آيات من القرآن الكريم

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ

منهم، ثم عفا عنهم، واستغفر ربه مما كان قد عزم عليه، لأنه كان يرى أن الأليق به العفو لا الانتقام «١».
وهذا القول- وإن كان لا بأس به من حيث المعنى- إلا أن الرأى الذي سقناه سابقا، والذي ذهب إليه الإمام أبو حيان، أرجح وأقرب إلى ما هو ظاهر من معنى الآيات.
وملخصه: أن الخصومة حقيقية بين اثنين من البشر، واستغفار داود- عليه السلام- سببه أنه ظن أنهم جاءوا لاغتياله ولإيذائه، وأن هذا ابتلاء من الله- تعالى- ابتلاه به، ثم تبين له بعد ذلك أنهم ما جاءوا للاعتداء عليه وإنما جاءوا ليقضى بينهم في خصومة، فاستغفر ربه من ذلك الظن. فغفر الله- تعالى- له.
ولعلنا بهذا البيان نكون قد وفقنا للصواب، في تفسير هذه الآيات الكريمة، التي ذكر بعض المفسرين عند تفسيرها أقوالا وقصصا لا يؤيدها عقل أو نقل، ولا يليق بمسلم أن يصدقها، لأنها تتنافى مع عصمة الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- الذين اختارهم الله- تعالى- لتبليغ دعوته، وحمل رسالته. وإرشاد الناس إلى إخلاص العبادة له- سبحانه- وإلى مكارم الأخلاق، وحميد الخصال.
ثم بين- سبحانه- أنه لم يخلق السموات والأرض عبثا، وأن حكمته اقتضت عدم المساواة بين الأخيار والأشرار، وأن هذا القرآن قد أنزله- سبحانه- لتدبير آياته، والعمل بتوجيهاته فقال- تعالى-:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩)

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٣ ص ١٨٦.

صفحة رقم 154

والمراد بالباطل في قوله- تعالى-: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا...
العبث واللهو واللعب وما يخالف الحق، والجملة الكريمة مستأنفة لتقرير أن يوم القيامة حق، وأن كفر الكافرين به ضلال وجهل. وقوله باطِلًا صفة لمصدر محذوف، أو مفعول لأجله. أى: وما خلقنا- بقدرتنا التي لا يعجزها شيء- السموات والأرض وما بينهما من مخلوقات لا يعلمها إلا الله- تعالى-... ما خلقنا ذلك خلقا باطلا لا حكمة فيه، أو ما خلقناه من أجل متابعة الهوى وترك العدل والصواب.
وإنما خلقنا هذا الكون خلقا مشتملا على الحكم الباهرة، وعلى المصالح الجمة والأسرار البليغة، والمنافع التي لا يحصيها العد، والهيئات والكيفيات التي تهدى من يتفكر فيها إلى اتباع الحق والرشاد.
واسم الإشارة في قوله- سبحانه-: ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا... يعود إلى ما نفاه- سبحانه- من خلقه للسموات والأرض وما بينهما على سبيل اللهو والعبث.
أى: نحن ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا خلقا مشتملا على الحكم الباهرة..
ولكن الذين كفروا هم الذين يظنون ويعتقدون أننا خلقنا هذه الكائنات من أجل الباطل واللهو واللعب.. وسبب هذا الظن والاعتقاد الفاسد منهم، كفرهم بالحق، وجحودهم ليوم القيامة وما فيه من حساب وثواب وعقاب، وإعراضهم عما جاءهم به الرسول صلّى الله عليه وسلم من هدايات وإرشادات.
وقوله- تعالى-: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ بيان للعاقبة السيئة التي حلت بهم بسبب هذا الظن الفاسد.. فالفاء: للتفريع على ظنهم الباطل والويل: الهلاك والدمار.
ومِنَ ابتدائية أو بيانية أو تعليلية.
أى: القول بأن خلق هذا الكون خال من الحكمة، هو ظن واعتقاد الذين كفروا وحدهم، ومادام هذا مظنونهم ومعتقدهم فهلاك لهم كائن من النار التي نسلطها عليهم فتحرق أجسادهم، وتجعلهم يذوقون العذاب المهين.
وقال- سبحانه- فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا... بالإظهار في مقام الإضمار، للإشعار بعلية صلة الموصول للحكم أى: أن هذا الويل والهلاك كائن لهم بسبب كفرهم.
وقال- سبحانه-: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ولم يقل للذين ظنوا للإشارة إلى أن ظنهم القبيح هذا، ما هو إلا نتيجة كفرهم وجحودهم للحق.
ثم بين- سبحانه- أن حكمته قد اقتضت استحالة المساواة بين الأخيار والفجار، فقال

صفحة رقم 155

- تعالى-: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ.
و «أم» في الآية الكريمة منقطعة بمعنى بل الإضرابية، والهمزة للاستفهام الإنكارى.
والإضراب هنا انتقالي من تقرير أن هذا الكون لم يخلقه الله- تعالى- عبثا إلى تقرير استحالة المساواة بين المؤمنين والكافرين.
والمعنى: وكما أننا لم نخلق هذا الكون عبثا، كذلك اقتضت حكمتنا وعدالتنا.. استحالة المساواة- أيضا- بين المتقين والفجار.
وذلك لأن المؤمنين المتقين، قد قدموا لنا في دنياهم ما يرضينا، فكافأناهم على ذلك بما يرضيهم، ويسعدهم ويشرح صدورهم، ويجعلهم يوم القيامة خالدين في جنات النعيم.
أما المفسدون الفجار، فقد قدموا في دنياهم ما يغضبنا ويسخطنا عليهم، فجازيناهم على ذلك بما يستحقون من عذاب السعير.
وربك- أيها العاقل- «لا يضيع أجر من أحسن عملا» «ولا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون».
فالمقصود بالآية الكريمة إعلان استحالة التسوية في الآخرة بين المؤمنين والكافرين، لأن التسوية بينهما ظلم، وهو محال عليه- تعالى-، وما كان البعث والجزاء والثواب والعقاب يوم القيامة إلا ليجزي- سبحانه- الذين أساءوا بما عملوا، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.
ومن الآيات التي تشبه في معناها هذه الآية قوله- تعالى-: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ
«١».
ثم مدح- سبحانه- القرآن الكريم الذي أنزله على رسوله صلّى الله عليه وسلم وبين حكمة إنزاله، فقال: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ.
وقوله: كِتابٌ خبر لمبتدأ محذوف. والمقصود به القرآن الكريم.
أى: هذا كتاب أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ بقدرتنا ورحمتنا- أيها الرسول الكريم، ومن صفاته أنه مُبارَكٌ أى: كثير الخيرات والبركات..
وجعلناه كذلك لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ أى ليتفكروا فيما اشتملت عليه آياته من أحكام

(١) سورة الجاثية الآية ٢١.

صفحة رقم 156
التفسير الوسيط
عرض الكتاب
المؤلف
محمد سيد طنطاوي
الناشر
دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية