
بِحَسْبِ الْحَالِ عَمَّا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ بِسَبَبِ فَوَاتِ الْمَاضِي، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّهُ سَلِمَ عَنْ كُلِّ الْآفَاتِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْفَوْزَ بِهَذِهِ الدَّرَجَاتِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَنَالُهُمُ الْخَوْفُ وَالرُّعْبُ فِي الْقِيَامَةِ، وَتَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: ١٠٣].
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٢ الى ٦٦]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦)
[في قوله تعالى اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا أَطَالَ الْكَلَامَ فِي شَرْحِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ عَادَ إِلَى دَلَائِلَ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّوْحِيدِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ أَنَّ أَصْحَابَنَا تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تعالى: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: ١٠٢] عَلَى أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَطْنَبْنَا هُنَاكَ فِي الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ، فَلَا فَائِدَةَ هَاهُنَا/ فِي الْإِعَادَةِ، إِلَّا أَنَّ الْكَعْبِيَّ ذَكَرَ هَاهُنَا كَلِمَاتٍ فَنَذْكُرُهَا وَنُجِيبُ عَنْهَا، فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَلَيْسَ مِنَ الْمَدْحِ أَنْ يَخْلُقَ الْكُفْرَ وَالْقَبَائِحَ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِهِ، وَأَيْضًا فَلَمْ يَكُنْ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ خِلَافٌ فِي أَعْمَالِ الْعِبَادِ، بَلْ كَانَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَجُوسِ وَالزَّنَادِقَةِ فِي خَلْقِ الْأَمْرَاضِ وَالسِّبَاعِ وَالْهَوَامِّ، فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يبين أنها جمع مِنْ خَلْقِهِ، وَأَيْضًا لَفْظَةُ (كُلِّ) قَدْ لَا تُوجِبُ الْعُمُومَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: ٢٣] تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الْأَحْقَافِ: ٢٥] وَأَيْضًا لَوْ كَانَتْ أَعْمَالُ الْعِبَادِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لَمَا ضَافَهَا إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [الْبَقَرَةِ: ١٠٩] وَلَمَا صَحَّ قَوْلِهِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: ٧٨] وَلَمَا صَحَّ قَوْلُهُ وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص: ٢٧] فَهَذَا جُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ الْكَعْبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ سِوَى أَفْعَالِ خَلْقِهِ الَّتِي صَحَّ فِيهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَاسْتَحَقُّوا بِهَا الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَلَوْ كَانَتْ أَفْعَالُهُمْ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى مَا جَازَ ذَلِكَ فِيهِ كَمَا لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي أَلْوَانِهِمْ وَصُوَرِهِمْ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْخَلْقُ هُوَ التَّقْدِيرُ لَا الْإِيجَادُ، فَإِذَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ عِبَادِهِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ فَقَدْ قَدَّرَ ذَلِكَ الْفِعْلَ، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوجِدًا لَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ فليطالع هذا الموضع مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ فَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا مَوْكُولَةٌ إِلَيْهِ فَهُوَ الْقَائِمُ بِحِفْظِهَا وَتَدْبِيرِهَا مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ وَلَا مُشَارِكٍ، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَوْ وَقَعَ بِتَخْلِيقِ الْعَبْدِ لَكَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ غَيْرَ مَوْكُولٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ تَعَالَى وَكِيلًا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يُنَافِي عُمُومَ الْآيَةِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَالِكُ أَمْرِهَا وَحَافِظُهَا وَهُوَ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ، لِأَنَّ حَافِظَ الْخَزَائِنِ وَمُدَبِّرَ أَمْرِهَا هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ مَقَالِيدُهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ أَلْقَيْتُ مَقَالِيدَ الْمُلْكِ إِلَيْهِ وَهِيَ الْمَفَاتِيحُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَلَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، وَقِيلَ مِقْلِيدٌ وَمَقَالِيدُ، وَقِيلَ مِقْلَادٌ وَمَقَالِيدُ مِثْلَ مِفْتَاحٍ وَمَفَاتِيحٍ، وَقِيلَ إِقْلِيدٌ وَأَقَالِيدٌ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَالْكَلِمَةُ أَصْلُهَا فَارِسِيَّةٌ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا عَرَّبُوهَا صَارَتْ عَرَبِيَّةً.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَرِيبٌ مِنَ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الْأَنْعَامِ: ٥٩] وَقَدْ سَبَقَ الِاسْتِقْصَاءُ هُنَاكَ،
قِيلَ سَأَلَ عُثْمَانُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَقَالَ: «يَا عُثْمَانُ مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ قَبْلَكَ، تَفْسِيرُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» هَكَذَا نَقَلَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ».
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: صَرِيحُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا خَاسِرَ إِلَّا كَافِرٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ لَهُ حَظٌّ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَوْرَدَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» سُؤَالًا، وَهُوَ أَنَّهُ بِمَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا؟ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ اتَّصَلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الزُّمَرِ: ٦١] أَيْ يُنَجِّي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ بِمَفَازَتِهِمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَاعْتَرَضَ مَا بَيْنَهُمَا أَنَّهُ خَالِقٌ لِلْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَأَنَّ لَهُ مقاليد السموات وَالْأَرْضِ.
وَأَقُولُ هَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ وُقُوعَ الْفَاصِلِ الْكَبِيرِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِعِيدٌ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ، وَعَطْفُ الْجُمْلَةِ الْاسْمِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ لَا يَجُوزُ، بَلِ الْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَمَّا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْجَلَالَيَّةِ، وَهُوَ كَوْنُهُ خَالِقًا لِلْأَشْيَاءِ كلها، وكونه مالكا لمقاليد السموات وَالْأَرْضِ بِأَسْرِهَا، قَالَ بَعْدَهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ الظَّاهِرَةِ الْبَاهِرَةِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ تَأْمُرُونَنِي بِنُونَيْنِ سَاكِنَةَ الْيَاءِ وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مَصَاحِفِ الشَّامِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ تَأْمُرُونِّي بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ عَلَى إِسْكَانِ الْأُولَى وَإِدْغَامِهَا فِي الثَّانِيَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ تَأْمُرُونِي بِنُونٍ وَاحِدَةٍ خَفِيفَةٍ، عَلَى حَذْفِ إِحْدَى النُّونَيْنِ وَالْبَاقُونَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ.
المسألة الثانية: أَفَغَيْرَ اللَّهِ منصوب بأعبد وتأمروني اعْتِرَاضٌ، وَمَعْنَاهُ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَعْبُدُ بِأَمْرِكُمْ؟ وَذَلِكَ حِينَ قَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ أَسْلِمْ بِبَعْضِ آلِهَتِنَا وَنُؤْمِنُ بِإِلَهِكَ، وَأَقُولُ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَامِ: ١٤] وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تِلْكَ الْآيَةِ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي تَقْدِيمِ الْفِعْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِالْجَهْلِ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ وَصْفُ الْإِلَهِ بِكَوْنِهِ خَالِقًا لِلْأَشْيَاءِ وَبِكَوْنِهِ مَالِكًا لِمَقَالِيدَ السموات وَالْأَرْضِ، وَظَاهِرُ كَوْنِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ جَمَادَاتٍ أَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ عبادة الإله