يقال: البشر تقرب درجته من الملك، فضلا عن أن يقال: هل هو أفضل منه أم لا؟!! ٨- إن أخبار قريش عجيبة وغريبة، سواء قبل البعثة النبوية أم بعدها.
فقد كانوا يتمنون قبل بعثة النبي ص لو كان عندهم من يذكرهم بأمر الله، وما كان من أمر القرون الأولى، ويأتيهم بكتاب الله، ثم جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار، والكتاب المهيمن على كل الكتب، وهو القرآن، فكفروا به، وكذبوا رسول الله ص، وما وفوا بما قالوا: فاستحقوا الوعيد والتهديد، وهو أنهم سوف يعلمون مغبة كفرهم، وعاقبة تكذيبهم.
نصر جند الله تعالى
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٧١ الى ١٨٢]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠)
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)
الإعراب:
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ لَهُمُ: ضمير فصل بين اسم «إن» وهو «هم» وخبرها الْمَنْصُورُونَ وأدخلت اللام على الضمير. ولا يجوز أن يكون لَهُمُ صفة لاسم «إن»، لأن اللام لا تدخل على الصفة. ويجوز جعل لَهُمُ مبتدأ، والْمَنْصُورُونَ خبره، والجملة منهما في موضع رفع خبر «إن».
البلاغة:
فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ استعارة تمثيلية، شبه العذاب النازل بهم بجيش هجم عليهم بغتة، فلم ينتصحوا بكلام ناصح، ولا استعدوا للدفاع، حتى هزمهم وأفناهم.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ أي وعدناهم بالنصر والغلبة، وذلك بقوله تعالى:
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة ٥٨/ ٢١] وقوله هنا: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ. وإنما سماها كلمة وهي كلمات لانتظامها في معنى واحد.
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ الغالبون في الحرب وغيرها، وهذا باعتبار الغالب، وبشرط نصرة دين الله. إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
أي إن جندنا المؤمنين أتباع الرسل غالبون الكفار في الدنيا بالحجة والنصرة عليهم، فإن لم ينتصروا في الدنيا انتصروا في الآخرة.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أعرض عنهم. حَتَّى حِينٍ أي إلى أن يحين موعد نصرك عليهم وهو في عهد النبوة يوم بدر أو يوم الفتح- فتح مكة. وَأَبْصِرْهُمْ انظر إليهم وارتقب ما ينالهم من الأسر والقتل في الدنيا، والتعذيب في الآخرة حين نزول العذاب بهم. فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ عاقبة كفرهم، وما قضينا لك من التأييد والنصر في الدنيا، والثواب في الآخرة. وسوف للوعيد لا للتبعيد.
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟ هذا قول من الله يتضمن التهديد لهم، روي أنه لما نزل.
فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ قالوا: متى هذا؟ فنزل قوله تعالى: فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ أي إذا نزل العذاب بفنائهم: وهو المكان الواسع، قال الفراء: العرب تكتفي بذكر الساحة عن القوم. فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ أي بئس صباحا صباح المنذرين بالعذاب. وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر لتسجيل صفة الإنذار عليهم.
وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ كرره تأكيدا لتهديدهم، وتسلية للنبي ص. رَبِّ الْعِزَّةِ الغلبة والقوة. عَمَّا يَصِفُونَ بأن له ولدا. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ المبلغين عن الله التوحيد والشرائع. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على نصرهم وهلاك الكافرين.
سبب النزول: نزول الآية (١٧٦) :
أَفَبِعَذابِنا..: أخرج جويبر عن ابن عباس قال: قالوا: يا محمد، أرنا
العذاب الذي تخوفنا به، عجّله لنا، فنزلت: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ وهو صحيح على شرط الشيخين.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ أي لقد سبق وعدنا بالنصر والظفر على الكفار في الدنيا والآخرة لعبادنا الرسل الذين أرسلناهم للإنذار والتبشير، ففي الدنيا: تكون الغلبة والقهر لهم بالأسر والقتل والتشريد أو الإجلاء أو بالحجة والبرهان، ونحو ذلك، وفي الآخرة: الظفر بالجنة، والنجاة من النار، وهذا في الأعم الأغلب. وجند الله:
حزبه، وهم الرسل وأتباعهم.
ونظير الآية قوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة ٥٨/ ٢١] وقوله سبحانه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر ٤٠/ ٥١].
وشرط النصر معروف، وهو الإيمان الصحيح بالله عز وجل، والعمل بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والتزام دين الله شرعا ودستورا ونظاما ومنهج حياة، قال تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم ٣٠/ ٤٧] وقال سبحانه: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ
[سورة محمد ٤٧/ ٧] وقال عز وجل: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف ٧/ ١٢٨].
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ أي أعرض عنهم، واصبر على أذاهم لك، إلى مدة معلومة عند الله سبحانه، فإنا سنجعل لك العاقبة والنصرة والظفر.
وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أي أنظرهم وارتقب ماذا يحل بهم من العذاب والنكال بمخالفتك وتكذيبك، كالأسر والقتل، وسوف يبصرون كل ما وعدتهم به
من العقاب، وما وعدناك به من النصر وانتشار دينك في الآفاق، وذلك حين لا ينفعهم الإبصار. وكرر تعالى ذلك تأكيدا.
والمراد بالأمر بإبصارهم على الحال المنتظرة الموعودة: الدلالة على أنها كائنة واقعة لا محالة، وأن حدوثها قريب، وفي ذلك تسلية للرسول ص وتنفيس عنه عما يناله من أذى كفار قومه قريش.
ثم وبخهم الله تعالى وهددهم على طلبهم تعجيل العذاب قائلا:
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟ أي كيف يجرءون على استعجال عذابنا الشديد؟ والواقع أنهم إنما يستعجلون العذاب لتكذيبهم وكفرهم بك، قائلين:
متى هذا العذاب؟ والعذاب نازل بهم قطعا لا محالة.
فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ أي فإذا نزل العذاب بهم أو بمحلّتهم، فبئس ذلك اليوم يومهم، لإهلاكهم ودمارهم.
ورد في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: صبّح رسول الله ص خيبر، فلما خرجوا بفؤوسهم ومساحيهم، ورأوا الجيش، رجعوا وهم يقولون: محمد والله، محمد والخميس- الجيش- فقال النبي ص: «الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين» ورواه أحمد أيضا بلفظ آخر، وهو صحيح على شرط الشيخين.
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أي وأعرض أيها الرسول عن هؤلاء المشركين إلى أجل آخر يحين فيه هلاكهم، وانظر إليهم وارتقبهم، فسوف يرون ما يحل بهم من عقاب.
وهذا تأكيد لما تقدم من الأمر بالكف عنهم، والصبر على أذاهم.
ثم ختمت السورة بخاتمة عظيمة فيه تنزيه الله تعالى عما لا يليق به، ومدحه للرسل الكرام، فقال سبحانه:
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي تنزيها لربك أيها الرسول وتقديسا وتبرئة عما يقول الظالمون المكذبون المفترون المعتدون، فهو رب القوة والغلبة والعزة التي لا ترام، وسلام الله على الرسل الكرام الذين أرسلهم إلى أقوامهم، في الدنيا والآخرة، لسلامة ما قالوه في ربهم وصحته وحقيقته، والحمد والشكر لله في الأولى والآخرة في كل حال، فهو رب الثقلين: الإنس والجن، دون سواه. وهذا تعليم من الله للمؤمنين أن يقولوا ذلك.
روى ابن أبي حاتم عن الشعبي، والبغوي عن علي كرم الله وجهه، قال:
قال رسول الله ص: «من سرّه أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر، يوم القيامة، فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
ووردت أحاديث في كفارة المجلس: «سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك».
وذكر الثعلبي عن أبي سعيد الخدري قال: «سمعت رسول الله ص غير مرة ولا مرتين يقول في آخر صلاته أو حين ينصرف: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- سبق الوعد الإلهي بنصر المرسلين بالحجة والغلبة، ونصر جند الله وهم الرسل وأتباعه على أعدائهم، وذلك على الغالب. والنصر إما بقوة الحجة، أو بالدولة والاستيلاء، أو بالدوام والثبات.
٢- كان النبي ص والمؤمنون في مكة قبل الهجرة مأمورين بالكف عن المشركين، والصفح عنهم، والصبر على أذاهم، وترك مقاتلتهم.
٣- هدد الله المشركين وأوعدهم بما سينالهم من عذاب الدنيا والآخرة، وحينئذ سوف يبصرون حين لا ينفعهم الإبصار.
٤- من الحماقة الشديدة استعجال الكفار وقوع عذاب الله، فإنه لا داعي للاستعجال، والعذاب واقع بهم لا محالة، وهو عذاب شديد مدمر، فإذا حلّ بهم أو بديارهم فبئس صباح الذين أنذروا بالعذاب.
٥- يسن ختم الصلاة والمجلس بآية: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وفي هذه الآية أنواع ثلاثة من صفات الله تعالى: هي تنزيهه وتقديسه عن كل ما لا يليق بصفات الألوهية وهو كلمة سبحان، ووصفه بكل ما يليق بصفات الألوهية وهو قوله: رَبِّ الْعِزَّةِ وكونه منزها عن الشريك والنظير.
وقوله رَبِّ الْعِزَّةِ يدل على أنه القادر على جميع الحوادث التي خلقها.
وقوله: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ كلمة محتوية على أقصى الدرجات وأكمل النهايات في معرفة إله العالم. والمهم أن يعرف العاقل كيف يعامل نفسه ويعامل الناس في الدنيا.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة صمكيّة، وهي ثمان وثمانون آية.
تسميتها:
سميت سورة ص لافتتاحها بهذا الحرف العربي أحد أحرف الهجاء الثمانية والعشرين، للدلالة على أن هذا القرآن العظيم مكون ومنظوم من حروف الهجاء العربية، ومع ذلك لم يستطع العرب الفصحاء الإتيان بمثل أقصر سورة منه، فبدئ به بهذه السورة كغيرها من السور المبدوءة بحروف هجائية، بقصد تحدي العرب، وإثبات إعجاز القرآن.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجهين:
الأول- أن الله تعالى حكى في آخر سورة الصافات التي قبلها قول الكفار:
لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ثم كفروا به، ثم افتتح هذه السورة بالقسم بالقرآن ذي الذكر، لتفصيل المجمل هناك.
الثاني- أن هذه السورة بعد الصافات، كطس- النمل بعد الشعراء، وكطه والأنبياء بعد مريم، وكيوسف بعد هود، في كونها متممة لها بذكر من بقي من الأنبياء ممن لم يذكر في تلك، مثل داود، وسليمان، وأيوب، وآدم، وأشار إلى بقية من ذكر. صفحة رقم 161
مشتملاتها:
موضوع هذه السورة كسائر السور المكية في بيان أصول العقيدة الإسلامية «التوحيد، والنبوة، والبعث» من خلال مناقشة المشركين في عقائدهم المناقضة لتلك الأصول، وإيراد قصص الأنبياء للعظة والعبرة، وبيان حال الكفار والمشركين يوم القيامة، ووصف عذاب أهل النار، ونعيم أهل الجنة.
ابتدأت السورة بالوصف الناقد لصفات المشركين من الكبرياء وإباء الحق والإعراض عنه، مع تذكيرهم بعاقبة الماضين الذين حادوا عن الحق، فهلكوا، مثل قوم نوح وعاد وفرعون وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة.
ومن أهم تلك الصفات ثلاث: إنكار الوحدانية، وإنكار نبوة محمد ص، وإنكار البعث والحساب.
ثم ذكرت قصة داود وسليمان وأيوب مفصلا، وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل مجملا عليهم السلام.
وانتقل البيان إلى الغاية الكبرى وهي إثبات البعث والحساب ووصف نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار.
ثم توجهت السورة بقصة بدء الخلق- قصة آدم عليه السلام وسجود الملائكة له إلا إبليس، وطرده من الجنة، وصبّ اللعنة عليه إلى يوم القيامة، وتوعده وأتباعه بملء جهنم منهم.
وختمت السورة ببيان إخلاص النبي ص في تبليغ رسالته دون طلب أجر، مما يدل على نبوته، وأردفه بإعلان كون القرآن رسالة للثقلين: الإنس والجن، وأن المشركين بعد موتهم يعلمون حقيقة أمره.