آيات من القرآن الكريم

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ

الحساب بما نَسُوا، أي: تَرَكُوا القضاء بالعدل، وهو قول عكرمة.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩)
قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا أي: عَبَثاَ ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا أن ذلك خُلِقَ لِغَيْرِ شيء، وإنما خُلِقَ للثواب والعقاب. أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا قال مقاتل:
(١٢١٦) قال كفار قريش للمؤمنين: إنّا نُعْطَى في الآخرة مثل ما تُعْطَوْن، فنزلت هذه الآية.
(١٢١٧) وقال ابن السائب: نزلت في السّتة الذين تبارزوا يوم بدر، عليّ رضي الله عنه، وحمزة رضي الله عنه، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنه، وعتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، فذكر أولئك بالفساد في الأرض لِعَمَلهم فيها بالمعاصي، وسمَّى المؤمنين بالمتَّقِين لاتِّقائهم الشِّرك، وحُكْمُ الآية عامٌّ.
قوله تعالى: كِتابٌ أي: هذا كتاب، يعني القرآن، وقد بيَّنّا معنى بَرَكَته في سورة الأنعام «١».
لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وقرأ عاصم في رواية: «ليتدبّروا آياتِه» بالتاء خفيفة الدال، أي: ليتفكروا فيها فيتقرر عندهم صِحَّتُها وَلِيَتَذَكَّرَ بما فيه من المواعظ أُولُوا الْأَلْبابِ، وقد سبق بيان هذا.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٣٠ الى ٤٤]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)
قوله تعالى: نِعْمَ الْعَبْدُ يعني به سليمان. وفي الأوّاب أقوال قد تقدمت في بني إسرائيل «٢»، ألْيَقُها بهذا المكان أنه رَجّاعٌ بالتَّوبة إِلى الله تعالى ممّا يقع منه من السَّهو والغَفْلة.
قوله تعالى: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ وهو ما بعد الزَّوال الصَّافِناتُ وهي الخيل، وفي معنى

رواه المصنف عن مقاتل، ومقاتل متهم بالوضع.
رواه المصنف عن ابن السائب الكلبي، وكذا السيوطي في «أسباب النزول». وابن السائب متهم بالوضع.
__________
(١) الأنعام: ٩٢.
(٢) الإسراء: ٢٥.

صفحة رقم 570

الصّافنات قولان: أحدهما: أنها القائمة على ثلاث قوائم، وقد أقامت الأخرى على طرف الحافر من يد أو رِجْل وإِلى هذا المعنى ذهب مجاهد، وابن زيد، واختاره الزجاج، وقال: هذا أَكثرُ قيام الخيل إذا وقفت كأنَّها تراوح بين قوائمها، قال الشاعر:

أَلِفَ الصُّفُونَ فما يَزالُ كأنَّهُ مِمّا يَقومُ على الثَّلاثِ كَسِيرا
والثاني: أنها القائمة، سواء كانت على ثلاث أو غير ثلاث، قال الفراء: على هذا رأيت العرب، وأشعارهم تَدُلُّ على أنه القيام خاصة. وقال ابن قتيبة: الصافن في كلام العرب: الواقفُ من الخيلِ وغيرها، (١٢١٨) ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن يقوم له الرّجال صُفُوناً، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النّار»، أي:
يُديمون القيام له.
فأمّا الجِيادُ، فهي السِّراعُ في الجَرْيِ. وفي سبب عرضها عليه أربعة أقوال: أحدها: أنه عَرَضَها لأنه أراد جهاد عدوٍّ له، قاله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. والثاني: أنها كانت من دوابّ البحر.
قال الحسن: بلغني أنها كانت خيلاً خرجتْ من البحر لها أجنحة. وقال إبراهيم التيمي: كانت عشرين فرساً ذات أجنحة. وقال ابن زيد: أخرجتْها له الشياطين من البحر. والثالث: أنه وَرِثَها من أبيه داود عليه السلام، فعُرِضَتْ عليه، قاله وهب بن منبّه، ومقاتل. والرابع: أنه غزا جيشاً، فظَفِر به وغنمها، فدعا بها فعُرضَتْ عليه، قاله ابن السائب. وفي عددها أربعة أقوال: أحدها: ثلاثة عشر ألفاً، قاله وهب. والثاني: عشرون ألفاً، قاله سعيد بن مسروق. والثالث: ألف فرس، قاله ابن السائب ومقاتل.
والرابع: عشرون فرساً، وقد ذكرناه عن إبراهيم التيمي. قال المفسرون: ولم تزل تُعْرَض عليه إِلى أن غابت الشمس، ففاتته صلاة العصر، وكان مَهِيباً لا يبتدئه أحد بشيء، فلم يذكِّروه، ونسي هو، فلمّا غابت الشمسُ ذكر الصلاة، فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ فتح الياء أهل الحجاز وأبو عمرو حُبَّ الْخَيْرِ وفيه قولان: أحدهما: أنه المال، قاله سعيد بن جبير والضحاك. والثاني: حُبُّ الخيل، قاله قتادة والسدي.
والقولان يرجعان إلى معنى واحد، لأنه أراد بالخير الخيلَ، وهي مال. وقال الفراء: العرب تسمِّي الخيل: الخير.
(١٢١٩) قال الزجاج: وقد سمّى رسول الله صلى الله عليه وسلّم زيد الخيل: زيد الخير.
لا أصل له بلفظ «صفونا» وإنما هو من تصرف بعض الرواة أو أهل اللغة. فهو عند أبي داود ٥٢٢٩ والترمذي ٥٧٥٦ وأحمد ٤/ ٩١- ٩٤ من حديث معاوية بن أبي سفيان بلفظ «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما، فليتبوأ مقعده من النار» هذا هو الصحيح الوارد في هذا المتن. وإسناده جيد، وصححه المنذري في «الترغيب» ٣/ ٤٣١. وفي الباب من حديث أبي أمامة أخرجه أبو داود ٥٢٣٠ وأحمد ٥/ ٢٥٣ وحسنه المنذري في «ترغيبه» ٣/ ٤٣١. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٤/ ٩١ عن الحديث المذكور: لم أجده هكذا، وفي غريب الحديث لأبي عبيد من حديث البراء رضي الله عنه «كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فرفع رأسه قمنا معه صفونا». قلت: هو في «الغريب» ١/ ٣٧٩ بدون إسناد.
ضعيف. أخرجه ابن عدي ٢/ ٢٢ وابن شاهين كما في الإصابة ٢٩٤١ من حديث ابن مسعود، ومداره على بشير مولى بني هاشم، وهو منكر الحديث، وبه أعله ابن عدي، وقال الذهبي في ترجمته: أتى بخبر منكر، ومراده هذا الحديث. وانظر «تفسير القرطبي» ٥٢٧١ بتخريجنا.

صفحة رقم 571

ومعنى «أَحَبْبْتُ» : آثرتُ حُبَّ الخَيْر على ذِكْر ربِّي وكذلك قال غير الزجاج: «عن» بمعنى «على». وقال بعضهم: يحتمل المعنى: فشَغَلَني عن ذكر ربّي. وقال أبو عبيدة: معنى الكلام: أَحْبَبْتُ حُبّاً، ثم أضاف الحُبَّ إلى الخير. وقال ابن قتيبة: سمَّى الخَيْل خَيْراً، لما فيها من الخَيْر. والمفسرون على أن المراد بذِكْر ربِّه: صلاةُ العصر، قاله عليّ وابن مسعود وقتادة في آخرين. وقال الزجاج: لا أدري هل كانت صلاةُ العصر مفروضةً أم لا!، إلا أنّ اعتراضه الخيل شَغَلَه عن وقتٍ كان يذكُر الله فيه حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ قال المصنف: وأهل اللغة يقولون: يعني الشمس، ولم يجر لها ذِكْر، ولا أحسبهم أعطَوا في هذا الفِكْر حَقَّه، لأن في الآية دليلاً على الشمس، وهو قوله: «بالعشيِّ» ومعناه:
عُرِضَ عليه بعد زوال الشمس حتى توارت الشمس بالحجاب، ولا يجوز الإِضمار إلا أن يجريَ ذِكْر أو دليل ذِكْر فيكون بمنزلة الذِّكْر وأما الحِجَاب، فهو ما يحجُبها عن الأبصار.
قوله تعالى: رُدُّوها عَلَيَّ قال المفسرون: لمّا شغله عَرْضُ الخَيْل عليه عن الصلاة، فصلاّها بعد خروج وقتها، اغتمَّ وغضب، وقال: رُدُّوها عَلَيَّ، يعني: أعيدوا الخَيْل عَلَيَّ فَطَفِقَ قال ابن قتيبة:
أي أقبل مَسْحاً قال الأخفش: أي: يَمْسَحُ مَسْحاً. فأمّا السُّوق، فجمع ساق، مثل دُور ودار. وهمز السُّؤق ابن كثير، قال أبو علي: وغيرُ الهمز أحسنُ منه. وقرأ أبو عمران الجوني، وابن محيصن:
«بالسُّؤوق» مثل الرُّؤوس. وفي المراد بالمسح ها هنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ضربها بالسيف.
(١٢٢٠) روى أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قوله: «فطَفِقَ مَسْحاً بالسُّوق والأعناق» قال:
«بالسيف». وروى مجاهد عن ابن عباس قال: مسح أعناقها وسوقها بالسيف. وقال الحسن، وقتادة، وابن السائب: قطع أعناقها وسُوقها، وهذا اختيار السدي، ومقاتل، والفراء، وأبي عبيدة، والزجاج، وابن قتيبة، وأبي سليمان الدمشقي، والجمهور.
والثاني: أنه جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حُبّاً لها، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال مجاهد: مسحها بيده، وهذا اختيار ابن جرير، والقاضي أبو يعلى.
والثالث: أنه كَوَى سُوقها وأعناقها وحبسها في سبيل الله تعالى، حكاه الثعلبي.
والمفسِّرون على القول الأول، وقد اعترضوا على القول الثاني، وقالوا: أيّ مناسبة بين شغْلِها إيّاه عن الصلاة وبين مَسْح أعرافها حُبّاً لها؟! ولا أعلم قوله: «حُبّاً لها» يثبت عن ابن عباس. وحملوا قول مجاهد: «مَسَحها بيده» أي: تولىَّ ضَرْبَ أعناقها. فإن قيل: فالقول الأول يفسُد بأنه لا ذَنْب للحيوان، فكيف وجّه العقوبة إليه وقصد التَّشفِّي بقتله، وهذا يشبه فِعْلَ الجبّارِين، لا فِعْلَ الأنبياء؟ فالجواب: أنه لم يكن لِيَفْعَلَ ذلك إلا وقد أُبيح له، وجائز أن يُباح له ما يُمنَع منه في شرعنا، على أنه إذا ذبحها كانت قرباناً، وأكلُ لحمها جائز، فما وقع تفريط. قال وهب بن منبّه: لمّا ضَرَبَ سوقها وأعناقها، شكر اللهُ تعالى له ذلك، فسخَّر له الرِّيح مكانها، وهي أحْسَنُ في المنظر، وأَسْرَعُ في السَّيْر، وأَعْجَبُ في الأحدوثة.

ضعيف جدا. أخرجه الطبراني في «الأوسط» ٦٩٩٣ من حديث أبي بن كعب، وإسناده ضعيف لضعف سعيد بن بشير وبخاصة عن قتادة، قال ابن نمير: يروي عن قتادة المنكرات، وفيه أيضا مروان بن محمد تكلم فيه لكن لا يحتمل مثل هذا بل الحمل في هذا الحديث على سعيد، فإنه منكر الحديث عن قتادة، وهذا منها.

صفحة رقم 572

قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ أي: ابتليناه وامْتَحَنّاه بِسَلْبِ مُلْكه وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ أي: على سريره جَسَداً وفيه قولان «١» :
أحدهما: أنه شيطان، قاله ابن عباس، والجمهور. وفي اسم ذلك الشيطان ثلاثة أقوال: أحدها:
صخر، رواه العوفي عن ابن عباس. وذكر العلماء أنه كان شيطاناً مَرِيداً لم يُسَخَّر لسليمان. والثاني:
آصف، قاله مجاهد: إلاّ أنه ليس بالمُؤْمِن الذي عنده الاسم الأعظم، إِلاّ أنّ بعض ناقِلِي التفسير حكى أنه آصف الذي عنده عِلْمٌ من الكتاب، وأنه لمّا فُتن سليمان سقط الخاتم من يده فلم يثبُت، فقال آصف: أنا أقوم مقامَك إِلى أن يتوبَ الله عليك، فقام في مقامه، وسار بالسِّيرة الجميلة، وهذا لا يَصِحُّ، ولا ذكره مَنْ يوثَق به. والثالث: حبقيق، قاله السدي والمعنى: أجلسْنا على كرسيِّه في مُلْكه شيطاناً. ثُمَّ أَنابَ أي: رَجَع: وفيما رجع إِليه قولان: أحدهما: تاب من ذَنْبه، قاله قتادة. والثاني:
رَجَع إَلى مُلْكه، قاله الضحاك. وفي سبب ابتلاء سليمان بهذا خمسة أقوال «٢» : أحدها: أنه كانت له امرأة يقال لها: جرادة، فكان بين بعض أهلها وبين قوم خصومة، فقضى بينهم بالحق، إلا أنه وَدَّ أن الحق كان لأهلها، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحداً، وأوحى اللهُ تعالى إِليه أنه سيُصيبك بلاءٌ، فكان لا يدري أيأتيه من السماء، أو من الأرض، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أن زوجته جرادة كانت آثَرَ النِّساءِ عنده، فقالت له يوماً: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وإنِّي أُحِبُ أن تَقْضِيَ له، فقال: نعم، ولم يفعل، فابتُليَ لأجل ما قال، قاله السدي. والثالث: أن زوجته جرادة كان قد سباها في غَزاةٍ له، وكانت بنتَ مَلِك فأسلمتْ، وكانت تبكي عنده بالليل والنهار، فسألها عن حالها، فقالت: أذْكُر أبي وما كنتُ فيه، فلو أنك أَمَرْتََ الشياطين فصوروا صورته في داري فأتسلىَّ بها، ففعل، فكانت إذا خرج سليمان، تسجد له هي وولائدها أربعين صباحاً، فلمّا عَلِم سليمان، كسر تلك الصورة، وعاقب المرأة وولائدها ثم تضرَّع إِلى الله تعالى مستغفراً ممّا كان في داره، فسُلِّط الشيطانُ على خاتمه، هذا قول وهب بن منبّه «٣». والرابع: أنه احتجب عن الناس ثلاثة أيّام، فأوحى الله تعالى إليه: يا سليمان، احتجبتَ عن الناس ثلاثةَ أيّام فلم تنظرُ في أُمور عبادي ولم تُنْصِف مظلوماً من ظالم؟! فسلّط الشيطان على خاتمه، قاله سعيد بن المسيب. والخامس: أنه قارَبَ امرأةً من نسائه في الحيض أو غيره، قاله الحسن «٤».
والقول الثاني: أن المراد بالجسد الذي أُلقي على كرسيّه: أنه وُلد له ولد فاجتمعت الشياطين، فقال بعضهم لبعض: إِن عاش له ولد، لم ننفكَّ من البلاء، فسبيلُنا أن نقتُلَ ولده أو نخبله، فعلم بذلك

(١) قال أبو حيان في «البحر المحيط» : نقل المفسّرون في هذه الفتنة وإلقاء الجسد، أقوالا يجب براءة الأنبياء منها، وهي إما من وضع اليهود، أو الزنادقة، ولم يبين الله الفتنة ولا الجسد الذي ألقاه، ويستحيل عقلا تمثل الشيطان بصورة نبي، فلو أمكن ذلك لم يوثق بإرسال نبي، وإنما هذه المقالة مسترقة من زنادقة السوفسطائية اه. ولو لم يذكر المصنف مثل هذا لكان أولى.
(٢) هذه الأقوال جميعا من الإسرائيليات. وقال الحافظ ابن كثير ٤/ ٤٤: في هذا السياق منكرات من أشدها ذكر النساء، وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب، والله أعلم بالصواب.
(٣) عامة روايات وهب إسرائيلية.
(٤) هذا من الإسرائيليات الباطلة، وهذا القول أنكر الأقوال لما فيه من النيل من كرامة الأنبياء عليه السلام.

صفحة رقم 573

سليمان، فأمر السَّحاب فحمله، وعدا ابنه في السّحاب خوفا من الشياطين، فعاتبه الحقّ تعالى على تخوُّفه من الشياطين، ومات الولد، فأُلقي على كرسيه ميتاً جسداً، قاله الشعبي «١». والمفسرون على القول الأول. ونحن نذكُر قصة ابتلائه على قول الجمهور.
الإِشارة إلى ذلك
اختلف العلماء في كيفية ذهاب خاتم سليمان على قولين: أحدهما: أنه كان جالساً على شاطئ البحر، فوقع منه في البحر، قاله عليّ رضي الله عنه. والثاني: أن شيطاناً أخذه، وفي كيفية ذلك أربعة أقوال: أحدها: أنه دخل ذات يوم الحمّام ووضع الخاتم تحت فِراشه، فجاء الشيطان فأخذه وألقاه في البحر، وجعل الشيطانُ يقول: أنا نبيّ الله، قاله سعيد بن المسيّب. والثاني: أن سليمان قال للشيطان:
كيف تَفْتِنون النّاسَ؟ قال: أَرِني خاتمك أُخْبِرْكَ، فأعطاه إيّاه فنبذه في البحر فذهب مُلك سليمان وقعد الشيطان على كرسيه، قاله مجاهد. والثالث: أنه دخل الحمّام ووضع خاتمه عند أوثق نسائه في نفسه، فأتاها الشيطان فتمثَّل لها في صورة سليمان وأخذ الخاتم منها، فلمّا خرج سليمانُ طلبه منها فقالت: قد دفعتُه إِليك، فهرب سليمان وجاء الشيطان فجلس على مُلكه. قاله سعيد بن جبير. والرابع: أنه دخل الحمّام وأعطى الشيطانَ خاتمه، فألقاه الشيطان في البحر فذهب مُلك سليمان وأُلقي على الشيطان شِبْهُه قاله قتادة.
فأمّا قِصَّةُ الشيطان، فذكر أكثر المفسرين أنه لمّا أخذ الخاتم رمى به في البحر، وأُلقي عليه شِبْهُ سليمان، فجلس على كرسيّه، وتحكَّم في سُلطانه. وقال السدي: لم يُلْقِه في البحر حتى فرّ من مكان سليمان. وهل كان يأتي نساءَ سليمان؟ فيه قولان «٢» : أحدهما: أنه لم يَقْدِر عليهنّ، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: أنه كان يأتيهنّ في زمن الحيض، فأنكرنه، قاله سعيد بن المسيب والأول أصحّ.
قالوا: وكان يقضي بقضايا فاسدة، ويحكُم بما لا يجوز، فأنكره بنو إسرائيل، فقال بعضُهم لبعض: إما أن تكونوا قد هَلَكتم أنتم، وإمّا أن يكون مَلكُكم قد هَلَكَ، فاذْهَبوا إِلى نسائه فاسألوهُنَّ، فذهبوا، فقلن: إنّا والله قد أنكرناه فلم يزل على حاله إلى أن انقضى زمن البلاء.
وفي كيفيَّة بُعْدِ الشيطان عن مكان سليمان أربعة أقوال: أحدها: أن سليمان وجد خاتمه فتختَّم به، ثم جاء فأخذ بناصية الشيطان، قاله سعيد بن المسيّب. والثاني: أن سليمان لمّا رَجَع إلى مُلْكه وجاءته الرِّيح والطَّير والشياطين، فرّ الشيطان حتى دخل البحر، قاله مجاهد. والثالث: أنه لمّا مضى أربعون

(١) هذه الآثار من سخافات الإسرائيليين.
(٢) هذا وأمثاله من الإسرائيليات الباطلة المزورة، قبح الله واضعه، والعجب أن بعض المفسّرين يذكر مثل هذه الأخبار دون أن يبين بطلانها.
قال الآلوسي: ومن أقبح ما في هذه الأخبار متسلط الشيطان على نساء نبيه حتى وطأهن وهنّ حيّض الله أكبر!! هذا بهتان عظيم، وخطب جسيم اه ملخصا، راجع روح المعاني ٢٣/ ١٩٩.
- وقال ابن كثير ٤/ ٤٤: إن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة التفسير أن ذلك الجني لم يسلّط على نساء سليمان، بل عصمهن الله عز وجل منه تشريفا وتكريما لنبيه، قال: وقد رويت هذه القصة عن جماعة من السلف، ثم قال: وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب، والله أعلم بالصواب اه.

صفحة رقم 574

يوماً، طار الشيطان من مجلسه، قاله وهب. والرابع: أن بني إسرائيل لمّا أنكروه، أتوه فأحدقوا به، ثم نَشَروا التَّوراة فقرؤوا فطار من بين أيديهم حتى ذهب إِلى البحر، فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت، قاله السدي. وفي قدر مكث الشيطان قولان: أحدهما: أربعون يوماً، قاله الأكثرون. والثاني:
أربعة عشر يوماً، حكاه الثعلبي.
وأما قصة سليمان عليه السلام، فإنه لما سُلب خاتمه، ذهب ملكه، فانطلق هارباً في الأرض، قال مجاهد: كان يَسْتَطْعِمُ فلا يُطْعَم، فيقول: لو عَرَفْتُموني أعطيتُموني، أنا سليمان، فيطردونه، حتى أعطته امرأةٌ حوتاً، فوجد خاتمه في بطن الحوت. وقال سعيد بن جبير: انطلق سليمان حتى أتى ساحل البحر، فوجد صيّادين قد صادوا سمكاً كثيرا وقد أنتن عليهم بعضُه، فأتاهم يَسْتَطعِم، فقالوا: اذهبْ إلى تلك الحيتان فخُذْ منها، فقال: لا، أطْعِموني من هذا، فأبَوا عليه، فقال: أّطْعِموني، فإنِّي سليمان، فوثب إِليه رجُلٌ منهم فضربه بالعصا غَضَباً لسليمان، فأتى تلك الحيتان فأخذ منها شيئاً، فشّقَّ بطنَ حوت، فإذا هو بالخاتم. وقال الحسن: ذُكِر لي أنه لم يُؤْوِه أَحدٌ من الناس، ولم يُعْرَف أربعينَ ليلةً، وكان يأوي إِلى امرأة مسكينة، فبينا هو يوما على شطّ نهر، وجد سمكة، فأتى بها المرأة فشقتَّها فإذا بالخاتم. وقال الضحاك: اشترى سمكة من امرأة فشقَّ بطنَها فوجد خاتمه. وفي المدة التي سُلب فيها الملك قولان: أحدهما: أربعون ليلة، كما ذكرنا عن الحسن. والثاني: خمسون ليلة، قاله سعيد بن جبير.
قال المفسرون: فلمّا جعل الخاتم في يده، ردَّ اللهُ عليه بهاءَه ومُلْكه، فأظلَّته الطَّير، وأقبل لا يستقبله جنيّ ولا طائر ولا حجر ولا شجر إِلا سجد له، حتى انتهى إِلى منزله، قال السدي: ثم أرسل إلى الشيطان، فجيء به، فأَمر به فجُعل في صندوق من حديد، ثم أطبق عليه وأقفل، وختم عليه بخاتمه، ثم أمر به فأُلقي في البحر، فهو فيه إلى أن تقوم الساعة. وقال وهب: جابَ صخرةً فأدخله فيها، ثم أوثقها بالحديد والرصاص، ثم قذفه في البحر.
قوله تعالى: وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فتح الياء نافع، وأبو عمرو، وفيه قولان:
أحدهما: لا يكون لأحد بعدي، قاله مقاتل، وأبو عبيدة.
(١٢٢١) وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال:
«إنّ عفريتا من الجِنّ تفلَّت عليّ البارحةَ ليَقْطَعَ عَلَيَّ صلاتي، فأمكنني اللهُ منه، فأخذتُه، فأردتُ أن أَربطه إِلى سارية من سواري المسجد حتى تنظُروا إِليه كلُّكم، فذكرتُ دعوة أخي سليمان: وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فرددتُه خاسئاً».
والثاني: لا ينبغي لأحد أن يسلبُه مِنِّي في حياتي، كما فعل الشيطان الذي جلس على كرسيه، قاله الحسن، وقتادة. وإنما طلب هذا المُلك، ليَعلم أنه قد غُفر له، ويعرف منزلته بإجابة دعوته، قاله الضحاك. ولم يكن في مُلْكه حين دعا بهذا الرّيحُ ولا الشياطينُ.
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ وقرأ أبو الجوزاء، وأبو جعفر، وأبو المتوكّل: «الرّياح» على الجمع.

صحيح. أخرجه البخاري ٤٦١ ومسلم ٥٤١ وأحمد ٢/ ٢٩٨ والنسائي في «التفسير» ٤٦٠ والبغوي في «شرح السنة» ٧٤٧ وابن حبان ٦٤١٩ والبيهقي ٢/ ٢١٩ كلهم من حديث أبي هريرة.

صفحة رقم 575

قوله تعالى: رُخاءً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: مُطيعة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن والضحاك. والثاني: أنها الطيِّبة، قاله مجاهد. والثالث: اللَّيِّنة، مأخوذ من الرَّخاوة، قاله اللُّغويُّون. فإن قيل: كيف وصفها بهذا بعد أن وصفها في سورة الأنبياء «١» بأنها عاصفة؟ فالجواب: أن المفسرين قالوا: كان يأمُر العاصفَ تارةً ويأمُر الرُّخاءَ أُخرى. وقال ابن قتيبة: كأنَّها كانت تشتدُّ إذا أراد، وتَلَينَ إذا أراد.
قوله تعالى: حَيْثُ أَصابَ أي: حيث قصد وأراد. قال الأصمعي: تقول العرب: أصابَ فلانٌ الصَّوابَ فأَخطأَ الجوابَ، أي: أراد الصَّوابَ.
قوله تعالى: وَالشَّياطِينَ أي: وسخَّرْنا له الشياطينَ كُلَّ بَنَّاءٍ يبنون له ما يشاء وَغَوَّاصٍ يغوصون له في البحار فيَستخرِجون الدُّرَّ، وَآخَرِينَ أي: وسخَّرْنا له آخَرِين، وهم مَرَدَةُ الشياطين، سخَّرهم له حتى قَرَّنهم في الأصفاد لِكُفرهم، قال مقاتل: أَوثَقَهم في الحديد. وقد شرحنا معنى مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ في سورة نبي الله إبراهيم «٢» عليه السلام. هذا عَطاؤُنا المعنى: قُلنا له: هذا عطاؤنا. وفي المشار إليه قولان: أحدهما: أنه جميع ما أُعطي، فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ أي: أَعْطِ مَنْ شئتَ من المال، وامْنَعْ مَنْ شئتَ. والمَنَّ: الإِحسان إِلى من لا يطلب ثوابه. والثاني: أنه إِشارة إلى الشياطين المسخَّرِين له فالمعنى: فامْنُنْ على مَنْ شئتَ بإطلاقه، وأَمْسِكْ مَنْ شئتَ منهم. وقد روي معنى القولين عن ابن عباس.
قوله تعالى: بِغَيْرِ حِسابٍ قال الحسن: لا تَبِعَةَ عليك في الدُّنيا ولا في الآخرة. وقال سعيد بن جبير: ليس عليك حسابٌ يومَ القيامة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: هذا عطاؤنا بغير حساب فامْنُنْ أو أمْسِكْ.
وما بعد هذا قد سبق تفسيره «٣» إِلى قوله: مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ وذلك أن الشيطان سُلِّط عليه، فأضاف ما أصابه إليه. قوله تعالى: بِنُصْبٍ قرأ الأكثرون بضم النون وسكون الصاد وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة، وابن السميفع، والجحدري، ويعقوب: بفتحهما، وهل بينهما فرق؟ فيه قولان:
أحدهما: أنهما سواء، قال الفراء: هما كالرُّشْد والرَّشَد والعُدْم، والعَدَم، والحُزْن والحَزَن، وكذلك قال ابن قتيبة، والزّجّاج. وقال المفسرون: والمراد بالنصب: الضُّرُ الذي أصابه. والثاني: أن النُّصْب بتسكين الصاد: الشرُّ. وبتحريكها: الإِعياء، قاله أبو عبيدة. وقرأ عائشة، ومجاهد، وأبو عمران، وأبو جعفر، وشيبة، وأبو عمارة عن حفص: «بنُصُب» بضم النون والصاد جميعاً. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو الجوزاء، وهبيرة بن حفص: «بنَصْب» بفتح النون وسكون الصاد. وفي المراد بالعذاب قولان: أحدهما: أنه العذاب الذي أصاب جسده. والثاني: أنه أخْذ ماله وولده وأهله.
قوله تعالى: ارْكُضْ أي: اضْرِب الأرضَ بِرِجْلِكَ، ومنه: رَكَضْتُ الفَرَس، فرَكَضَ فنبعتْ عَيْنُ ماءٍ، فذلك قوله تعالى: هذا مُغْتَسَلٌ قال ابن قتيبة: المُغْتَسَلُ: الماءُ، وهو الغسول أيضاً. قال الحسن: رَكَضَ برِجله فنبعتْ عَيْنٌ فاغتَسلَ منها، ثم مشى نحواً من أربعين ذراعا، ثم ركض برجله

(١) الأنبياء: ٨١.
(٢) إبراهيم: ٤٩.
(٣) سبأ: ٣٧، الرعد: ٢٩، الأنبياء: ٨٣.

صفحة رقم 576

فنبعتْ عَيْنٌ فشَرِب منها وعلى هذا جمهور العلماء أنه رَكَضَ ركضتين فنبعتْ له عينان، فاغتسل من واحدة، وشرب من الأُخرى.
قوله تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً كان قد حَلَفَ لئن شفاه الله لَيَجْلِدَنَّ زوجتَه مائةَ جَلْدة.
وفي سبب هذه اليمين ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أن إٍبليس جلس في طريق زوجة أيُّوبَ كأنه طبيب، فقالت له: يا عبد الله، إنّ ها هنا إِنساناً مبتلىً، فهل لكَ أن تداويَه؟ قال: نعم، إِن شاء شفيتُه، على أن يقول إٍذا بَرَأَ: أنت شفيتَني، فجاءت فأخبرتْه، فقال: ذاك الشيطان، للهِ عَلَيَّ إن شفاني أن أجْلِدَكِ مائةَ جَلْدة، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس. والثاني: أن إِبليس لَقِيَها فقال: إنّي أنا الذي فعلت بأيّوب ما به، وأنا آله الأرض، وما أخذتُه منه فهو بيدي، فانطلِقي أًريكِ، فمشى بها غيرَ بعيدٍ، ثم سَحَر بَصَرَها، فأراها وادياً عميقاً فيه أهلُها وولدُها ومالُها، فأتت أيُّوبَ فأخبرتْه، فقال: ذاكَ الشيطان، ويحكِ كيفَ وعَى قولَه سَمْعُكِ، والله لئن شفاني الله عزّ وجلّ لأَجْلِدَنَّكِ مائةً، قاله وهب بن منبّه. والثالث: أن إِبليس جاء إِلى زوجته بسخلة، فقال: لِيَذْبَحْ لي هذه وقد بَرَأَ فأخبرتْه فحَلَفَ لَيَجْلِدَنَّها، وقد ذكرنا هذا القول في سورة الأنبياء عن الحسن. فأمّا الضِّغْث، فقال الفراء: هو كُلُّ ما جمعتَه من شيءٍ مثل الحِزْمة الرَّطْبة، قال: وما قام على ساق واستطال ثم جمعتَه، فهو ضِغْث. وقال ابن قتيبة: هو الحُزْمَةُ من الخِلال والعيدان. قال الزجاج: هو الحُزْمَةُ من الحشيش والرَّيْحان وما أشبهه.
قال المفسرون: جزى اللهُ زوجتَه بحُسْن صبرها أن أفتاه في ضربها فسهّل الأمر، فجمع لها مائة عود، وقيل: مائة سنبلة، وقيل: كانت أَسَلاً، وقيل: من الإِذْخرِ، وقيل: كانت شماريخ، فضربها بها ضربةً واحدةً ولم يَحْنَثْ في يمينه. وهل ذلك خاصٌّ له، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه عامٌّ، وبه قال ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح وابن أبي ليلى. والثاني: أنه خاصٌّ لأيوب، قاله مجاهد.

فصل:


وقد اختلف الفقهاء فيمن حلف أن يَضْرِبَ عبده عشرة أسواط فجمعها كلَّها وضربه بها ضربة واحدة، فقال مالك، والليث بن سعد: لا يَبَرُّ، وبه قال أصحابنا. وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا أصابه في الضربة الواحدة كلُّ واحدٍ منها، فقد بَرَّ واحتجوا بعموم قصّة أيّوب عليه الصلاة والسلام.
(١) هذه الأقوال باطلة، والخبر بطوله من الإسرائيليات. وقال ابن العربي: ولم يصح عن أيوب في أمره إلا ما أخبرنا الله عنه في كتابه في آيتين الأولى قوله تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ الأنبياء: ٨٣ والثانية في ص: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ وأما النبي صلى الله عليه وسلّم فلم يصح عنه أنه ذكره بحرف واحد إلا قوله: «نبيا أيوب يغتسل إذ خرّ عليه رجل من جراد من ذهب» الحديث- أخرجه البخاري ٢٧٩ و ٣٣٩٣ وغيره من حديث أبي هريرة.
وإذ لم يصح عنه فيه قرآن ولا سنة إلا ما ذكرناه، فمن الذي يوصل السامع إلى أيوب خبره، أم على أي لسان سمعه؟ والإسرائيليات مرفوضة عند العلماء على البتات، فأعرض عن سطورها بصرك، واصمم عن سماعها أذنيك، فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالا، ولا تزيد فؤادك إلا خبالا. وفي «الصحيح» واللفظ للبخاري أن ابن عباس قال: يا معشر المسلمين! تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيكم أحدث الأخبار بالله، تقرؤونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب قد بدّلوا من كتب الله وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتب فقالوا: هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا ولا ينهاكم عما جاءكم من العلم عن مسألتهم، فلا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلّم في حديث الموطأ على عمر قراءته التوراة.

صفحة رقم 577
زاد المسير في علم التفسير
عرض الكتاب
المؤلف
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي
تحقيق
عبد الرزاق المهدي
الناشر
دار الكتاب العربي - بيروت
سنة النشر
1422
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية