آيات من القرآن الكريم

وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا
ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ

(وَلا تجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانونَ أَنفُسَهُمْ) الجدال هنا الدفاع وإقامة الدليل لمصلحة الخائنين، وذلك للاسترسال في حسن الظن بالمظهر، وترك ما يختفي ولا يستبين، فإن ذلك إن جاز في السياسة لَا يجوز في القضاء، وإن جاز في حقوق الله تعالى لَا يجوز في حقوق العباد، ليعطي كل ذي حق حقه، ولكيلا تذهب الأموال والأنفس والدماء هدرا، فلا بد لإظهارها من تكشف المستور، وإظهار المخبوء.

صفحة رقم 1841

والجدال في أصل معناه اللغوي مشتق من الجدْل بمعنى الفتل، أي تقوية الحجة، ويكون المجادل كمن يفتل الحبل ويقويه. وقيل إنه مأخوذ من الجدالة، والجدالة هي الأرض، فكل واحد من الخصمين يكون كالمصارع يريد أن يلقى صاحبه على الأرض. وإطلاق الجدالة على الأرض منه قولهم: تركته مُجَدَّلا، أي مطروحا على الأرض.
والاختيان، الذي هو مصدر (يَخْتَانونَ أَنفُسَهُمْ)، يُعَرِّفه الأصفهاني في مفرداته بأنه: " تحرك شهوة الإنسان لتحري الخيانة "، وتحرك الشهوة لتحري الخيانة قصد إليها وَتَعَمُّد لها، وعمل على إحكامها. والخيانة والنفاف باب واحد، موضعهما من النفس واحد.
ومعنى قوله تعالى: (الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ): الذين يقصدون خيانة أنفسهم، ويتحرونها، ويحكمون إخفاء المستور من جرائمهم. وأضيفت الخيانة للنفس؛ لأن الذين يصنعون ذلك إنما يحدثون في الأمة ذعرا عاما، يعود ضرره على الجماعة، ويعود عليهم أنفسهم، إذ يعيشون في جماعة قد فسد أمرها، وارتابت في شئونها، وضَلَّ عن الناس معرفة الحق، وغاب عنهم لبُّه!! وكذلك لأن تلك الخيانة مغبتها على أنفسهم شديدة أمام الله تعالى، وسيحاسبهم عليها من لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولأن هؤلاء الخائنين الذين يتحرون الخيانة، إنما يحلون فطرهم السليمة عن الفطرة التي فطرهم الله عليها، فيصيب الفساد نفوسهم، وتنحل كل العُرَا فيها، وبذلك تضطرب، وتكون في بلبال مستمر:
(إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) إذا كان الخائنون الذين تحروا الخيانة وقصدوها، وانحرفوا بفطرهم عن أصلها، ينالون العذاب في الدنيا بالحكم عليهم، وإعراض أهل الفضل عن معاونتهِم، فإنهم لَا ينالون حب الله تعالى، والمعنى الظاهر للنص: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ من كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) هو أن الله تعالى العلي الحكيم، الذي لَا تُرجى محبةَ سِواه، لَا يحب من كانت الخيانة وصفا

صفحة رقم 1842

من أوصافه، وشأنا من شئونه، وخلقا من أخلاقه، ومن صار الإثم عادة له، حتى صار يوصف بأنه خوَّان، وأثيم. فكلمة خوان صيغة مبالغة معناها أن الخيانة صارت وصفا ملازما له، وكلمة أثيم صيغة مبالغة من إثم، تفيد أن الإثم صار وصفا ملازما!. وأن محبة الله تعالى شأن من شئونه سبحانه تليق بذاته الكريمة، وهي تتضمن معنى الرضوان، وتستلزم فيض رحمته ومنح غفرانه، فمن فقد محبة الله تعالى، فقد حرم من الرضوان، وحرم من رحمة الله تعالى التي تكون للتوابين، وحرم غفرانه؛ لأنه لَا يكون إلا لمن أحاطت به خطيئته، حتى لَا ينتقل إلا من إثم إلى إثم!!.
وقد أكد سبحانه نفي محبته لهؤلاء الذين أرْكسَت نفوسهم في الخيانة، ودنَّس الإثم نفوسهم، حتى أصبحوا لَا يعيشون إلا في آثام، بالجملة الاسمية المصدرة بحرف " إن " الدال على التوكيد.
وهنا إشارة معنوية: وهي أنه تعالى وصف الذين حرموا محبته بأنهم خوانون أثيمون؛ وذلك له معناه لأن اختيان النفس، وتعودها الخيانة يجرها إلى آثام كثيرة، فمن خان يسرق ويكذب، ويأكل أموال الناس بالباطل، ولا يتحرج عن إثم، فكأن الخيانة جاذبة معها كل الآثام!.
* * *

صفحة رقم 1843
زهرة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة
الناشر
دار الفكر العربي
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية