتابي أو الكافر بشيء لم يقترفه، ولا تجوز الشفاعة لمثل هذا ألا فليتنبه الناس عما من شأنه الإضرار بالغير وتهمتهم بما لم يقع منهم، فإنه موجب لعذاب الله «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ»
يا سيد الرسل «وَرَحْمَتُهُ»
لك وتقديره بعصمتك من الذنب لما أطلعك على شيء من هذه القضية و «لَهَمَّتْ

طائِفَةٌ مِنْهُمْ»
من عشيرة طعيمة «أَنْ يُضِلُّوكَ»
عن القضاء بالحق الذي أمرك الله به بما تقدموا لك من القول ببراءة رفيقهم وإلصاق الجرم باليهودي ولكن الله حافظك من الضلال في الدنيا وكل ما يؤدي إليه. أما الذين يريدون إضلالك فأخيّبهم لأنهم لا يقدرون على شيء لا أريده «وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ»
لأن وبال اضلالهم عليهم «وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ»
لأنك إذا عملت شيئا عملته عن حسن نية حسبما يظهر لك «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ»
لتحكم بين الناس بمقتضاها حسب ظاهر الحال، وقال بعض المفسرين إن الحكمة هنا بمعنى ما يتكلم به الرسول وتسمّى بالسنة، وهكذا أوّلوا أكثر ما جاء في القرآن من لفظ الحكمة بالسنة، إلا أن قوله تعالى بعد هذه الكلمة «وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ»
من خفايا الأمور وضمائر القلوب ينافي المعنى الذي ذكروه لأن السنة هي من جملة ما علمه الله غير القرآن، وهو لا ينطق عن هوى، وهي من حيث اللفظ مرادفة لكلمة فلسفة اليونانية، تأمل «وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً»
(١١٣) في تعليمه وإخباره إياك وإنعامه عليك. قال تعالى «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ» أي مما يسر به قوم طعيمة، والنجوى الإسرار في تدبير الأمر، ويكون غالبا في الشر «إِلَّا» نجوى «مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ» والاستثناء منقطع وإلا بمعنى لكن، لأن المستثنى من غير جنس المستثنى منه «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ» التصدق والأمر بالمعروف والإصلاح بين الناس «ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» لا لغرض ولا رياء أو سمعة «فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» (١١٤) جزاء عمله يتعجب من كثرته وحسنه. روى البخاري عن سهل بن سعد أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال اذهبوا بنا نصلح بينهم. وروى البخاري ومسلم عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ليس الكذاب الذي يصلح بين اثنين أو قال بين الناس، فيقول خيرا وينهي خيرا. وفي رواية قالت ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث يعني الحرب والإصلاح وحديث الرجل لزوجته وحديث المرأة لزوجها،. أي أن الكذب يجوز في هذه الأمور لأنه لمصلحة ماسة كما

ذكرنا في الآية ٢٥ من سورة الأحزاب والآية ١٧٢ من آل عمران المارتين قال تعالى «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى» فيخالفه ويعاديه ويروغ عنه لئلا يجري عليه الحد، وذلك إن طعيمة إنما هرب خوفا من قطع يده فأماته الله شرّ ميتة كما مر آنفا «وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ» بإظهار الارتداد والشقاق وترك طريق المؤمنين ولم يسلم نفسه ويخضع للحد الشرعي ويطهر نفسه مما اقترفه «نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى» من طريق الضلال في هذه الدنيا «وَنُصْلِهِ» في الآخرة «جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» (١١٥) بسبب ارتداده عن الإسلام وعدم انقياده لأحكامه.
مطلب غفران مادون الشرك وتوبة الشيخ على يد رسول الله:
يستدل من هذه الآية على أن إجماع المؤمنين حجة لا يجوز مخالفتها، لأن من لا يتبع سبيل المؤمنين فقد فارق الجماعة وصار هدفا لما هدد الله به في هذه الآية «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» ونظيرتها في الآية ٤٨ المارة وكررت بمناسبة قصة طعيمة المذكور لسابق علم الله بأنه يموت كافرا، والمغفرة في هذه الآية ونظيرتها عامة لا يخرجها عن عمومها قيد المشيئة ولا يصرفه إلى التائب فقط، إذ يجوز أن يغفر لغير التائب أيضا لأنه لا يسأل عما يفعل كما بيناه هناك، فهي على حد قوله تعالى (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) الآية ١٩ من سورة الشورى ج ٢ وقوله تعالى (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) الآية ١٧ من المائدة (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) الآية ٤٠ من المائدة (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) الآية ١٩ من المائدة الآتية، وهي مكررة ست مرات في القرآن، والآية ٤٠ من آل عمران وهي مكررة أيضا بزيادة لفظ الجلالة والكل مزروق برزقه ومخلوق بخلقه ومفعول بفعله. قال علي كرم الله وجهه ما في القرآن آية أحب إلي من هذه «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً» (١١٦) إذا مات على شركه والضلال البعيد يقابله عذاب غليظ. قال ابن عباس: جاء شيخ من الأعراب فقال يا نبي الله إني منهمك بالذنوب غير أني لم أشرك بالله منذ عرفته، وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا، ولم أواقع المعاصي جرأة على الله، وما توهمت طرفة عين

أني أعجز الله هربا، وإني لقادم تائب مستغفر فما حالي عند الله؟ فأنزل الله هذه الآية. ولا ينافي هذا ما نحن بصدده إذ لا مانع من تعدد الأسباب، لأن الآية الواحدة قد تنزل لأسباب كثيرة، وقد يذكرها حضرة الرسول لمناسبة حادثة تنطبق عليها، وهذا لا يعني أنها نزلت ثانيا كما قاله بعض المفسرين، راجع تفسير الفاتحة تعلم أنه لا يوجد في القرآن سورة أو آية نزلت مرتين، وكان صلّى الله عليه وسلم- كما جرت على ذلك أصحابه وأتباعه حتى الآن- عند وقوع قضايا كهذه يتلو الآية المناسبة بالمقام المطابقة له، فيظنها من يسمعها منه أو يحضر الحادثة أنها نزلت في تلك وليس كذلك، ولهذا ترى المفسرين يعددون أسبابا كثيرة للنزول ولا يقطعون بواحد منها، والأجدر أن يكون سبب النزول للحادثة والواقعة فقط، ثم تكون جوابا لغيرها مما يماثلها، وقد توخيت في هذا الباب أقصى ما بالوسع، كما بذلت غاية الجهد في باب الناسخ والمنسوخ، والله الموفق ومنه الهداية وعليه الاعتماد وإليه المرجع ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهذا الشيخ المار ذكره كان لسان حاله يقول نظر الله إليه:
وما كانت ذنوبي عن عناد | ولكن بالشقا حكم القضاء |