ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة ببشارة المؤمنين بنصره، وبتسلية النبي صلّى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه، فقال- تعالى-:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٧١ الى ١٨٢]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠)
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)
والمراد بكلمتنا في قوله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا.. ما وعد الله- تعالى- به رسله وعباده الصالحين من جعل العاقبة الطيبة لهم.
ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله- تعالى-: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ «١» وقوله- سبحانه- كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ «٢».
أى: والله لقد سبق وعدنا لعبادنا المرسلين بالنصر والفوز إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ.
على أعدائهم إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
لمن عاداهم وناوأهم.
وهذا الوعد بالنصر لا يتعارض مع هزيمتهم في بعض المواطن- كيوم أحد مثلا- لأن هذه الهزيمة إنما هي لون من الابتلاء الذي اقتضته حكمة الله- تعالى- ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه، أما النصر في النهاية فهو للمؤمنين وهذا ما حكاه لنا التاريخ الصحيح، فقد تم فتح مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، بعد أن جاهد النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه وهزموا
(٢) سورة المجادلة آية ٢١.
الكافرين، ولم يفارق الرسول صلّى الله عليه وسلم هذه الدنيا إلا بعد أن صارت كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلم بالإعراض عن المشركين، وبالصبر على أذاهم، فقال: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ أى: فأعرض عنهم إلى الوقت الذي يأذن الله لك فيه بقتالهم وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أى: وانظر إليهم وراقبهم عند ما ينزل بهم عذابنا، فسوف يبصرون هم ذلك في دنياهم وفي آخرتهم.
والأمر بمشاهدة ذلك: إشعار بأن نصره صلّى الله عليه وسلم عليهم، آت لا ريب فيه حتى لكأنه واقع بين يديه، مشاهد أمامه.
والاستفهام في قوله- سبحانه-: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ للتوبيخ والتأنيب.
أى أبلغ الجهل وانطماس البصيرة بهؤلاء المشركين، أنهم يستعجلون عذابنا.
عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن المشركين قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: يا محمد أرنا العذاب الذي تخوفنا به، فنزلت هذه الآية.
ثم بين- سبحانه- حالهم عند ما ينزل بهم هذا العذاب الذي استعجلوا نزوله فقال فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ.
والساحة في الأصل تطلق على الفناء الواسع للدار والمراد بها هنا القوم الذين يكونون فيها والمخصوص بالذم محذوف.
أى: فإذا نزل العذاب بهؤلاء المشركين. فبئس الصباح صباحهم. ولن ينفعهم حينئذ ندم أو توبة، وخص الصباح بالذكر، لأن العذاب كان يأتيهم فيه في الغالب.
أخرج الشيخان عن أنس، رضى الله عنه. قال: صبح رسول الله صلّى الله عليه وسلم خيبر، فلما خرجوا بفئوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش، رجعوا يقولون: محمد والله، محمد والخميس- أى: والجيش فقال صلّى الله عليه وسلم: «الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».
ثم كرر- سبحانه- تهديده ووعيده لهم على سبيل التأكيد لعلهم يعتبرون فقال: وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أى: وأعرض عنهم حتى حين، وأبصر ما توعدناهم به من عذاب أليم، فسوف يبصرون هم ذلك.
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ أى. تنزه وتقدس ربك- أيها الرسول الكريم- عما وصفه به الواصفون الجاهلون من صفات لا تليق بذاته.
وقوله رَبِّ الْعِزَّةِ بدل من ربك: أى هو صاحب العزة والغلبة والقوة التي لا يقف أمام قوتها شيء والتي لا يملكها أحد سواه.
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ أى: وسلام وأمان وتحية منا على المرسلين وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أى: والثناء الكامل لله- تعالى- رب العالمين جميعا وخالقهم ورازقهم، ومحييهم ومميتهم.
وبعد فهذا تفسير لسورة الصافات، نسأل الله أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم؟
القاهرة- مدينة نصر كتبه الراجي عفو ربه الأربعاء: ٢٠ من ذي القعدة ١٤٠٥ هـ د. محمد سيد طنطاوى ٧/ ٨/ ١٩٨٥ م
تفسير سورة ص
صفحة رقم 123
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة
١- سورة «ص» هي السورة الثامنة والثلاثون في ترتيب المصحف، وكان نزولها بعد سورة «القمر» وهي من السور المكية الخالصة. ويقال لها سورة «داود».قال الآلوسى: هي مكية- كما روى عن ابن عباس وغيره- وهي ثمان وثمانون آية في المصحف الكوفي. وست وثمانون في الحجازي والبصري والشامي... وهي كالمتممة لسورة الصافات التي قبلها، من حيث إنه ذكر فيها ما لم يذكر في تلك من الأنبياء، كداود وسليمان... » «١».
٢- وقد افتتحت سورة «ص» بقسم من الله- تعالى- بالقرآن الكريم، على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلم، فيما يبلغه عن ربه.
ثم حكى- سبحانه- ما قاله المشركون فيما بينهم، لإنكار نبوة النبي صلّى الله عليه وسلم، ولإنكار يوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب، ورد عليهم بما يثبت جهلهم وغفلتهم واستكبارهم عن قبول الحق..
قال- تعالى-: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ. ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ. أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ. أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ.
٣- ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم عما لحقه منهم من أذى وكيد، فحكت له أن أقوام الرسل السابقين قد قابلوا رسلهم بالتكذيب، وأمرته بالصبر على جهالاتهم، وساقت جانبا من قصة داود- عليه السلام فذكرت بعض النعم التي أنعم الله- تعالى- بها عليه، كما ذكرت ما دار بينه وبين الخصوم الذين تسوروا عليه المحراب.
قال- تعالى-: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ. وثمود وقوم لوط
وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب. إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب. وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق. وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب. اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب)...
٤- وبعد هذا الحديث الذي فيه شيء من التفصيل عن وجوه النعم التي أنعم بها- سبحانه- على عبده داود، وعن لون من ألوان الامتحانات التي امتحنه- تعالى- بها، وعن الإرشادات الحكيمة التي أرشده الله- عز وجل- إليها...
بعد كل ذلك ساق- سبحانه- أنواعا من الأدلة على وحدانيته وقدرته، وبين أن حكمته قد اقتضت عدم المساواة بين الأخيار والفجار.
قال- تعالى-: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ. كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ.
٥- ثم أثنى- سبحانه- بعد ذلك على نبيه سليمان- عليه السلام- وبين بعض النعم التي منحها له، كما بين موقفه مما اختبره- تعالى- به...
قال- تعالى-: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ. قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ. وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ.
٦- ثم مدح- سبحانه- نبيه أيوب- عليه السلام- على صبره، وعلى كثرة تضرعه إلى ربه، وكيف أنه- تعالى- قد كافأه على ذلك بما يستحقه.
قال- تعالى-: وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ، ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ. وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ، وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ، إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً، نِعْمَ الْعَبْدُ، إِنَّهُ أَوَّابٌ.
٧- ثم أثنى- سبحانه- على أنبيائه: إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وإسماعيل واليسع وذا الكفل، وبين ما أعده لهم ولأمثالهم من عباده الأخيار، كما بين ما توعد به الفجار من عذاب أليم..
قال- تعالى-: هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ. جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ. مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ. وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ. هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ. إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ. هذا، وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ.
٨- ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بالحديث عن قصة آدم وإبليس وكيف أن الملائكة جميعا سجدوا لآدم إلا إبليس فإنه أبى واستكبر وقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. فكانت عاقبته الطرد من رحمة الله- تعالى-.
٩- ومن هذا العرض المجمل لسورة «ص» نرى أنها قد اهتمت اهتماما واضحا، بإقامة الأدلة على وحدانية الله- تعالى- وقدرته. وعلى صدق النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، وعلى أن يوم القيامة حق، كما اهتمت بحكاية شبهات المشركين ثم الرد عليها، كما ذكرت جانبا من قصص بعض الأنبياء ليعتبر بقصصهم كل ذي عقل سليم، كما أنها قد اهتمت ببيان حسن عاقبة الأخيار وسوء عاقبة الأشرار، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
القاهرة- مدينة نصر د. محمد سيد طنطاوى الخميس ٢١ من ذي القعدة سنة ١٤٠٥ هـ الموافق ٨/ ٨/ ١٩٨٥ م