إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ استئناف لبيان قصته عليه السلام، وجوز كونه لتعليل قوته في الدين وأوابيته إلى الله عزّ وجلّ، ومع متعلقة بسخر، وإيثارها على اللام لأن تسخير الجبال له عليه السلام لم يكن بطريق تفويض التصرف الكلي فيها إليه كتسخير الريح وغيرها لسليمان عليه السلام بل بطريق الاقتداء به في عبادة الله تعالى:
وأخر الظرف المذكور عن الْجِبالَ وقدم في سورة [الأنبياء: ٧٩] فقيل: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ قال بعض الفضلاء: لذكر داود وسليمان ثمت فقدم مسارعة للتعيين ولا كذلك هنا، وجوز تعلقها بقوله تعالى:
يُسَبِّحْنَ وهو أقرب بالنسبة إلى آية الأنبياء، وتسبيحهن تقديس بلسان قال لائق بهن نظير تسبيح الحصى المسموع في كف النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: تقديس بلسان الحال وتقييده بالوقتين المذكورين بعد يأباه إذ لا اختصاص لتسبيحهن الحالي بهما وكذا لا اختصاص له بكونه معه، وقيل المعنى يسرن معه على أن يسبحن من السباحة، والجملة حال من الْجِبالَ والعدول عن مسبحات مع أن الأصل في الحال الإفراد للدلالة على تجدد التسبيح حالا بعد حال نظير ما في قول الأعشى:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة | إلى ضوء نار في يفاع تحرق |
وروي عن أم هانىء بنت أبي طالب أن النبي ﷺ صلاة الضحى وقال: هذه صلاة الإشراق
. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء الخراساني أن ابن عباس قال: صفحة رقم 167
لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى قرأت هذه الآية يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وفي رواية عنه أيضا ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية، ووجه فهم الحبر إياها من الآية أي كل تسبيح ورد في القرآن فهو عنده ما لم يرد به التعجب والتنزيه بمعنى الصلاة فحيث كانت صلاة لداود عليه السلام وقصت على طريق المدح علم منه مشروعيتها.
وفي الكشف وجهه أن الآية دلت على تخصيصه عليه السلام ذينك الوقتين بالتسبيح وقد علم من الرواية أنه كان يصلي مسبحا فيهما فحكى في القرآن ما كان عليه وإن لم يذكر كيفيته فيكون في الآية ذكر صلاة الضحى وهو المطلوب أو نقول إن تسبيح الجبال غير تسبيح داود عليه السلام لأن الأول مجاز فحمل تسبيح داود على المجاز أيضا لأن المجاز أنسب اه.
وتعقب بأنه إذا علم من الرواية فكيف يقال إنه أخذه من الآية والتجوز ينبغي تقليله ما أمكن، وهذا بناء على أن مَعَهُ متعلق بيسبحن حتى يكون هو عليه السلام مسبحا أي مصليا وإلا فتسبيح الجبال لا دلالة على الصلاة، ومع هذا ففيه حينئذ جمع بين معنيين مجازيين إلا أن يقال به، أو يجعل بمعنى يعظمن ويجعل تعظيم كل محمولا على ما يناسبه، وبعد اللتيا والتي لا يخلو عن كدر، وارتضى الخفاجي الأول وأراه لا يخلو عن كدر أيضا.
وقال الجلبي في ذلك: يجوز أن يقال: تخصيص هذين الوقتين بالذكر دل على اختصاصهما بمزيد شرف فيصلح ذلك الشرف سببا لتعيينهما للصلاة والعبادة فإن لفضيلة الأزمنة والأمكنة أثرا في فضيلة ما يقع فيهما من العبادات، وهذا عندي أصفى مما تقدم، ويشعر به ما
أخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن عباس قال: كنت أمر بهذه الآية يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ فما أدري ما هي حتى حدثتني أم هانىء أن رسول الله ﷺ صلى يوم فتح مكة صلاة الضحى ثمان ركعات فقال ابن عباس: قد ظننت أن لهذه الساعة صلاة لقوله تعالى: يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ
هذا ولهم في صلاة الضحى كلام طويل والحق سنيتها وقد ورد فيها كما قال الشيخ ولي الدين ابن العراقي: أحاديث كثيرة صحيحة مشهورة حتى قال محمد بن جرير الطبري أنها بلغت مبلغ التواتر.
ومن ذلك حديث أم هانىء الذي في الصحيحين وزعم أن تلك الصلاة كانت صلاة شكر لذلك الفتح العظيم صادفت ذلك الوقت لا أنها عبادة مخصوصة فيه دون سبب أوانها كانت قضاء عما شغل ﷺ تلك الليلة من حزبه فيها خلاف ظاهر الخبر السابق عنها.
وكذا ما
رواه أبو داود من طريق كريب عنها أنها قالت صلى عليه الصلاة والسلام سبحة الضحى
ومسلم في كتاب الطهارة من طريق أبي مرة عنها أيضا ففيه ثم صلى ثماني ركعات سبحة الضحى
وابن عبد البر في التمهيد من طريق عكرمة بن خالد أنها قالت: قدم رسول الله ﷺ مكة فصلى ثمان ركعات فقلت ما هذه الصلاة؟ قال: هذه صلاة الضحى
، واحتج القائلون بالنفي بحديث عائشة إن كان رسول الله ﷺ ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم وما سبح رسول الله ﷺ سبحة الضحى قط وإني لأسبحها، رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأبو مالك، وحمله القائلون بالإثبات على نفي رؤيتها ذلك لما أنه
روي عنها مسلم وأحمد وابن ماجة أنها قالت: كان رسول الله ﷺ يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء الله تعالى
، وقد شهد أيضا بأنه عليه الصلاة والسلام كان يصليها على ما قال الحاكم أبو ذر الغفاري وأبو سعيد وزيد بن أرقم وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وأبو الدرداء وعبد الله بن أبي أوفى وعتبان بن مالك وعتبة بن عبد السلمي ونعيم بن همام الغطفاني وأبو أمامة الباهلي وأم هانىء وأم سلمة، ومن القواعد المعروفة أن المثبت مقدم على النافي مع أن رواية الإثبات أكثر بكثير من رواية النفي وتأويلها أهون من تأويل تلك، وذكر الشافعية أنها أفضل التطوع بعد الرواتب لكن النووي في شرح المهذب قدم عليها صلاة التراويح فجعلها
في الفضل بين الرواتب والضحى والمذهب عنهم وجوبها عليه ﷺ وأن ذلك من خصوصياته عليه الصلاة والسلام، واحتج له بما
أخرجه ابن العربي بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال: «قال رسول الله كتب على النحر ولم يكتب عليكم وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها» رواه الدارقطني
أيضا، وقال شيخ الحفاظ أبو الفضل بن حجر: إنه لم يثبت ذلك في خبر صحيح، وفي الأخبار ما يعكر على القول به، وذكر أن أقلها ركعتان
لخبر البخاري عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام أوصاه بهما وأن لا يدعهما
، وأدنى كما لها أربع لما صح كان ﷺ يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء فست فثمان وأكثرها اثنتا عشرة ركعة لخبر ضعيف يعمل به في مثل ذلك، وذهب الكثير إلى أن الأكثر ثمان.
وذكروا أنها أفضل من اثنتي عشرة والعمل القليل قد يفضل الكثير فما يقتضيه أجرك على قدر نصبك أغلبي.
وصرح ابن حجر الهيثمي عليه الرحمة بالمغايرة بين صلاة الضحى وصلاة الإشراق قال: ومما لا يسن جماعة ركعتان عقب الإشراق بعد خروج وقت الكراهة وهي غير الضحى، وتقدم لك ما يفيد اتحادهما ويدل عليه غير ذلك من الأخبار، وصح إطلاق صلاة الأوابين على صلاة الضحى كإطلاقها على الصلاة المعروفة بعد المغرب، هذا وتمام الكلام فيها في كتب الفقه والحديث، وَالطَّيْرَ عطف على الْجِبالَ على ما هو الظاهر.
مَحْشُورَةً حال من الطَّيْرَ والعامل سخرنا أي وسخرنا الطير حال كونها محشورة، عن ابن عباس كان عليه السلام إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح واجتمعت إليه الطير فسبحت وذلك حشرها، ولم يؤت بالحال فعلا مضارعا كالحال السابقة ليدل على الحشر الدفعي الذي هو أدل على القدرة وذلك بتوسط مقابلته للفعل أو لأن الدفعية هي الأصل عند عدم القرينة على خلافها.
وقرأ ابن أبي عبلة والجحدري «والطير محشورة» برفعهما مبتدأ وخبرا، ولعل الجملة على ذلك حال من ضمير يسبحن كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ استئناف مقرر لمضمون ما قبله مصرح بما فهم منه إجمالا من تسبيح الطير، واللام تعليلية، والضمير لداود أي كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيحه رجاع إلى التسبيح، ووضع الأواب موضع المسبح إما لأنها كانت ترجع التسبيح والمرجع رجاع لأنه يرجع إلى فعله رجوعا بعد رجوع وإما لأن الأواب هو التواب الكثير الرجوع إلى الله تعالى كما هو المشهور ومن دأبه إكثار الذكر وإدامة التسبيح والتقديس، وقيل يجوز أن يكون المراد كل من الطير فالجملة للتصريح بما فهم، وكذا يجوز أن يراد كل من داود عليه السلام ومن الجبال والطير والضمير لله تعالى أي كل من داود والجبال والطير لله تعالى أواب أي مسبح مرجع للتسبيح وَشَدَدْنا مُلْكَهُ قويناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود ومزيد النعمة، واقتصر بعضهم على الهيبة، والسدي على الجنود، وروى عنه ابن جرير والحاكم أنه كان يحرصه كل يوم وليلة أربعة آلاف.
وحكي أنه كان حول محرابه أربعون ألف مستلئم يحرسونه، وهذا في غاية البعد عادة مع عدم احتياج مثله عليه السلام إليه، وكذا القول الأول كما لا يخفى على منصف، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ادعى رجل من بني إسرائيل عند داود عليه السلام رجلا ببقرة فجحده فسأل البينة فلم تكن بينة فقال لهما عليه السلام: قوما حتى انظر في أمركما فقاما من عنده فأتى داود في منامه فقيل له: اقتل الرجل المدعي عليه فقال: إن هذه رؤيا ولست أعجل فأتى الليلة الثانية فقيل له: اقتل الرجل فلم يفعل ثم أتى الليلة الثالثة فقيل له: اقتل الرجل أو تأتيك العقوبة من الله تعالى فأرسل عليه السلام إلى الرجل فقال: إن الله تعالى أمرني أن أقتلك فقال: تقتلني بغير بينة ولا ثبت قال نعم: والله لأنفذن أمر الله عزّ وجلّ فيك فقال له الرجل لا تعجل علي حتى أخبرك إني والله ما أخذت بهذا
الذنب ولكنني كنت اغتلت والد هذا فقتلته فبذلك أخذت فأمر به داود عليه السلام فقتل فعظمت بذلك هيبته في بني إسرائيل وشد به ملكه.
وقرأ ابن أبي عبلة بشد الدال وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ النبوة وكمال العلم وإتقان العمل، وقيل الزبور وعلم الشرائع، وقيل كل كلام وافق الحكمة فهو حكمة وَفَصْلَ الْخِطابِ أي فصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل فالفصل بمعناه المصدري والخطاب الخصام لاشتماله عليه أو لأنه أحد أنواعه خص به لأنه المحتاج للفصل أو الكلام الذي يفصل بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والصواب والخطأ وهو كلامه عليه السلام في القضايا والحكومات وتدابير الملك والمشورات، فالخطاب الكلام المخاطب به والفصل مصدر بمعنى اسم الفاعل أو الكلام الذي ينبه المخاطب على المقصود من غير التباس يراعى فيه مظان الفصل والوصل والعطف والاستئناف والإضمار والحذف والتكرار ونحوها فالخطاب بمعنى الكلام المخاطب به أيضا والفصل مصدر إما بمعنى اسم الفاعل أي الفاصل المميز للمقصود عن غيره أو بمعنى اسم المفعول أي المقصود أي الذي فصل من بين أفراد الكلام بتخليصه ومراعاة ما سمعت فيه أو الذي فصل بعضه عن بعض ولم يجعل ملبسا مختلطا.
وجوز أن يراد بفصل الخطاب الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخل ولا إشباع ممل كما جاء في وصف
كلام نبينا ﷺ «لا نزر ولا هذر»
فالخطاب بمعنى الكلام المخاطب به كما سلف والفصل إما بمعنى الفاصل لأن القصد أي المتوسط فاصل بين الطرفين وهما هنا المختصر المخل والمطنب الممل أو لأن الفصل والتمييز بين المقصود وغيره أظهر تحققا في الكلام القصد لما في أحد الطرفين من الإخلال وفي الطرف الآخر من الإملال المفضي إلى إهمال بعض المقصود وإما بمعنى المفصول لأن الكلام المذكور مفصول مميز عند السامع على المخل والممل بسلامته عن الإخلال والإملال، والإضافة على الوجه الأول من إضافة المصدر إلى مفعوله وعلى ما عداه من إضافة الصفة لموصوفها، وما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه والشعبي وحكاه الطبرسي عن الأكثرين من أن فصل الخطاب هو قوله: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه فقيل هو داخل في فصل الخطاب على الوجه الثاني فإن فيه الفصل بين المدعي والمدعى عليه وهو من الفصل بين الحق والباطل، وجاء في بعض الروايات هو إيجاب البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه فلعله أريد أن فصل الخطاب على الوجه الأول أعني فصل الخصام كان بذاك وجعله نفسه على سبيل المبالغة، وما روي عن ابن عباس ومجاهد والسدي من أنه القضاء بين الناس والحق والإصابة والفهم فهو ليس شيئا وراء ما ذكر أولا، وأخرج ابن جرير عن الشعبي وابن أبي حاتم والديلمي عن أبي موسى الأشعري أن فصل الخطاب الذي أوتيه عليه السلام هو أما بعد، وذكر أبو موسى أنه عليه السلام أول من قال ذلك فقيل: هو داخل في فصل الخطاب وليس فصل الخطاب منحصرا فيه لأنه يفصل المقصود عما سيق مقدمة له من الحمد والصلاة أو من ذكر الله عزّ وجلّ مطلقا، وظاهره اعتبار فصل الخطاب بمعنى الكلام الذي ينبه المخاطب على المقصود إلى آخر ما مر، ويوهم صنيع بعضهم دخوله فيه باعتبار المعنى الثاني لفصل الخطاب ولا يتسنى ذلك، وحمل الخبر على الانحصار مما لا ينبغي إذ ليس في إيتاء هذا اللفظ كثير امتنان، ثم الظاهر أن المراد من أما بعد ما يؤدي مؤداه من الألفاظ لا نفس هذا اللفظ لأنه لفظ عربي وداود لم يكن من العرب ولا نبيهم بل ولا بينهم فالظاهر أنه لم يكن يتكلم بالعربية، والذي يترجح عندي أن المراد بفصل الخطاب فصل الخصام وهو يتوقف على مزيد علم وفهم وتفهيم وغير ذلك فإيتاؤه يتضمن إيتاء جميع ما يتوقف هو عليه وفيه من الامتنان ما فيه، ويلائمه أتم ملاءمة قوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ استفهام يراد منه التعجب والتشويق إلى استماع ما في حيزه لإيذانه بأنه من الأنباء
البديعة التي حقها أن تشيع فيما بين كل حاضر وبادي، والجملة قيل عطف على إِنَّا سَخَّرْنَا من قبيل عطف القصة على القصة، وقيل: على اذكر.
والخصم في الأصل مصدر لخصمه بمعنى خاصمه أو غلبه ويراد منه المخاصم ويستعمل للمفرد والمذكر وفروعهما وجاء للجمع هنا على ما قال جمع لظاهر ضمائره بعد وربما ثني وجمع على خصوم واخصام، وأصل المخاصمة على ما قال الراغب أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر أي بجانبه أو أن يجذب كل واحد خصم الجوالق من جانب.
إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ أي علوا سوره ونزلوا إليه فتفعل للعلو على أصله نحو تسنم الجمل أي علا سنامه وتذرّى الجبل علا ذروته، والسور الجدار المحيط بالمرتفع، والمحراب الغرفة وهي العلية ومحراب المسجد مأخوذ منه لانفصاله عما عداه أو لشرفة المنزل منزلة علوه قاله الخفاجي، وقال الراغب: محراب المسجد قيل: سمي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى، وقيل: لكون حق الإنسان فيه أن يكون حريبا من أشغال الدنيا ومن توزع الخاطر، وقيل: الأصل فيه أن محراب البيت صدر المجلس ثم لما اتخذت المساجد سمي صدره به، وقيل: بل المحراب أصله في المسجد وهو اسم خص به صدر المجلس فسمي صدر البيت محرابا تشبيها بمحراب المسجد وكأن هذا أصح انتهى، وصرح الجلال السيوطي أن المحاريب التي في المساجد بهيئتها المعروفة اليوم لم تكن في عهد النبي ﷺ وله رسالة في تحقيق ذلك، وإذا متعلقة بمحذوف مضاف إلى الخصم أي نبأ تحاكم الخصم إذ تسوروا أو بنبإ على أن المراد به الواقع في عهد داود عليه السلام، وإسناد الإتيان إليه على حذف مضاف أي قصة نبأ الخصم، وجوز تعلقها به بلا حذف على جعل إسناد الإتيان إليه مجازيا أو بالخصم وهو في الأصل مصدر والظرف قنوع يكفيه رائحة الفعل، وزعم الحوفي تعلقها بأتى ولا يكاد يصح لأن إتيان نبأ الخصم لم يكن وقت تسورهم المحراب إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ إذ هذه بدل من إذ الأولى بدل كل من كل بأن يجعل زمان التسور وزمان الدخول لقربهما بمنزلة المتحدين أو بدل اشتمال بأن يعتبر الامتداد أو ظرف لتسوروا ويعتبر امتداد وقته وإلا فالتسور ليس في وقت الدخول، ويجوز أن يراد بالدخول إرادته وفيه تكلف لأنه مع كونه مجازا لا يتفرع عليه قوله تعالى:
فَفَزِعَ مِنْهُمْ فيحتاج إلى تفريعه على التسور وهو أيضا كما ترى، وجوز تعلقه باذكر مقدرا، والفزع انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف.
روي أن الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين قيل هما جبريل وميكائيل عليهما السلام فطلبا أن يدخلا عليه فوجداه في يوم عبادته فمنعهما الحرس فتسورا عليه المحراب فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان
، وكان عليه السلام كما روي عن ابن عباس جزأ زمانه أربعة أجزاء يوما للعبادة ويوما للقضاء ويوما للاشتغال بخاصة نفسه ويوما لجميع بني إسرائيل فيعظهم ويبكيهم، وسبب الفزع قيل: إنهم نزلوا من فوق الحائط وفي يوم الاحتجاب والحرس حوله لا يتركون من يريد الدخول عليه فخاف عليه السلام أن يؤذوه لا سيما على ما حكي أنه كان ليلا، وقيل: إن الفزع من أجل أنه ظن أن أهل مملكته قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان فيكون في الحقيقة فزعا من فساد السيرة لا من الداخلين، وقال أبو الأحوص: فزع منهم لأنهما دخلا عليه وكل منهما آخذ برأس صاحبه، وقيل: فزع منهم لما رأى من تسورهم موضعا مرتفعا جدا لا يمكن أن يرتقى إليه بعد أشهر مع أعوان وكثرة عدد، والظاهر أن فزعه ليس إلا لتوقع الأذى لمخالفة المعتاد فلما رأوه وقد فزع قالُوا لا تَخَفْ وهو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية فزعه عليه السلام كأنه قيل: فماذا قالوا عند مشاهدتهم فزعه؟ فقيل: قالوا له إزالة لفزعه لا تخف خَصْمانِ خبر مبتدأ محذوف أي نحن خصمان، والمراد هنا فوجان لا شخصان متخاصمان وقد تقدم
أن الخصم يشمل الكثير فيطابق ما مر من جميع الضمائر، ويؤيده على ما قيل قوله سبحانه: بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فإن نحو هذا أكثر استعمالا في قول الجماعة، وقراءة بعضهم بغى بعضهم على بعض أظهر في التأييد، ولا يمنع ذلك كون التحاكم إنما وقع بين اثنين لجواز أن يصحب كلا منهما من يعاضده والعرف يطلق الخصم على المخاصم ومعاضده وإن لم يخاصم بالفعل، وجوز أن يكون المراد اثنين والضمائر المجموعة مراد بها التثنية فيتوافقان وأيد بقوله سبحانه إِنَّ هذا أَخِي وقيل: يجوز أن يقدر خصمان مبتدأ خبره محذوف أي فينا خصمان وهو كما ترى، والظاهر أن جملة بَغى إلخ في موضع الصفة لخصمان وأن جملة نحن خصمان إلخ استئناف في موضع التعليل للنهي فهي موصولة بلا تخف، وجوز أن يكونوا قد قالوا لا تخف وسكتوا حتى سألوا ما أمركم؟ فقالوا: خصمان بغى إلخ أي جار بعضنا على بعض واستشكل قولهم هذا على القول بأنهم كانوا ملائكة بأنه إخبار عن أنفسهم بما لم يقع منهم وهو كذب والملائكة منزهون عنه. وأجيب بأنه إنما يكون كذبا لو كانوا قصدوا به الإخبار حقيقة أما لو كان فرضا لأمر صوروه في أنفسهم لما أتوا على صورة البشر كما يذكر العالم إذا صور مسألة لأحد أو كان كناية وتعريضا بما وقع من داود عليه السلام فلا، وقرأ أبو يزيد الجرار عن الكسائي «خصمان» بكسر الخاء.
فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ أي ولا تتجاوزه، وقرأ أبو رجاء وابن أبي عبلة وقتادة والحسن وأبو حيوة «ولا تشطط» من شط ثلاثيا أي ولا تبعد عن الحق، وقرأ قتادة أيضا «تشطّ» مدغما من أشط رباعيا، وقرأ زر «تشاطط» بضم التاء وبألف على وزن تفاعل مفكوكا، وعنه أيضا «تشطط» من شطط، والمراد في الجميع لا تجر في الحكومة وأرادوا بهذا الأمر والنهي إظهار الحرص على ظهور الحق والرضا به من غير ارتياب بأنه عليه السلام يحكم بالحق ولا يجوز في الحكم وأحد الخصمين قد يقول نحو ذلك للإيماء إلى أنه المحق وقد يقوله اتهاما للحاكم وفيه حينئذ من الفظاظة ما فيه وعلى ما ذكرنا أولا فيه بعض فظاظة، وفي تحمل داود عليه السلام لذلك منهم دلالة على أنه يليق بالحاكم تحمل نحو ذلك من المتخاصمين لا سيما إذا كان ممن معه الحق فحال المرء وقت التخاصم لا يخفى.
والعجب من حاكم أو محكم أو من للخصوم نوع رجوع إليه كالمفتي كيف لا يقتدي بهذا النبي الأواب عليه الصلاة والسلام في ذلك بل يغضب كل الغضب لأدنى كلمة تصدر ولو فلتة من أحد الخصمين يتوهم منها الحط لقدره ولو فكر في نفسه لعلم أنه بالنسبة إلى هذا النبي الأواب لا يعدل والله العظيم متك ذباب، اللهم وفقنا لأحسن الأخلاق واعصمنا من الأغلاط وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أي وسط طريق الحق بزجر الباغي عما سلكه من طريق الجور وإرشاده إلى منهاج العدل إِنَّ هذا أَخِي إلخ استئناف لبيان ما فيه الخصومة، والمراد بالأخوة أخوة الدين أو أخوة الصداقة والإلفة أو أخوة الشركة والخلطة لقوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ وكل واحد من هذه الأخوات يدلي بحق مانع من الاعتداء والظلم، وقيل: هي أخوة في النسب وكان المتحاكمان أخوين من بني إسرائيل لأب وأم، ولا يخفى أن المشهور أنهما كانا من الملائكة بل قيل لا خلاف في ذلك. وأَخِي بيان عند ابن عطية وبدل أو خبر لأن عند الزمخشري، ولعل المقصود بالإفادة على الثاني قوله تعالى: لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ وهي الأنثى من بقر الوحش ومن الضأن والشاء الجبلي وتستعار للمرأة كالشاة كثيرا نحو قول ابن عون:
أنا أبوهن ثلاث هنه... رابعة في البيت صغراهنه
ونعجتي خمسا توفيهنه... ألا فتى سحج يغذيهنه
وقول عنترة:
يا شاة ما قنص لمن حلت له... حرمت عليّ وليتها لم تحرم
وقول الأعشى:
فرميت غفلة عينه عن شاته | فأصبت حبة قلبها وطحالها |
فتور القيام قطيع الكلام | لغوب العشاء إذا لم تنم |
تنام عن كبر شأنها فإذا | قامت رويدا تكاد تنغرف |
قطاة عزها شرك فباتت | تجاذبه وقد علق الجناح |
وقرأ أبو حيوة وطلحة «وعزني» بتخفيف الزاي، قال أبو الفتح: حذفت إحدى الزائين تخفيفا كما حذفت إحدى السينين في قول أبي زبيد: صفحة رقم 173
أحسن به فهن إليه شوس وروي كذلك عن عاصم.
وقرأ عبد الله وأبو وائل ومسروق والضحاك والحسن وعبيد بن عمير «وعازني» بألف بعد العين وتشديد الزاي أي وغالبني.
قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ جواب قسم محذوف قصد به المبالغة في إنكار فعل ذي النعجات الكثيرة وتهجين طمعه، وليس هذا ابتداء من داود عليه السلام إثر فراغ المدعي من كلامه ولا فتيا بظاهر كلامه قبل ظهور الحال لديه فقيل: ذلك على تقدير لَقَدْ ظَلَمَكَ إن كان ما تقول حقا وقيل ثم كلام محذوف أي فأقر المدعى عليه فقال لَقَدْ ظَلَمَكَ إلخ ولم يحك في القرآن اعتراف المدعى عليه لأنه معلوم من الشرائع كلها أنه لا يحكم الحاكم إلا بعد إجابة المدعى عليه،
وجاء في رواية أنه عليه السلام لما سمع كلام الشاكي قال للآخر ما تقول فأقر فقال له: لترجعن إلى الحق أو لأكسرن الذي فيه عيناك، وقال للثاني: لَقَدْ ظَلَمَكَ إلخ فتبسما عند ذلك وذهبا ولم يرهما لحينه
، وقيل: ذهبا نحو السماء بمرأى منه، وقال الحليمي: إنه عليه السلام رأى في المدعي مخايل الضعف والهضيمة فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقول فدعاه ذلك إلى أن لا يسأل المدعى عليه فاستعجل بقوله: لَقَدْ ظَلَمَكَ ولا يخفى أنه قول ضعيف لا يعول عليه لأن مخايل الصدق كثيرا ما تظهر على الكاذب والحيلة أكثر من أن تحصى قديما وحديثا وفيما وقع من إخوة يوسف عليه السلام ولم يكونوا أنبياء على الأصح ما يزيل الاعتماد في هذا الباب، وبعض الجهلة ذهب إلى نحو هذا، وزعم أن ذنب داود عليه السلام ما كان إلا أنه صدق أحدهما على الآخر وظلمه قبل مسألته، والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإضافة كأنه قيل: لَقَدْ ظَلَمَكَ بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه السؤال والطلب أو لقد ظلمك بسؤال نعجتك مضافة إلى نعاجه وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ أي الشركاء الذين خلطوا أموالهم الواحد خليط وهي الخلطة وقد غلبت في الماشية وفي حكمها عند الفقهاء كلام ذكر بعضا منه الزمخشري لَيَبْغِي ليتعدى بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ غير مراع حق الشركة والصحبة.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ منهم فإنهم يتحامون عن البغي والعدوان وَقَلِيلٌ ما هُمْ أي وهم قليل جدا فقليل خبر مقدم وهُمْ مبتدأ وما زائدة، وقد جاءت المبالغة في القلة من التنكير وزيادة ما الإبهامية ويتضمن ذلك التعجب فإن الشيء إذا بولغ فيه كان مظنة للتعجب منه فكأنه قيل: ما أقلهم، والجملة اعتراض تذييلي، وقرىء «ليبغي» بفتح الياء على تقدير حذف النون الخفيفة وأصله ليبغين كما قال طرفة بن العبد:
اضرب عنك الهموم طارقها | ضربك بالسيف قونس الفرس |
محمد تفد نفسك كل نفس | إذا ما خفت من أمر تبالا |
بين المتلابسين وخص الخلطاء لكثرته فيما بينهم فلا عجب مما شجر بينكم ويترتب عليه قصد الموعظة الحسنة والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الذين حكم لهم بالقلة وأن يكره إليهم الظلم والاعتداء الذي عليه أكثرهم مع التأسف على حالهم وأن يسلي المظلوم عما جرى عليه من خليطه وأن له في أكثر الخلطاء أسوة أو كأنه قيل: إن هذا الأمر الذي جرى بينكما أيها الخليطان كثيرا ما يجري بين الخلطاء فينظر فيه إلى خصوص حالهما، قال في الكشف:
والمحمل الأظهر هذا.
وعلى التقديرين هو تذييل يترتب عليه ما ذكر. ثم قال: ولعل الأظهر حمل الخلطاء على المتعارفين والمتضادين وأضرابهم ممن بينهم ملابسة شديدة وامتزاج على نحو:
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا والغلبة في الشركاء الذين خلطوا أموالهم في عرف الفقهاء فذكر الخلطاء لا ينافي ذكر الحلائل إذ لم ترد الخلطة اه. وأنت خبير بأن ذلك وإن لم يناف ذكر الحلائل لكن أولوية عدم إرادة الحلائل وإبقاء النعجة على معناها الحقيقي مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ الظن مستعار للعلم الاستدلالي لما بينهما من المشابهة الظاهرة، وفي البحر لما كان الظن الغالب يقارب العلم استعير له، فالمعنى وعلم داود وأيقن بما جرى في مجلس الحكومة أن الله تعالى ابتلاه، وقيل لما قضى بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك ثم صعدا إلى السماء حيال وجهه فعلم بذلك أنه تعالى ابتلاه، وجوز إبقاء الظن على حقيقته، وأنكر ابن عطية مجيء الظن (١) بعد العلم اليقيني وقال: لسنا نجده في كلام العرب وإنما هو توقيف بين معتقدين غلب أحدهما على الآخر وتوقعه العرب على العلم الذي ليس بواسطة الحواس فإنه اليقين التام ولكن يخلط الناس في هذا ويقولون: ظن بمعنى أيقن إلى آخر ما أطال، ويفهم منه أن إطلاق الظن على العلم الاستدلالي حقيقة والمشهور أنه مجاز، وظاهر ما بعد أنه هنا بمعنى العلم وأَنَّما المفتوحة على ما حقق بعض الأجلة لا تدل على الحصر كالمكسورة، ومن قال بإفادتها إياه حملا على المكسورة كالزمخشري لم يدع الاطراد فليس المقصود هاهنا قصر الفتنة عليه عليه السلام لأنه يقتضي انفصال الضمير، ولا قصر ما فعل به على الفعل لأن كل فعل ينحل إلى عام وخاص فمعنى ضربته فعلت ضربه على أن المعنى ما فعلنا به إلا الفتنة كما قال أبو السعود لأنه على ما قيل تعسف وإلغاز، ومن يدعي الاطراد يلتزم الثاني من القصرين المنفيين ويمنع كون ما ذكر تعسفا وإلغازا.
وقرأ عمر بن الخطاب وأبو رجاء والحسن بخلاف عنه «فتّنّاه» بتشديد التاء والنون مبالغة، والضحاك «افتناه» كقوله على ما نقله الجوهري عن أبي عبيدة:
لئن فتنتني لهي بالأمس افتنت | سعيدا فأمسى قد غوى كل مسلم |
فخر على وجهه راكعا... وتاب إلى الله من كل ذنب
وقيل أي خر للسجود راكعا أي مصليا على أن الركوع بمعنى الصلاة لاشتهار التجوز به عنها، وتقدير متعلق لخر يدل عليه غلبة فحواه لأنه بمعنى سقط على الأرض كما في قوله تعالى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:
٢٦].
وقال الحسين بن الفضل: أي خر من ركوعه أي سجد بعد أن كان راكعا، وظاهره إبقاء الركوع على حقيقته وجعل خر بمعنى سجد، والجمهور على ما قدمنا، واستشهد به أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وأصحابه على أن الركوع يقوم مقام السجود في سجدة التلاوة وهو قول الخطابي من الشافعية ولا فرق في ذلك بين الصلاة وخارجها كما في البزازية وغيرها. وفي الكشف قالوا أي الحنفية: إن القياس يقتضي أن يقوم الركوع مقام السجود لأن الشارع جعله ركوعا وتجوز بأحدهما عن الآخر لقيامه مقامه وإغنائه غناءه.
وأيدوه بأن السجود لم يؤمر به لعينه ولهذا لم يشرع قربة مقصودة بل للخضوع وهو حاصل بالركوع «فإن قلت» : إن سجدة داود عليه السلام كانت سجدة شكر والكلام في سجدة التلاوة قلت: لا عليّ في ذلك لأني لم أستدل بفعل داود عليه السلام بل بجعل الشارع إياه مغنيا غناء السجود، ولأصحابنا يعني الشافعية أن يمنعوا أن علاقة المجاز ما ذكروه بل مطلق الميل عن الخضوع المشترك بينهما أو لأنه مقدمته كما قال الحسن: لا يكون ساجدا حتى يركع (١) أو خر مصليا والمعتبر غاية الخضوع وليس في الركوع اه.
ولا يخفى أن المعروف من النبي ﷺ السجود ولم نقف في خبر على أنه عليه الصلاة والسلام ركع للتلاوة بدله ولو مرة وكذا أصحابه رضي الله تعالى عنهم، وليس أمر القياس المذكور بالقوى فالأحوط فعل الوارد لا غير بل قال بعض الشافعية: إن قول الأصحاب لا يقوم الركوع مقام السجدة ظاهر في جواز الركوع وهو بعيد والقياس حرمته، وعنى صاحب الكشف بما ذكر في السؤال من أن سجدة داود عليه السلام كانت سجدة شكر أنها كانت كذلك من نبينا صلى الله عليه وسلم
فقد أخرج النسائي وابن مردويه بسند جيد عن ابن عباس أن النبي ﷺ سجد في ص وقال: سجدها داود توبة ونسجدها شكرا
أي على قبول توبة داود عليه السلام من خلاف الأولى بعلى شأنه وقد لقي عليه السلام على ذلك من القلق المزعج ما لم يلقه غيره كما ستعلمه إن شاء الله تعالى، وآدم عليه السلام وإن لقي أمرا عظيما أيضا لكنه كان مشوبا بالحزن على فراق الجنة فجوزي لذلك بأمر هذه الأمة بمعرفة قدره وأنه أنعم عليه نعمة تستوجب دوام الشكر إلى قيام الساعة، ولقصته على ما في بعض الروايات شبه لما وقع لنبينا ﷺ في قصة زينب المقتضي للعتب عليه بقوله تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ [الأحزاب: ٣٧] الآية فيكون ذكرها مذكرا له عليه الصلاة والسلام وما وقع وما آل الأمر إليه مما هو أرفع وأجل فكأن ذلك اقتضى دوام الشكر بإظهار السجود له، ولعل ذلك وجه تخصيص داود بذلك مع وقوع نظيره لغيره من الأنبياء عليهم السلام فتأمله، ولا تغفل عن كون السورة مكية على الصحيح وقصة زينب رضي الله تعالى عنها مدنية، وينحل الإشكال بالتزام كون السجود بعد القصة فلينقر، وهي عند الحنفية إحدى سجدات التلاوة الواجبة كما ذكر في الكتب الفقهية، ومن فسر خَرَّ راكِعاً بخر للسجود مصليا ذهب إلى أن ما وقع من داود عليه السلام صلاة مشتملة على السجود وكانت للاستغفار وقد جاء في شريعتنا مشروعية صلاة ركعتين
عند التوبة لكن لم نقف في خبر على ما يشعر بحمل ما هنا على صلاة داود عليه السلام لذلك وإنما وقفنا على أنه سجد وَأَنابَ أي رجع إلى الله تعالى بالتوبة فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي ما استغفرنا منه.
أخرج أحمد وعبد بن حميد عن يونس بن حبان أن داود عليه السلام بكى أربعين ليلة حتى نبت العشب حوله من دموعه ثم قال: يا رب قرح الجبين ورقأ الدمع وخطيئتي علي كما هي فنودي يا داود أجائع فتطعم؟ أم ظمآن فتسقى؟ أم مظلوم فينتصر لك؟ فنحب نحبة هاج ما هنالك من الخضرة فغفر له عند ذلك
وفي رواية عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن مجاهد أنه خر ساجدا أربعين ليلة حتى نبت من دموع عينيه من البقل ما غطى رأسه ثم قال إلخ،
وروي أنه لم يشرب ماء إلا وثلثاه من دمعه وجهد نفسه راغبا إلى الله تعالى في العفو عنه حتى كاد يهلك واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له إيشا على ملكه ودعا إلى نفسه فاجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل فلما غفر له حاربه فهزمه.
وأخرج أحمد عن ثابت أنه عليه السلام اتخذ سبع حشايا وحشاهن من الرماد حتى أنفذها دموعا ولم يشرب شرابا إلا مزجه بدمع عينيه، وأخرج عن وهب أنه اعتزل النساء وبكى حتى رعش وخددت الدموع في وجهه، ولم ينقطع خوفه عليه السلام وقلقه بعد المغفرة، فقد أخرج أحمد والحكيم الترمذي وابن جرير عن عطاء الخراساني أن داود نقش خطيئته في كفه لكي لا ينساها وكان إذا رآها اضطربت يداه.
وأخرج أحمد وغيره عن ثابت عن صفوان وعبد بن حميد من طريق عطاء بن السائب عن أبي عبد الله الجدلي ما رفع داود رأسه إلى السماء بعد الخطيئة حتى مات وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى قربة بعد المغفرة.
وَحُسْنَ مَآبٍ وحسن مرجع في الجنة، وأخرج عبد بن حميد عن عبيد بن عمير أنه قال في الآية: يدنو من ربه سبحانه حتى يضع يده عليه، وهو إن صح من المتشابه.
وأخرج أحمد في الزهد والحكيم الترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مالك بن دينار أنه قال فيها: يقام داود عليه السلام يوم القيامة عند ساق العرش ثم يقول الرب عزّ وجلّ: يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا فيقول: يا رب كيف وقد سلبته؟ فيقول: إني راده عليك اليوم فيندفع بصوت يستغرق نعيم أهل الجنة.
وهذا واختلف في أصل قصته التي ترتب عليها ما ترتب فقيل: إنه عليه السلام رأى امرأة رجل يقال له أوريا من مؤمني قومه- وفي بعض الآثار أنه وزيره- فمال قلبه إليها فسأله أن يطلقها فاستحى أن يرده ففعل فتزوجها وهي أم سليمان وكان ذلك جائزا في شريعته معتادا فيما بين أمته غير مخل بالمروءة حيث كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته، وقد كان الرجل من الأنصار في صدر الإسلام بعد الهجرة إذا كانت له زوجتان نزل عن إحداهما لمن اتخذه أخا له من المهاجرين لكنه عليه السلام لعظم منزلته وارتفاع مرتبته وعلو شأنه نبه بالتمثيل على أنه لم يكن ينبغي له أن يتعاطى ما يتعاطاه آحاد أمته ويسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة أن ينزل عنها فيتزوجها مع كثرة نسائه بل كان يجب عليه أن يغالب ميله الطبيعي ويقهر نفسه ويصبر على ما امتحن به، وقيل إنه أضمر في نفسه إن قتل أوريا تزوج بها وإليه مال ابن حجر في تحفته.
وقيل لم يكن أوريا تزوجها بل كان خطبها ثم خطبها هو فآثره عليه السلام أهلها فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن، وفي بعض الآثار أنه فعل ذلك ولم يكن عالما بخطبة أخيه فعوتب على ترك السؤال هل خطبها أحد أم لا؟ وقيل إنه كان في شريعته أن الرجل إذا مات وخلف امرأة فأولياؤه أحق بها إلا أن يرغبوا عن التزوج بها فلما قتل أوريا خطب امرأته ظانا أن أولياءه رغبوا عنها فلما سمعوا منعتهم هيبته وجلالته أن يخطبوها.
وقيل إنه كان في عبادة فأتاه رجل وامرأة متحاكمين إليه فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها وهو نظر مباح فمالت نفسه ميلا طبيعيا إليها فشغل عن بعض نوافله فعوتب لذلك، وقيل إنه لم يتثبت في الحكم وظلم المدعى عليه قبل سؤاله لما ناله من الفزع وكانت الخصومة بين المتخاصمين وكانا من الإنس على الحقيقة إما على ظاهر ما قص أو على جعل النعجة فيه كناية عن المرأة، ونقل هذا عن أبي مسلم، والمقبول من هذه الأقوال ما بعد من الإخلال بمنصب النبوة، وللقصاص كلام مشهور لا يكاد يصح لما فيه من مزيد الإخلال بمنصبه عليه السلام.
ولذا
قال علي كرم الله تعالى وجهه على ما في بعض الكتب من حدث بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وذلك حد الفرية على الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين
، وهذا اجتهاد منه كرم الله تعالى وجهه، ووجه مضاعفة الحد على حد الأحرار أنهم عليهم السلام سادة السادة وهو وجه مستحسن إلا أن الزين العراقي ذكر أن الخبر نفسه لم يصح عن الأمير كرم الله تعالى وجهه، وقال أبو حيان: الذي نذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب كانوا من الإنس دخلوا عليه من غير المدخل وفي غير وقت جلوسه للحكم وأنه فزع منهم ظانا أنهم يغتالونه إذ كان منفردا في محرابه لعبادة ربه عزّ وجلّ فلما اتضح له أنهم جاؤوا في حكومة وبرز منهم اثنان للتحاكم كما قص الله تعالى وأن داود عليه السلام ظن دخولهم عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة ابتلاء من الله تعالى له أن يغتالوه فلم يقع ما كان ظنه فاستغفر من ذلك الظن حيث أخلف ولم يكن ليقع مظنونه وخر ساجدا ورجع إلى الله تعالى وأنه سبحانه غفر له ذلك الظن فإنه عزّ وجل قال فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ ولم يتقدم سوى قوله تعالى: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ ونعلم قطعا أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الخطايا لا يمكن وقوعهم في شيء منها ضرورة إنا لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك بطلت الشرائع ولم يوثق بشيء مما يذكرون أنه وحي من الله تعالى فما حكى الله تعالى في كتابه يمر على ما أراده الله تعالى وما حكى القصاص مما فيه نقص لمنصب الرسالة طرحناه، ونحن كما قال الشاعر:
ونؤثر حكم العقل في كل شبهة | إذا آثر الأخبار جلاس قصاص |
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ إما حكاية لما خوطب به عليه السلام مبينة لزلفاه عنده عزّ وجلّ وإما مقول لقول مقدر معطوف على (غفرنا) أو حال من فاعله أي وقلنا له أو قائلين له يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض أي استخلفناك على الملك فيها والحكم فيما بين أهلها أو جعلناك خليفة ممن قبلك من الأنبياء القائمين بالحق، وهو على الأول مثل فلان خليفة السلطان إذا كان منصوبا من قبله لتنفيذ ما يريده، وعلى الثاني من قبيل هذا الولد خليفة عن أبيه أي ساد مسده قائم بما كان يقوم به من غير اعتبار لحياة وموت وغيرهما، والأول أظهر والمنة به أعظم فهو عليه السلام خليفة الله تعالى بالمعنى الذي سمعت، قال ابن عطية: ولا يقال خليفة الله تعالى إلا لرسوله وأما صفحة رقم 178
الخلفاء فكل واحد منهم خليفة من قبله، وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله فذلك تجوز كما قال قيس الرقيات:
خليفة الله في بريته | جفت بذاك الأقلام والكتب |
وقيل المترتب مطلق الحكم لظهور ترتبه على كونه خليفة. وذكر الحق لأن به سداده، وقيل ترتب ذلك لأن الخلافة نعمة عظيمة شكرها العدل. وفي البحر أن هذا أمر بالديمومة وتنبيه لغيره ممن ولي أمور الناس أن يحكم بينهم بالحق وإلا فهو من حيث إنه معصوم لا يحكم إلا بالحق، وعلى نحو هذا يخرج النهي عندي في قوله سبحانه وتعالى:
وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فإن اتباع الهوى مما لا يكاد يقع من المعصوم. وظاهر السياق أن المراد ولا تتبع هوى النفس في الحكومات، وعمم بعضهم فقال: أي في الحكومات وغيرها من أمور الدين والدنيا.
وأيد بهذا النهي ما قيل إن ذنبه عليه السلام المبادرة إلى تصديق المدعي وتظليم الآخر قبل مساءلته لا الميل إلى امرأة أوريا فكأنه قيل ولا تتبع الهوى في الحكم كما اتبعته أولا، وفيه أن اتباع الهوى وحكمه بغير ما شرع الله تعالى له غير مناسب لمقامه لا سيما وقد أخبر الله تعالى قبل الإخبار بمسألة المتحاكمين أنه أتاه الحكم وفصل الخطاب فليس هذا إلا إرشادا لما يقتضيه منصب الخلافة وتنبيها لمن هو دونه عليه السلام، وأصل الهوى ميل النفس إلى الشهوة، ويقال للنفس المائلة إليها ويكون بمعنى المهوى كما في قوله:
هواي مع الركب اليمانين مصعد | جنيب وجثماني بمكة موثق |
وقرأ ابن عباس والحسن بخلاف عنهما وأبو حيوة «يضّلون» بضم الياء قال أبو حيان: وهذه القراءة أعم لأنه لا صفحة رقم 179
يضل إلا ضال في نفسه، وقراءة الجمهور أوضح لأن المراد بالموصول من أضلهم اتباع الهوى وهم بعد أن أضلهم صاروا ضالين.
وقوله تعالى: بِما نَسُوا متعلق بالاستقرار والباء سببية وما مصدرية، وقوله سبحانه: يَوْمَ الْحِسابِ مفعول نَسُوا على ما هو الظاهر أي ثابت لهم ذلك العذاب بسبب نسيانهم وعدم ذكرهم يوم الحساب وعليه يكون تعليلا صريحا لثبوت العذاب الشديد لهم بنسيان يوم الحساب بعد الاشعار بعلية ما يستتبعه ويستلزمه أعني الضلال عن سبيل الله تعالى فإنه مستلزم لنسيان يوم الحساب بالمرة بل هذا فرد من أفراده.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن الكلام من التقديم والتأخير أي لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا فيكون يوم الحساب ظرفا لقوله تعالى: لَهُمْ وجعل النسيان عليه مجازا عن ضلالهم عن سبيل الله بعلاقة السببية ومن ضرورته جعل مفعول النسيان سبيل الله تعالى، وعليه يكون التعليل المصرح به عين التعليل المشعر به بالذات غيره بالعنوان فتدبر.
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا أي خلقا باطلا فهو منصوب على النيابة عن المفعول المطلق نحو كل هنيئا أي أكلا هنيئا، والباطل ما لا حكمة فيه، وجوز كونه حالا من فاعل خَلَقْنَا بتقدير مضاف أي ذوي باطل، والباطل اللعب والعبث أي ما خلقنا ذلك مبطلين لاعبين كقوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الأنبياء: ١٦، الدخان: ٣٨] وجوز كونه حالا من المفعول أيضا بنحو هذا التأويل، وأيا ما كان فالكلام مستأنف مقرر لما قبله من أمر المعاد والحساب فإن خلق السماء والأرض وما بينهما من المخلوقات مشتملا على الحكم الباهرة والأسرار البالغة والفوائد الجمة أقوى دليل على عظم القدرة وأنه لا يتعاصاها أمر المعاد والحساب على خلق ذلك كذلك مؤذن بأنه عزّ وجلّ لا يترك الناس إذا ماتوا سدى بل يعيدهم ويحاسبهم ولعله الأولى.
وجوز كون الجملة في موضع الحال في فاعل نَسُوا جيء بها لتفظيع أمر النسيان كأنه قيل: بما نسوا يوم الحساب مع وجود ما يؤذن به وهو كما ترى، وجوز كون باطِلًا مفعولا ويفسر بخلاف الحق ويراد به متابعة الهوى كأنه قيل: ما خلقنا هذا العالم للباطل الذي هو متابعة الهوى بل للحق الذي هو مقتضي الدليل من التوحيد والتدرع بالشرع كقوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] ولا يخفى بعده، وعليه تكون الجملة مستأنفة لتقرير أمر النهي عن اتباع الهوى، وقيل: تكون عطفا على ما قبل بحسب المعنى كأنه قيل: لا تتبع الهوى لأنه يكون سببا لضلالك ولأنه تعالى لم يخلق العالم لأجل متابعة الهوى بل خلقه للتوحيد والتمسك بالشرع فلا تغفل.
ذلِكَ إشارة إلى نفي من خلق ما ذكر باطلا ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي مظنونهم ليصح الحمل أو يقدر مضاف أي ظن ذلك ظن الذين كفروا فإن إنكار هم المعاد والجزاء قول بأن خلق ما ذكر خال عن الحكمة وإنما هو عبث ولذا قال سبحانه: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: ١١٥] أو فإن إنكارهم ذلك قول بنفي عظم القدرة وهو قول بنفي دليله وهو خلق ما ذكر مشتملا على الحكم الباهرة والأسرار، وهذا بناء على الوجه الأول في بيان التقرير وهو كما ترى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مبتدأ وخبر والفاء لإفادة ترتب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل كما أن وضع الموصول موضع ضميرهم لإشعار ما في حيز الصلة بعلية كفرهم له، ولا تنافي بينهما لأن ظنهم من باب كفرهم فيتأكد أمر التعليل، ومِنَ في قوله تعالى: مِنَ النَّارِ ابتدائية أو بيانية أو تعليلية كما في قوله تعالى: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة: ٧٩] ونظائره وتفيد على هذا علية النار لثبوت الويل لهم
صريحا بعد الإشعار بعلية ما يؤدي إليها من ظنهم وكفرهم أي فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم، قيل والكلام عليه على تقدير مضاف أي من دخول النار أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أم منقطعة وتقدر ببل والهمزة، والهمزة لإنكار التسوية بين الفريقين ونفيها على أبلغ وجه وآكده، وبل للإضراب الانتقالي من تقرير أمر البعث والحساب بما مر من نفي خلق العالم باطلا إلى تقريره وتحقيقه بإنكار التسوية بين الفريقين أي بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين في الأرض التي جعلت مقرا لهم كما يقتضيه عدم البعث وما يترتب عليه من الجزاء لاستواء الفريقين في التمتع في الحياة الدنيا بل أكثر الكفرة أوفر حظا منها منها من أكثر المؤمنين لكن ذلك الجعل محال مخالف للحكمة فتعين البعث والجزاء حتما لرفع الأولين إلى أعلى عليين ورد الآخرين إلى أسفل سافلين كذا قالوا، وظاهره أن محالية جعل الفريقين سواء حكمة تقتضي تعين المعاد الجسماني، وفيه خفاء، والظاهر أن المعاد الروحاني يكفي لمقتضى الحكمة من إثابة الأولين وتعذيب الآخرين الدليل العقلي الذي تشير إليه الآية ظاهر في إثبات معاد لكن بعد ابطال التناسخ وهو كاف في الرد على كفرة العرب فإنهم لا يقولون بمعاد بالكلية ولم يخطر ببالهم التناسخ أصلا، ولإثبات المعاد الجسماني طريق آخر مشهور بين المتكلمين، وجعل هذا الدليل العقلي طريقا لإثباته يحتاج إلى تأمل فتأمل، وقوله تعالى:
أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ إضراب وانتقال عن إثبات ما ذكر بلزوم المحال الذي هو التسوية بين الفريقين المذكورين على الإطلاق إلى إثباته بلزوم ما هو أظهر منه استحالة وهي التسوية بين أتقياء المؤمنين وأشقياء الكفرة، وحمل الفجار على فجرة المؤمنين مما لا يساعده المقام، ويجوز أن يراد بهذين الفريقين عين الأولين ويكون التكرير باعتبار وصفين آخرين هما أدخل في إنكار التسوية من الوصفين الأولين، وأيا ما كان فليس المراد من الجمعين في الموضعين أناسا بأعيانهم ولذا قال ابن عباس: الآية عامة في جميع المسلمين والكافرين.
وقيل: هي في قوم مخصوصين من مشركي قريش قالوا للمؤمنين إنا نعطي في الآخرة من الخير ما لا تعطون فنزلت، وأنت تعلم أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أخرجها ابن عساكر أنه قال: الذين آمنوا علي وحمزة وعبيدة بن الحارث رضي الله تعالى عنهم والمفسدين في الأرض عتبة والوليد بن عتبة وشيبة وهم الذين تبارزوا يوم بدر، ولعله أراد أنهم سبب النزول، وقوله تعالى: كِتابٌ خبر مبتدأ محذوف هو عبارة عن القرآن أو السورة، ويجوز على الثاني تقديره مذكرا أي هو أو هذا وهو الأولى عند جمع رعاية للخبر وتقديره مؤنثا رعاية للمرجع، وقوله تعالى: أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ صفته، وقوله سبحانه: مُبارَكٌ أي كثير المنافع الدينية والدنيوية خبر ثان للمبتدأ أو صفة كِتابٌ عند من يجوز تأخير الوصف الصريح عن غير الصريح. وقرىء «مباركا» بالنصب على أنه حال من مفعول «أنزلنا» وهي حالا لازمة لأن البركة لا تفارقه جعلنا الله تعالى في بركاته ونفعنا بشريف آياته، وقوله عزّ وجلّ: لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ متعلق بأنزلناه، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف يدل عليه
وأصله ليتدبروا بتاء بعد الياء آخر الحروف، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه بهذا الأصل
أي أنزلناه ليتفكروا في آياته التي من جملتها هذه الآية المعربة عن أسرار التكوين والتشريع فيعرفوا ما يدبر ويتبع ظاهرها من المعاني الفائقة والتأويلات اللائقة، وضمير الرفع لأولي الألباب على التنازع وأعمال الثاني أو للمؤمنين فقط أولهم وللمفسدين، وقرأ أبو جعفر «لتدبروا» بتاء الخطاب وتخفيف الدال وجاء كذلك عن عاصم والكسائي بخلاف عنهما، والأصل لتتدبروا بتاءين فحذفت إحداهما على الخلاف الذي فيها أهي تاء المضارعة أم التاء التي تليها، والخطاب للنبي ﷺ وعلماء أمته على التغليب أي لتدبر أنت وعلماء أمتك وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أي وليتعظ به ذوو العقول الزاكية الخالصة من الشوائب أو ليستحضروا ما
هو كالمر كوز في عقولهم لفرط تمكنهم من معرفته لما نصب عليه من الدلائل فإن إرسال الرسل وإنزال الكتب لبيان ما لا يعرف إلا من جهة الشرع كوجوب الصلوات الخمس والإرشاد إلى ما يستقل العقل بإدراكه كوجود الصانع القديم جل جلاله وعم نواله وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ وقرىء «نعم» على الأصل، والمخصوص بالمدح محذوف أي نعم العبد هو أي سليمان كما ينبىء عنه تأخيره عن داود مع كونه مفعولا صريحا لوهبنا ولأن قوله تعالى: إِنَّهُ أَوَّابٌ أي رجاع إلى الله تعالى بالتوبة كما يشعر به السياق أو إلى التسبيح مرجع له أو إلى مرضاته عزّ وجلّ تعليل للمدح وهو من حاله لما أن الضمير المجرور في قوله سبحانه: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ يعود إليه عليه السلام قطعا، وإذ منصوب باذكر، والمراد من ذكر الزمان ذكر ما وقع فيه أو ظرف لأواب أو لنعم والظرف قنوع لكن يرد على الوجهين أن التقييد يخل بكمال المدح فالأول أولى وهو كالاستشهاد على أنه أواب أي اذكر ما صدر عنه إذ عرض عليه بِالْعَشِيِّ إلخ فإنه يشهد بذلك، والعشي على ما قال الراغب من زوال الشمس إلى الصباح، وقال بعض: منه إلى آخر النهار، والظرفان متعلقان بعرض، وقوله تعالى: الصَّافِناتُ نائب الفاعل وتأخيره عنهما لما مر غير مرة من التشويق إلى المؤخر، والصافن من الخيل الذي يرفع إحدى يديه أو رجليه ويقف على مقدم حافرها وأنشد الزجاج:
ألف الصفون فما يزال كأنه | مما يقوم على الثلاث كثيرا |
وفي الحديث «من سره أن يقوم الناس له صفونا فليتبوأ مقعده من النار»
أي يديمون له القيام حكاه قطرب وأنشد للنابغة:
لنا قبة مضروبة بفنائها | عتاق المهارى والجياد الصوافن |
وإذا احتبى قربوسه بعنانه | علك الشكيم إلى انصراف الزائر |
وفي البحر قيل الجياد الطوال الأعناق من الجيد وهو العنق، وأنا في شك من ثبوته، قال في القاموس: الجيد بالكسر العنق أو مقلده أو مقدمه جمعه أجياد وجيود وبالتحريك طولها أو دقتها مع طول وهو أجيد وهي جيداء وجيدانة جمعه جود اه، وراجعت غيره فلم أجد فيه زيادة على ذلك فلينقر، ويمكن أن يقال: إن الجياد جمع شاذ لأجيد أو جيداء أو جيدانة أو هو جمع لجيد بالتحريك كجمل وجمال ويراد بجيد أجيد أو نحوه نظير ما يراد بالخلق المخلوق والله تعالى أعلم، وأيا ما كان فالوصفان يوصف بهما المذكر والمؤنث من الخيل، والجمع بألف وتاء لا يخص المؤنث فلا حاجة بعد القول بأن ما عرض كان مشتملا على ذكور الخيل وإناثها إلى القول بأن في الصافنات تغليب المؤنث على المذكر وأنه يجوز بقلة، وأريد بالجمع هنا الكثرة فعن الكلبي أن هذه الخيل كانت ألف فرس غزا صفحة رقم 182