
قوله تعالى: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (١٠٨)
أعاد النهي عن الذب عنهم بقوله: (وَلَا تُجَادِلْ)
والمجادلة: المقاتلة، من قولهم: جدلت الخيل، وقيل: المنازعة من الإِلقاء
على الجدالة والجدال المطلق مذموم، ولهذا لم يطلقه للنبي - ﷺ - حتى قيّده، قال: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
والاختيان: افتعال من الخيانة، واختيانهم أنفسهم

جعلهم إياها خائنة بما يفعلونه، كقولك: ظلم نفسه.
إن قيل: لم خصَّ لفظ الخوَّان بنفي المحبة عنه، وهو لا يحب الخائن أيضا؟
وقيل: تخصيصه هاهنا تعريض بهم، وتعظيم لفعلهم.
وتنبيه أن من يتحرى خيانة ولا يستمر عليها فهو مُعرّض أن يقلع
فيحبه، ومتى استمر عليها صار مطبوعًا على قلبه، لا يقلع
فتُرجى له المحبة، فإذًا الخائن قد يكون محبوبًا على وجه.
والخوان لا يكون محبوباً بوجه.
وقوله تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ)
أي الخونة أبدًا يسترون على أنفسهم خيانتهم، لكون قبحها مركوزًا في
نفوسهم، ونبّه أنهم إن ستروها على الناس فليست تستتر على الله.

وأنهم لنقصهم وجهلهم بالله يراعون الناس أكثر
من مراعاتهم لعظمة الله، وإلى نحو هذا أشار النبي
عليه الصلاة والسلام بقوله:
"استحيوا من الله كما تستحيون من أحدكم ".
وهذا قريب من قوله: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) الآية.
وقوله: (وَهُوَ مَعَهُمْ) نحو (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ).
قال ابن مسعود: من صلى صلاة عند الناس لا يُصلّي مثلها إذا خلى فقد استهان بالله. ثم تلا هذه الآية.